(2)
كان حديث الشهداء يدور هذه المرة عن جلسة ثقافية اقامها اتحاد التاريخيين الشهداء..
قال جدي:ـ كانت جلسة رائعة بحق.
:ـ ماذا كان محورها يا جد؟
:ـ كان محورها عن تدوينات بعض الرحالة الذين زاروا كربلاء.. هل تعرف محمد بن عبد الله بن محمد بن ابراهيم بن يوسف الطنجي؟
قلت: لا... لم أسمع به..
فابتسم حينها وقال: ألم تقرأ شيئا عن ابن بطوطة يا ولدي...
قلت حينها مبتسما: أوه... قل ذلك.. فنحن لا نعرفه إلا بكنيته ابن بطوطة ذلك الرحالة المشهور الذي زار كربلاء.
فاكمل شهيد آخر:ـ سنة 726هـ وكتب عنها: مدينة صغيرة تحضنها حدائق النخيل ويسقيها ماء الفرات وفي الروضة الحسينية مدرسة عظيمة وزاوية فيها الطعام للوارد والصادر.
قلت: كم هو جميل ان احضر مثل هذه الجلسات... ساد الصمت بين الوجوه فعرفت انها مخصصة للشهداء فتداركت الامر:ـ وماذا دار في الجلسة بعد؟
عقـّب احد الشهداء: تدارسنا وصف الرحالة البرتغالي (بيدرو تكسيرا) الذي زارها عام 1604م فهو يصف خاناتها بالعامرة، وبيوتها بالبسيطة، واسواقها بالمحكمة، لكون تلك الخانات كانت تعد للزوار وبيوتها التي قدرها بأربعة الاف بيت، واسواقها مبنية بناء محكما بالطابوق، وعامرة بالسلع التجارية. وتحدث عن ظاهرة السبيل ويصف السقاة (انهم كانوا يدورون بقربهم الجلدية المليئة بالماء وهم يحملون بأيديهم أقداح النحاس الجميلة (وعطشان يا سبيل) احياء لذكرى الحسين عليه السلام. واشار الى تيسير الارزاق في هذه المدينة، وعن رخص البضائع، وانواع الفاكهة الاوربية، حسب تعبيره وعدد كبير من الاغنام والماشية التي شاهدها ترعى في المراعي المحيطة بالبلدة..
سألني احدهم الذي لاحظ صمتي: ما بك؟
قلت:ـ تلك المشاهدات مدونة عندنا في موسوعة العتبات المقدسة، لكن الذي استوقفني هو كيف تتدارسونها أنتم؟ فابتسم الجد وقال: يا بني نطابقها مع استشهادات ذوي العصر والملاحظ ان جميع هؤلاء الرحالة قد دخلوا كربلاء في ظروف استثنائية مثلا دخول (تكسيرا) كان في زمن الحرب التركية الايرانية اي هناك هجرة من الاتراك عن كربلاء، وهجرة للايرانيين وهجرة البعض وعودتهم الى بلدانهم بسبب الحرب، ولكن لو نظرت الى ما دونه الرحالة الالماني (كارستن نيبور) الذي زارها عام 1765م سترى الوصف يختلف حيث اجواء الفرح اذ وصف (نيبور) اسوار خمسة ابواب للمدينة ويذكر انها متهدمة لكنه يصف ايام الفرح التي كانت تعيشه المدينة كربلاء حيث نور الشبابيك الكثيرة مستغربا من وجود الزجاج يومها، وتحدث عن حضرة الحسين عليه السلام، وساحة الصحن، وعن شمعدان نحاسي ضخم يحمل عددا من الشموع المضيئة. وتحدث ايضا عن صحن العباس عليه السلام كما تحدث عن مزار آخر خاص كان خارج البلدة في اول الطريق المؤدي الى النجف وقال عنه: ان هذا هو المكان الذي سقط فيه الحسين الشهيد (ع) من على جواده...
فعقب احد الشهداء ويبدو لي انه متخصص في تدوينات الرحالة: لقد كتب (نيبور) عن نهر الحسينية الذي يبدأ من شمال المدينة وينتهي ببحيرة (ابي دبس) من جهة الغرب. واستدرك شهيد آخر: كان يُسمى نهر الحيدري الفرع الرئيسي، ويسمى ايضا الخصيبة.
