بسم اللهِ الرحمنِ الرحيم
سياق الآية ومفادها:
يقولُ اللهُ تعالى في مُحكم كتابِه المجيد: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾(1).
هذه الآيةُ من سورة "المؤمنون" جاءتْ في سياق التَعدادِ لصفاتِ أهلِ الفلاح مِن المؤمنين، ومؤدَّى مجموعٍ الآياتِ الواقعة في هذا السياق من هذه السورة المباركة هو أنَّه ليس كلُّ مَن تلبَّس بالإيمان صارَ مِن أهلِ الفلاح بل إنَّ أهلَ الفلاح هم المستجمِعون لخصالٍ سبعٍ عدَّدتها سورةُ "المؤمنون" فكان منها قولُه تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ وقد وردت هذه الآيةُ بنصِّها في سورةِ المعارج في سِياق التَعداد لمَن استثنتهم سورةُ المعارج من قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا / إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا / وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾(2) ثم قالت: ﴿إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾(3) إلى أنْ قالت: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾(4).
ومفادُ الآيةِ المباركةِ مِن سورة "المؤمنون" أنَّ المؤمنَ لا يحظى بالفلاح -والذي هو الظفرُ والفوزُ برضوانِ الله تعالى وجنَّتِه- ما لم يكن من صفاتِه الرعايةُ لما استُؤمن عليه، والأمانةُ هي مطلقُ ما يقعُ في عُهدةِ المكلَّفِ فيكونُ مسئولاً عن حياطتِه وصيانتِه واستصلاحِه وإيفائِه كما هو إلى مقرِّه، فالمقصودُ ظاهراً من الأمانةِ هو الشيءُ المُؤتَمنُ عليه، إذ هو الذي يُتعقَّلُ أداؤه، وأمَّا لفظ الأمانة فهو مصدر، ومدلولُه من سنخ المعاني التي لا يُتعقل فيها الأداء أو الخيانة، فأداءُ الأمانة معناه أداءُ الشيء المُؤتَمنِ عليه، وخيانةُ الأمانةِ معناه التفريطُ بالإضرارِ أو بالتضييع للشيءِ المُؤتَمنِ عليه.
المراد من الأمانةِ في الآيةِ المباركة:
ثم إنَّ عنوانَ الأمانةِ في الآيةِ المباركة، وفي مثلِ قولِه تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾(5) وقولِه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾(6) هذا العنوان يحتملُ من حيثُ السعة والضيق معنيين:
المعنى الأول: هو أنَّ المرادَ من الأمانةِ هو مطلقُ الأشياءِ التي أُنيط بالإنسانِ مسئوليةُ الرعايةِ لها، وبناءً على ذلك تكون متعلَّقات مطلقِ التكاليف الإلهيَّة من عباداتٍ وغيرها مشمولةٌ لعنوان الأمانة.
المعنى الثاني: هو أنَّ المرادَ من الأمانةِ هو خصوصُ ما وقع في يدِ الإنسان من أموالِ الناس ومصالحِهم، فصارَ مسئولاً عن رعايتِها إمَّا لمعاقدةٍ على ذلك أو لأنَّ الشارع كلَّفه ابتداءً برعايتها ووضْعِ اليدِ عليها أو كلَّفه برعايتِها بعد أنْ صارت في يده. فهذه أقسام ثلاثة:
فالقسم الأول:هو مثلُ الودائعِ والعارياتِ والإجاراتِ والأوقافِ والوصايا، فإنَّ المكلَّفَ يُصبحُ مسئولاً عن حفظِها بعد قبضِها عن عقدٍ بينه وبين أربابِ الأموالِ والمصالح، ويَدخلُ في هذا القسم الأموالُ والمصالحُ التي يُكلِّفُ أربابُها آخرين بإدارتِها، فمَن له الإدارةُ العامَّة على تلك الأموالِ والمصالح فهو مُستأمَنٌ، والموظَّفُ الكبيرُ والصغيرُ كلٌّ منهما مُستأمَنٌ على ما تحتَ يدِه وما هو داخلٌ في دائرة مسئوليتِه.
