بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على محمد وآل الطاهرين
روى العلامة المجلسي في البحار
ج 29 ص 161
خبر خالد بن الوليد والطوق
عن جابر بن عبد الله الأنصاري وعبد الله بن العباس قالا: كنّا جلوساً عند أبي بكر في ولايته وقد أضحى النهار وإذا بخالد بن الوليد المخزومي قد وافى في جيش قام غباره، وكثر صواهل خيله، وإذا بقطب رحى ملوي في عنقه قد فتل فتلا، فأقبل حتّى نزل عن فرسه بازاء أبي بكر، فرمقه الناس بأعينهم وهالهم منظره.
ثمّ قال: أعدل يا ابن أبي قحافة حيث جعلك الناس في هذا الموضع الذي ليس له أنت بأهل، وما ارتفعت إلى هذا المكان إلاّ كما يرتفع الطافي من السمك على الماء، وإنّما يطفو ويعلو حين لا حراك به، ما لك ولسياسة الجيوش، وتقويم العساكر، وأنت بحيث أنت من لين الحسب، ومنقوص النسب، وضعف القوى، وقلّة التحصيل، لا تحمى ذماراً، ولا تضرم ناراً، فلا جزى الله أخا ثقيف وولد صهاك خيراً.
إنّي رجعت منكفئاً من الطائف إلى جدّة في طلب المرتدّين، فرأيت ابن أبي طالب ومعه رهط عتاة من الدين، حماليق شزرت أعينهم من حسدك وبدرت حنقاً عليك، وقرحت آماقهم لمكانك منهم، ابن ياسر، والمقداد، وابن جنادة، وأخو غفار، وابن العوام، وغلامان أعرف أحدهما بوجهه، وغلام أسمر لعلّه من ولد عقيل أخوه، فتبيّن لي المنكر في وجوههم، والحسد في احمرار أعينهم، وقد توشّح عليّ بدرع رسول الله صلى الله عليه وآله، ولبس رداءه السحاب، ولقد أسرج له دابته العقاب، وقد نزل على عين ماء [اسمها روبة]
فلمّا رآني اشمأزّ وبربر، وأطرق موحشاً يقبض على لحيته، فبادرته بالسلام استكفاء شرته واتقاء وحشته، واستغنمت سعة المناخ وسهولة المنزل، فنزلت ومن معي بحيث نزلوا اتقاء عن مراوغته، فبدأني ابن ياسر بقبيح لفظه ومحض عداوته، فقرعني هزواً بما تقدّمتَ به إليّ بسوء رأيك.
فالتفت إليّ الأصلع الرأس، وقد ازدحم الكلام في حلقه كهمهمة الأسد أو كقعقعة الرعد، فقال لي بغضب منه: أوكنت فاعلا يا أبا سليمان؟ فقلت: والله لو أقام على رأيه لضربت الذي فيه عيناك، فأغضبه قولي إذ صدقته، وأخرجه إلى طبعه الذي أعرفه له عند الغضب فقال: يا ابن اللخناء! مثلك من يقدر على مثلي أن يجسر، أو يدير اسمي في لهواته التي لا عهد لها بكلمة حكمة؟ ويلك إنّي لست من قتلاك ولا قتلى صاحبك ، وإنّي لأعرف بمنيّتي منك بنفسك.
ثمّ ضرب بيده إلى ترقوتي فنكسني عن فرسي، وجعل يسوقني دعّاً إلى رحى للحارث بن كلدة الثقفي، فعمد إلى القطب الغليظ فمدّ عنقي بكلتا يديه وأداره في عنقي ينفتل له كالعلك المسخن، وأصحابي هؤلاء وقوف ما أغنوا عنّي سطوته، ولا كفوا عنّي شرته، فلا جزاهم الله عنّي خيراً، فإنّهم لمّا نظروا إليه كأنّهم قد نظروا إلى ملك موتهم، فوالذي رفع السماء بلا عمادها لقد اجتمع على فك هذا القطب مائة رجل أو يزيدون من أشدّ العرب فما قدروا على فكّه. فدلّني عجز الناس عن فتحه انّه سحر منه أو قوّة ملك قد ركبت فيه، ففكّه الآن عنّي إن كنت فاكّه، وخذ لي بحقّي إن كنت آخذاً، وإلاّ لحقت بدار عزّي ومستقر مكرمتي، قد ألبسني ابن أبي طالب من العار ما صرتُ به ضحكة لأهل الديار.
