وهو : احترام الناس حسب أقدارهم ، وعدم الترفع عليهم . وهو خلق كريم ، وخلّة جذابة ، تستهوي القلوب ، وتستثير الاعجاب والتقدير ، وناهيك في فضله أن اللّه تعالى أمر حبيبه ، وسيد رسله صلّى اللّه عليه وآله بالتواضع ، فقال تعالى : « واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين » ( الشعراء : ٢١٥ )
وقد أشاد أهل البيت عليهم السلام بشرف هذا الخُلُق ، وشوقوا إليه بأقوالهم الحكيمة ،
وسيرتهم المثالية ، وكانوا روّاد الفضائل ، ومنار الخلق الرفيع .
قال الصادق عليه السلام : « إنّ في السماء ملكين موكلين بالعباد ، فمن تواضع للّه
رفعاه ، ومن تكبّر وضعاه » ( 1 ) .
وقال النبي صلّى اللّه عليه وآله : « إن أحبكم إليّ ، وأقربكم مني يومّ القيامة مجلساً ، أحسنكم خُلُقاً ، وأشدكم تواضعاً ، وإن أبعدكم مني يوم القيامة ، الثرثارون وهم المستكبرون » ( 2 ) .
وقال أمير المؤمنين عليه السلام : « ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء ، طلباً لما عند اللّه ، وأحسن منه تيه الفقراء على الأغنياءاتكالاً على اللّه » ( 3 ) .
وقال الصادق عليه السلام : « من التواضع أن ترضى بالمجلس دون المجلس ، وأن تسلّم على من تلقى . وأن تترك المراء وإن كنت محقاً ، ولا تحب أن تحمد على التقوى » ( 4 ) .
وجدير بالذكر أن التواضع الممدوح ، هو المتسم بالقصد والاعتدال الذي لا إفراط فيه
ولا تفريط ، فالاسراف في التواضع داع إلى الخسّة والمهانة ، والتفريط فيه باعث على
الكِبر والأنانية .
وعلى العاقل أن يختار النهج الأوسط ، المبرّأ من الخسّة والأنانية ، وذلك : باعطاء كل
فرد ما يستحقه من الحفاوة والتقدير ، حسب منزلته ومؤهلاته .
لذلك لا يحسن التواضع للأنانيين والمتعالين على الناس بزهوهم وصلفهم . إن التواضع
والحالة هذه مدعاة للذل والهوان ، وتشجيع لهم على الأنانية والكبر ، كما يقول
المتنبي :
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته *
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
واليك طرفاً من فضائل أهل البيت عليهم السلام ، وتواضعهم المثالي الفريد :
كان النبي صلّى اللّه عليه وآله أشدَّ الناس تواضعاً ، وكان إذا دخل منزلاً قعد في
أدنى المجلس حين يدخل ، وكان في بيته في مهنة أهله ، يحلب شاته ، ويرقع ثوبه ، ويخصف نعله ، ويخدم نفسه ، ويحمل بضاعته من السوق ، ويجالس الفقراء ، ويواكل المساكين .
وكان صلّى اللّه عليه وآله إذا سارّه أحد ، لا ينحّي رأسه حتى يكون الرجل هو الذي
ينحّي رأسه ، وما أخذ أحد بيده فيرسل يده حتى يرسلها الآخر ، وما قعد إليه رجل قط
فقام صلى اللّه عليه وآله حتى يقوم ، وكان يبدأ من لقيه بالسلام ، ويبادئ أصحابه
بالمصافحة ، ولم يُر قط ماداً رجليه بين أصحابه ، يكرم من يدخل عليه ، وربما
بسط له ثوبه ، ويؤثره بالوسادة التي تحته ، ويكنّي أصحابه ، ويدعوهم بأحب أسمائهم تكرمةً لهم ، ولا يقطع على أحد حديثه ، وكان يقسّم لحظاته بين أصحابه ، وكان أكثر الناس تبسماً ، وأطيبهم نفساً ( ٥ ) .
وعن أبي ذر الغفاري : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يجلس بين ظهرانيّ أصحابه ،
فيجئ الغريب فلا يدري أيُّهم هو حتى يسأل ، فطلبنا إليه أن يجعل مجلساً يعرفه الغريب
إذا أتاه ، فبنينا له دكاناً من طين فكان يجلس عليها ، ونجلس بجانبه .
