ما بين الأرض والسماء، تلوح راياتٌ وتختفي رايات، وينطلق نداءٌ ويذوى نداء...
هي أرض النخيلة تمحل، ويتشقّق أديمها، فلقد جفّت في عروق الرجال دماء الوفاء!
إيه يا ابن رسول الله، أي حزنٍ قد اعتصر فؤادك المكلوم، وأي غصّةٍ علقت في حلقك الذي جفّ من طول الصيام وبحة النداء... ألا من ناصر؟!... ولا من مجيب!
مولاي... القلة القليلة من الحافظين لعهدك قد أحاطوا بك إحاطة الوريد بالقلب، واللجج الغامرة حولكم تتربّص بكم، وتنتظر الإشارة لتُغرقكم عن آخركم، لتبيد دين جدك المصطفى، وترفع لواء الباطل، فتُلبس الإسلام لبوس الكفر، وتُغيّر معالم الدين، فكأن محمدًا لم يكن، وكأن بدرًا وخيبر وحنين والأحزاب لم تلتحم فيها جيوشٌ، ولم يبرز الإيمان كله للكفر كله، فلقد موّهوا وجه الحقيقة ورسموا فوق شمسها غلائل ربداء من ضباب الغواية، أفلحوا في تكثيفها حتى غدت جزءًا زائفًا من أحجية الهداية!
رباه، أحقًّا قد استطاع معاوية وأزلامه وأرجاسه أن يُقنعوا بنفاقهم أهل الدنيا، بأن من الممكن أن يكون للطلقاء نصيبٌ في حكم المسلمين، وهم من أسلموا خوفًا وطمعا، ولم يألوا جهدًا في الكيد للإسلام قديمًا وحديثا، حتى حرّفوا الكلم عن مواضعه، وجلسوا في مقاعد ليست لهم، ولا ينبغي أن تكون؟!
إن ضعف أهل الدنيا يا مولاي هو ما أقعدهم ذاك المقعد، واستخفافهم بأمر الرسول، وإن النفوس الأمّارة بالسوء قد غلبت ها هنا على النفوس المطمئنة، فهل إلى خلاصٍ من سبيل؟!
مولاي، القلوب معكم والسيوف عليكم، ولكن... حتى القلوب، قد خالجها شكٌّ وإحباط، فحبطت الأعمال إلا من جاء الله بقلبٍ سليم، وهم القلة... أقلّ من القليل، وأقلّ بكثيرٍ من هؤلاء المتجمّعين في معسكر النخيلة يراودون أنفسهم عن نصرتك، فيقدّمون رجلًا ويؤخّرون أخرى، ويرفعون نظرةً ويُنزلون رأسًا، وهم إلى الذل والهوان أقرب من العزة بنصرة إمام الزمان... الخوف قد ملك ألبابهم، والطمع قد استعبد نواياهم، والدنيا قد حجبت عنهم نور الحق، فما عاد ينفعهم عملهم، إذ لم يقدروا أن يمسكوا بحبل الله، بل انزلقت أيديهم عن خشونته ولم تتمكّن من القبض على سخونته، فهم كالقابضين على الجمر، قد كرهوا درب ذات الشوكة واستعجلوا اللقمة السائغة التي تلوكها الأفواه في مواعين السلاطين...
وأي نفعٍ في نصرة هؤلاء؟! إنهم سيسلمونك عند أول فرصة، وقد فعلوا مرارا، ولم يكن لهم يقينٌ يحول دون نصرة سبط الرسول، والتصدّي للغاصب الخلافة والمدّعي طلب ثأرٍ ليس له، بغية تضييع الحق في معمعة القتال، حتى يضلّ ذوو الرشاد من الرجال، ويستنكفوا عن الثبات على الحق، فيسود الضلال وتخيّم على القلوب الأغلال.
مولاي، قلبي فداءٌ لمهجتك الثاكلة، وعيني وقاءٌ لعينك الهاملة، فلقد أقرحتك خيانة الخائنين، وابتُليتَ بحمل أثقال المؤمنين، ولعمري فلأنت جديرٌ وقدير، ولكن، السؤال لا يزال كدماء الحقّ يسيل: هل إلى خلاصٍ من سبيل؟!
هي ذي الأسنة تشتبك عند رأسك، فلا يميّز الخبيث من الطيب إلا ذوو اليقين...
هي ذي الألسنة تلقلق، وأنت الصادق... وهي ذي القلوب تتقلقل وأنت الثابت القدم على زحاليفها في الزمن السابق واللاحق...
لقد أخذت قرارك وحقنت دماء المؤمنين، وحفظت دين جدك في القرار المكين، وأحطت بما لم يحيطوا به خبرا، فأيّ نصرٍ لكلمة الله قد حقّقت، نصرٌ لم يحصده سيف، بل التفافٌ حول جذور الإيمان بأرض الخيف، حتى يقضي الله ما هو قاضٍ بعد حين، وتنسكب في كربلاء دماء المعين، فيعلم الأولون والآخرون أن موقعة الطفّ بدأت منذ ذلك اليوم، فالخائن كشف إذذاك وجهه، وأشرقت شمس الحق بيضاء تسرّ الناظرين، وانسكب شعاعها فوق وجه السبط الأمين، يومًا في شخص الحسن المجتبى(ع)، ويومًا في شخص الحسين(ع)، وتألقت كلمات عليل كربلاء(ع) تضيء السماء، لتجيب على ذلك السؤال المبين: "إذا أردت أن تعلم من غلب، ودخل وقت الصلاة، فأذّن ثم أقم" !