فالتفت أبو بكر إلى عمر وقال: ما ترى إلى ما يخرج من هذا الرجل؟! كأنّ ولايتي والله ثقل على كاهله أو شجاً في صدره، فالتفت إليه عمر فقال: فيه والله دعابة لا تدعه حتّى تورده فلا تصدره، وجهل وحسد قد استحكما في جلده، فجرى منه مجرى الدماء لا يدعانه حتّى يهينا منزله، ويورطاه ورطة الهلكة.
يتبع
والصلاة والسلام على محمد وآل الطاهرين
روى العلامة المجلسي في البحار
ج 29 ص 161
خبر خالد بن الوليد والطوق
عن جابر بن عبد الله الأنصاري وعبد الله بن العباس قالا: كنّا جلوساً عند أبي بكر في ولايته وقد أضحى النهار وإذا بخالد بن الوليد المخزومي قد وافى في جيش قام غباره، وكثر صواهل خيله، وإذا بقطب رحى ملوي في عنقه قد فتل فتلا، فأقبل حتّى نزل عن فرسه بازاء أبي بكر، فرمقه الناس بأعينهم وهالهم منظره.
ثمّ قال: أعدل يا ابن أبي قحافة حيث جعلك الناس في هذا الموضع الذي ليس له أنت بأهل، وما ارتفعت إلى هذا المكان إلاّ كما يرتفع الطافي من السمك على الماء، وإنّما يطفو ويعلو حين لا حراك به، ما لك ولسياسة الجيوش، وتقويم العساكر، وأنت بحيث أنت من لين الحسب، ومنقوص النسب، وضعف القوى، وقلّة التحصيل، لا تحمى ذماراً، ولا تضرم ناراً، فلا جزى الله أخا ثقيف وولد صهاك خيراً.
إنّي رجعت منكفئاً من الطائف إلى جدّة في طلب المرتدّين، فرأيت ابن أبي طالب ومعه رهط عتاة من الدين، حماليق شزرت أعينهم من حسدك وبدرت حنقاً عليك، وقرحت آماقهم لمكانك منهم، ابن ياسر، والمقداد، وابن جنادة، وأخو غفار، وابن العوام، وغلامان أعرف أحدهما بوجهه، وغلام أسمر لعلّه من ولد عقيل أخوه، فتبيّن لي المنكر في وجوههم، والحسد في احمرار أعينهم، وقد توشّح عليّ بدرع رسول الله صلى الله عليه وآله، ولبس رداءه السحاب، ولقد أسرج له دابته العقاب، وقد نزل على عين ماء [اسمها روبة]
فلمّا رآني اشمأزّ وبربر، وأطرق موحشاً يقبض على لحيته، فبادرته بالسلام استكفاء شرته واتقاء وحشته، واستغنمت سعة المناخ وسهولة المنزل، فنزلت ومن معي بحيث نزلوا اتقاء عن مراوغته، فبدأني ابن ياسر بقبيح لفظه ومحض عداوته، فقرعني هزواً بما تقدّمتَ به إليّ بسوء رأيك.
فالتفت إليّ الأصلع الرأس، وقد ازدحم الكلام في حلقه كهمهمة الأسد أو كقعقعة الرعد، فقال لي بغضب منه: أوكنت فاعلا يا أبا سليمان؟ فقلت: والله لو أقام على رأيه لضربت الذي فيه عيناك، فأغضبه قولي إذ صدقته، وأخرجه إلى طبعه الذي أعرفه له عند الغضب فقال: يا ابن اللخناء! مثلك من يقدر على مثلي أن يجسر، أو يدير اسمي في لهواته التي لا عهد لها بكلمة حكمة؟ ويلك إنّي لست من قتلاك ولا قتلى صاحبك ، وإنّي لأعرف بمنيّتي منك بنفسك.
