بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركااته
نص خطبة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، حيث تطرقنا إلى بعض المقدمات الأساسية المنهجية العامة لهذه الخطبة الكريمة الشريفة، من أجل الوصول إلى نقطة أساسية، وقضية مهمة جدا، وجوهر أساسي في حركة التاريخ ونعني بذلك الحقيقة.
فالحقيقة توصلنا إلى الغايات الحقيقية في الحياة، وتجعلنا منسجمين مع الواقع، ولا نكون مضللين، ولا تائهين، ولا ضالّين، بل نسير في الطريق المستقيم والصحيح، وهذا هو جوهر خطبة الزهراء (عليها السلام)، وهو الوصول إلى الحقيقة من خلال السير في الطريق المستقيم.
وقد وصلنا في الخطبة إلى هذا الكلام الذي يحدد الهدف من هذه الخطبة، حيث تقول الزهراء (عليها السلام):
(ثم قالت: أيّها الناس! اعلموا أنّي فاطمةّ! وأبي محمّد أقول عَوداً وبدءاً. ولا أقول ما أقول غلطاً، ولا أفعل ما أفعل شططاً، (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ).
وقد تطرقنا سابقا إلى هذا المعنى (واعلموا أني فاطمة)، وهو معرفة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) ومن هي.
وقد أرجعتنا إلى البدايات من أجل الوصول إلى النهايات (عودا وبدءا)، لأنها كلها مرتبطة ببعضها، النهاية تكون مرتبطة بالبداية، والبداية تؤدي إلى النهاية، فلذلك لابد أن تكون البدايات صحيحة من أجل الوصول إلى نهايات صحيحة.
الغلط يؤدي الى الشطط
وهنا نصل إلى هذا الكلام للسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام): (ولا أقول ما أقول غلطا، ولا أفعل ما أفعل شططا).
ومعنى الغلط هو الخطأ في الكلام من كذب وخديعة ومغالطة، والشطط هو الخروج عن الحد والابتعاد عن الحق، والبعد عن الحقيقة، فالغلط يكون في القول، والشطط يكون في الفعل، والمقصود من الغلط هنا انه يؤدي سواء كان في القول أو في التوجيه أو في الفكرة إلى الشطط في الفعل وتجاوز الحد في الابتعاد عن الحق وعن الحقيقة، وهناك من يستخدم فن المغالطة وأسلوب المغالطة من أجل الابتعاد والانحراف عن الحقيقة.
والسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) أرادت تسليط الضوء على الحقائق السليمة من خلال بيان الواقع، عبر بيان الأسس والنتائج والأسباب والمسببات الصحيحة، والسليمة، والمتسلسلة، والمترابطة من أجل السير في الطريق المستقيم وصولا إلى الغايات. في عملية منهجية لتسلسل المعارف، ولذلك قالت (عليها السلام): (لا أقول شططا)، أي لا أقول قولا مغلوطا حتى لا ينتهي إلى الشطط، وهي لا تقول ذلك، فهي الزهراء بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وزوجة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهي المعصومة، وهي التي قال عنها رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إن الله يغضب لغضب فاطمة).
فكلامها مسدَّد وبعيد عن المغالطة، ولكن لماذا قالت (لا أقول غلطا، ولا أفعل شططا)؟، إنها أرادت توجيه الكلام للآخرين، وأنهم يغالطون من أجل تحريف مسار الحقيقة، للوصول إلى غايات خاصة وشخصية، والاستيلاء والانقلاب على نهج الله تعالى وطريقه القويم، الذي وضعه الله سبحانه وتعالى، وأوصى به رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهي ولاية أمير المؤمنين ( عليه السلام).
المغالطات تسيطر على التاريخ
المشكلة الأساسية هنا التي تعاني منها البشرية، هي قضية المغالطات والتحريفات التي تسيطر على التاريخ، وتهيمن على الفعل التاريخي، بالنتيجة يعيش البشر بسبب مقدمات موهومة وحقائق زائفة، وواقع غير سليم، يعيشون المعاناة والشقاء والآلام والمحن والصعاب، بسبب عدم العيش مع الحقيقة والواقع.
لذا أرادت السيدة الزهراء (عليها السلام) أن تقول لنا، إذا أردتم أن تسيروا في طريق الرحمة الإلهية، في طريق رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلابد لكم أن تبتعدوا عن المغالطات، عن التحريف والتضليل الذي يمارسه المستكبرون والحكام الطغاة من أجل إبقاء سيطرتهم وطغيانهم، وتحويل الناس إلى عبيد لهم، خلافا لعبودية الله سبحانه وتعالى كما ذكرنا ذلك سابقا.
لذلك نحن نحتاج إلى أن نعرف معنى المغالطة، ولماذا يمارس البعض هذا الأسلوب، وما هي النتائج المترتبة عليها؟.
المغالطة محاولة لتهديم الحقيقة
تم طرح مفهوم المغالطة في موضوعات مختلفة، في المنطق وفن الخطابة، وهو فن يستعمل في الجدال، والحوار بحد ذاته هو جيد، وقد يكون طريقا للوصول إلى الحقيقة من أجل العلم والمعرفة، ولكن المغالطة هي خلاف الحوار، فالأخير هو محاولة للوصول إلى الحقيقة، ولكن المغالطة محاولة لضرب الحقيقة وتحريفها، ولتزييف الحقيقة، وهو فن يستعمله البعض للتغلب على الآخرين، وتضليل العقول وتضليل النفوس والأفكار، لتحقيق غايات أما شخصية أو ذاتية أو استكبارية أو نرجسية، أو لتحقيق غايات الحكام لكي يسيّروا الشعوب على ضوء ما يريدون حتى لا تثور الشعوب ضدهم، ولكي تبقى الشعوب مطيعة لهم ولأهوائهم.
