واظهر الطاغية فرحه بإبادته للعترة الطاهرة، فقد حسب انه قد صفا له الملك واستوسقت له الأمور فأخذ يهز أعطافه جذلانا مسرورا وتمنى حضور القتلى من أهل بيته ببدر ليريهم كيف أخذ بثأرهم وانتقم من النبي (ص) في ذريته وعترته وراح يترنم بأبيات ابن الزبعرى وهو مزهو:
ليت أشياخي ببدر شهدوا
جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلوا واستهلوا فرحا
ثم قالوا: يا يزيد لا تشل
قد قتلنا القرم من ساداتهم
وعدلناه ببدر فاعتدل
لعبت هاشم بالملك فلا
خبر جاء ولا وحي نزل
لست من خندف إن لم انتقم
من بني أحمد ما كان فعل (1)
ولما سمعت بطلة كربلا هذه الأبيات التي نمت عن كفره وسروره بقتل عترة النبي (ص) انتقاما منهم لقتلى بدر وثبت تزجره، وتطعن كبرياءه، غير حافلة بجبروته وطغيانه، فلم يدركها الهول والفزع، وانما كانت مثال الشجاعة فكأنها هي الحاكمة والمنتصرة، والطاغية هو المخذول والمغلوب على امره، قالت (ع):
الحمد للّه رب العالمين، وصلى اللّه على رسوله وآله أجمعين، صدق اللّه سبحانه حيث يقول: «ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا بآيات اللّه وكانوا بها يستهزءون» اظننت يا يزيد حيث أخذت علينا اقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الاسارى أن بنا على اللّه هوانا، وبك عليه كرامة، وان ذلك لعظم خطرك عنده فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك جذلانا مسرورا حين رأيت الدنيا لك مستوسقة والأمور متسقة وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، فمهلا مهلا لا تطش جهلا، أنسيت قول اللّه تعالى: (وَلاٰ يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمٰا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمٰا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدٰادُوا إِثْماً ولَهُمْ عَذٰابٌ مُهِينٌ).
أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول اللّه (ص) سبايا قد هتكت ستورهن وأبديت وجوههن تحدو بهن الأعداء من بلد الى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل (2) ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، ليس معهن من حماتهن حمي ولا من رجالهن ولي وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه اكباد الازكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء، وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف
والشنان (3) والاحن والاضغان، ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم:
لأهلوا واستهلوا فرحا
ثم قالوا: يا يزيد لا تشل
منحنيا على ثنايا أبي عبد اللّه سيد شباب أهل الجنة تنكتها بمخصرتك وكيف لا تقول ذلك؟: وقد نكأت القرحة، واستأصلت الشأفة بإراقتك دماء ذرية محمد (ص) ونجوم الأرض من آل عبد المطلب، وتهتف بأشياخك زعمت أنك تناديهم فلتردن وشيكا موردهم ولتودن أنك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت اللهم خذ لنا بحقنا، وانتقم ممن ظلمنا واحلل غضبك بمن سفك دماءنا وقتل حماتنا.
فو اللّه ما فريت الا جلدك، ولا حززت الا لحمك، ولتردن على رسول اللّه (ص) بما تحملت من سفك دماء ذريته، وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته، حيث يجمع اللّه شملهم ويلم شعثهم، ويأخذ بحقوقهم «وَلاٰ تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ أَمْوٰاتاً بَلْ أَحْيٰاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» وحسبك باللّه حاكما، وبمحمد خصيما، وبجبرئيل ظهيرا، وسيعلم من سول لك ومكنك من رقاب المسلمين، بئس للظالمين بدلا وأيكم شر مكانا واضعف جندا.
ولئن جرت علي الدواهي مخاطبتك اني لأستصغر قدرك، واستعظم تقريعك، واستكثر توبيخك، لكن العيون عبرى والصدور حرى فالعجب كل العجب!! لقتل حزب اللّه النجباء بحزب الشيطان الطلقاء، فهذه الأيدي تنظف من دمائنا (4) والأفواه تتحلب من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل (5) وتعفرها امهات، الفراعل (6) ولئن اتخذتنا مغنما، لتجدنا وشيكا مغرما، حين لا تجد الا ما قدمت يداك وما ربّك بظلام للعبيد، والى اللّه المشتكى وعليه المعول:
فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جاهدك. فو اللّه لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا ولا يرخص عنك عارها، وهل رأيك الا فند وأيامك إلا عدد، وجمعك الا بدد، يوم ينادي المنادي الا لعنة اللّه على الظالمين.