وأمَّا القسم الثاني: فهو مثلُ أموالِ القاصرين، وأموالُ اليتامى والأطفال والسفهاء، وأموالُ الغائب، فإنَّ الله تعالى قد جعلَ ابتداءً الولايةَ لأصنافٍ من الناس على أموالِ هؤلاء فقال تعالى: ﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾(7) وقال تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾(8) فجعل للأبِ والجدِّ مثلاً ولايةً على أموالِ القاصرين، وجعل الجدَّ وليَّاً على أموالِ اليتيم، ومع فقدِه تكونُ الولاية للمجتهد ثم لعدولِ المؤمنين إنْ لم يكن لأموال اليتيم وصيٌّ من قبل أبيه أو جدِّه لأبيه، واعتُبر التعدِّي على أموال اليتيم والذي هو القاصرُ من حيث السنّ والرشد من الحُوب والإثم الكبير والظلمِ الشنيع قال تعالى: ﴿وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾(9).
وأمَّا القسم الثالث: فهو مثلُ اللُّقطةِ والأموالِ مجهولةِ المالك والمظالمِ والأموالِ المحترمة التي يتَّفق صيروتُها في يَدِ أجنبيٍّ دون أن يكون ذلك عن عقدٍ بينَه وبين أربابِها.
فكلُّ هذه الأقسامِ من الأموالِ والمنافع تدخلُ تحت مسمَّى الأمانات التى يجبُ على كلِّ مكلَّفٍ -تصيرُ إلى يده- رعايتُها ويكون التفريطُ في حفظِها والرعايةِ لها من الخيانةِ التي حذَّرتِ الآياتُ والروياتُ مِن الوقوعِ فيها.
وبتعبيرٍ جامعٍ للأقسام الثلاثة هو أنَّ كلَّ مالٍ حقيرٍ أو خطيرٍ صارَ في يدك وأنتَ لا تملكُه فهو أمانةٌ في يدِك، فإتلافُه أو الاِنتفاعُ به دون إذنٍ مِن ذوي الحقِّ أو التفريطُ في رعايتِه أو حجبُه عن مستحقِّه دونَ مسوِّغٍ شرعي يكونُ مِن الخيانة.
المعنى المستظهَر من الآية المباركة:
إذنْ فثمة احتمالانِ لِما هو المرادُ من عنوانِ الأمانةِ في مثل قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾.
الاحتمال الأول: هو إرادةُ متعلَّقاتِ مطلقِ التكاليف الإلهيَّة، وعليه فالصلاةُ مثلاً أمانة، والزكاةُ والصومُ أمانة، كما أنَّ الوديعةَ أمانةٌ والعاريةَ أمانة.
والاحتمالُ الثاني: هو إرادةُ خصوصِ متعلَّق التكاليف الإلهيَّة الناشئة عن صيرورةِ أموال الناسِ ومصالحِهم في يدِ المكلَّف، فيكونُ عنوانُ الأمانات مختصّاً بما يصير في اليدِ من أموال الناس ومصالحِهم.
والظاهرُ أنَّ ذلك هو المرادُ من مثل قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾} ويُؤيِّدُه أنَّ الصلاة والزكاة ذُكرا في عَرض الأمرِ بالرعاية للأمانة في كلٍّ من سورة المؤمنون وسورةِ المعارج، وكذلك فإنَّ المتبادَر عُرفاً من الأمر بأداءِ الأمانة هو الأمانةُ المتعلِّقة بأموالِ الناس ومصالحِهم ما لم تقم قرينةٌ على إرادة الأعم، وكذلك فإنَّ الرواياتِ المتصدِّية للحثِّ على أداءِ الأمانة والتشنيعِ على مَن يخونُها ظاهرةٌ في معظمِها بل هي صريحةٌ في إرادة الأمانةِ المتعلِّقةِ بأموالِ الناس، نعم ثمة رواياتٌ أُخرى استعملت الأمانةَ في معناها الواسعِ، لكنَّ ذلك قد عُرف من طريقِ القرائنِ الخاصَّة.