المغالطة في تعريف علم المنطق هي استدلال فاسد يتخذ مظهر قياسات صحيحة، فيأتي بمركبات ومقدمات بعضها صحيح ولكن يحوّر فيها، مثلا تكون المقدمة الأولى صحيحة والمقدمة الثانية صحيحة أيضا، لكنهما لا يرتبطان مع بعضهما، أما الصحيح فهو لابد أن تكون المقدمات مترابطة حتى تنتج مخرجات صحيحة، لكن الإنسان المغالط يحوّر ويضلل من أجل الوصول إلى خلاف الحقيقة.
هناك مثال معروف في علم المنطق، يعبرون عنه في عملية القياس وتزييف الحقيقة، يقول (الحائط فيه فأرة، وكل فأرة لها أذنان فالحائط له أذنان)، كلا المقدمتين صحيحتين ولكن النتيجة كانت باطلة، لأن المقدمتين لا يرتبطان ببعضهما، لذلك هذه ممارسة تضليلية وخداع يعتمد على قياسات صحيحة، لكنها غير مرتبطة فيما بينها للوصول إلى حقيقة زائفة.
لذلك فإن المغالطة هي استخدام الأفكار والمعلومات المضللة لتبرير شيء معين، في تزييف حقيقة وإثارة العواطف من أجل حسم نقاش معيّن، في بعض الإحسان يكون لدى الإنسان نوع من التكبر والطغيان، فيقوم بالمجادلة من أجل المجادلة، وليس من أجل أن يتعلّم ويكتسب المعلومات والمعرفة لتطوير نفسه، في هذه الحالة يستمر بالمجادلة ويريد أن يحسم النقاش من خلال وضع مقدمات وقضايا ووسائل حتى يكسب النزاع مع الطرف الآخر، لكن الجدال يبقى بلا نهاية، لأن الطرف الآخر يعرف مسبقا أن الآخر يريد أن يضلله ويغالط، فلا يستمر معه بالنقاش.
التلاعب بالقواعد العقلية للإنسان
وهذه هي مناورات ومخادعات تبدو منطقية في ظاهرها، لاسيما عند بعض الناس الذين يتقنون هذا الفن وهذا الأسلوب، ولكن بالنتيجة تنتهي بالوصول إلى حقيقة زائفة، وتتألف المغالطة من الوهميات، أي مجموعة من الأوهام والقضايا الكاذبة يحكمها الوهم، والغرض منها هو إيقاع الطرف الآخر في الخطأ، فهي عملية تلاعب بالقواعد العقلية والفكرية للإنسان، من أجل إيقاعه في الخطأ.
نلاحظ هذا الشيء اليوم في الكثير من الأحيان، عند بعض هؤلاء الذين يكتبون في الفلسفة والتاريخ، أو في الفكر، أو وسائل الإعلام، أو المواقع التي تنشر الأخبار، فنلاحظ أن هذا الخبر يتم تحويره بطريقة معينة، أو يُصاغ بطريقة معينة، تجعل الإنسان يقع في الوهم، وبالنتيجة لا يصل إلى الحقيقة، وإنما يصل إلى حقيقة وضعها الشخص أو الجهة التي صاغت العلومة او الخبر أو ذلك الإعلامي، أو ذلك الذي وضع النص في كتاب، حتى يوصل الناس إلى أهداف خاصة، قد تكون أهداف مادية، أهداف شيطانية، أجندات خاصة به. بعض الناس الذين في نفوسهم مرض يحبون أن يتلاعبوا بالناس، من خلال ضخّهم للأفكار الفاسدة والزائفة.
من الذي يقع في المغالطة؟
إن الإنسان العاقل غير القابل لخديعة المغالطة، سوف يفهم أن هذه مغالطة ولا يقع فيها، ولكن بعض الناس يوجد لديهم قابليات للوقوع في المغالطة، مثال ذلك:
- المصلحيون أو أصحاب المصلحة، هؤلاء الذين يفكرون بمصالحهم وأنفسهم فقط، فإذا قالوا له مثلا أن سعر العملة قد ارتفع، أو هبط، سوف يصدق هذا الخبر من أجل مصلحته، ويذهب إلى شراء أو بيع العملة، ثم بعد ذلك يكتشف إن هذه القضية مجرد إشاعة لا أكثر، ولكن تفكيره الضيق بمصلحته الخاصة فقط أضاعت عليه الربح. فالمصلحيون يصدقون دائما بالأخبار التي تتناسب مع مصالحهم الذاتية، وهؤلاء الذين يقعون في المغالطات ويصدقون المغالطات والأخبار والشائعات، وهم أولئك الذين تخدعهم مصالحهم.
استذواق الكذب
- ضعفاء النفوس يقعون في المغالطة، حيث يكون الإنسان ضعيف النفس، نفسه مادية جدا، وشرِهة، ويحب الدنيا، فهكذا إنسان بالنتيجة يصدق الأخبار التي تصل إليه، مثلا يصدّق الغيبة، ويصدّق التهمة، ويستذوق الكذب الذي يسمعه، ولا يكتفي بذلك بل ينقل الكذب إلى الآخرين.
وعندما تسأله لماذا تنقل الكذب، وهل تعلم بمدى دقّة هذا الكلام؟، سوف يقول، لقد سمعته من فلان أو فلان، ولكن هل راجعت الكلام، هل حققت ودقّقت فيه؟، يقول كلا، إذًا لماذا تنقل هذا الكلام الذي لا تعرف حقيقته؟
لهذا فإن هؤلاء من ضعاف النفوس يقعون ضحية للمغالطات، كذلك نلاحظ أن الرياح والعواصف تأخذهم يمينا ويسارا، حسب نوع المغالطة التي يقعون فيها.