والحمد للّه رب العالمين، الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل اللّه أن يكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد ويحسن علينا الخلافة انه رحيم ودود، وحسبنا اللّه ونعم الوكيل» (7)
وهذا الخطاب أروع خطاب أثر في الاسلام، وهو من متممات النهضة الحسينية الخالدة، فقد دمرت فيه حفيدة الرسول (ص) جبروت الطاغية، والحقت به الهزيمة والعار، وعرفته ان دعاة الحق لا تنحني جباههم امام الطغاة والظالمين، يقول الامام كاشف الغطاء رحمه اللّه:
«أتستطيع ريشة أعظم مصور وابدع ممثل أن يمثل لك حال يزيد وشموخه بأنفه وزهوه بعطفه وسروره وجذله بانساق الأمور، وانتظام الملك ولذة الفتح والظفر والتشفي والانتقام ـ بأحسن من ذلك التصوير والتمثيل ـ وهل في القدرة والامكان لأحد أن يدفع خصمه بالحجة والبيان والتقريع والتأنيب. ويبلغ ما بلغته سلام اللّه عليها بتلك الكلمات وهي على الحال الذي عرفت ثم لم تقتنع منه بذلك حتى ارادت أن تمثل له وللحاضرين عنده ذلة الباطل وعزة الحق وعدم الاكتراث والمبالات بالقرة والسلطة، والهيبة والرهبة، أرادت أن تعرفه خسة قدره، وضعة مقداره وشناعة فعله، ولؤم فرعه واصله» (8).
ويقول المرحوم الفكيكي:
«تأمل معي في هذه الخطبة النارية كيف جمعت بين فنون البلاغة، وأساليب الفصاحة، وبراعة البيان، وبين معاني الحماسة وقوة الاحتجاج وحجة المعارضة والدفاع في سبيل الحرية والحق والعقيدة بصراحة هي انفذ من السيوف الى أعماق القلوب، واحد من وقع الأسنة في الحشا والمهج في مواطن القتال، ومجالات النزال، وكان الوثوب على أنياب الأفاعي وركوب اطراف الرماح أهون على يزيد من سماع هذا الاحتجاج الصارخ الذي صرخت به ربيبة المجد والشرف في وجوه طواغيت بني أمية وفراعنتهم في منازل عزهم ومجالس دولتهم الهرقلية الارستقراطية الكريهة.
ثم ان هذه الخطبة التأريخية القاصعة لا تزال تنطق ببطولات الحوراء الخالدة وجرأتها النادرة، وقد احتوت النفس القوية الحساسة الشاعرة بالمثالية الاخلاقية الرفيعة السامية، وسيبقى هذا الأدب الحي صارخا في وجوه الطغاة الظالمين على مدى الدهر وتعاقب الأجيال وفي كل ذكرى لواقعة الطف الدامية المفجعة» (9).
محتويات الخطاب:
وكان هذا الخطاب العظيم امتدادا لثورة كربلا وتجسيدا رائعا لقيمها الكريمة وأهدافها السامية وقد حفل بما يلي:
أولا ـ انها دللت على غرور الطاغية وطيشه، فقد حسب أنه هو المنتصر بما يملك من القوى العسكرية التي ملأت البيداء وسدت آفاق السماء، الا انه انتصار موقت، ومن طيشه انه حسب ان ما احرزه من الانتصار كان لكرامة له عند اللّه وهو ان لأهل البيت، ولم يعلم ان اللّه انما يملي للكافرين في هذه الدنيا من النعم ليزدادوا اثما ولهم في الآخرة عذاب أليم.
ثانيا ـ انها نعت عليه سبيه لعقائل الوحي، فلم يرع قرابة رسول اللّه فيهم وهو الذي منّ على آبائه يوم فتح مكة فكان ابوه وجده من الطلقاء فلم يشكر للنبي هذه اليد وكافأه بأسوأ ما تكون المكافئة.
ثالثا ـ ان ما اقترفه الطاغية من سفكه لدماء العترة الطاهرة فانه مدفوع بذلك بحكم نشأنه ومواريثه فجدته هند هي التي لاكت كبد سيد الشهداء حمزة وجده ابوه سفيان العدو الأول للاسلام، وابوه معاوية الذي أراق دماء المسلمين وانتهك جميع ما حرمه اللّه، فاقتراف الجرائم من عناصره وطباعه التي فطر عليها.
رابعا ـ انها انكرت عليه ما تمثل به من الشعر الذي تمنى فيه حضور أشياخه الأمويين ليروا كيف أخذ بثأرهم من النبي (ص) بابادة أبنائه الا انه سوف يرد موردهم من الخلود في نار جهنم.