ثمّ ضرب بيده إلى ترقوتي فنكسني عن فرسي، وجعل يسوقني دعّاً إلى رحى للحارث بن كلدة الثقفي، فعمد إلى القطب الغليظ فمدّ عنقي بكلتا يديه وأداره في عنقي ينفتل له كالعلك المسخن، وأصحابي هؤلاء وقوف ما أغنوا عنّي سطوته، ولا كفوا عنّي شرته، فلا جزاهم الله عنّي خيراً، فإنّهم لمّا نظروا إليه كأنّهم قد نظروا إلى ملك موتهم، فوالذي رفع السماء بلا عمادها لقد اجتمع على فك هذا القطب مائة رجل أو يزيدون من أشدّ العرب فما قدروا على فكّه. فدلّني عجز الناس عن فتحه انّه سحر منه أو قوّة ملك قد ركبت فيه، ففكّه الآن عنّي إن كنت فاكّه، وخذ لي بحقّي إن كنت آخذاً، وإلاّ لحقت بدار عزّي ومستقر مكرمتي، قد ألبسني ابن أبي طالب من العار ما صرتُ به ضحكة لأهل الديار.
فالتفت أبو بكر إلى عمر وقال: ما ترى إلى ما يخرج من هذا الرجل؟! كأنّ ولايتي والله ثقل على كاهله أو شجاً في صدره، فالتفت إليه عمر فقال: فيه والله دعابة لا تدعه حتّى تورده فلا تصدره، وجهل وحسد قد استحكما في جلده، فجرى منه مجرى الدماء لا يدعانه حتّى يهينا منزله، ويورطاه ورطة الهلكة.
يتبع
ثمّ قال أبو بكر لمن بحضرته: اُدعوا قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري فليس لفكّ هذا القطب غيره، قال: [وكان قيس سيّاف النبي]
وكان قيس رجل طوله ثمانية عشر شبراً في عرض خمسة أشبار، وكان أشدّ الناس في زمانه بعد أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، فحضر قيس فقال له: يا قيس إنّك من شدّة البدن بحيث أنت، ففك هذا القطب عن عنق أخيك.
فقال قيس: ولم لا يفكّه خالد من عنقه؟ قال: لا يقدر عليه، قال: فما لا يقدر عليه أبو سليمان ـ وهو نجم العسكر وسيفكم على أعدائكم ـ فكيف أقدر عليه أنا؟! قال عمر: دعنا من هزئك وهزلك وخُذ فيما حضرت له، فقال: اُحضرت لمسألة تسألونها [طوعاً] أو كرهاً تجبروني عليه؟.
فقال له: إن كان طوعاً وإلاّ فكُرهاً، قال قيس: يا ابن الصهاك! خذل الله من يكرهه مثلك، إنّ بطنك لعظيمة، وإنّ كرشك لكبيرة، فلو فعلت أنت ذلك ما كان منك [عجب، قال:] فخجل عمر من قيس بن سعد وجعل ينكث أسنانه بالانملة، فقال أبو بكر: دع عنك وما بداك به اقصد لما سئلت، فقال قيس: والله لو أقدر على ذلك ما فعلت، فدونكم وحدّادين المدينة فإنّهم أقدر على ذلك منّي.
فأتوا بجماعة من الحدّادين فقالوا: لا ينفتح حتّى نحميه بالنار، فالتفت أبو بكر إلى قيس مغضباً فقال: والله ما بك من ضعف عن فكّه ولكنّك لا تفعل فعلا يعيب عليك فيه إمامك وحبيبك أبو الحسن، وليس هذا بأعجب من انّ أباك رام الخلافة ليبتغي الإسلام عوجاً، فحصد الله شوكته، وأذهب نخوته، وأعزّ الإسلام بوليّه، وأقام دينه بأهل طاعته، وأنت الآن في حال كيد وشقاق.