لذلك فإن السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) حينما تقول (لا أقول غلطا)، فهي تريد أن تبيّن ضرورة التفكير العقلاني، والتصديق الحقيقي من خلال المقدمات الصحيحة، من اجل الوصول إلى الاستدلال الصحيح وإلى الغايات والنتائج الصحيحة في عملية ترتيب المنهجية التفكيرية، ومنهج التفكير، أو منهج التفكير العلمي وصولا إلى النتائج الصحيحة والسليمة.
استثارة العواطف والتفكير الانفعالي
- العاطفيون الانفعاليون الذين تُثار مشاعرهم من ناحية الكراهية والحقد والحزن وأشياء أخرى تجد مشاعره تلتهب بسرعة، عندما يسمع المغالطة، فهؤلاء سريعو التأثّر، لذلك نلاحظ أن بعض المغالطين يحاولوا أن يستدرجوا الناس من خلال إثارة العواطف، واستثارة العاطفة سهلة عند الذين يتغلب لديهم التفكير الانفعالي على التفكير العقلي والعلمي.
الجهلاء وأنصاف المتعلمين
- الجهلاء، وأنصاف المتعلمين، فالجاهل أو ربما بعض الجهلاء ينظرون إلى أنفسهم على أنهم عارفون بكل شيء، وذلك لأن الجاهل لا يمتلك قواعد المعرفة وقواعد التفكير السليم، لهذا قد يصدّق أيّ شيء يُقال له، لأنه لا يمتلك الوقاية الفكرية الداخلية التي تجعله يغربل هذه المعلومات، ويغربل هذه الأفكار التي تأتي إلى ذهنه.
بالنسبة للجاهل المركب ينطبق عليه نفس ما ينطبق على الجاهل، وأنصاف المتعلمين أيضا، فالإنسان الذي تعلّم بعض العلوم البسيطة يتصور نفسه عالِما، والآخرون يصدّقون بذلك، كما نلاحظ اليوم في شبكات التواصل الاجتماعي، حيث يتناقل الناس المغالطات والأخبار والأفكار من دون أي نوع من التدقيق، لأنهم يعتبرون أنفسهم يفهمون ويعلمون، ربما تعلّم بعضهم القليل من الأمور، لذلك يقع ضحية للمغالطات التي يبني عليها توقعاته وتصرفاته.
هذه هي المشكلة التي تتسبب بها المغالطة حيث يبني عليها الإنسان فكرة وسيرة وحياة كاملة عليها، فربما يعيش الإنسان سبعين سنة وهو يعيش على مغالطة، وعلى فكرة خاطئة في ذهنه، واستمر في حياته على هذا الخطأ حتى آخر عمره. لأنه يتصور بأن هذه الفكرة صحيحة بعدما سمعها من فلان، أو تعلمها من فلان.
هؤلاء الجهلاء وأنصاف المتعلمين والمجتزئين الذين يأخذون ببعض الكلام ويتركون البعض الآخر، هذه مشكلة أخرى أيضا، فهؤلاء يقعون أيضا ضحية للتضليل والمغالطة.
- السفهاء، وهؤلاء يقعون ضحية للمغالطة لأنهم ضعفاء العقول، لذا لابد على الإنسان أن يعمل لبناء عقله، فالسفيه يأتي مقابل الرشيد، وكل إنسان لا يكون ناضجا عقليا وفكريا ونفسيا يكون سفيها في مرتبة معينة، فهناك مراتب مختلفة للسفاهة، لهذا على الإنسان أن يعمل لبناء عقله وفكره حتى لا يصبح ضحية للمغالطات.
الانهزاميون ضحايا المنتصرين
- الانهزاميون، لأن الانهزامي متشائم دائم وسلبي، وينظر إلى مجتمعه ونفسه في مقابل الآخرين الذين يعتبرهم غالبين متقدمين، فيظن بأنه صحيح ومجتمعه على خطأ، لأنه منهزم، وأمته منهزمة، ومجتمعه منهزم، فيكون منهزما نفسيا أمام الآخرين، ويصدّق الأوهام التي تصدر من الطرف الغالب والمنتصر بنظرهِ، ويرفض الحقائق التي تأتي من مجتمعه وإنْ كانت حقيقة.
فالحقيقة كما في نفسه المنهزمة يصنعها الأقوياء، وهذه من المشاكل الحضارية الكبيرة التي تعيشها الأمم، حيث تقع ضحية لمغالطات الأقوياء والغزو الثقافي الذي يصدر من الجهات التي تمتلك الوسائل والقوة والقدرة على أن يغالطوا ويضلّلوا الناس، من خلال نشرهم لقيم وأجندات وأفكار خاصة.
الفوضويون والعشوائية الفكرية
- الفوضويون لهم قابلية على أن يصبحوا ضحية للمغالطات، فالفوضوي هو الذي لا يوجد لديه تفكير منظّم أو حياة منتظمة، بحيث يستطيع أن يسلسل منهجية حياته، لتصبح حياته متسلسلة ومنظمة، ومن خلال حياته المنظّمة يستطيع أن يصل عبر المقدمات الصحيحة إلى نتائج صحيحة.
ولكن الفوضى التي تعم في حياته، وتعم مناهجه في التربية الأسرية والمناهج التعليمية، والعشوائية الإدارية والسياسية والاقتصادية، تؤدي إلى فوضى فكرية وتضليلية، فيسيطر عليه التضليل، وتسيطر عليه المغالطة، لأنه في مجتمع الفوضى ليست هناك قواعد فكرية سليمة، بل هي القواعد التي تنبثق من الفوضى، أو القواعد الفوضوية، أو اللّا قواعد، وهي مجرد أفكار ارتجالية عشوائية منبثقة من فوضى اجتماعية كبيرة، تؤدي إلى فوضى فكرية عند هذا الإنسان.
هذا النوع من الناس يصبح من السهل جدا حدوث الاختراق الثقافي لهم من خلال الأخبار، الإعلام، فتُخترَق هذه المجتمعات ثقافيا وفكريا، فيصبحون ضحية سهلة للمغالطات.
