بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركااته
من تجليات العلاقة بين أهل الكتاب وأهل البيت (عليهم السلام ) التقارب والتماثل بين السيدة مريم العذراء أم المسيح (عليها السلام ) وبين الصديقة الشهيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام ) ، ولمقامها الرفيع وأثرهما الرسالي في الأديان (المسيحي والاسلامي) جاءت وجوه التشابه بينهما لتقرر تماسك الرسالات السماوية مع بعضها، ومرجعيتها الواحدة في تجانس غاياتها ومقاصدها، ولعل من أوضح صور التقارب والتعاضد في المزايا والاوصاف الإلهية بينهما ما نص عليه القرآن الكريم من ذكرهما.
فقد حفلت آيات الكتاب المجيد بذكر مريم (عليها السلام ) اكثر من عشرين مرة بالتصريح باسمها مرة، والكناية عنها ثانية ([1])، ونوهت الآيات الكريمة بمقامها العظيم ومكانتها في الاجتباء الإلهي، وحجيتها وخصوصياتها بالنسبة للنبوة والرسالة، فهي (عليها السلام ) المحدثة من الملائكة، والمصطفاة والمجتباة منه قوله تعالى: {وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ}(عمران: 42)، ومن جميل لطائف التعبير في الآية أنها معطوفة على اصطفاء الأنبياء في قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ}(آل عمران: 33)، وفيه إشارة إلى أنَّ اصطفاءها كان «بمستوى اصطفاء الأنبياء من آدم ونوح وآل ابراهيم اي اصطفاءً نبوياً تختلف ماهيته بحسب حيثيات النبوة والإمامة التي لا تكون إلا في سنخ الرجال بخصوصيات ليس هنا محل بحثها، فاصطفاءها الاول هو قبولها لعبادة الله ومن ثم تطهيرها بعصمة الله وبالتالي اصطفائها لحجيته، فمراحل الاصطفاء تتدرج من نشأتها وتترقى بتطهيرها وتكتمل بحجيتها» ([2]) والمتأمل لذكر مريم (عليها السلام ) القرآني يلحظ تعريفاً سياقياً مفاده التعظيم والتقديس والحجية الرسالية والعصمة الإلهية التي هي مدار الاعتقاد الاسلامي بها، ولعله يختلف عن تصوراتها عند الأديان الاخرى، ولاسيما تأليهها هي والسيد المسيح (عليه السلام ) ([3]).
في المقابل الصورة القرآنية للسيدة مريم العذراء (عليها السلام ) المحاطة بذكر الأنبياء والرسالات، تلحظ تلويح القرآن الكريم، وأشارته لمقام الصديقة الشهيدة (عليها السلام ) محاطاً بذكر النبي وآله (صلوات الله عليهم)، وهو العنوان الأوفى في التنويه بها قرآنياً، فهي من أركان آية التطهير([4])، {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(الأحزاب: 33)، والعلم بالكتاب في قوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}(الواقعة: 79)، والمخصوصة بالذكر في سورة الدهر، وآية المودّة والقربى (الشورى/ 23) فضلاً عن آية المباهلة (آل عمران/61) وغيرها.
والاعتقاد بمقام الصديقة الشهيدة (عليها السلام ) في هذه الآيات وغيرها من جهة التطهير والعصمة والحجية والعلم، واشتراكها مع آل محمد في المقام الرسالي والإلهي بل هي مصدر نورهم و«واسطة فيض تكوينية لوجودهم وكمالاتهم (صلوات الله عليهم) » ([5]) يستلزم أنها حجة على من سبقها كون ولاية وحجية النبي وآله (صلى الله عليه واله وسلم ) على من سبقهم بالنبوة الخاتمة والرسالة الخاتمة، والوصاية والإمامة الخاتمة الشاملة العالمية على الأديان السماوية السابقة.
فإذا كانت السيدة مريم (عليها السلام ) سيدة نساء عالمها، فالزهراء (عليها السلام ) سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين.
وبعبارة أُخرى:
يحرر الكتاب المجيد بأعلى درجات التقديس ذكر مقام السيدة مريم (عليها السلام ) والصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام ) ، ويماثل بينهما في مشهدين يحملان سمة التفكّر والتدبّر والاستنباط، فكلاهما من المُطهّرات المحدّثات المُصطَفيات المنتجَبَات، وهما أسُّ قواعد رسالات السماء وفيضها، وأمهات رجال التضحية والفداء في سبيل كلمة الله تعالى في أرضه.
