جلس الشاب بهدوء بعدما أدى مراسيم الفاتحة، وأخذ يتفرّس في الوجوه بعين دامعة، ويبكي احيانا بنشيج!! تنوعت الأسئلة بين المتهامسين المشاركين في مجلس الفاتحة: هل هو من اهل البيت والأقرباء وأصدقاء العائلة أو احد افرادها... خشية ان يكون من الأقارب من ابناء العم او ابناء الأخوال، ويقصرون بحقه، لكن الذي كسر جميع هذه التوقعات حين همس ليسأل: هل الميت امرأة؟
قالوا له: نعم ولم يعقب سوى برحمها الله...
اعتبر البعض ان هذا الفتى ربما يكون مجنونا او فضوليا، والذي يبدو ان الفتى شارد الذهن، مستغرقا في همومه الخاصة غير مبال بما يقال.. واذا به يسأل: هل المرحومة اسمها زكية بنت الحجية فاطمة وهي ابنة المرحوم عبد جاسم؟ هذا السؤال اثار زوبعة من الاستغراب؛ فالجميع يناديها طوال هذه السنوات باسم اولادها، واغلب الحاضرين لايعرف اسم ابيها او امها. وعندها قرر الحاج زوجها واب اولادها الجلوس بقربه، لمعرفة من يكون، واحتواء مثل هذه المفاجئات...
بعد برهة صمت سأل الفتى زوجها: لقد توفيت أمسِ صباحا اثر نوبة قلبية ودفنت الساعة الرابعة عصرا... هل هذا صحيح؟ أجابه الحاج: نعم صحيح... وبعد برهة صمت أخرى سأل: هل دفنتموها في الجهة اليمنى في اقصى الجنوب أي بالضبط خلف الساحة الفلانية، واخذ يصف المنطقة التي دفنت فيها الحاجة... نعم يا بني... لقد كثرت أسئلة الشاب الغريب، وانفض المجلس، ولم يقوم كما غيره، فدعوه الى العشاء مع اهل المأتم استجاب للدعوة لكنه لم يأكل بل جلس شارد الذهن دامع العينين، فزاد استغراب جميع الحاضرين.. سأل الشاب: هل كانت المرحومة كثيرة الزيارة الى كربلاء؟ وهل تقيم مجلسا حسينيا في البيت؟ وهل تشارك بشيء له خصوصية في عاشوراء؟ قال احد اولادها: نعم انها كانت دائما تقيم مآتم عاشوراء وان لم تستطع الذهاب الى كربلاء تصعد السطح طيلة عاشوراء تزور وتبكي مصيبة سيد الشهداء عليه السلام.. لكن ما القضية؟ ومن تكون انت؟ ومن اين لك دقة المعلومات عن أمنا؟
فأجاب الشاب وقال: انا قصتي عجيبة يا أخي، وهي خير ان شاء الله، وتفرحكم كثيرا، فأنا جئت احمل اليكم البشارة... صمت حينها برهة، ازاح الألم عن صدره وقال: لقد توفي والدي قبل مدة، وهو رجل خير وصلاح، لكن الذي فاجأني بموته هي الرؤيا التي لم تنقطع عني ابدا، جاء ليخبرني عكس ما كنت اتوقع... فقد قال لي: الحق يا ولدي انا احتاج لمساعدتك كثيرا، ان حسابي عسير، فتداركني بصالح الأعمال، وانا لم اترك عملا صالحا إلا فعلته، والرؤيا ما زالت تشكو ولا من سبيل... قد تظنون اني اتحدث عن اضغاث احلام.. الغريب ما حصل لي امس، إذ حضرت الرؤيا واذا ابي يستبشر خيرا... وقال: يا بني أمس دفنوا بقربي امرأة تدعى زكية ابنة الحاجة فاطمة، وما ان دفنوها وانفضوا عنها حتى حضر موكب بهي مجلل بالأنوار.. يا بني لقد رأيت بعيني الحسين عليه السلام يزورها ويدعو الله لها بالخير، فاستجاب لها الله تعالى واكراما لهذه المرأة الحسينية شملت الرحمة لبقية القبور المجاورة لها والحمد لله.. يا بني من اكبر الفواجع التي عشناها هي تلك الرؤى الفارغة التي ابعدتنا عن جوهر النصرة، فحاول ان تديم الزيارة لمولاك الحسين عليه السلام، شارك في التعازي كل عاشوراء، قدّم المواساة لمولاتك الزهراء سلام الله عليها ليبارك الله لك مثلما بارك لهذه المرأة... ترك الشاب الجميع يبكون وهم يصيحون: وا حسيناه... وخرج باكيا وقد سمعوه يقول: اي عتمة كنا فيها يا أبي...