كان هناك أحد أبناء المنطقة من الشباب المعروفين في المدينة كلها، بثقافته وعلمه وعقليته التي (توزن بلد) كما يقولون. وكان هذا الرجل خريج كلية الصيدلة، لاينتمي الى شهادته، ولا يحب اختصاصه؛ لكنه سعى لها بدوافع اجتماعية. ومع كل هذا تعلق في أمور الاختصاص دون مودة، حيث كان يتحدث دائماً عن أمور طبية، وخاصة فيما يتعلق بعلم النفس وأمراض الاكتئاب، ويوصي الأصدقاء بالابتعاد عن الدواء العشوائي والمهدئات.
بمرور الأيام حدث غير المتوقع، إذ أخذ الهزال يعتريه دون أن نعرفَ السبب؛ وتبيّن لنا أيضاً انه نفسه يجهل السبب، وبدأنا نلاحظ تغييراً واضحاً في سلوكه العام، حيث الانطوائية والميلان الى العزلة، والابتعاد عنا شيئا فشيء عن الناس. وفقد القدرة على الضحك، وأصبح يشكو فقدان الشهية وقلة النوم... وبدأت تصيبه نوبات بكاء مفاجئة، وصرت أسمعُ منه أشياء لم أسمعْها من قبل، مثلاً الحياة لاقيمة لها، أو صرت أسمع منه كلاماً عن الانتحار.
أشار إلينا البعض من أهل التجربة، بأخذه الى سفرات استجمام متنوعة؛ وفعلا سحنا به في عدة جولات سياحية، لم تنفعْه بشيء... فكرت جدياً في حالته، وأصبحت أنا نفسي أشكو الكآبة بسببه، فقلت: لأجرّب ما تربينا عليه في البيت، وما تعوّدنا عليه في حياتنا. أخذته الى زيارة الإمام الحسين (ع)، ووقفت بين جموع المصلين أطلب منه الدعاء له بالشفاء العاجل، فبكى صاحبي بكى بكاء مراً، وبعدها بدأ يتماثل للشفاء.
قال: كنت أحسّ أن يد المصلين المرفوعة كأنها تسقيني الدواء، وقال لي أشياء كثيرة بعد شفائه، حتى يبدو أن هذه الأشياء هي التي عرفت أهل المدينة به أكثر من شهرته بالجنون والانطواء، حيث قال: شعرت أولا أن عليّ أن أعترف بمرضي، وصرت أشعرُ باحتياجي الى الناس، وان الوحدة هي داء يزيدني مرضاً، وعليّ أن أعيش مع الناس بكل مشاعري، وصرت أفكر كيف علي أن أخرج من الأزمة؟ وصرت على مرور الأيام أسمع بعض نصائحه على ألسنة بعض الشباب. علمتني محنتي يجب أن لا أكون وحيداً، الانسان وحده لايكفي نفسه، هو يحتاج الى منْ حوله، وهكذا رفع المرض عن نفسه بدعاء المصلين، وعاد ليعيش مع اصدقائه، دون أن يمرَّ بطبيب.