اخْتَبِرُوهُمْ عِنْدَ صِدْقِ الْحَدِيثِ وأَدَاءِ الأَمَانَةِ:
وكيف كان فإنَّ ممَّا يُلفتُ نظر المطالِع في الروايات الواردة عن الرسولِ (ص) وأهل بيتِه (ع) تأكيدُ عددٍ منها على أنَّ أداءَ الأمانةِ بالمعنى الثاني وصدقَ الحديث هما المعيارُ الذي به يتميَّزُ المؤمنُ الحقيقيُّ من غيرِه.
فمِن ذلك ما رواه الشيخُ الصدوقُ في عيون الأخبار وفي الأمالي بسندٍ له عن أبي جعفرٍ الجواد عن آبائه (عليهم السلام) عن النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) قال: "لا تنظروا إلى كَثرةِ صلاتِهم وصومِهم، وكَثرةِ الحجِّ والمعروفِ، وطنطنتِهم بالليل، ولكنِ انظروا إلى صدقِ الحديثِ وأداءِ الأمانة"(10).
وكذلك أورد الشيخُ الكليني بسندٍ معتبرٍ عن إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ وغَيْرِه عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: "لَا تَغْتَرُّوا بِصَلَاتِهِمْ ولَا بِصِيَامِهِمْ، فَإِنَّ الرَّجُلَ رُبَّمَا لَهِجَ بِالصَّلَاةِ والصَّوْمِ حَتَّى لَوْ تَرَكَه اسْتَوْحَشَ ولَكِنِ اخْتَبِرُوهُمْ عِنْدَ صِدْقِ الْحَدِيثِ وأَدَاءِ الأَمَانَةِ"(11).
سياق الآية ومفادها:
يقولُ اللهُ تعالى في مُحكم كتابِه المجيد: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾(1).
هذه الآيةُ من سورة "المؤمنون" جاءتْ في سياق التَعدادِ لصفاتِ أهلِ الفلاح مِن المؤمنين، ومؤدَّى مجموعٍ الآياتِ الواقعة في هذا السياق من هذه السورة المباركة هو أنَّه ليس كلُّ مَن تلبَّس بالإيمان صارَ مِن أهلِ الفلاح بل إنَّ أهلَ الفلاح هم المستجمِعون لخصالٍ سبعٍ عدَّدتها سورةُ "المؤمنون" فكان منها قولُه تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ وقد وردت هذه الآيةُ بنصِّها في سورةِ المعارج في سِياق التَعداد لمَن استثنتهم سورةُ المعارج من قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا / إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا / وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾(2) ثم قالت: ﴿إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾(3) إلى أنْ قالت: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾(4).
ومفادُ الآيةِ المباركةِ مِن سورة "المؤمنون" أنَّ المؤمنَ لا يحظى بالفلاح -والذي هو الظفرُ والفوزُ برضوانِ الله تعالى وجنَّتِه- ما لم يكن من صفاتِه الرعايةُ لما استُؤمن عليه، والأمانةُ هي مطلقُ ما يقعُ في عُهدةِ المكلَّفِ فيكونُ مسئولاً عن حياطتِه وصيانتِه واستصلاحِه وإيفائِه كما هو إلى مقرِّه، فالمقصودُ ظاهراً من الأمانةِ هو الشيءُ المُؤتَمنُ عليه، إذ هو الذي يُتعقَّلُ أداؤه، وأمَّا لفظ الأمانة فهو مصدر، ومدلولُه من سنخ المعاني التي لا يُتعقل فيها الأداء أو الخيانة، فأداءُ الأمانة معناه أداءُ الشيء المُؤتَمنِ عليه، وخيانةُ الأمانةِ معناه التفريطُ بالإضرارِ أو بالتضييع للشيءِ المُؤتَمنِ عليه.