فلقد كانت مريم (عليها السلام ) موضعاً لكلمة الله تعالى وروحه، ومقاماً لفيض رحمته ورسالته، وكان من أمر السيدة مريم (عليها السلام ) ان تكون قطب الرحى في دعوة السيد المسيح، وقاعدة الاعتقاد الرسالي بسافرته الإلهية، ودعوته المسيحية من خلال مقامها الاصطفائي وحجيتها على أهل زمانها، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ}(المؤمنون: 50(، فجاء اسمها مشفوعاً في آيات كثيرة بذكر السيد المسيح (عليه السلام ) أو محاطاً بذكر الأنبياء (عليهم السلام ) ورسالاتهم.
في مقابل هذا المشهد القرآني عن قديسة زمانها (مريم بنت عمران) (عليها السلام ) أم السيد المسيح (عليها السلام ) ينصّ القرآن الكريم ويشير إلى مقام الصديقة الشهيدة أمّ أبيها (عليها السلام ) ولكن بأسلوب آخر وبنهج يعتمد أفقا واسعاً في التفكّر والتدبّر والتبصّر في توكيد المطالب الآتية :
أولاً: بيان منزلتها، وعظم مكانتها في كل مقامات الاصطفاء والاجتباء، فضلاً عن كونها مصدر فيض لمقامات ابنائها (أئمة أهل البيت) ومناط الحجة عليهم (صلوات الله عليهم اجمعين) .
ثانياً: اشتراكها في جميع الآيات النازلة بحقهم من جهة التنويه والتلميح لا النص والتصريح، ولعل في ذلك سرّاً من أسرار المعارف القرآنية التي تعتمد على الدعوة إلى الاستدلال والاستنباط والوصول إلى الايمان العقائدي بالبذل والعناء الفكري، وصولاً للاعتقاد الحقيقي اليقيني بالأشياء. هذا من جهة، ومن جهة اخرى شُفِع هذا المنهج القرآني بتقرير النبي الأكرم(صلى الله عليه واله وسلم ) وجعل بيان مكانتها، والتصريح بمقامها العظيم من شأن ومسؤولية النبي (صلى الله عليه واله وسلم ) وأبنائها الاطهار (عليهم السلام ) ، ومن جهة ثالثة كانت الصديقة الطاهرة (عليها السلام ) في كل ما تعلق بها وبأبنائها (عليهم السلام ) من الآيات القرآنية إما ركناً من أركان اسباب النزول، أو مصداقاً من المصاديق التفسيرية في وجوهها الكاملة التامة على لسان النبي (صلى الله عليه واله وسلم ) وبنصوص أئمة أهل البيت (عليهم السلام ) انفسهم.
وأكاد أجيب ـ وأخالك معي ـ مما سلف على تساؤل يفرض نفسه فكريا وتفسيريا لماذا ذكرت الآيات الكريمة مريم (عليها السلام ) صراحة، ولم تذكر الصديقة الطاهرة (عليها السلام ) بصريح النص، وبعبارة واضحة على مالها من مقام وشأن في السماء قبل الأرض، ولاسيما أن كتاب الله تعالى يجعل ثمة نظم ترابط بين ذكر مريم(عليها السلام ) والصديقة الشهيدة$، مثلما هو واقع وواضح في السنة النبوية؟
أقول: فضلاً عما مضى وتجانساً مع أصل المطلب في وجه التقارب والتماثل بين المطهّرات والمحدّثات والمجتبيات في القرآن الكريم (مريم القديسة، والصديقة الشهيدة) إن أساليب القرآن الكريم التعبيرية، ولاسيما في ذكر الأعلام والمسميات تتبع وتنسجم مع غاياته الدلالية، ومقاصده المصداقية الواقعية التي تجمع بين معاني السياق القرآني من جانب، وأسباب النزول من جانب آخر؛ لذا فإن سبب النزول يكشف عن السياق القرآني ومعانيه التفسيرية (المفهومية والمصداقية)، ويقدم تعليلاً لتعدد أساليب التعبير في آياته المعظمة وتنوّعها، علماً أن الكناية بلوازم تشخيص المصاديق والتصريح بها قرآنياً يكون أبلغ في المقام، وأسمى في الدلالة، ولعله في حكم التصريح والأداء للمسميات نصاً، واعلاناً في تحديد المراد دون غيره، وتشخيص المصداق من دون التباس، ولاريب أنّ السنة النبوية الشريفة(قولاً وفعلاً وتقريراً) المبيـّن والموضح والمفسّر لكل من يشتبه عليه المعنى أو يغفل عن الوصول، أو القرب من دلالات المراد الإلهي بيانا للآيات أو مصداقا للمفاهيم، ولنا في آية المباهلة وهي قوله جل ذكرهُ: {فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ}(آل عمران:61)، فلفظ (نساءنا) دال على الصديقة الشهيدة (عليها السلام ) مصداقاً محدداً لا يمكن أن يخفى دلالياً وبيانياً في أسباب النزول أو المصداق الخارجي الموضوعي للمفهوم القرآني أصلاً، ولك أن تنظر في ثلة من كتب التفسير([6]) مثلاً وأنموذجاً لا على سبيل الحصر والقيد.
