لصلاةِ العشقِ الإلهي مُقدِّماتٌ كثيرةٌ ماديةٌ منها ومعنوية، قد تطولُ فترةُ تهيئةِ تلك المُقدمات وقد تقصُرُ للعاملِ لها لحكمةٍ يُريدُ اللهُ (تعالى) بها رِفعةَ ذلك العبدِ الساعي لتلك الصلاة، الصلاةُ التي تعرُجُ بالروحِ إلى بارئها وتنقلُ مُصليها من عالمِ الإمكانِ إلى عالمِ الوجوب مع أفواجِ الملائكةِ التي تُحيطُ بإمامِ الزمانِ الذي يؤمُّ المُصلين وتُختَتَمُ بالشهادةِ بين يدي الحقِّ (تعالى).
الحجاجُ بن مسروقِ الجعفي من خُلّصِ شيعةِ الكوفة، كان من أولئك المُخلصين الذين تتوقُ أرواحُهم لتلك الصلاةِ والساعين لها، قدّمَ لها المُقدِّماتِ من الإخلاصِ وتهذيبِ النفسِ وتوطينِها على حُبِّ آلِ مُحمّدٍ (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) فصَحِبَ الإمامَ عليًّا (عليه السلام) في الكوفةِ ينهلُ من مُقدِّماتِ تلك الصلاة خلفه بأبي هو وأمّي.
وامتدَّ العملُ لمقدِّماتِ تلك الصلاة لسنواتٍ طوالٍ حتى تناهى إلى سمعِ الحجاج بأنَّ الإمامَ الحسين (عليه السلام) خرجَ من المدينةِ إلى مكةَ فانطلقَ من الكوفةِ برحلةِ عشقٍ إلى مكةَ والتحقَ به (عليه السلام)، ومن هناك بدأتْ صلاةُ العشقِ حينما أصبحَ مؤذّنَ الحُسين (عليه السلام) للصلوات الخمس(١)
وأيُّ صلاةِ عشقٍ صلّاها العاشقون في ذلك الركبِ الحُسيني في مسيرةِ العشقِ تلك نحو عوالمِ الملكوت، والتي ابتدأوها وختموها بأذانِ الحجاج.
تملّكَ العشقُ جوانحَ الحجّاجِ بن مسروق لإمامِ زمانِه وكأنّه لم يكتفِ بأنْ يتشرّفَ بكونِه مؤذنَ إمامِ زمانه، بل قيل إنّه كانَ يُمسِكُ للحُسين الزمامَ إذا ركبَ الراحلة(٢)
مع الأخذِ بنظرِ الاعتبار أهمية المؤذن في الإسلامِ، فعن رَسُول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) أنّه قال: "مَنْ أَذَّنَ مُحْتَسِبًا يُرِيدُ بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ (عَزَّ وَ جَلَّ) أَعْطَاهُ اللهُ ثَوَابَ أَرْبَعِينَ أَلْفَ شَهِيدٍ، وَأَرْبَعِينَ أَلْفَ صِدِّيقٍ، وَيَدْخُلُ فِي شَفَاعَتِهِ أَرْبَعِينَ أَلْفَ مُسِيءٍ مِنْ أُمَّتِي إِلَى اَلْجَنَّةِ، أَلاَ وَإِنَّ اَلْمُؤَذِّنَ إِذَا قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ وَاِسْتَغْفَرُوا لَهُ وَكَانَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فِي ظِلِّ اَلْعَرْشِ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ حِسَابِ اَلْخَلاَئِقِ وَيَكْتُبُ ثَوَابَ قَوْلِهِ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله أَرْبَعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ"(٣).
فكيف إذا كانَ المؤذنُ مؤذنًا لإمامِ زمانه وبأمر منه؟!
وهو أيضًا رسولُ الإمامِ الحُسين (عليه السلام) إلى عُبيدِ الله بن الحُرِّ الجعفي بعثَه برِفقةِ يزيد بن مغفل الجعفي؛ ليدعواه إلى نصرته (عليه السلام)، فلنتأملْ بكلماتِه التي تنمُّ عن عقيدةٍ راسخةٍ في إمامِ زمانِه حينما سألَه ابنُ الحُرّ عمّا وراءه، فأجابَه الحجّاج: "هديّةٌ إليكَ وكرامةٌ إن قَبِلتَها! هذا الحُسينُ يدعوك إلى نُصرته، فإنْ قاتلتَ بين يَدَيهِ أُجِرتَ، وإنْ قُتِلتَ استُشهِدت"(٤).
