نظر باندهاش الى إحدى الفضائيات عن طريق الصدفة، فاندهش فعلا لهذه المسيرات المليونية التي تختلف عن غيرها بما تحمله من تأثيرات وجدانية... هذا الحزن لايستطيع أن يجمعَ امة مهما كان المصاب عظيما؛ فأي حزن مقدس هذا الذي يحرك هذه الملايين.. دموع، بكاء، عويل، ألم واضح على الوجوه... اصوات رخيمة مليئة بالاستغاثة، فالتفت ليسأل من حوله: ما هذا؟
أجابه أحد الأساتذة المغتربين، وهو من محافظة تحفل بالجرح الحسيني كل عام:ـ دكتور هذا عاشوراء.. فجلس الدكتور (سيمون) وهو يقول: حدثني عنه؟ فبدأ الحديث واضحا عن تأريخ كربلاء، وعن الحسين عليه السلام، وعن واقعة الطف... وفجأة صرخ الدكتور سيمون: كم؟ اشتعل الجنون في رأسه الصغير وهو يكرر السؤال: كم؟ كم؟ او تخرج هذه الملايين اليوم لتؤازر نصرتها لقائد ذبحوه قبل اربعة عشر قرنا أو أكثر؟ يا للغرابة... شيء غير معقول اطلاقا... يا لهذه العظمة والحب والوفاء، وراح يتابع أحداثَ الواقعة، ويسأل عن أخبارها، ويتفاعل مع كل شيء... راح يلطم ويبكي ويصرخ: حسيناه.
يقول الدكتور المغترب: هذه الأشياء لم تكن غريبة عليّ.. فروح التفاعل الانساني موجودة، لكن الذي أذهلني ماحدث بعد عامين؛ اذ اتصل بي ليدعوني الى زيارته، وانا لم أرَه منذ عام او أكثر، وقبلت الدعوة لأني فعلا مشتاق إليه، وما ان وصلت الدار رأيت شيئا لم يكن في الحسبان، كل شيء هنا يذكرني بعاشوراء، واذا بالدكتور يعانقني ليقول لي وبلغة عربية: عظّم الله لكم الأجر بمصاب سيد الشهداء... بكيت صدقوني تألمت كثيرا...
فقلت: السلام عليك سيدي يا أبا عبد الله الحسين... نظر إليّ دكتور سيمون وقال: هل نسيت عاشوراء؟... قلت: المعذرة... فأجابني:ـ وهل مثل عاشوراء يُنسى؟!
ابتسم حينها وقال: قمنا بتهيئة مأدبة حسينية، اي طبخنا زاد الحسين، واحببنا دعوتك، عسانا نتبرك بحضور سيد الشهداء...
وآه لو تعلمون مقدار الدهشة التي اصابتني، فسألته: ما الذي جرى دكتور؟
قال وهو يعجز عن مقاومة دموعه: ألمّت بي في أحد الأيام وعكة صحية، واذا بي أصابُ بالشلل التام ولم اترك طبيبا إلا ذهبت اليه، ولم ينفعْني شيء، ولم يبقَ امامي سوى اليأس والاستكانة بي... فتذكرت عاشوراء.. استدرت ابحث عن جهة العراق.. كربلاء...
صحت مستغيثا: يا حسين... ايها المذبوحُ العطشان... لم يبقَ لي سوى دعائك لله ـ رفعتُ يدي الى السماء: يارب بحق مصاب الحسين عليك اطلب منك الشفاء يارب.. وفي حومة النداء صرخت: يا حسين يا حسين... واذا بي اتكئ على زوجتي.. خطوات وكأن الزوجة اكتشفت اسم الدواء وسر المعجزة، راحت تصرخ معي ياحسين... والحمد لله فقررنا اقامة وليمة عاشورائية.. وبعد برهة صمت قال: قررت وزوجتي أن نسيرَ لمدة يومين قربة الى الله تعالى... عسى اللهُ أن يكتبَ لخطواتنا ان تكون مع زوار الأربعين.
أعجبني
تعليق