وفي يقيني أعتقد جازما أنه لا يمكن أن يحتج على النصارى بمن لايعرفونهم، وأُريد بذلك أهل البيت الخمسة من المكنى عنهم بـ(أبناءنا ونساءنا وأنفسنا فضلا عن الداعي)، وكذا الامر بالنسبة لآيات التطهير، والمودة وغيرها، بل تجد أن الصديقة الطاهرة (عليها السلام ) شريكة في كل ما نزل في حق ابنائها أهل البيت(عليهم السلام ) وهذا التشريك إنما هو وجه من وجوه مقامها وأفضليتها على غيرها من المتقدمّات عليها في الانتساب والاصطفاء، وإن كنَّ ممن سبقها زماناً في الرسالات الأُخر.
ولاريب في أنّ إظهار مزايا أهل البيت مجتمعين وفضيلتهم ـ بما فيهم الصديقة الشهيدة ـ في الآيات القرآنية إنما فيه من المقام الرسالي والنظم الإلهي في تكاملهم وتمايزهم وقيام أحدهم مقام الآخر في سلسلة أنبأنا عنها النبي وآله(عليهم السلام ) وهكذا تراهم كلاً مجتمعين في آيات المباهلة والتطهير، والمودة وغيرها... إذاً تَوهم عدم تشخيص وتسمية ذكر الزهراء (عليها السلام ) أو أهل البيت(عليهم السلام ) عموماً بأسمائهم ـ مع وجودهم مصاديق حيّة ـ في النص القرآني يكاد يكون قديماً، وجديداً حاضراً في كل عصر، ولعله يثار بين الحين والآخر تبعا لمرادات قائليها واعتقاداتهم وتعليل ذلك يخرج عن حدود ما نحن فيه، إلّا أنني استحضر سؤال أبي بصير للإمام الصادق(عليه السلام ) لمعرفة مدى توهم عدم اغناء المصداق الخارجي الموضوعي عن التسمية، والحق ان المصاديق الفعلية الواضحة الجلية الخارجية أحق بالاعتماد والفهم والاعتقاد من التسميات مع كونها مبينة موضحة مفسرة بقول النبي وآله، وبتعضيد أسباب النزول وعلله وموضوعاته قال: «سألت أباعبدالله(عليه السلام ) عن قـول الله عـز وجل: {أَطِيعُوا اللَّه وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}. قال: «نزلت في علي بن أبي طالب، والحسن والحسين(عليهم السلام ) » .
فقلت له: إنّ الناس يقولون: فما له لم يسمّ عليا وأهل بيته (عليهم السلام ) في كتاب الله عز وجل؟ قال: فقال:
«قولوا لهم: إن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم ) نزلت عليه الصلاة ولم يسمّ الله لهم ثلاثا، ولا أربعا، حتى كان رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم ) هو الذي فسر ذلك لهم، ونزلت عليه الزكاة ولم يسم لهم من كل أربعين درهما درهما، حتى كان رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم ) هو الذي فسر ذلك لهم، ونزل الحج ولم يقل لهم طوفوا سبعا، حتى كان رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم ) هو الذي فسر ذلك لهم.
ونزلت {أَطِيعُوا الله وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}ونزلت في علي والحسن والحسين (عليهم السلام ) ، فقال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم ) في علي : من كنت مولاه فعلي مولاه، وقال (صلى الله عليه واله وسلم ) : أوصيكم بكتاب الله وأهل بيتي، فإني سألت الله عز وجل أن لايفرّق بينهما حتى يوردهما علي الحوض، فأعطاني ذلك. وقال: لا تعلموهم، فهم أعلم منكم. وقال: إنهم لن يخرجوكم من باب هدى، ولن يدخلوكم في باب ضلالة.