السطحيون والرؤية ببعدين
- السطحيون هم أولئك الناس الذين يرون الأشياء من خلال عيونهم وآذانهم، ولا يرون الأشياء عبر بصيرتهم، ولا بوعيهم ولا بإدراكهم، هذه مشكلة خطيرة تعيشها بعض المجتمعات، ويعيشها بعض الناس، الإدراك السطحي من خلال الحواس لا يفيد الإنسان، لأنه لا يستطيع أن يدرك إدراكا صحيحا لهذه المغالطة أو لهذا الاحتجاج أو لتلك المجادلة، فيصدق سريعا عندما يرى الأمور في ظاهرها وليس في باطنها ولا في حقيقتها.
مثلا حين يرى بعضهم شخصا ما يرتدي ملابس معينة، فيحكم على هذا الشخص من خلال ملابسه ولا يحكم عليه من خلال شخصيته، وإذا كان يرتدي ملابس بسيطة فينظر إليه على أنه إنسان فقير، ولكن هذه النظرة ليست صحيحة، فقد تكون ملابس الإنسان بسيطة لكن شخصيته كبيرة ومتميزة في المجتمع.
هذه السطحية في المجتمع تؤدي إلى استخراج أحكام غير سليمة وغير صحيحة، فالإنسان لابد أن يكون متعمقا في داخله، ويصبح عنده عمق ولا يكون ذا بعديْن، عرض وطول، وإنما يجب أن يكون لديه (عرض، وطول، وعمق أو ارتفاع)، وهذه هي الأبعاد الثلاثة في حياة الإنسان، حتى يصل إلى التفكير العميق ولا يكون ضحية للمغالطات التي يتعرض لها.
الجدال من مصاديق المغالطة
نقرأ في الآية القرآنية: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ) الحج 3. نلاحظ هنا مفردة يجادل في الله بغير علم، والمجادلة تعني الصراع، والمجادلة بالسيوف، تعني المعركة بالسيوف، فالجدال هو الصراع الفكري الذي ليس له نهاية، ولا يوصل الإنسان إلى الحقيقة، وإنما هو صراع فكري مستميت هدفه هو أن يقضي على الطرف الآخر.
ويُقصد بهم هؤلاء الذين يناقشون القضايا العقائدية وقضايا التوحيد والنبوة، والإمامة، والمعاد، بغير علم، مع أن ذهنه غير مدرك وغير مستوعب، كونه ليس دارسا، ولا قارئا، ولا باحثا، ولا مطّلعا على الكتب، وليس عنده ثقافة ولا علما في هذا الباب، لكنه بالنتيجة يجادل في الله سبحانه وتعالى بغير علم، فما الذي ينتج عن ذلك؟، فالمجادلة هي مغالطة، والإنسان يقع في المغالطات لأنه غير مطلع على ما يجادل به، فيكون ضحية للمغالطة بعد ان يوقع الآخرين فيها، وهذه الممارسة تؤدي به بالنتيجة إلى أن (يتبع كلَّ شيطان مريد).
التمرد طريق الشيطان
المقصود من كلمة المريد، هو المتمرّد، والتمرد هنا لا يعني بأنه إنسان ثائر، أو رافض للظلم، فالمتمرد هنا هو الذي لا يسير في الطريق المستقيم، ولا في حدود الموازين العقلائية، بل يسير في طريق الانحراف والشيطان، فالإنسان الذي يغالط من خلال عدم المعرفة، ومن خلال الجهل الذي يقع فيه ومن خلال عدم وجود علوم صحيحة عنده، يدخل في متاهات فكرية لاتوصله إلى الحقيقة.
هكذا إنسان يريد أن يثبت نفسه ويثبت وجوده، ويدّعي بأنه متمرد، وأنه قادر ولديه قدرة، لكنه بالنتيجة سوف يصل إلى النتائج الشيطانية والانحرافية، وكثير من الناس يسقطون في هاوية الانحرافات نتيجة دخولهم في المغالطات مع أنفسهم، ومع غيرهم بسبب عدم معرفتهم المعرفة السليمة وعدم إدراكهم، وعدم تفكيرهم بالطريقة الصحيحة التي لابد للإنسان أن يسلكها.
وأنواع المغالطات، وكيف يقع الإنسان في المغالطة، حيث تقول الآية القرآنية: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا) الكهف 56. أي أن الإنسان يريد أن يجادل في هذه القضايا بغير علم وبغير معرفة، فيقع بالنتيجة في مشكلة الاستدلال غير السليم، ويؤدي بالنتيجة الى سلوك الاستهزاء بالآخرين.
أي أن المجادل وقع في هذه المشكلة سواء بشكل متعمد بسبب نفسه الخبيثة وفكره الخبيث او لجهله وجهله المركب، فيجادل بالمغالطة لدحض الحق وابطاله، ولكن هؤلاء الذين يسلكون هذا الطريق لا توجد لديهم معرفة، فيقعون بالنتيجة في عملية الاستهزاء بعد ان يتبين انهم عاجزون عن الفوز بالجدال.
وعن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): (إياك والمراء فإنه يحبط عملك، وإياك والجدال فإنه يوبقك، وإياك وكثرة الخصومات فإنها تبعدك من الله)، المراء يعني: طعن في كلام الغير لإظهار خلل فيه، من غير غرض سوى تحقيره وإهانته، وإظهار تفوقه وكياسته. والإنسان الذي يدخل في عالم المراء والمغالطة والجدال، يكون عمله محبطا عقيما غير منتج.
بالنتيجة يؤدي به هذا الطريق إلى الهلاك وكثرة الأعداء، وكثرة الخصومات والصراعات (فإنها تبعدك من الله)، وتبعدك من الواقع وتبعدك عن الحقيقة.