خامسا ـ ان الطاغية بسفكه لدماء العترة الطاهرة لم يسفك الا دمه ولم يفر الا جلده فان تلك النفوس الزكية حية وخالدة وقد تلفعت بالكرامة وبلغت قمة الشرف، وانه هو الذي باء بالخزي والخسران.
سادسا ـ انها عرضت الى من مكن الطاغية من رقاب المسلمين فهو المسئول عما اقترفه من الجرائم، وقد قصدت عليها السلام مغزى بعيدا يفهمه كل من تأمل فيه.
سابعا ـ انها اظهرت سمو مكانتها فكلمات الطاغية كلام الأمير والحاكم فاستهانت به، واستصغرت قدره، وتعالت عن حواره، وترفعت عن مخاطبته، ولم تحفل بسلطانه.. لقد كانت العقيلة على ضعفها وما ألم بها من المصائب اعظم قوة وأشد بأسا منه.
ثامنا ـ انها عرضت الى ان يزيد مهما بذل من جاهد لمحو ذكر أهل البيت (ع) فانه لا يستطيع الى ذلك سبيلا لأنهم قائمون في قلوب المسلمين وعواطفهم وهم مع الحق، والحق لا بد أن ينتصر، وفعلا قد انتصر الحسين وتحولت مأساته الى مجد لا يبلغه أي انسان كان فأي نصر أحق بالبقاء واجدر بالخلود من النصر الذي احرزه الامام
هذا قليل من كثير مما جاء في هذه الخطبة التي هي آية من آيات البلاغة والفصاحة، ومعجزة من معجزات البيان، وهي احدى الضربات القاضية على ملك بني أمية.
جواب يزيد:
وكان خطاب العقيلة كالصاعقة على رأس يزيد فقد انهار غروره وتحطم كبرياؤه، وحار في الجواب فلم يستطع ان يقول شيئا الا أنه تمثل يقول الشاعر:
يا صيحة تحمد من صوائح ما أهون النوح على النوائح
ولم تكن أية مناسبة بين ذلك الخطاب العظيم الذي ابرزت فيه عقيلة الوحي واقع يزيد، وجردته من جميع القيم الانسانية، وبين ما تمثل به من الشعر الذي اعلن فيه أن الصيحة تحمد من الصوائح، وان النوح يهون على النائحات، فأي ربط موضوعي بين الأمرين.
ليت أشياخي ببدر شهدوا
جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلوا واستهلوا فرحا
ثم قالوا: يا يزيد لا تشل
قد قتلنا القرم من ساداتهم
وعدلناه ببدر فاعتدل
لعبت هاشم بالملك فلا
خبر جاء ولا وحي نزل
لست من خندف إن لم انتقم
من بني أحمد ما كان فعل (1)
ولما سمعت بطلة كربلا هذه الأبيات التي نمت عن كفره وسروره بقتل عترة النبي (ص) انتقاما منهم لقتلى بدر وثبت تزجره، وتطعن كبرياءه، غير حافلة بجبروته وطغيانه، فلم يدركها الهول والفزع، وانما كانت مثال الشجاعة فكأنها هي الحاكمة والمنتصرة، والطاغية هو المخذول والمغلوب على امره، قالت (ع):
الحمد للّه رب العالمين، وصلى اللّه على رسوله وآله أجمعين، صدق اللّه سبحانه حيث يقول: «ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا بآيات اللّه وكانوا بها يستهزءون» اظننت يا يزيد حيث أخذت علينا اقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الاسارى أن بنا على اللّه هوانا، وبك عليه كرامة، وان ذلك لعظم خطرك عنده فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك جذلانا مسرورا حين رأيت الدنيا لك مستوسقة والأمور متسقة وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، فمهلا مهلا لا تطش جهلا، أنسيت قول اللّه تعالى: (وَلاٰ يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمٰا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمٰا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدٰادُوا إِثْماً ولَهُمْ عَذٰابٌ مُهِينٌ).
أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول اللّه (ص) سبايا قد هتكت ستورهن وأبديت وجوههن تحدو بهن الأعداء من بلد الى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل (2) ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، ليس معهن من حماتهن حمي ولا من رجالهن ولي وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه اكباد الازكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء، وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف
والشنان (3) والاحن والاضغان، ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم:
لأهلوا واستهلوا فرحا
ثم قالوا: يا يزيد لا تشل
منحنيا على ثنايا أبي عبد اللّه سيد شباب أهل الجنة تنكتها بمخصرتك وكيف لا تقول ذلك؟: وقد نكأت القرحة، واستأصلت الشأفة بإراقتك دماء ذرية محمد (ص) ونجوم الأرض من آل عبد المطلب، وتهتف بأشياخك زعمت أنك تناديهم فلتردن وشيكا موردهم ولتودن أنك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت اللهم خذ لنا بحقنا، وانتقم ممن ظلمنا واحلل غضبك بمن سفك دماءنا وقتل حماتنا.
فو اللّه ما فريت الا جلدك، ولا حززت الا لحمك، ولتردن على رسول اللّه (ص) بما تحملت من سفك دماء ذريته، وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته، حيث يجمع اللّه شملهم ويلم شعثهم، ويأخذ بحقوقهم «وَلاٰ تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ أَمْوٰاتاً بَلْ أَحْيٰاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» وحسبك باللّه حاكما، وبمحمد خصيما، وبجبرئيل ظهيرا، وسيعلم من سول لك ومكنك من رقاب المسلمين، بئس للظالمين بدلا وأيكم شر مكانا واضعف جندا.
ولئن جرت علي الدواهي مخاطبتك اني لأستصغر قدرك، واستعظم تقريعك، واستكثر توبيخك، لكن العيون عبرى والصدور حرى فالعجب كل العجب!! لقتل حزب اللّه النجباء بحزب الشيطان الطلقاء، فهذه الأيدي تنظف من دمائنا (4) والأفواه تتحلب من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل (5) وتعفرها امهات، الفراعل (6) ولئن اتخذتنا مغنما، لتجدنا وشيكا مغرما، حين لا تجد الا ما قدمت يداك وما ربّك بظلام للعبيد، والى اللّه المشتكى وعليه المعول:
فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جاهدك. فو اللّه لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا ولا يرخص عنك عارها، وهل رأيك الا فند وأيامك إلا عدد، وجمعك الا بدد، يوم ينادي المنادي الا لعنة اللّه على الظالمين.
والحمد للّه رب العالمين، الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل اللّه أن يكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد ويحسن علينا الخلافة انه رحيم ودود، وحسبنا اللّه ونعم الوكيل» (7)
وهذا الخطاب أروع خطاب أثر في الاسلام، وهو من متممات النهضة الحسينية الخالدة، فقد دمرت فيه حفيدة الرسول (ص) جبروت الطاغية، والحقت به الهزيمة والعار، وعرفته ان دعاة الحق لا تنحني جباههم امام الطغاة والظالمين، يقول الامام كاشف الغطاء رحمه اللّه:
«أتستطيع ريشة أعظم مصور وابدع ممثل أن يمثل لك حال يزيد وشموخه بأنفه وزهوه بعطفه وسروره وجذله بانساق الأمور، وانتظام الملك ولذة الفتح والظفر والتشفي والانتقام ـ بأحسن من ذلك التصوير والتمثيل ـ وهل في القدرة والامكان لأحد أن يدفع خصمه بالحجة والبيان والتقريع والتأنيب. ويبلغ ما بلغته سلام اللّه عليها بتلك الكلمات وهي على الحال الذي عرفت ثم لم تقتنع منه بذلك حتى ارادت أن تمثل له وللحاضرين عنده ذلة الباطل وعزة الحق وعدم الاكتراث والمبالات بالقرة والسلطة، والهيبة والرهبة، أرادت أن تعرفه خسة قدره، وضعة مقداره وشناعة فعله، ولؤم فرعه واصله» (8).
ويقول المرحوم الفكيكي:
«تأمل معي في هذه الخطبة النارية كيف جمعت بين فنون البلاغة، وأساليب الفصاحة، وبراعة البيان، وبين معاني الحماسة وقوة الاحتجاج وحجة المعارضة والدفاع في سبيل الحرية والحق والعقيدة بصراحة هي انفذ من السيوف الى أعماق القلوب، واحد من وقع الأسنة في الحشا والمهج في مواطن القتال، ومجالات النزال، وكان الوثوب على أنياب الأفاعي وركوب اطراف الرماح أهون على يزيد من سماع هذا الاحتجاج الصارخ الذي صرخت به ربيبة المجد والشرف في وجوه طواغيت بني أمية وفراعنتهم في منازل عزهم ومجالس دولتهم الهرقلية الارستقراطية الكريهة.
