للحب فصول وطقوس تتيم العشاق بوافر المحبة الفياضة والوله العجيب، وعلى أعتاب قصص الحب الأبوي تجثو المشاعر وتتجسد آيات الحنو العظيم.
لم يكن نبي الله يعقوب كباقي البشر حبا وكمدا على فراق ولده يوسف، فلقد فاض وجدا وحزنا حتى لاح على محياه وظهر على سحنات جسده المتعب الذي ارهقته سنون الشوق الكبير.
وعلى الرغم من ان فقد احدهم لعزيزه ليس بالأمر الجديد او الفريد ، الا ان نبي الله يعقوب كان له صراعه وتداعياته اثر ذلك الفقد لحكمة من الله تعالى .
قال تعالى : ( قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ).يوسف_ 85
من هذه الآية الكريمة نجد أن كلمة" تفتأ " والتي هي بمعنى لايزال الدالة على الاستمرار والدوام تتصدرها، فلماذا اختار تعالى كلمة تفتأ دون ان يستخدم غيرها من اخوات كان كمثل : ما أنفك ، ما برح، ما زال؟
جوابا نقول ذلك لإمكانية التوسع في المعنى القرآني فان لكلمة ( فتأ ) ثلاث معاني وهي: سكَن، واطفأ النار، ونسي .
وسيظهر هذا الأمر من خلال تفسير هذه المعاني، واولها السكن ، فإن من فقد عزيزا كان الزمن كفيلا بان يطوي وجوده ويسكن روعه، لكن الله تعالى اراد من نبيه يعقوب الا ينسى والا يكف بدليل قوله تعالى : (وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ). يوسف _84
ثاني المعاني كان اطفاء النار، فان الفاقد للعزيز يشعر بان نارا تحرقه فيردد لقد حرق قلبي) لكنها ستنطفئ فيما بعد بمرور الأعوام والتعود على الفقدان، اما النار التي بين جنبي نبي الله يعقوب فلم تنطفئ ولم تزل ملتهبة مستعرة في قلبه، قال تعالى : (قالَ لَن أُرسِلَهُ مَعَكُم حَتّى تُؤتونِ مَوثِقًا مِنَ اللَّـهِ لَتَأتُنَّني بِهِ إِلّا أَن يُحاطَ بِكُم فَلَمّا آتَوهُ مَوثِقَهُم قالَ اللَّـهُ عَلى ما نَقولُ وَكيلٌ). يوسف_ 66 .
والأمر الثالث في المعنى وهو النسيان فالفاقد لعزيزه حتما سيدعو له المعزون بالصبر والسلوان ، الا ان يعقوب لم ينسى يوسف الى ان جُمع مع ولده بعد سنين طوال من المشقة والتصبر والاختبار، قال تعالى : فَلَمّا أَن جاءَ البَشيرُ أَلقاهُ عَلى وَجهِهِ فَارتَدَّ بَصيرًا قالَ أَلَم أَقُل لَكُم إِنّي أَعلَمُ مِنَ اللَّـهِ ما لا تَعلَمونَ . ( يوسف_ ٩٦)
اذن فان كلمة تفتأ جمعت كل هذه المعاني المرادة حيث لا يؤدي اي لفظ اخر هذه المعاني مجتمعة غير هذه الكلمة، والقرآن الكريم لم يستعمل هذه الكلمة الا في هذا الموضع في سورة يوسف (ع).
ومن وهج هذه الآية الكريمة التي توسع معناها لأكثر من مقصد، نجمع شتات أمانينا المحطمة ونحن نعيش زمن الإندحار والتضييق وحلول المظالم على الناس الأبرياء، نتكأ على عكازة الأنتظار ، نلملم ما تبقى لنا من أحلام ، ونأمل حلول مستقبل وردي فياض يُقدم مع قدوم بطل مغوار ، ستركع الدنيا وتتغير خارطة الحياة بمجيئه المزدان بالبهجة والأسرار.
وها نحن يلتهمنا الشوق وتتلقفنا الحسرات لغياب مهدينا الذي طال فراقه، بسبب ذنوب الناس واجتماعهم على العداء والكره والبغضاء، وانصرافهم عن البر والتقوى والإحسان، بعدما وسوست لهم شياطين انفسهم الأمارة وساقتهم نحو طريق الكفر والبهتان .
تالله نفتأ نذكر مهدي الأمة حتى نكون انصاره أو نكون من المستشهدين بين يديه، ونحن نعيش المعاني الثلاثة بكل مراميها، فلن تسكن اوجاعنا...أوجاع الفراق، ولن تهدأ أحزاننا. احزان اللوعة والإشتياق، نعيش على وهج انتظاره ونتزود من أمل لقياه، فنتحرق بنار فراقه فلا نهنأ بعيش ولا يطيب لنا حال دون الظهور الميمون، الذي سيقر عيوننا ويثلج صدورنا المكلومة، وهيهات ان ننساه او تمر صلاة دون الدعاء له بالفرج الذي فيه خلاصه وخلاصنا.
هكذا صار قضيتنا المستعرة التي نحيا لأجلها ونحن نتوسد باب الفرج من يمناه الشريفة،
، فسلام على يوسف زماننا ومهدينا الموعود وحجة الله على الأرض، الذي سيملأ الكون سنابلا واخضرارا بعد أن غطاها الدغل وجففها البوار .