* سلسلة محاضرات تبث على قناة المرجعية تحت عنوان (جواهر الأفكار)
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركااته
نص خطبة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، حيث تطرقنا إلى بعض المقدمات الأساسية المنهجية العامة لهذه الخطبة الكريمة الشريفة، من أجل الوصول إلى نقطة أساسية، وقضية مهمة جدا، وجوهر أساسي في حركة التاريخ ونعني بذلك الحقيقة.
فالحقيقة توصلنا إلى الغايات الحقيقية في الحياة، وتجعلنا منسجمين مع الواقع، ولا نكون مضللين، ولا تائهين، ولا ضالّين، بل نسير في الطريق المستقيم والصحيح، وهذا هو جوهر خطبة الزهراء (عليها السلام)، وهو الوصول إلى الحقيقة من خلال السير في الطريق المستقيم.
وقد وصلنا في الخطبة إلى هذا الكلام الذي يحدد الهدف من هذه الخطبة، حيث تقول الزهراء (عليها السلام):
(ثم قالت: أيّها الناس! اعلموا أنّي فاطمةّ! وأبي محمّد أقول عَوداً وبدءاً. ولا أقول ما أقول غلطاً، ولا أفعل ما أفعل شططاً، (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ).
وقد تطرقنا سابقا إلى هذا المعنى (واعلموا أني فاطمة)، وهو معرفة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) ومن هي.
وقد أرجعتنا إلى البدايات من أجل الوصول إلى النهايات (عودا وبدءا)، لأنها كلها مرتبطة ببعضها، النهاية تكون مرتبطة بالبداية، والبداية تؤدي إلى النهاية، فلذلك لابد أن تكون البدايات صحيحة من أجل الوصول إلى نهايات صحيحة.
الغلط يؤدي الى الشطط
وهنا نصل إلى هذا الكلام للسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام): (ولا أقول ما أقول غلطا، ولا أفعل ما أفعل شططا).
ومعنى الغلط هو الخطأ في الكلام من كذب وخديعة ومغالطة، والشطط هو الخروج عن الحد والابتعاد عن الحق، والبعد عن الحقيقة، فالغلط يكون في القول، والشطط يكون في الفعل، والمقصود من الغلط هنا انه يؤدي سواء كان في القول أو في التوجيه أو في الفكرة إلى الشطط في الفعل وتجاوز الحد في الابتعاد عن الحق وعن الحقيقة، وهناك من يستخدم فن المغالطة وأسلوب المغالطة من أجل الابتعاد والانحراف عن الحقيقة.
والسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) أرادت تسليط الضوء على الحقائق السليمة من خلال بيان الواقع، عبر بيان الأسس والنتائج والأسباب والمسببات الصحيحة، والسليمة، والمتسلسلة، والمترابطة من أجل السير في الطريق المستقيم وصولا إلى الغايات. في عملية منهجية لتسلسل المعارف، ولذلك قالت (عليها السلام): (لا أقول شططا)، أي لا أقول قولا مغلوطا حتى لا ينتهي إلى الشطط، وهي لا تقول ذلك، فهي الزهراء بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وزوجة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهي المعصومة، وهي التي قال عنها رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إن الله يغضب لغضب فاطمة).
فكلامها مسدَّد وبعيد عن المغالطة، ولكن لماذا قالت (لا أقول غلطا، ولا أفعل شططا)؟، إنها أرادت توجيه الكلام للآخرين، وأنهم يغالطون من أجل تحريف مسار الحقيقة، للوصول إلى غايات خاصة وشخصية، والاستيلاء والانقلاب على نهج الله تعالى وطريقه القويم، الذي وضعه الله سبحانه وتعالى، وأوصى به رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهي ولاية أمير المؤمنين ( عليه السلام).
المغالطات تسيطر على التاريخ
المشكلة الأساسية هنا التي تعاني منها البشرية، هي قضية المغالطات والتحريفات التي تسيطر على التاريخ، وتهيمن على الفعل التاريخي، بالنتيجة يعيش البشر بسبب مقدمات موهومة وحقائق زائفة، وواقع غير سليم، يعيشون المعاناة والشقاء والآلام والمحن والصعاب، بسبب عدم العيش مع الحقيقة والواقع.
لذا أرادت السيدة الزهراء (عليها السلام) أن تقول لنا، إذا أردتم أن تسيروا في طريق الرحمة الإلهية، في طريق رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلابد لكم أن تبتعدوا عن المغالطات، عن التحريف والتضليل الذي يمارسه المستكبرون والحكام الطغاة من أجل إبقاء سيطرتهم وطغيانهم، وتحويل الناس إلى عبيد لهم، خلافا لعبودية الله سبحانه وتعالى كما ذكرنا ذلك سابقا.
لذلك نحن نحتاج إلى أن نعرف معنى المغالطة، ولماذا يمارس البعض هذا الأسلوب، وما هي النتائج المترتبة عليها؟.
المغالطة محاولة لتهديم الحقيقة
تم طرح مفهوم المغالطة في موضوعات مختلفة، في المنطق وفن الخطابة، وهو فن يستعمل في الجدال، والحوار بحد ذاته هو جيد، وقد يكون طريقا للوصول إلى الحقيقة من أجل العلم والمعرفة، ولكن المغالطة هي خلاف الحوار، فالأخير هو محاولة للوصول إلى الحقيقة، ولكن المغالطة محاولة لضرب الحقيقة وتحريفها، ولتزييف الحقيقة، وهو فن يستعمله البعض للتغلب على الآخرين، وتضليل العقول وتضليل النفوس والأفكار، لتحقيق غايات أما شخصية أو ذاتية أو استكبارية أو نرجسية، أو لتحقيق غايات الحكام لكي يسيّروا الشعوب على ضوء ما يريدون حتى لا تثور الشعوب ضدهم، ولكي تبقى الشعوب مطيعة لهم ولأهوائهم.