قال: فاستشاط قيس غضباً وامتلأ غيظاً، فقال: يا ابن أبي قحافة انّ لك عندي جواباً حمياً بلسان طلق وقلب جري، ولولا البيعة [التي في عنقي لسمعته منّي] ، والله لئن بايعتك يدي لم يبايعك قلبي ولا لساني، ولا حجة في عليّ بعد يوم الغدير، ولا كانت بيعتي لك إلاّ كالتي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً، أقول قولي هذا غير هائبك ولا خائف من معرتك، ولو سمعت هذا القول منك بداء لما فتح لك منّي صلاحاً.
إن كان أبي رام الخلافة فحقيق من يرومها بعد من ذكرته، لأنّه رجل لايقعقع بالسنان ولا يغمز جانبه كغمز التينة، خضم صنديد، سمك منيف، وعز باذخ أشوس، فقام بخلافك والله أيّها النعجة العرجاء والديك النافش، لا عزّ صميم، ولا حسب كريم، وأيم الله لئن عاودتني في أبي لألجمنّك بلجام من القول يمج فوك منه دماً، فدعنا نخوض في عمايتك، ونتردّى في غوايتك على معرفة منّا بترك الحقّ واتّباع الباطل.
أمّا قولك انّ علياً إمامي فوالله ما أنكر إمامته، ولا أعدل عن ولايته، وكيف أنقض وقد أعطيت الله عهداً بإمامته وولايته يسألني عنه، فأنا إن ألقى الله بنقض بيعتك أحبّ إليّ من نقض عهده وعهد رسوله وعهد وصيّه وخليله، وما أنت إلاّ أمير قومك، إن شاؤوا تركوك وإن شاؤوا عزلوك.
فتب إلى الله ممّا اجترمته، وتنصل إليه ممّا ارتكبته، وسلّم الأمر إلى من هو أولى منك بنفسك، فقد ركبت عظيماً بولايتك دونه، وجلوسك في موضعه، وتسميتك باسمه، وكأنّك بالقليل من دنياك وقد انقشع عنك كما ينقشع السحاب، ويعلم أيّ الفريقين شرّ مكاناً وأضعف جنداً.
وأمّا تعييرك إيّاي بأنّه مولاي، فهو والله مولاي ومولاك ومولى المسلمين أجمعين، آه آه أنّى لي بثبات قدمه، وتمكن وطأته حتّى ألفظك لفظ المنجنيق الحجرة، ولعلّ ذلك يكون قريباً ونكتفي بالعيان عن الخبر، ثمّ قام ونفض ثوبه ومضى، فندم أبو بكر عمّا أسرع إليه من القول إلى قيس، وجعل خالد يدور في المدينة والقطب في عنقه أيّاماً.
ثمّ أتى آت إلى أبي بكر فقال له: قد وافى عليّ بن أبي طالب الساعة من سفره، وقد عرق جبينه واحمرّ وجهه، فأنفذ إليه أبو بكر الأقرع بن سراقة الباهلي والأشوس بن الأشجع الثقفي يسألانه المضي إلى أبي بكر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله، فأتياه فقالا: يا أبا الحسن إنّ أبا بكر يدعوك لأمر قد أحزنه، وهو يسألك أن تصير إليه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله، فلم يجبهما.
يتبع
فقالا: يا أبا الحسن ما ترد علينا فيما جئناك به، فقال: بئس والله الأدب أدبكم، أوليس يجب على القادم أن يصير إلى الناس في حوائجهم إلاّ بعد دخوله في منزله؟! فإن كان لكم حاجة فأطلعاني عليها في منزلي حتّى اُقضيها إن كانت ممكنة إن شاء الله تعالى.
فصارا إلى أبي بكر فأعلماه بذلك، فقال أبو بكر: قوموا بنا إليه، فمضى الجمع بأسره إلى منزله، فوجدوا الحسين عليه السلام قائماً على الباب يقلب سيفاً ليبتاعه، فقال له أبو بكر: يا أبا عبد الله إن رأيت أن تستأذن لنا على أبيك، فقال: نعم، فاستأذن للجماعة فدخلوا ومعهم خالد بن الوليد، فبدأ به الجمع بالسلام فردّ مثل ذلك، فلمّا نظر إلى خالد قال: نعمت صباحاً يا أبا سليمان، نعم القلادة قلادتك.