المراد من الأمانةِ في الآيةِ المباركة:
ثم إنَّ عنوانَ الأمانةِ في الآيةِ المباركة، وفي مثلِ قولِه تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾(5) وقولِه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾(6) هذا العنوان يحتملُ من حيثُ السعة والضيق معنيين:
المعنى الأول: هو أنَّ المرادَ من الأمانةِ هو مطلقُ الأشياءِ التي أُنيط بالإنسانِ مسئوليةُ الرعايةِ لها، وبناءً على ذلك تكون متعلَّقات مطلقِ التكاليف الإلهيَّة من عباداتٍ وغيرها مشمولةٌ لعنوان الأمانة.
المعنى الثاني: هو أنَّ المرادَ من الأمانةِ هو خصوصُ ما وقع في يدِ الإنسان من أموالِ الناس ومصالحِهم، فصارَ مسئولاً عن رعايتِها إمَّا لمعاقدةٍ على ذلك أو لأنَّ الشارع كلَّفه ابتداءً برعايتها ووضْعِ اليدِ عليها أو كلَّفه برعايتِها بعد أنْ صارت في يده. فهذه أقسام ثلاثة:
فالقسم الأول:هو مثلُ الودائعِ والعارياتِ والإجاراتِ والأوقافِ والوصايا، فإنَّ المكلَّفَ يُصبحُ مسئولاً عن حفظِها بعد قبضِها عن عقدٍ بينه وبين أربابِ الأموالِ والمصالح، ويَدخلُ في هذا القسم الأموالُ والمصالحُ التي يُكلِّفُ أربابُها آخرين بإدارتِها، فمَن له الإدارةُ العامَّة على تلك الأموالِ والمصالح فهو مُستأمَنٌ، والموظَّفُ الكبيرُ والصغيرُ كلٌّ منهما مُستأمَنٌ على ما تحتَ يدِه وما هو داخلٌ في دائرة مسئوليتِه.
وأمَّا القسم الثاني: فهو مثلُ أموالِ القاصرين، وأموالُ اليتامى والأطفال والسفهاء، وأموالُ الغائب، فإنَّ الله تعالى قد جعلَ ابتداءً الولايةَ لأصنافٍ من الناس على أموالِ هؤلاء فقال تعالى: ﴿وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ﴾(7) وقال تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾(8) فجعل للأبِ والجدِّ مثلاً ولايةً على أموالِ القاصرين، وجعل الجدَّ وليَّاً على أموالِ اليتيم، ومع فقدِه تكونُ الولاية للمجتهد ثم لعدولِ المؤمنين إنْ لم يكن لأموال اليتيم وصيٌّ من قبل أبيه أو جدِّه لأبيه، واعتُبر التعدِّي على أموال اليتيم والذي هو القاصرُ من حيث السنّ والرشد من الحُوب والإثم الكبير والظلمِ الشنيع قال تعالى: ﴿وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾(9).
وأمَّا القسم الثالث: فهو مثلُ اللُّقطةِ والأموالِ مجهولةِ المالك والمظالمِ والأموالِ المحترمة التي يتَّفق صيروتُها في يَدِ أجنبيٍّ دون أن يكون ذلك عن عقدٍ بينَه وبين أربابِها.
فكلُّ هذه الأقسامِ من الأموالِ والمنافع تدخلُ تحت مسمَّى الأمانات التى يجبُ على كلِّ مكلَّفٍ -تصيرُ إلى يده- رعايتُها ويكون التفريطُ في حفظِها والرعايةِ لها من الخيانةِ التي حذَّرتِ الآياتُ والروياتُ مِن الوقوعِ فيها.