المغالطة في تعريف علم المنطق هي استدلال فاسد يتخذ مظهر قياسات صحيحة، فيأتي بمركبات ومقدمات بعضها صحيح ولكن يحوّر فيها، مثلا تكون المقدمة الأولى صحيحة والمقدمة الثانية صحيحة أيضا، لكنهما لا يرتبطان مع بعضهما، أما الصحيح فهو لابد أن تكون المقدمات مترابطة حتى تنتج مخرجات صحيحة، لكن الإنسان المغالط يحوّر ويضلل من أجل الوصول إلى خلاف الحقيقة.
هناك مثال معروف في علم المنطق، يعبرون عنه في عملية القياس وتزييف الحقيقة، يقول (الحائط فيه فأرة، وكل فأرة لها أذنان فالحائط له أذنان)، كلا المقدمتين صحيحتين ولكن النتيجة كانت باطلة، لأن المقدمتين لا يرتبطان ببعضهما، لذلك هذه ممارسة تضليلية وخداع يعتمد على قياسات صحيحة، لكنها غير مرتبطة فيما بينها للوصول إلى حقيقة زائفة.
لذلك فإن المغالطة هي استخدام الأفكار والمعلومات المضللة لتبرير شيء معين، في تزييف حقيقة وإثارة العواطف من أجل حسم نقاش معيّن، في بعض الإحسان يكون لدى الإنسان نوع من التكبر والطغيان، فيقوم بالمجادلة من أجل المجادلة، وليس من أجل أن يتعلّم ويكتسب المعلومات والمعرفة لتطوير نفسه، في هذه الحالة يستمر بالمجادلة ويريد أن يحسم النقاش من خلال وضع مقدمات وقضايا ووسائل حتى يكسب النزاع مع الطرف الآخر، لكن الجدال يبقى بلا نهاية، لأن الطرف الآخر يعرف مسبقا أن الآخر يريد أن يضلله ويغالط، فلا يستمر معه بالنقاش.
التلاعب بالقواعد العقلية للإنسان
وهذه هي مناورات ومخادعات تبدو منطقية في ظاهرها، لاسيما عند بعض الناس الذين يتقنون هذا الفن وهذا الأسلوب، ولكن بالنتيجة تنتهي بالوصول إلى حقيقة زائفة، وتتألف المغالطة من الوهميات، أي مجموعة من الأوهام والقضايا الكاذبة يحكمها الوهم، والغرض منها هو إيقاع الطرف الآخر في الخطأ، فهي عملية تلاعب بالقواعد العقلية والفكرية للإنسان، من أجل إيقاعه في الخطأ.
نلاحظ هذا الشيء اليوم في الكثير من الأحيان، عند بعض هؤلاء الذين يكتبون في الفلسفة والتاريخ، أو في الفكر، أو وسائل الإعلام، أو المواقع التي تنشر الأخبار، فنلاحظ أن هذا الخبر يتم تحويره بطريقة معينة، أو يُصاغ بطريقة معينة، تجعل الإنسان يقع في الوهم، وبالنتيجة لا يصل إلى الحقيقة، وإنما يصل إلى حقيقة وضعها الشخص أو الجهة التي صاغت العلومة او الخبر أو ذلك الإعلامي، أو ذلك الذي وضع النص في كتاب، حتى يوصل الناس إلى أهداف خاصة، قد تكون أهداف مادية، أهداف شيطانية، أجندات خاصة به. بعض الناس الذين في نفوسهم مرض يحبون أن يتلاعبوا بالناس، من خلال ضخّهم للأفكار الفاسدة والزائفة.
من الذي يقع في المغالطة؟
إن الإنسان العاقل غير القابل لخديعة المغالطة، سوف يفهم أن هذه مغالطة ولا يقع فيها، ولكن بعض الناس يوجد لديهم قابليات للوقوع في المغالطة، مثال ذلك:
- المصلحيون أو أصحاب المصلحة، هؤلاء الذين يفكرون بمصالحهم وأنفسهم فقط، فإذا قالوا له مثلا أن سعر العملة قد ارتفع، أو هبط، سوف يصدق هذا الخبر من أجل مصلحته، ويذهب إلى شراء أو بيع العملة، ثم بعد ذلك يكتشف إن هذه القضية مجرد إشاعة لا أكثر، ولكن تفكيره الضيق بمصلحته الخاصة فقط أضاعت عليه الربح. فالمصلحيون يصدقون دائما بالأخبار التي تتناسب مع مصالحهم الذاتية، وهؤلاء الذين يقعون في المغالطات ويصدقون المغالطات والأخبار والشائعات، وهم أولئك الذين تخدعهم مصالحهم.
استذواق الكذب
- ضعفاء النفوس يقعون في المغالطة، حيث يكون الإنسان ضعيف النفس، نفسه مادية جدا، وشرِهة، ويحب الدنيا، فهكذا إنسان بالنتيجة يصدق الأخبار التي تصل إليه، مثلا يصدّق الغيبة، ويصدّق التهمة، ويستذوق الكذب الذي يسمعه، ولا يكتفي بذلك بل ينقل الكذب إلى الآخرين.
وعندما تسأله لماذا تنقل الكذب، وهل تعلم بمدى دقّة هذا الكلام؟، سوف يقول، لقد سمعته من فلان أو فلان، ولكن هل راجعت الكلام، هل حققت ودقّقت فيه؟، يقول كلا، إذًا لماذا تنقل هذا الكلام الذي لا تعرف حقيقته؟
لهذا فإن هؤلاء من ضعاف النفوس يقعون ضحية للمغالطات، كذلك نلاحظ أن الرياح والعواصف تأخذهم يمينا ويسارا، حسب نوع المغالطة التي يقعون فيها.