فقال: والله يا عليّ لا نجوت منّي إن ساعدني الأجل، فقال له عليّ عليه السلام: اُفّ لك يا ابن دميمة، إنّك ومَنْ فلق الحبّة وبرئ النسمة عندي لأهون [شيء] ، وما روحك في يدي لو أشاء إلاّ كذبابة وقعت في إدام حار فطفقت منه، فاغن عن نفسك غناها ودعنا [بحالنا] حكماء، وإلاّ ألحقتك بمن أنت أحقّ بالقتل منه، ودع عنك يا أبا سليمان ما مضى وخُذ فيما بقى، فوالله ما تجرّعت من جرار المختمة إلاّ علقمها، والله لقد رأيت منيتي ومنيتك وروحي وروحك، وروحي في الجنّة وروحك في النار.
قال: وحجز الجمع بينهما وسألوه قطع الكلام، فقال أبو بكر لعليّ عليه السلام: إنّا ما جئناك لما تناقض منه أبا سليمان وإنّما حضرنا لغيره، وأنت لم تزل يا أبا الحسن مقيماً على خلافي والاجتراءعلى أصحابي، فقد تركناك فاتركنا ولا تردنا فيردك منّا ما يوحشك ويزيدك نبوة على نبوتك فقال عليّ عليه السلام: لقد أوحشني الله منك ومن جمعك، وآنسبي كلّ مستوحش، وأمّا ابن الوليد الخاسر فإنّي أقصّ عليك نبأه، إنّه لمّا رأى تكاثف جنوده وكثرة جمعه زها في نفسه، فأراد الوضع منّي في موضع رفع ومحفل ذي جمع ليصول بذلك عند أهل الجمع، فوضعت منه عندما خطر بباله وهمّ به، وهو عارف بي حقّ معرفته وما كان الله ليرضى بفعله.
فقال له أبو بكر: فنضيف هذا إلى تقاعدك عن نصرة الإسلام، وقلّة رغبتك في الجهاد، فبهذا أمرك الله ورسوله، أم عن نفسك تفعل هذا؟
فقال له عليّ عليه السلام: يا أبا بكر وعلى مثلي يتفقّه الجاهلون؟ انّ رسول الله صلى الله عليه وآله أمركم ببيعتي، وفرض عليكم طاعتي، وجعلني فيكم كبيت الله الحرام يؤتى ولا يأتي، فقال: يا عليّ ستغدر بك اُمّتي من بعدي كما غدرت الاُمم بعد مضيّ الأنبياء بأوصيائها إلاّ قليل، وسيكون لك ولهم بعدي هناة وهناة فاصبر، أنت كبيت الله من دخله كان آمناً ومن رغب عنه كان كافراً، قال الله عزوجل: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً}، وانّي وأنت سواء إلاّ النبوّة، فإنّي خاتم النبيّين وأنت خاتم الوصيّين.
وأعلمني عن ربّي سبحانه بأنّي لست أسلّ سيفاً إلاّ في ثلاث مواطن بعد وفاته، فقال: تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، ولن يقرب أوان ذلك بعد، فقلت: فما أفعل يا رسول الله بمن ينكث بيعتي منهم ويجحد حقّي؟ قال: تصبر حتّى تلقاني وتستسلم لمحنتك حتّى تلقى ناصراً عليهم.
فقلت: أفتخاف عليّ منهم أن يقتلوني؟ فقال: تالله لا أخاف عليك منهم قتلا ولا جراحاً، وانّي عارف بمنيتك وسببها وقد أعلمني ربّي، ولكنّي خشيت أن تفنيهم بسيفك فيبطل الدين وهو حديث فيرتدّ القوم عن التوحيد، ولولا انّ ذلك كذلك ـ وقد سبق ما هو كائن ـ لكان لي فيما أنت فيه شأن من الشأن، [ولرويت] أسيافاً قد ظمئت إلى شيء من الدماء، وعند قراءتك صحيفتك تعرف نبأ ما احتملت من وزر، ونعم الخصم محمد، والحكم الله.