فلو سكت رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم ) فلم يبين من أهل بيته لادّعاها آل فلان، وآل فلان، ولكن الله عز وجل نزل في كتابه تصديقا لنبيه (صلى الله عليه واله وسلم ) : {إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}، فكان علي والحسن والحسين وفاطمة (عليهم السلام ) ، فأدخلهم رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم ) تحت الكساء، في بيت أم سلمة، ثم قال: اللهم، إن لكل نبي أهلا وثقلا، وهؤلاء أهل بيتي وثقلي. فقالت ام سلمة: ألست من أهلك؟ فقال:
إنك إلى خير، ولكن هؤلاء أهلي وثقلي.
فلما قبض رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم ) كان علي أولى الناس بالناس، لكثرة ما بلغ فيه رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم ) ، وأقامه للناس ، وأخذ بيده ، فلما مضى علي لم يكن يستطيع علي ـ ولم يكن ليفعل ـ أن يدخل محمد بن علي، ولا العباس بن علي، ولا واحداً من ولده، إذا لقال الحسن والحسين : إن الله تبارك وتعالى أنزل فينا كما أنزل فيك، وأمر بطاعتنا كما أمر بطاعتك، وبلغ فينا رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم ) كما بلغ فيك، وأذهب عنا الرجس كما أذهبه عنك . فلما مضى علي (عليه السلام ) كان الحسن (عليه السلام ) أولى بها لكبره، فلما توفي لم يستطع أن يدخل ولده، ولم يكن ليفعل ذلك، والله عز وجل يقول : {وأُولُوا الأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أو لى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ}فيجعلها في ولده، إذن لقال الحسين (عليه السلام ) : أمر الله تبارك وتعالى بطاعتي كما أمر بطاعتك وطاعة أبيك، وبلغ في رسول الله(صلى الله عليه واله وسلم ) كما بلغ فيك وفي أبيك، وأذهب الله عني الرجس كما أذهب عنك وعن أبيك.
فلما صارت إلى الحسين (عليه السلام ) لم يكن أحد من أهل بيته يستطيع أن يدعي عليه كما كان هو يدعي على أخيه، وعلى أبيه، لو أرادا أن يصرفا الأمر عنه، ولم يكونا ليفعلا، ثم صارت حين أفضت إلى الحسين (عليه السلام ) ، فجرى تأويل هذه الآية: {وأُولُوا الأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ}، ثم صارت من بعد الحسين لعلي بن الحسين (عليه السلام ) ، ثم صارت من بعد علي بن الحسين (عليه السلام ) إلى محمد بن علي(عليه السلام ) »([7]).
ولنا أن نستنتج أن خصوصية الزهراء الصديقة (عليها السلام ) قد كشفها النبي (صلى الله عليه واله وسلم ) وآله (عليهم السلام ) من خلال هذه الآيات وغيرها، ولاسيما في تصور علاقتها بالسيدة مريم(عليها السلام ) ، ومدى تطابق صفاتهما وتماثلها من لحاظ، وتفاضل الزهراء عليها من لحاظ آخر. وقد أكدت هذه البيانات الرسالية نقض ودفع التوهم وانصراف الذهن لأفضلية السيدة مريم على الصديقة الكبرى (عليها السلام ) اعتماداً على مقامها القرآني، والتصريح باسمها، على حين لم يتصور ـ عند الغافلين والواهمين ـ مقام الزهراء الرسالي ومنزلتها الشاملة عند من سبقها بوجودها مصداقاً حياً لمرادات ومفاهيم النصوص القرآنية. لذا جاء تقرير ووصف النبي (صلى الله عليه واله وسلم ) افضلية الصديقة(عليها السلام ) على مريم (عليها السلام ) في اكثر من موقف، ملمّحاً في الوقت نفسه الى مقام ومنزلة مريم (عليها السلام ) وعلو مرتبتها كونهما سيدة النساء، وهذا الامر لا ينفي التفاضل بينهما وهو سنّة إلهية تكون تبعا للاجتباء والاصطفاء الإلهي والمسؤولية الرسالية التي تقترن بصاحبها، وعلى كل حال فقد روي عن ابن عباس قال: «إن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم ) كان جالساً ذات يوم وعنده علي وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام ) فقال: اللهم إنك تعلم أن هؤلاء أهل بيتي وأكرم الناس علي فاحبب من أحبهم، وابغض من أبغضهم، ووال من والاهم، وعاد من عاداهم، وأعن من أعانهم، واجعلهم مطهرين من كل رجس معصومين من كل ذنب، وأيّدهم بروح القدس. ثم قال: [يعني فاطمة] ... وإنها لسيدة نساء العالمين. فقيل له: يا رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم ) أهي سيدة نساء عالمها، فقال النبي (صلى الله عليه واله وسلم ) : ذاك لمريم بنت عمران، فأمّا ابتني فاطمة فهي سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين...»([8]) .