لذلك فإن السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) حينما تقول (لا أقول غلطا)، فهي تريد أن تبيّن ضرورة التفكير العقلاني، والتصديق الحقيقي من خلال المقدمات الصحيحة، من اجل الوصول إلى الاستدلال الصحيح وإلى الغايات والنتائج الصحيحة في عملية ترتيب المنهجية التفكيرية، ومنهج التفكير، أو منهج التفكير العلمي وصولا إلى النتائج الصحيحة والسليمة.
استثارة العواطف والتفكير الانفعالي
- العاطفيون الانفعاليون الذين تُثار مشاعرهم من ناحية الكراهية والحقد والحزن وأشياء أخرى تجد مشاعره تلتهب بسرعة، عندما يسمع المغالطة، فهؤلاء سريعو التأثّر، لذلك نلاحظ أن بعض المغالطين يحاولوا أن يستدرجوا الناس من خلال إثارة العواطف، واستثارة العاطفة سهلة عند الذين يتغلب لديهم التفكير الانفعالي على التفكير العقلي والعلمي.
الجهلاء وأنصاف المتعلمين
- الجهلاء، وأنصاف المتعلمين، فالجاهل أو ربما بعض الجهلاء ينظرون إلى أنفسهم على أنهم عارفون بكل شيء، وذلك لأن الجاهل لا يمتلك قواعد المعرفة وقواعد التفكير السليم، لهذا قد يصدّق أيّ شيء يُقال له، لأنه لا يمتلك الوقاية الفكرية الداخلية التي تجعله يغربل هذه المعلومات، ويغربل هذه الأفكار التي تأتي إلى ذهنه.
بالنسبة للجاهل المركب ينطبق عليه نفس ما ينطبق على الجاهل، وأنصاف المتعلمين أيضا، فالإنسان الذي تعلّم بعض العلوم البسيطة يتصور نفسه عالِما، والآخرون يصدّقون بذلك، كما نلاحظ اليوم في شبكات التواصل الاجتماعي، حيث يتناقل الناس المغالطات والأخبار والأفكار من دون أي نوع من التدقيق، لأنهم يعتبرون أنفسهم يفهمون ويعلمون، ربما تعلّم بعضهم القليل من الأمور، لذلك يقع ضحية للمغالطات التي يبني عليها توقعاته وتصرفاته.
هذه هي المشكلة التي تتسبب بها المغالطة حيث يبني عليها الإنسان فكرة وسيرة وحياة كاملة عليها، فربما يعيش الإنسان سبعين سنة وهو يعيش على مغالطة، وعلى فكرة خاطئة في ذهنه، واستمر في حياته على هذا الخطأ حتى آخر عمره. لأنه يتصور بأن هذه الفكرة صحيحة بعدما سمعها من فلان، أو تعلمها من فلان.
هؤلاء الجهلاء وأنصاف المتعلمين والمجتزئين الذين يأخذون ببعض الكلام ويتركون البعض الآخر، هذه مشكلة أخرى أيضا، فهؤلاء يقعون أيضا ضحية للتضليل والمغالطة.
- السفهاء، وهؤلاء يقعون ضحية للمغالطة لأنهم ضعفاء العقول، لذا لابد على الإنسان أن يعمل لبناء عقله، فالسفيه يأتي مقابل الرشيد، وكل إنسان لا يكون ناضجا عقليا وفكريا ونفسيا يكون سفيها في مرتبة معينة، فهناك مراتب مختلفة للسفاهة، لهذا على الإنسان أن يعمل لبناء عقله وفكره حتى لا يصبح ضحية للمغالطات.
الانهزاميون ضحايا المنتصرين
- الانهزاميون، لأن الانهزامي متشائم دائم وسلبي، وينظر إلى مجتمعه ونفسه في مقابل الآخرين الذين يعتبرهم غالبين متقدمين، فيظن بأنه صحيح ومجتمعه على خطأ، لأنه منهزم، وأمته منهزمة، ومجتمعه منهزم، فيكون منهزما نفسيا أمام الآخرين، ويصدّق الأوهام التي تصدر من الطرف الغالب والمنتصر بنظرهِ، ويرفض الحقائق التي تأتي من مجتمعه وإنْ كانت حقيقة.
فالحقيقة كما في نفسه المنهزمة يصنعها الأقوياء، وهذه من المشاكل الحضارية الكبيرة التي تعيشها الأمم، حيث تقع ضحية لمغالطات الأقوياء والغزو الثقافي الذي يصدر من الجهات التي تمتلك الوسائل والقوة والقدرة على أن يغالطوا ويضلّلوا الناس، من خلال نشرهم لقيم وأجندات وأفكار خاصة.
الفوضويون والعشوائية الفكرية
- الفوضويون لهم قابلية على أن يصبحوا ضحية للمغالطات، فالفوضوي هو الذي لا يوجد لديه تفكير منظّم أو حياة منتظمة، بحيث يستطيع أن يسلسل منهجية حياته، لتصبح حياته متسلسلة ومنظمة، ومن خلال حياته المنظّمة يستطيع أن يصل عبر المقدمات الصحيحة إلى نتائج صحيحة.
ولكن الفوضى التي تعم في حياته، وتعم مناهجه في التربية الأسرية والمناهج التعليمية، والعشوائية الإدارية والسياسية والاقتصادية، تؤدي إلى فوضى فكرية وتضليلية، فيسيطر عليه التضليل، وتسيطر عليه المغالطة، لأنه في مجتمع الفوضى ليست هناك قواعد فكرية سليمة، بل هي القواعد التي تنبثق من الفوضى، أو القواعد الفوضوية، أو اللّا قواعد، وهي مجرد أفكار ارتجالية عشوائية منبثقة من فوضى اجتماعية كبيرة، تؤدي إلى فوضى فكرية عند هذا الإنسان.
هذا النوع من الناس يصبح من السهل جدا حدوث الاختراق الثقافي لهم من خلال الأخبار، الإعلام، فتُخترَق هذه المجتمعات ثقافيا وفكريا، فيصبحون ضحية سهلة للمغالطات.