واستمرّت صلاةُ العاشقين طيلةَ فترةِ المسيرةِ الحُسينية إلى كربلاء بأذانِ الحجّاجِ حتى يومِ عاشوراء يوم صلاةِ العاشقين الأخيرة بإمامةِ إمامِ زمانِهم، علا صوتُ الحجّاج بالأذان الأخير بين السهام والنبالِ التي أخذتْ تتراشقُ على الإمامِ الحُسين (عليه السلام) وصحبِه وكأنّها نثارُ عُرسِهم الملكوتي في زفّةٍ ربانيةٍ نحو معالمِ الشهادةِ وعوالمها.
استأذنَ من الإمامِ الحُسين (عليه السلام) للقتالِ، فنزلَ الميدانَ وعُنُقُه مشرئبةٌ للشهادةِ فارتجزَ يقول:
أتاكمُ الداعي أجيبُوا الداعي بصارمٍ ماضي الشَّبا قَطّاعِ
فأبرزُوا نَحْوي بَني الرِّقاعِ نحوَ غلامٍ بَطلٍ مُطاعِ (٥)
ثم قاتلَ قتالَ الأبطالِ حتى تخضّبَ بدمِه وعادَ إلى الإمامِ الحُسين (عليه السلام) واترجزَ يُخاطبه:
أقدِمْ حُسينـًا هاديـًا مَهْديّـا اليـومَ تلقـى جَـدَّك النبيّـا
ثـمّ أبـاك ذا النـدى عَلِيّـا ذاك الـذي نعرفُـه وَصِيّـا
والحسنَ الخيرَ الرِّضى الوليّا وأسـدَ اللهِ الشهيـدَ الحَيّـا
وذا الجَناحَينِ الفتـى الكَمِيّـا وفاطمـًا والطاهـر الزكيّـا
ومَن مضى مِن قَبلِـه تقيّـا فـاللهُ قـد صَيَّرنـي وَلِيّـا
وقيل إنَّ أرجوزته كانت:
فَدَتْك نفسي هاديًا مهديّا اليومَ ألقى جَدَّك النبيّا
ثمّ أباك ذا الندى عليّـا ذاك الذي نعرفه وصيّا
فأجابَه الإمامُ الحُسين (عليه السلام): «نعم، وأنا ألقاهُما على أثرِك»(٦) وقاتلَ حتى قُتِلَ (رضوان الله (تعالى) عليه).
باقر سجاد علي حسن الاول متوسط ب٢ عبير المنظور, [14.08.21 11:28]
واختُتِمتْ سيرتُه المُباركةُ بهذا الفضلِ العظيمِ والتشريفِ الكبير من قِبلِ إمامِ زمانِه، بل وحتى إمامِ زمانِنا المهدي (عجّل الله (تعالى) فرجه) حينما يُسلِّمُ عليه في الزيارة: (اَلسَّلامُ عَلَى الحجّاجِ بن مَسروقِ الجُعفيّ)(٧)
فهنيئا للحجّاجِ بن مسروق؛ فقد كان لإمامِ زمانِه مؤذناً...
وإمامُ زمانِنا... هل له من مؤذنٍ من مُنتظريه؟!
..........................
الهوامش:
(١) راجع ابصار العين، السماوي، ص١٥١.
(٢)ناسخ التواريخ، محمّد تقي سپهر، ج٢، ص٣٩٩.
(٣) روضة الواعظين، النيشابوري، ج٢، ص٣١٣.
(٤)الأخبار الطوال، الدينوريّ، ص٢٤٦.
(٥) أسرار الشهادة، الفاضل الدربنديّ، ج٢، ص٢٣٨، المجلس السابع.
(٦) راجع العيون العبرى، الميانجي، ص١٤٦.
(٧)بحار الانوار، المجلسي، ج٤٥، ص٧٢، ح٣.