وتلحظ تأكيد أهل البيت (عليهم السلام ) على منزلة أمهم فاطمة (عليها السلام ) عند بيانهم لقول النبي الاكرم فعن المفضل بن عمر قال: «قلت لأبي عبدالله (عليه السلام ) أخبرني عن قول رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم ) في فاطمة: «إنها سيدة نساء العالمين» أهي سيدة نساء عالمها؟ فقال: ذاك لمريم كانت سيدة نساء عالمها، وفاطمة سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين»([9]).
أخلص إلى أن ثمة تماثل وتقارب بين مقام السيدة مريم العذراء (عليها السلام ) ، والسيدة الصديقة الشهيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام ) فهما ممن كانتا موضع عناية الخالق واجتبائه، ورعايته واصطفائه فهما سيدتا النساء، إلا أن الزهراء (عليها السلام ) اختصت بسيدة نساء الاولين والآخرين، وكانت مريم (عليها السلام ) سيدة نساء عالمها، كما أنهما من المحدّثات، مريم بشهادة القرآن، والزهراء (عليها السلام ) بشهادة أهل بيت([10])، وهما من المطهرات بنص الكتاب المجيد، والمخصوصات بالكرامات والإفاضات الإلهية، وهما قاعدة الدعوة للرسالتين السماويتين مريم أم السيد المسيح (عليه السلام ) ، وفــاطمة أم أبيها والمدافعة عن الدعوة الإسلامية في حياة النبي والخلافة والولاية بعد شهادته (صلى الله عليه واله وسلم ) ، وهما شريكتا الخطاب الإلهي في القرآن الكريم بآيات عديدة، أوضحت شبكة روحية قِيَميَّة في تمثـّل مريم (عليها السلام ) المصرح بها، المنصوص عليها قرآنياً، لفاطمة الزهراء (عليها السلام ) المكنى عنها، المشار إليها هدفاً في التأمل والنظر والتفكر وغاية للاطمئنان، والاعتقاد المستخلص من الاستدلال والاستنباط. عن أبي عبدالله الصادق (عليه السلام ) قال: «ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها مثلاً ضرب الله لفاطمة (عليها السلام ) وقال: إن فاطمة احصنت فرجها فحرّم ذريتها على النار»([11]) هذا غيض من فيض مما ذكر وعرف وما سواه فالله العالم به.
([1]) ظ: لفظ (مريم)، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، وانظر كذلك الآيات الآتية التي كنى فيها القرآن عن مريم (عليها السلام) منها مثلاً: آل عمران/36، 47 المائدة/75، مريم/19، 20، 22، 23، 25، 26، 27، 28، 32، الأنبياء/91 وغيرها.
([2]) مقامات فاطمة الزهراء/60.
([3]) ظ في ذلك مقامات فاطمة الزهراء/42 ومابعدها
([4]) «عن أم سلمة رضى الله عنها ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال لفاطمة$ ائتنى بزوجك وابنيه فجاءت بهم فالقى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم كساء فدكيا ثم وضع يده عليهم ثم قال اللهم ان هؤلاء أهل محمد وفي لفظ آل محمد فاجعل صلواتك وبركاتك على آل محمد كما جعلتها على آل ابراهيم انك حميد مجيد قالت أم سلمة رضى الله عنها فرفعت الكساء لأدخل معهم فجذبه من يدى وقال انك على خير» الدر المنثور: 5 / 198.
([5]) مقامات فاطمة الزهراء/20، 33، وفي هذا الباب الحديث المشهور عن «الإمام العسكري(عليه السلام): نحن حجج اللّه على خلقه، وجدّتنا فاطمة (عليها السلام) حجّة اللّه علينا» موسوعة الإمام العسكري: 2/265.