فقال أبو بكر: يا أبا الحسن إنّا لم نرد هذا كلّه ونحن نأمرك أن تفتح الآن عن عنق خالد هذا الحديد، فقد آلمه بثقله وأثّر في حلقه بحمله، ولقد شفيت غليل صدرك.
فقال عليّ عليه السلام: لو أردت أن أشفي غليل صدري لكان السيف أشفى للداء وأقرب للفناء، ولو قتلته والله ما [قدّرته] برجل ممّن قتلتهم يوم فتح مكة وفي كرّته هذه، وما يخالجني الشك في انّ خالداً ما احتوى قلبه من الايمان على قدر جناح بعوضة، امّا الحديد الذي في عنقه فلعلّي لا أقدر على فكّه، فيفكّه خالد عن نفسه أو فكّوه عنه، فأنتم أولى به إن كان ما تدّعونه صحيحاً.
فقام إليه بريدة الأسلمي وعامر بن الأشجع فقالا: يا أبا الحسن والله لا يفكّه من عنقه إلاّ من حمل باب خيبر بفرد يد ودحا به وراء ظهره، وحمله فجعله جسراً تعبر الناس عليه وهو فوق زنده، وقام إليه عمار بن ياسر فخاطبه أيضاً فيمن خاطبه، فلم يجب أحداً إلى أن قال له أبو بكر: سألتك بالله وبحقّ أخيك المصطفى رسول الله إلاّ ما رحمت خالداً وفككته من عنقه. فلمّا سأله بذلك استحيى ـ وكان عليّ عليه السلام كثير الحياء ـ فجذب خالداً إليه وجعل يحذف من الطوق قطعة قطعة، ويفتلها في يده فتفتل كالشمع، ثمّ ضرب بالاُولى رأس خالد ثمّ الثانية فقال: آه يا أمير المؤمنين، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: قلتها على كره منك ولو لم تقلها لأخرجت الثالثة من أسفلك.
ولم يزل يقطع الحديد جميعه إلى أن أزاله من عنقه، وجعل الجماعة يكبّرون لذلك ويهلّلون ويتعجّبون من القوّة التي أعطاها الله سبحانه أمير المؤمنين عليه السلام، وانصرفوا شاكرين [لذلك].
في "ج": أليم الحسب.
الانكفاء: الرجوع، وفي "ج": متكفياً.
في "ج": من الذين شزرت حماليق أعينهم....
أثبتناه من "ج".
البربرة: الصوت وكلام في غضب.
في "ج": أصحابك.
في "ج": في صدره.
قال العلاّمة المجلسي: وفي رواية اُخرى:... فقال له [أي لعمر] أبو بكر: دعني عن تمرّدك وحديثك هذا، فوالله لو همّ بقتلي وقتلك لقتلنا بشماله دون يمينه....
عنه البحار 29: 161 ح37; وقطعة منه في مناقب ابن شهر آشوب 2: 290.
وقال العلاّمة المجلسي رحمه الله: وفي الرواية الاُخرى زيادة، وهي هذه: فانصرفت الجماعة شاكرين له وهم متعجبّون من ذلك، فقال أبو بكر: لا تعجبوا من أبي الحسن، والله لقد كنت بجنب رسول الله صلّى الله عليه وآله يوم قلع عليّ باب خيبر، فرأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله قد ضحك حتّى بدت ثناياه، ثمّ بكى حتّى اخضلّت لحيته، فقلت: يا رسول الله أضحك وبكاء في ساعة واحدة؟ قال: نعم، أمّا ضحكي ففرحت بقلع عليّ باب خيبر، وأمّا بكائي فلعليّ عليه السلام، فإنّه ما قلعه إلاّ وهو صائم منذ ثلاثة أيّام على الماء القراح، ولو كان فاطراً على طعام لدحا به من وراء السور.
المصدر إرشاد القلوب المؤلف : الديلمي، حسن بن محمد الجزء : 2
تعليق