السطحيون والرؤية ببعدين
- السطحيون هم أولئك الناس الذين يرون الأشياء من خلال عيونهم وآذانهم، ولا يرون الأشياء عبر بصيرتهم، ولا بوعيهم ولا بإدراكهم، هذه مشكلة خطيرة تعيشها بعض المجتمعات، ويعيشها بعض الناس، الإدراك السطحي من خلال الحواس لا يفيد الإنسان، لأنه لا يستطيع أن يدرك إدراكا صحيحا لهذه المغالطة أو لهذا الاحتجاج أو لتلك المجادلة، فيصدق سريعا عندما يرى الأمور في ظاهرها وليس في باطنها ولا في حقيقتها.
مثلا حين يرى بعضهم شخصا ما يرتدي ملابس معينة، فيحكم على هذا الشخص من خلال ملابسه ولا يحكم عليه من خلال شخصيته، وإذا كان يرتدي ملابس بسيطة فينظر إليه على أنه إنسان فقير، ولكن هذه النظرة ليست صحيحة، فقد تكون ملابس الإنسان بسيطة لكن شخصيته كبيرة ومتميزة في المجتمع.
هذه السطحية في المجتمع تؤدي إلى استخراج أحكام غير سليمة وغير صحيحة، فالإنسان لابد أن يكون متعمقا في داخله، ويصبح عنده عمق ولا يكون ذا بعديْن، عرض وطول، وإنما يجب أن يكون لديه (عرض، وطول، وعمق أو ارتفاع)، وهذه هي الأبعاد الثلاثة في حياة الإنسان، حتى يصل إلى التفكير العميق ولا يكون ضحية للمغالطات التي يتعرض لها.
الجدال من مصاديق المغالطة
نقرأ في الآية القرآنية: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ) الحج 3. نلاحظ هنا مفردة يجادل في الله بغير علم، والمجادلة تعني الصراع، والمجادلة بالسيوف، تعني المعركة بالسيوف، فالجدال هو الصراع الفكري الذي ليس له نهاية، ولا يوصل الإنسان إلى الحقيقة، وإنما هو صراع فكري مستميت هدفه هو أن يقضي على الطرف الآخر.
ويُقصد بهم هؤلاء الذين يناقشون القضايا العقائدية وقضايا التوحيد والنبوة، والإمامة، والمعاد، بغير علم، مع أن ذهنه غير مدرك وغير مستوعب، كونه ليس دارسا، ولا قارئا، ولا باحثا، ولا مطّلعا على الكتب، وليس عنده ثقافة ولا علما في هذا الباب، لكنه بالنتيجة يجادل في الله سبحانه وتعالى بغير علم، فما الذي ينتج عن ذلك؟، فالمجادلة هي مغالطة، والإنسان يقع في المغالطات لأنه غير مطلع على ما يجادل به، فيكون ضحية للمغالطة بعد ان يوقع الآخرين فيها، وهذه الممارسة تؤدي به بالنتيجة إلى أن (يتبع كلَّ شيطان مريد).
التمرد طريق الشيطان
المقصود من كلمة المريد، هو المتمرّد، والتمرد هنا لا يعني بأنه إنسان ثائر، أو رافض للظلم، فالمتمرد هنا هو الذي لا يسير في الطريق المستقيم، ولا في حدود الموازين العقلائية، بل يسير في طريق الانحراف والشيطان، فالإنسان الذي يغالط من خلال عدم المعرفة، ومن خلال الجهل الذي يقع فيه ومن خلال عدم وجود علوم صحيحة عنده، يدخل في متاهات فكرية لاتوصله إلى الحقيقة.
هكذا إنسان يريد أن يثبت نفسه ويثبت وجوده، ويدّعي بأنه متمرد، وأنه قادر ولديه قدرة، لكنه بالنتيجة سوف يصل إلى النتائج الشيطانية والانحرافية، وكثير من الناس يسقطون في هاوية الانحرافات نتيجة دخولهم في المغالطات مع أنفسهم، ومع غيرهم بسبب عدم معرفتهم المعرفة السليمة وعدم إدراكهم، وعدم تفكيرهم بالطريقة الصحيحة التي لابد للإنسان أن يسلكها.
وأنواع المغالطات، وكيف يقع الإنسان في المغالطة، حيث تقول الآية القرآنية: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا) الكهف 56. أي أن الإنسان يريد أن يجادل في هذه القضايا بغير علم وبغير معرفة، فيقع بالنتيجة في مشكلة الاستدلال غير السليم، ويؤدي بالنتيجة الى سلوك الاستهزاء بالآخرين.
أي أن المجادل وقع في هذه المشكلة سواء بشكل متعمد بسبب نفسه الخبيثة وفكره الخبيث او لجهله وجهله المركب، فيجادل بالمغالطة لدحض الحق وابطاله، ولكن هؤلاء الذين يسلكون هذا الطريق لا توجد لديهم معرفة، فيقعون بالنتيجة في عملية الاستهزاء بعد ان يتبين انهم عاجزون عن الفوز بالجدال.
وعن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): (إياك والمراء فإنه يحبط عملك، وإياك والجدال فإنه يوبقك، وإياك وكثرة الخصومات فإنها تبعدك من الله)، المراء يعني: طعن في كلام الغير لإظهار خلل فيه، من غير غرض سوى تحقيره وإهانته، وإظهار تفوقه وكياسته. والإنسان الذي يدخل في عالم المراء والمغالطة والجدال، يكون عمله محبطا عقيما غير منتج.
بالنتيجة يؤدي به هذا الطريق إلى الهلاك وكثرة الأعداء، وكثرة الخصومات والصراعات (فإنها تبعدك من الله)، وتبعدك من الواقع وتبعدك عن الحقيقة.
* سلسلة محاضرات تبث على قناة المرجعية تحت عنوان (جواهر الأفكار)
تعليق