ورُوي أنه صلى اللّه عليه وآله كان في سفر ، فأمر بإصلاح شاة ، فقال رجل : يا رسول
اللّه عليّ ذبحها ، وقال آخر : علي سلخها ، وقال آخر : عليَّ طبخها ، فقال صلى اللّه
عليه وآله : وعليَّ جمع الحطب . فقالوا : يا رسول اللّه نحن نكفيك . فقال : قد علمت أنكم
تكفوني ، ولكن أكره أن أتميَّز عليكم ، فإن اللّه يكره من عبده أن يراه متميَّزاً بين أصحابه ، وقام فجمع الحطب ( ٦ ) .
وروي أنه خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إلى بئر يغتسل ، فأمسك حذيفة بن اليمان بالثوب على رسول اللّه وستره به حتى اغتسل ، ثم جلس حذيفة ليغتسل ، فتناول
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الثوب ، وقام يستر حذيفة ، فأبى حذيفة ، وقال : بأبي
وأمي أنت يا رسول اللّه لا تفعل ، فأبى رسول اللّه إلا أن يستره بالثوب حتى اغتسل ،
وقال : ما اصطحب اثنان قط ، إلا وكان أحبهما إلى اللّه أرفقهما بصاحبه ( ٧ ) .
وهكذا كان أمير المؤمنين عليه السلام في سمو أخلاقه وتواضعه ، قال ضرار وهو يصفه
عليه السلام :
« كان فينا كأحدنا ، يدنينا إذا أتيناه ، ويجيبنا إذا سألناه ، ويأتينا إذا دعوناه ، وينبئنا إذا استنبأناه ، ونحن واللّه مع تقريبه إيّانا ، وقربه منا ، لا نكاد نكلمه هيبة له ، فإن تبسَّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم ، يعظّم أهل الدين ، ويقرّب المساكين ، لا يطمع القويّ في باطله ، ولا ييأس الضعيف من عدله » .
وقال الصادق عليه السلام : « خرج أمير المؤمنين عليه السلام على أصحابه ، فمشوا خلفه ، فالتفت إليهم فقال : لكم حاجة ؟ فقالوا : لا يا أمير المؤمنين ، ولكنّا نحب أن نمشي معك . فقال لهم : انصرفوا ، فإن مشي الماشي مع الراكب ، مفسدة للراكب ، ومذلّة
للماشي » ( ٨ ) .
وهكذا
يقص الرواة طرفاً ممتعاً رائعاً من تواضع الأئمة الهداة عليهم السلام ، وكريم أخلاقهم .
فمن تواضع الحسين عليه السلام : أنه مرّ بمساكين وهم يأكلون كِسعَراً لهم على كساء ،
فسلَّم عليهم ، فدعوه إلى طعامهم ، فجلس معهم وقال : لولا أنّه صدقة لأكلت معكم . ثم
قال : قوموا إلى منزلي ، فأطعمهم وكساهم وأمر لهم بدراهم ( ٩ ) .
ومن تواضع الرضا عليه السلام :
قال الراوي : كنت مع الرضا عليه السلام في سفره إلى خراسان ، فدعا يوماً بمائدة ، فجمع
عليها مواليه من السودان وغيرهم ، فقلت : جعلت فداك لو عزلت لهؤلاء مائدة ، فقال : مه ،
إنّ الرب تبارك وتعالى واحد ، والأم واحدة ، والأب واحد ، والجزاء بالأعمال ( ١٠ ) .
-----------------------------------------------------------
( 1 ) الكافي .
( 2 ) كتاب قرب الإسناد ، وقريب من هذا الخبر ما في علل الشرائع للشيخ الصدوق .
( 3 ) نهج البلاغة .
( 4 ) الكافي .
( ٥ ) سفينة البحار المجلد الأول ص 415 بتصرف وتلخيص .
( ٦ ) سفينة البحار ج 1 ص 415 .
( ٧ ) سفينة البحار ج 1 ص 416 .
( ٨ ) محاسن البرقي .
( ٩ ) مناقب ابن شهرآشوب .
( ١٠ ) الكافي .
تعليق