([6]) ظ على سبيل المثال: جامع البيان:3/407، تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم الرازي (327هـ): 3/24، تفسير القرطبي: 4/104، الكشاف: 1/282، وغيرها كثير.
([7]) البرهان في تفسير القرآن: 3/309 وظ كذلك: تفسير العياشي:1 / 249، الكافي: 1 /287، بحار انوار : 35 /210، وغيرها .
([8]) الأمالي للصدوق/575، ظ كذلك: روضة الواعظين/149، شرح الاخبار: 3/56، 520، مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي/292 والمختصر/197، سير اعلام النبلاء/2/126، الإصابة لابن حجر: 8/102، المستدرك: 3/157.
([9]) معاني الاخبار/107، ظ كذلك: دلائل الإمامة/149، شرح الاخبار: 3/520.
([10]) ويبدو أن اهل البيت (عليهم السلام) غالباً ما يوضحون ويظهرون مقام الزهراء في اوساط الناس هدفاً في ترسيخ معرفتها وتجسيد مكانتها الإلهية التي يغفل عنها فعن الصادق (عليه السلام ) قال: «سميت فاطمة محدثة لان الملائكة كانت تهبط من السماء فتناديها كما كانت تنادي مريم بنت عمران، فتقول: يا فاطمة، إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين. يا فاطمة، اقنتي لربك، الآية، وتحدثهم ويحدثونها. فقالت لهم ذات ليلة: أليست المفضلة على نساء العالمين مريم بنت عمران؟ فقالوا: إن مريم كانت سيدة نساء عالمها، وإن الله جعلك سيدة عالمك، وسيدة نساء الاولين والآخرين » دلائل الامامة/ 81، 152، علل الشرائع /1/182، بحارالانوار: 14/206، 43/78، تفسير نورالثقلين:1/337، الدر النظيم/456.
([11]) البرهان في تفسير القرآن/3/245، ظ كذلك مقامات فاطمة الزهراء (عليها السلام): 41، مانزل من القرآن في شأن فاطمة (عليها السلام) : 104.
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركااته
من تجليات العلاقة بين أهل الكتاب وأهل البيت (عليهم السلام ) التقارب والتماثل بين السيدة مريم العذراء أم المسيح (عليها السلام ) وبين الصديقة الشهيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام ) ، ولمقامها الرفيع وأثرهما الرسالي في الأديان (المسيحي والاسلامي) جاءت وجوه التشابه بينهما لتقرر تماسك الرسالات السماوية مع بعضها، ومرجعيتها الواحدة في تجانس غاياتها ومقاصدها، ولعل من أوضح صور التقارب والتعاضد في المزايا والاوصاف الإلهية بينهما ما نص عليه القرآن الكريم من ذكرهما.
فقد حفلت آيات الكتاب المجيد بذكر مريم (عليها السلام ) اكثر من عشرين مرة بالتصريح باسمها مرة، والكناية عنها ثانية ([1])، ونوهت الآيات الكريمة بمقامها العظيم ومكانتها في الاجتباء الإلهي، وحجيتها وخصوصياتها بالنسبة للنبوة والرسالة، فهي (عليها السلام ) المحدثة من الملائكة، والمصطفاة والمجتباة منه قوله تعالى: {وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ}(عمران: 42)، ومن جميل لطائف التعبير في الآية أنها معطوفة على اصطفاء الأنبياء في قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ}(آل عمران: 33)، وفيه إشارة إلى أنَّ اصطفاءها كان «بمستوى اصطفاء الأنبياء من آدم ونوح وآل ابراهيم اي اصطفاءً نبوياً تختلف ماهيته بحسب حيثيات النبوة والإمامة التي لا تكون إلا في سنخ الرجال بخصوصيات ليس هنا محل بحثها، فاصطفاءها الاول هو قبولها لعبادة الله ومن ثم تطهيرها بعصمة الله وبالتالي اصطفائها لحجيته، فمراحل الاصطفاء تتدرج من نشأتها وتترقى بتطهيرها وتكتمل بحجيتها» ([2]) والمتأمل لذكر مريم (عليها السلام ) القرآني يلحظ تعريفاً سياقياً مفاده التعظيم والتقديس والحجية الرسالية والعصمة الإلهية التي هي مدار الاعتقاد الاسلامي بها، ولعله يختلف عن تصوراتها عند الأديان الاخرى، ولاسيما تأليهها هي والسيد المسيح (عليه السلام ) ([3]).