وبتعبيرٍ جامعٍ للأقسام الثلاثة هو أنَّ كلَّ مالٍ حقيرٍ أو خطيرٍ صارَ في يدك وأنتَ لا تملكُه فهو أمانةٌ في يدِك، فإتلافُه أو الاِنتفاعُ به دون إذنٍ مِن ذوي الحقِّ أو التفريطُ في رعايتِه أو حجبُه عن مستحقِّه دونَ مسوِّغٍ شرعي يكونُ مِن الخيانة.
المعنى المستظهَر من الآية المباركة:
إذنْ فثمة احتمالانِ لِما هو المرادُ من عنوانِ الأمانةِ في مثل قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾.
الاحتمال الأول: هو إرادةُ متعلَّقاتِ مطلقِ التكاليف الإلهيَّة، وعليه فالصلاةُ مثلاً أمانة، والزكاةُ والصومُ أمانة، كما أنَّ الوديعةَ أمانةٌ والعاريةَ أمانة.
والاحتمالُ الثاني: هو إرادةُ خصوصِ متعلَّق التكاليف الإلهيَّة الناشئة عن صيرورةِ أموال الناسِ ومصالحِهم في يدِ المكلَّف، فيكونُ عنوانُ الأمانات مختصّاً بما يصير في اليدِ من أموال الناس ومصالحِهم.
والظاهرُ أنَّ ذلك هو المرادُ من مثل قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾} ويُؤيِّدُه أنَّ الصلاة والزكاة ذُكرا في عَرض الأمرِ بالرعاية للأمانة في كلٍّ من سورة المؤمنون وسورةِ المعارج، وكذلك فإنَّ المتبادَر عُرفاً من الأمر بأداءِ الأمانة هو الأمانةُ المتعلِّقة بأموالِ الناس ومصالحِهم ما لم تقم قرينةٌ على إرادة الأعم، وكذلك فإنَّ الرواياتِ المتصدِّية للحثِّ على أداءِ الأمانة والتشنيعِ على مَن يخونُها ظاهرةٌ في معظمِها بل هي صريحةٌ في إرادة الأمانةِ المتعلِّقةِ بأموالِ الناس، نعم ثمة رواياتٌ أُخرى استعملت الأمانةَ في معناها الواسعِ، لكنَّ ذلك قد عُرف من طريقِ القرائنِ الخاصَّة.
اخْتَبِرُوهُمْ عِنْدَ صِدْقِ الْحَدِيثِ وأَدَاءِ الأَمَانَةِ:
وكيف كان فإنَّ ممَّا يُلفتُ نظر المطالِع في الروايات الواردة عن الرسولِ (ص) وأهل بيتِه (ع) تأكيدُ عددٍ منها على أنَّ أداءَ الأمانةِ بالمعنى الثاني وصدقَ الحديث هما المعيارُ الذي به يتميَّزُ المؤمنُ الحقيقيُّ من غيرِه.
فمِن ذلك ما رواه الشيخُ الصدوقُ في عيون الأخبار وفي الأمالي بسندٍ له عن أبي جعفرٍ الجواد عن آبائه (عليهم السلام) عن النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) قال: "لا تنظروا إلى كَثرةِ صلاتِهم وصومِهم، وكَثرةِ الحجِّ والمعروفِ، وطنطنتِهم بالليل، ولكنِ انظروا إلى صدقِ الحديثِ وأداءِ الأمانة"(10).
وكذلك أورد الشيخُ الكليني بسندٍ معتبرٍ عن إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ وغَيْرِه عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: "لَا تَغْتَرُّوا بِصَلَاتِهِمْ ولَا بِصِيَامِهِمْ، فَإِنَّ الرَّجُلَ رُبَّمَا لَهِجَ بِالصَّلَاةِ والصَّوْمِ حَتَّى لَوْ تَرَكَه اسْتَوْحَشَ ولَكِنِ اخْتَبِرُوهُمْ عِنْدَ صِدْقِ الْحَدِيثِ وأَدَاءِ الأَمَانَةِ"(11).
تعليق