سجل الرسول الاكرم (صلى الله عليه واله)ا خطواته البناءة المستمدة من تعاليم الدين فجسدها أتم وأحسن تجسيد، فكان قرآنا يمشي على الأرض في كل حركاته وسكناته، وعلى هذا الغرار مضت سيرة عترته المطهرة تشابها وتماثلا وتقاربا لجدهم المصطفى (ص) .
واشرأبت سيرته المفعمة بالتقوى من وحي نصوص القران وعايشتها ونمت في ربوعها وازهرت حدائق أخلاقه العطرة وأينعت أغصان ايمانه المورقة، فكان كما وصفه خالقه : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (1)
وواحدة من تلك القطاف المحمدية؛ ثقافته في الحوار، فقد كان للنبي صلوات الله عليه واله وسلم حراكا رحيما في دنيا الاسلام وهو الموصوف في قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (2) ، فمضى متتبعا هدى القران الكريم ومطبقا سننه بكل امانة.
وكانت مناظراته مع أهل الاديان الاخرى واحدة من الشواهد، حيث نقل لنا الطبرسي في كتابه (الاحتجاج) مناظراته مع اليهود والنصارى والدهرية ومشركي العرب، وبين لنا رده الحكيم لتلك الشبهات ودحضها بالحجة والدليل وأساليب الحوار الفعال .
والنكتة انه صلوات ربي عليه قد شيد دولته المجيدة من قبائل شتى ومكونات مختلفة ومع ذلك اجاد في ادارة دفة المسيرة بحنكة بالغة وجذب القلوب بأخلاقه الرائعة وقارب بين الاختلافات بعدالته وحكمته البارعة.
هذا غيض من فيض من سيرة غاصة بالوفرة والعطاء وعلى هذا المنوال مضت سفينة أهل البيت تترامى في بحر الاسلام بكل اتزان، تشق طريقها بكل يقين وايمان، وقد أتخذ الإمام علي(ع) نفس النهج النبوي الشريف.
واجه الاختلاف والتنوع نفسه ومما دفعه للحوار مع إطراف متعددة وبأشكال مختلفة مع الناس أو مع عمّاله أو المعارضين له، وحتى مع أعدائه أيضاً - كمعاوية مثلاً – هو بيان الحق ودفع الباطل، حيث يقول في هذا الصدد: (وَ ايْمُ اللَّهِ لَأَبْقُرَنَّ الْبَاطِلَ حَتَّى أُخْرِجَ الْحَقَّ مِنْ خَاصِرَتِهِ)(3)
ورغم كل الاختلافات التي منيت فترة حكمه الميمونة الا انه كان للحوار منفذ يوصل به رسائله وايعازاته لمن حوله على طبق الاحترام والمحبة وهو القائل (أصحب الناس بما تحب أن يصحبوك تأمنهم ويأمنوك) (4)
وهكذا تتابعا ازدانت هذه السيرة القها بمدرسة الإمام جعفر الصادق (ع) الذي مثل الحوار فيها مرتكزا للتلاقح الفكري والثقافي والمدماك الاساس في بناء العلاقات الانسانية، التي شيد صرحها على اساس التعارف والتحاور لا على اساس التخاصم والتقاطع.
فقد حاور العديد من فقهاء زمانه ومنهم أبا حنيفة النعمان، في حواره معه بشأن القياس الذي كان يعتمده ويتبنيه، ولكن كان الإمام يرفضه، قائلا له:
"لا تقس، فإنّ أول من قاس إبليس حين قال: "خلقتني من نار وخلقته من طين" فقاس ما بين النار والطين ولو قاس نورية آدم بنورية النار عرف فضل ما بين النورين وصفاء أحدهما على الآخر" (5)
وبعدما تطلعنا على الصورة الجلية التي نص عليها الآي الكريم وسيرة مقتطفة من وحي ثقافة النبي الأكرم وآل بيته حول الحوار، علينا ان نقف قليلا لمعرفة بعض أسس الحوار :
اولا : أنفتاح قلوبنا مع الآخرين، نحاورهم بقلوب مفتوحة لا بقلوب معقّدة، والا نتعقد من الآخرين الذين يختلفون معنا في الرأي بل نردد بود: (اللهم اغفر لقومي إنهم لا يعلمون) (6)
ثانيا : أن لانتهم دوافع الآخر الذي يختلف معنا في الرأي، والا نتسرع في الحكم قبل انجلاء غبرة الافكار واتضاح المرامي الحقيقية، فالدوافع مسألة قلبية لا يمكن اكتشافها بسهولة، فمن حقنا ان نُخطأ من نختلف معهم في الرأي، ولكن ليس من حقنا أن نتهم دوافعهم إلا إذا توفّرت الأدلة الكافية على ذلك.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: (ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه، لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا). (7)
ثالثا: أن لا نلغي الآخر الذي نختلف معه في الرأي وفي الموقف ، حيث علينا اتباع هذه القاعدة في فن الحوار التي مفادها أننا على صواب يحتمل الخطأ، والآخر على خطأ يحتمل الصواب)، أي أن نضع احتمال الخطأ عندنا ولو بنسبة واحد في المئة، واحتمال الصواب في الجانب الآخر ولو بنسبة واحد في المائة، بغية فتح الأفاق وعدم الانغلاق مع الآخر.
بهذه الأسس شيد صرح ديننا وسارت عليه السنة الشريفة لعلنا بعد ذلك نجمع شتات ما تفرقنا عليه، ونوحد كلمتنا بعدما انسل العدو الاكبر ينهش في صفوفنا ويمزق اهدافنا ويشتت اخوتنا، ويبقى الحوار الهادف أملنا في توحيد الصفوف ومد الجسور واجتماع القلوب في رحاب ديننا الحنيف دين المحبة والأخوة والسلام.
الهامش :
1- القلم (4).
2- الانبياء (107)
3- (نهج البلاغة، الخطبة ١٠٤)
4- (غررالحكم ،انصاري /ج ١ ،ص ١٢٧)
5- (الكافي ج1 ص58).
6- (إقبال ألاعمال 1 :384)
7- (الكافي - الشيخ الكليني - ج ٢ - الصفحة ٣٦٢)