في ظل تهافت شعوب العالم حول مفاهيم التنمية البشرية في عصرنا الحاضر، ومحاولة اكتساب المهارات وتطوير الذات ومراجعة الكتب والمؤلفات والدراسات وإقامة الدورات والندوات والمحاضرات الكثيرة في هذا المجال، إلا أن هذه المفاهيم والسبل لتطوير الموارد البشرية قد جاء بها رسول الإنسانية محمد (ص) ووضح مبادئها وأسسها وعمل على إرساء قواعدها في المجتمع الجاهلي منذ مئات السنين، وبأساليب بسيطة جداً تحاكي حركة الوعي في المجتمع آنذاك، وإن كانت المسميات مختلفة بعض الشيء إلا أنها تصب في نفس المعنى.
علم التنمية البشرية يسمى أيضاً بعلم تنمية الموارد البشرية مع وجود فارق بسيط، وعلى العموم فالتسميتان واحدة؛ لأنهما تعتمدان على التنمية بشكل أساسي، فعلم التنمية البشرية علم يشمل جميع جوانب الحياة لمختلف فئات المجتمع، ويعتني باﻹنسان؛ لكونه جوهر عملية التنمية، أما علم تنمية الموارد البشرية فهو متخصص أكثر ويهتم بفئات محددة من أجل زيادة الإنتاج وتحسينه كالموظفين والمدراء وغيرهم .
والاصطلاح اللغوي للتنمية البشرية فيه لبس لغوي على العامة، فأصل التنمية من الفعل (تنمّى) بتشديد النون وهو من النميمة.
ونمّيت -بتشديد الميم- الحديث تنمية: إذا بلغته -بتشديد اللام- على جهة الإفساد
ونمَيته -بفتح الميم- نمْيا -بسكون الميم-: على جهة الإصلاح(1).
ولجهل العامة بألفاظ اللغة العربية الفصيحة توهموا أن المصدر (تنمية) من الفعل (نما) من الزيادة والنمو والرفعة والذي مصدره نموا ونماءً(2)، وليس تنمية كما تقدم.
وعلى كل حال لا يهمنا المعنى اللغوي الدقيق بقدر ما يهمنا المعنى الاصطلاحي المعاصر للتنمية البشرية، وهو تحفيز وتدريب قدرات الإنسان من خلال توفير البيئة الملائمة لتنمية القدرات والخبرات والسلوكيات والطموحات لكل فرد من أفراد المجتمع من جميع جوانبه بما يضمن وعي المجتمع لإمكانياته الفردية والجماعية ورقيه حاضرا ومستقبلا.
وقد عمل على ذلك رسول الله (ص) من خلال اعتماده على أهم مادة أساسية في دينه وهو الإنسان، فدين اﻹسلام هو دين اﻹنسانية يهدف في اﻷساس إلى صناعة الإنسان بما هو إنسان وتطوير قابلياته وقدراته وتسخير كل إمكانياته المتاحة لخدمة المجتمع -كالمجتمع الجاهلي مثلاً - الذي ارتقى كثيرا بهذه الخطوات الجبارة والتي أحدثت فيه تغييراً ملحوظاً في النهج والفكر والسلوك عن طريق استخدام رسول الله (ص) عدة محاور منها:
تطوير الذات واستثمار القدرات والطاقات البشرية في عملية زيادة الإنتاج.
فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: اشتدت حال رجل من أصحاب النبي (ص) فقالت له امرأته: لو أتيت رسول الله (ص) فسألته؟ فجاء إلى النبي (ص) فلما رآه النبي (ص) قال: من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه الله. فقال الرجل: ما يعني غيري، فرجع إلى امرأته فأعلمها فقالت: إن رسول الله بشر فأعلمه. فأتاه فلما رآه رسول الله (ص) قال: من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه الله. حتى فعل الرجل ذلك ثلاثا ثم ذهب الرجل فاستعار معولا ثم أتى الجبل فصعده فقطع حطبا ثم جاء به فباعه بنصف مد من دقيق فأكله، ثم ذهب من الغد فجاء بأكثر من ذلك فباعه، فلم يزل يعمل ويجمع حتى اشترى بكرين وغلاما ثم أثرى حتى أيسر.
فجاء إلى النبي (ص) فأعلمه كيف جاء يسأله وكيف سمع النبي (ص) فقال النبي (ص) قلت لك: من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه الله(3).
نلاحظ في هذا الحديث كيفية تحفيز رسول الله (ص) الرجل للتفكير واستثمار الطاقات البشرية الكامنة فيه بالاعتماد على النفس، وبالتالي زيادة الإنتاج والعطاء والانطلاق من حالة الاكتفاء الفردي إلى الاكتفاء المجتمعي العام، مغيراً بذلك النظرة العامة لمجتمع ما قبل الإسلام الذي كان مجتمعاً تسوده الطبقية.
فالمقدرات الاقتصادية من التجارة وغيرها كانت تدار من قبل طبقة الأثرياء والوجهاء ويعمل عليها الرقيق والعبيد لتحقيق مصالح تلك الطبقة، أما طبقة الفقراء من الرعية فقد كانت ترزح تحت نير الفقر والعوز، ولهذا كان المجتمع استهلاكياً لا يقدر قيمة العمل والانتاج، فكانت أرزاق الطبقة الفقيرة المعدمة تأتي إما من تسخيرهم للعمل لصالح الأثرياء مع الرقيق والعبيد، أو من خلال الحروب وشن الغارات على القبائل الأخرى لأجل الحصول على الغنائم.
بينما حاول الرسول (ص) بناء مجتمع إسلامي على أسس رصينة باستثمار الطاقات البشرية وتقدير قيمة العمل والجد والاجتهاد لا بالإغارة والسرقة ولا بالقعود وبذل ماء الوجه بالسؤال والاستعطاء مهما كانت الظروف صعبة على الأفراد عليهم مواجهتها بالعمل والصبر والتقوى وفي السيرة النبوية شواهد كثيرة في هذا المجال.