كان المنظر مروعاً خلفه انفجار مهول، أحدث شعلة من دخان ملتهب.. أجساد ممزقة لنازحين فارين من بطش الدواعش الأنجاس، ولجنود أبطال هرعوا لنجدتهم، تشوهت ملامح الجميع، وجوه اصطبغت بالدماء، فلم يعد يعرف الصغير منهم من الكبير..!
سمعت أنيناً من بين الجثث المطروحة، عرفت أن أحدهم لا زال على قيد الحياة، أسرعت نحو مصدر الصوت المختنق، وصلت إليه، وبالكاد استطعت انتشاله، حملته على ظهري، وبدأت أسابق الرياح محاولاً إيصاله الى السواتر الخلفية لقطعات جيشنا الباسل.
صار الجريح ينزف بشدة، وشعرت بحرارة الدماء تغزو جسدي.. فأخذت أناديه بكل ما أوتيت من قوة، مخافة أن يفقد وعيه..!
أنفاسه العالية تنبئ بنهاية ترنو إلينا رويداً رويداً.. أحسست أن شيئاً يحوم فوق رؤوسنا كأنه يريد استرجاع شيء ما.. فجأة وعند احتدام اللحظات الحرجة، تراصفت أمام ناظري صور وأحداث كثيرة قريبة منها وبعيدة، تمر سريعاً بتفاصيلها، كبث مباشر بالصوت والصورة.. أمي، اخوتي، وذاك وجه أبي المتوفى و.. و.. ظلام تارة، وأخرى ضياء بهي أخضر ناصع، انشرحت له سرائري، ثم سرعان ما عدت لأنادي رفيقي المحتضر، لكن هذه المرة لا أنفاس ولا أنين..!
ترحمت عليه، واغرورقت عيناي بدموع ساخنة، فحدثته بخاطر منكسر: يا صنديد، يا ملبي دعوة الحق، هنيئاً لك، ادعو لي لأنال ما نلته من وسام الشهادة.. لا أدري ما حلّ بي كأن سحابة من صقيع التفت حولي، تكبلني عن الحراك، رغم ذلك لم أتقاعس، وبقيت مهرولاً، فهذا الشهيد المحمول على ظهري أمانة في عنقي، أحاول ايصاله الى أهله سالماً، فالعدو كافر لا يفتأ يفتك بأجساد الشهداء إن وقعت بأيديهم، لكن ما هذا الوجه الحسن رباه، ما أجمله من وجه، لا أظنه من وجوه أهل الدنيا، ترى من أين أتى ولماذا يحدق بي هكذا..؟
بلطف أخذ يومئ لي مرحباً.. إلى أن اقترب مني، كأن الزغب الفضي المتناثر من جناحيه لامعاً قد خطف لبي، وعطر كمسك خالج فؤادي، يذكرني بشذى عطر الحضرة الحسينية المقدسة، حيث ميعاد زيارتي عند ليالي الجمع المرتقبة.. يا سبحان الله، أوجاعي بدأت تضمحل، وجسمي لا أكاد اشعر به، كأني عصفور مرفرف فوق غمائم السعادة البيضاء..!
استقبلني المسعفون، وأنزلوا الشهيد من فوق ظهري، فهويت الى الأرض دون شعور، وتثاقلت نبضات قلبي، وعجزت عن الكلام تماماً، ناولني أحدهم قدحاً من ماء.. نعم كانت أنفاسي متلهفة لمن يخمد لظاها، لكني لم أستطع الشرب، فسرعان ما اندلقت الدماء من فمي، وامتزجت مع الماء..! فالشظية التي اخترقت رأسي كانت جوازي لأنتقل الى ذلك العالم الفسيح، فتذكرت سفير سيدي الامام الحسين (عليه السلام) مسلم بن عقيل (عليه السلام)، وسلمت عليه، وعلى الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين، وأدركت حينها أن الدماء التي كانت تتقاطر على وجهي كانت دمائي، فحمدت الله تعالى أن وهب لي لحظات أخرى؛ كي نكون أنا ورفيقي بين أيادٍ أمينة..
نطق الشهادتين، وبعدها حلق به ذلك الطائر الفضي عارجاً بروحه الطاهرة الى العلا الى حيث جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.
تعليق