قلت: لكن جاء في مذكرات السيد (مجيد الوهاب) ان معظم بساتين كربلاء كان مصدر سقيها الآبار المبنية بالآجر. وتأكيدا فقد عُرف عن الفلاح الكربلائي استخدامه (الكرد) لسحب الماء من تلك الابار وسقي البساتين والمزارع.
فأجابني الجد: المشكلة يا ولدي ليس في تناقض المصادر، ولكن في حقيقة الامر فان كربلاء كانت تعاني من الجفاف والظمأ، فينقطع عنها الماء طيلة اربعة اشهر احيانا، فلذلك كانت استعدادات الناس لتلافي جفاف النهر، وهذا ماذكره ايضا الرحالة (عمانوئيل فتح الله) الذي وصف نهر الحسينية بالماء المقدس، وقال: إلا ان ماءه ينضب في القيظ، فتخرج الصدور وتضيق النفوس ويعلو ثمن الماء فيضطر اغلب الناس الى حفر الابار وشرب مياهها، وهي دون ماء الحسينية عذوبة فتتولد الامراض وتتفشى بينهم كالحميات والاهواء. فقلت: رغم ذلك جميل هو تاريخ كربلاء يا جد !!!
فقال الجد: لولاها ما ارتقينا لمنزلة الشهادة يا بني، هل قرأت ما دوّنه (عمانوئيل فتح الله)؟
أكمل أحد الشهداء: زارها في 1911م فوصف طرقها المنارة بالقناديل والمصابيح ذات الزئبق الحجري، وهذا الزيت كانوا يستوردونه من بغداد ثم يصف (عمانوئيل فتح الله) دهشته وهو يرى طرقا واسعة ما امتلكتها بغداد ولا اغلب مدن البلاد العثمانية، ومقاهيها حسنة الترتيب والتنسيق وفيها جوامع فيحاء ومساجد حسناء وتكايا بديعة وفنادق تأوي عددا عديدا من الغرباء.
وعقب شهيد آخر: يقول (عمانوئيل فتح الله): وجدت كربلاء من امهات مدن ديار العراق قصورا شاهقة، ودورا قوراء، وانهارا جارية، ورياحا غناء، واشجارا غيباء، فلو نظرت في تلك الاوصاف لخلته يصف لك جنة من جنات الله سبحانه... هذه هي كربلاء.
قال الجد:ـ نعم هذه كربلاء. فقال احد الشهداء: دعونا نكمل وصف التدوين حيث كتب عنها (فتح الله): ثروتها واسعة وتجارتها نافعة وزراعتها متقدمة وصناعتها رائجة شهيرة حتى ان بعض الصناع يفوقون أمهر صناع بغداد بكثير لاسيما في التطريز والنقش والحفر على المعادن والتصوير وحسن الخط والصياغة والترصيع واكساء الخشب ورسوم بديعة عربية وهندية وفارسية... واكمل شهيد آخر: ودوّن (فتح الله) في رحلته سعي الحكومة بحفر النهر وحفظ مياهه طوال السنة. وقال: ان في كربلاء مستشفى عسكري وسراي وثكنة للجند وصيدلية وحمامات كثيرة ودار بريد وبلدية وقيصريات عديدة وفيها قنصلية انكليزية تحت امرة قنصل مسلم واغلب رعيته من الهنود...
وعقـّب آخر: وهناك قنصلية روسية ايضا وفيها قنصل مسلم قوقازي. وتحدث (فتح الله) بشكل مسهب عن اسواقها، وناسها، ولغات ساكينها، وتكويناتهم وعن البضائع الكربلائية..
ثم قال الشهيد:ـ كتب عن أقضية كربلاء حينها مركز قضاء كربلاء والهندية والنجف... وعدّد سبع نواح هي المسيب والرحالية وشفاثة والكفل والكوفة والرحية والناجية.
قال احد الشهداء: وقد تباحثنا في الجلسة الثقافية عن وصف المؤرخ العراقي (عبد الرزاق الحسني) لكربلاء فقلت: هذا مدوّن عندنا في كتاب (موجز تاريخ البلدان العراقية ) فأكمل الشهيد: (تربطها ببغداد سكة حديد ثابتة وهي مدينة واسعة جالسة على ضفة ترعة (الحسينية) يحيط بها شجر النخيل الوارف).