في المقابل الصورة القرآنية للسيدة مريم العذراء (عليها السلام ) المحاطة بذكر الأنبياء والرسالات، تلحظ تلويح القرآن الكريم، وأشارته لمقام الصديقة الشهيدة (عليها السلام ) محاطاً بذكر النبي وآله (صلوات الله عليهم)، وهو العنوان الأوفى في التنويه بها قرآنياً، فهي من أركان آية التطهير([4])، {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(الأحزاب: 33)، والعلم بالكتاب في قوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}(الواقعة: 79)، والمخصوصة بالذكر في سورة الدهر، وآية المودّة والقربى (الشورى/ 23) فضلاً عن آية المباهلة (آل عمران/61) وغيرها.
والاعتقاد بمقام الصديقة الشهيدة (عليها السلام ) في هذه الآيات وغيرها من جهة التطهير والعصمة والحجية والعلم، واشتراكها مع آل محمد في المقام الرسالي والإلهي بل هي مصدر نورهم و«واسطة فيض تكوينية لوجودهم وكمالاتهم (صلوات الله عليهم) » ([5]) يستلزم أنها حجة على من سبقها كون ولاية وحجية النبي وآله (صلى الله عليه واله وسلم ) على من سبقهم بالنبوة الخاتمة والرسالة الخاتمة، والوصاية والإمامة الخاتمة الشاملة العالمية على الأديان السماوية السابقة.
فإذا كانت السيدة مريم (عليها السلام ) سيدة نساء عالمها، فالزهراء (عليها السلام ) سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين.
وبعبارة أُخرى:
يحرر الكتاب المجيد بأعلى درجات التقديس ذكر مقام السيدة مريم (عليها السلام ) والصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام ) ، ويماثل بينهما في مشهدين يحملان سمة التفكّر والتدبّر والاستنباط، فكلاهما من المُطهّرات المحدّثات المُصطَفيات المنتجَبَات، وهما أسُّ قواعد رسالات السماء وفيضها، وأمهات رجال التضحية والفداء في سبيل كلمة الله تعالى في أرضه.
فلقد كانت مريم (عليها السلام ) موضعاً لكلمة الله تعالى وروحه، ومقاماً لفيض رحمته ورسالته، وكان من أمر السيدة مريم (عليها السلام ) ان تكون قطب الرحى في دعوة السيد المسيح، وقاعدة الاعتقاد الرسالي بسافرته الإلهية، ودعوته المسيحية من خلال مقامها الاصطفائي وحجيتها على أهل زمانها، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ}(المؤمنون: 50(، فجاء اسمها مشفوعاً في آيات كثيرة بذكر السيد المسيح (عليه السلام ) أو محاطاً بذكر الأنبياء (عليهم السلام ) ورسالاتهم.
في مقابل هذا المشهد القرآني عن قديسة زمانها (مريم بنت عمران) (عليها السلام ) أم السيد المسيح (عليها السلام ) ينصّ القرآن الكريم ويشير إلى مقام الصديقة الشهيدة أمّ أبيها (عليها السلام ) ولكن بأسلوب آخر وبنهج يعتمد أفقا واسعاً في التفكّر والتدبّر والتبصّر في توكيد المطالب الآتية :
أولاً: بيان منزلتها، وعظم مكانتها في كل مقامات الاصطفاء والاجتباء، فضلاً عن كونها مصدر فيض لمقامات ابنائها (أئمة أهل البيت) ومناط الحجة عليهم (صلوات الله عليهم اجمعين) .
ثانياً: اشتراكها في جميع الآيات النازلة بحقهم من جهة التنويه والتلميح لا النص والتصريح، ولعل في ذلك سرّاً من أسرار المعارف القرآنية التي تعتمد على الدعوة إلى الاستدلال والاستنباط والوصول إلى الايمان العقائدي بالبذل والعناء الفكري، وصولاً للاعتقاد الحقيقي اليقيني بالأشياء. هذا من جهة، ومن جهة اخرى شُفِع هذا المنهج القرآني بتقرير النبي الأكرم(صلى الله عليه واله وسلم ) وجعل بيان مكانتها، والتصريح بمقامها العظيم من شأن ومسؤولية النبي (صلى الله عليه واله وسلم ) وأبنائها الاطهار (عليهم السلام ) ، ومن جهة ثالثة كانت الصديقة الطاهرة (عليها السلام ) في كل ما تعلق بها وبأبنائها (عليهم السلام ) من الآيات القرآنية إما ركناً من أركان اسباب النزول، أو مصداقاً من المصاديق التفسيرية في وجوهها الكاملة التامة على لسان النبي (صلى الله عليه واله وسلم ) وبنصوص أئمة أهل البيت (عليهم السلام ) انفسهم.