ثم ان هذه الخطبة التأريخية القاصعة لا تزال تنطق ببطولات الحوراء الخالدة وجرأتها النادرة، وقد احتوت النفس القوية الحساسة الشاعرة بالمثالية الاخلاقية الرفيعة السامية، وسيبقى هذا الأدب الحي صارخا في وجوه الطغاة الظالمين على مدى الدهر وتعاقب الأجيال وفي كل ذكرى لواقعة الطف الدامية المفجعة» (9).
محتويات الخطاب:
وكان هذا الخطاب العظيم امتدادا لثورة كربلا وتجسيدا رائعا لقيمها الكريمة وأهدافها السامية وقد حفل بما يلي:
أولا ـ انها دللت على غرور الطاغية وطيشه، فقد حسب أنه هو المنتصر بما يملك من القوى العسكرية التي ملأت البيداء وسدت آفاق السماء، الا انه انتصار موقت، ومن طيشه انه حسب ان ما احرزه من الانتصار كان لكرامة له عند اللّه وهو ان لأهل البيت، ولم يعلم ان اللّه انما يملي للكافرين في هذه الدنيا من النعم ليزدادوا اثما ولهم في الآخرة عذاب أليم.
ثانيا ـ انها نعت عليه سبيه لعقائل الوحي، فلم يرع قرابة رسول اللّه فيهم وهو الذي منّ على آبائه يوم فتح مكة فكان ابوه وجده من الطلقاء فلم يشكر للنبي هذه اليد وكافأه بأسوأ ما تكون المكافئة.
ثالثا ـ ان ما اقترفه الطاغية من سفكه لدماء العترة الطاهرة فانه مدفوع بذلك بحكم نشأنه ومواريثه فجدته هند هي التي لاكت كبد سيد الشهداء حمزة وجده ابوه سفيان العدو الأول للاسلام، وابوه معاوية الذي أراق دماء المسلمين وانتهك جميع ما حرمه اللّه، فاقتراف الجرائم من عناصره وطباعه التي فطر عليها.
رابعا ـ انها انكرت عليه ما تمثل به من الشعر الذي تمنى فيه حضور أشياخه الأمويين ليروا كيف أخذ بثأرهم من النبي (ص) بابادة أبنائه الا انه سوف يرد موردهم من الخلود في نار جهنم.
خامسا ـ ان الطاغية بسفكه لدماء العترة الطاهرة لم يسفك الا دمه ولم يفر الا جلده فان تلك النفوس الزكية حية وخالدة وقد تلفعت بالكرامة وبلغت قمة الشرف، وانه هو الذي باء بالخزي والخسران.
سادسا ـ انها عرضت الى من مكن الطاغية من رقاب المسلمين فهو المسئول عما اقترفه من الجرائم، وقد قصدت عليها السلام مغزى بعيدا يفهمه كل من تأمل فيه.
سابعا ـ انها اظهرت سمو مكانتها فكلمات الطاغية كلام الأمير والحاكم فاستهانت به، واستصغرت قدره، وتعالت عن حواره، وترفعت عن مخاطبته، ولم تحفل بسلطانه.. لقد كانت العقيلة على ضعفها وما ألم بها من المصائب اعظم قوة وأشد بأسا منه.
ثامنا ـ انها عرضت الى ان يزيد مهما بذل من جاهد لمحو ذكر أهل البيت (ع) فانه لا يستطيع الى ذلك سبيلا لأنهم قائمون في قلوب المسلمين وعواطفهم وهم مع الحق، والحق لا بد أن ينتصر، وفعلا قد انتصر الحسين وتحولت مأساته الى مجد لا يبلغه أي انسان كان فأي نصر أحق بالبقاء واجدر بالخلود من النصر الذي احرزه الامام
هذا قليل من كثير مما جاء في هذه الخطبة التي هي آية من آيات البلاغة والفصاحة، ومعجزة من معجزات البيان، وهي احدى الضربات القاضية على ملك بني أمية.
جواب يزيد:
وكان خطاب العقيلة كالصاعقة على رأس يزيد فقد انهار غروره وتحطم كبرياؤه، وحار في الجواب فلم يستطع ان يقول شيئا الا أنه تمثل يقول الشاعر:
يا صيحة تحمد من صوائح ما أهون النوح على النوائح
ولم تكن أية مناسبة بين ذلك الخطاب العظيم الذي ابرزت فيه عقيلة الوحي واقع يزيد، وجردته من جميع القيم الانسانية، وبين ما تمثل به من الشعر الذي اعلن فيه أن الصيحة تحمد من الصوائح، وان النوح يهون على النائحات، فأي ربط موضوعي بين الأمرين.
تعليق