وأكاد أجيب ـ وأخالك معي ـ مما سلف على تساؤل يفرض نفسه فكريا وتفسيريا لماذا ذكرت الآيات الكريمة مريم (عليها السلام ) صراحة، ولم تذكر الصديقة الطاهرة (عليها السلام ) بصريح النص، وبعبارة واضحة على مالها من مقام وشأن في السماء قبل الأرض، ولاسيما أن كتاب الله تعالى يجعل ثمة نظم ترابط بين ذكر مريم(عليها السلام ) والصديقة الشهيدة$، مثلما هو واقع وواضح في السنة النبوية؟
أقول: فضلاً عما مضى وتجانساً مع أصل المطلب في وجه التقارب والتماثل بين المطهّرات والمحدّثات والمجتبيات في القرآن الكريم (مريم القديسة، والصديقة الشهيدة) إن أساليب القرآن الكريم التعبيرية، ولاسيما في ذكر الأعلام والمسميات تتبع وتنسجم مع غاياته الدلالية، ومقاصده المصداقية الواقعية التي تجمع بين معاني السياق القرآني من جانب، وأسباب النزول من جانب آخر؛ لذا فإن سبب النزول يكشف عن السياق القرآني ومعانيه التفسيرية (المفهومية والمصداقية)، ويقدم تعليلاً لتعدد أساليب التعبير في آياته المعظمة وتنوّعها، علماً أن الكناية بلوازم تشخيص المصاديق والتصريح بها قرآنياً يكون أبلغ في المقام، وأسمى في الدلالة، ولعله في حكم التصريح والأداء للمسميات نصاً، واعلاناً في تحديد المراد دون غيره، وتشخيص المصداق من دون التباس، ولاريب أنّ السنة النبوية الشريفة(قولاً وفعلاً وتقريراً) المبيـّن والموضح والمفسّر لكل من يشتبه عليه المعنى أو يغفل عن الوصول، أو القرب من دلالات المراد الإلهي بيانا للآيات أو مصداقا للمفاهيم، ولنا في آية المباهلة وهي قوله جل ذكرهُ: {فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ}(آل عمران:61)، فلفظ (نساءنا) دال على الصديقة الشهيدة (عليها السلام ) مصداقاً محدداً لا يمكن أن يخفى دلالياً وبيانياً في أسباب النزول أو المصداق الخارجي الموضوعي للمفهوم القرآني أصلاً، ولك أن تنظر في ثلة من كتب التفسير([6]) مثلاً وأنموذجاً لا على سبيل الحصر والقيد.
وفي يقيني أعتقد جازما أنه لا يمكن أن يحتج على النصارى بمن لايعرفونهم، وأُريد بذلك أهل البيت الخمسة من المكنى عنهم بـ(أبناءنا ونساءنا وأنفسنا فضلا عن الداعي)، وكذا الامر بالنسبة لآيات التطهير، والمودة وغيرها، بل تجد أن الصديقة الطاهرة (عليها السلام ) شريكة في كل ما نزل في حق ابنائها أهل البيت(عليهم السلام ) وهذا التشريك إنما هو وجه من وجوه مقامها وأفضليتها على غيرها من المتقدمّات عليها في الانتساب والاصطفاء، وإن كنَّ ممن سبقها زماناً في الرسالات الأُخر.
ولاريب في أنّ إظهار مزايا أهل البيت مجتمعين وفضيلتهم ـ بما فيهم الصديقة الشهيدة ـ في الآيات القرآنية إنما فيه من المقام الرسالي والنظم الإلهي في تكاملهم وتمايزهم وقيام أحدهم مقام الآخر في سلسلة أنبأنا عنها النبي وآله(عليهم السلام ) وهكذا تراهم كلاً مجتمعين في آيات المباهلة والتطهير، والمودة وغيرها... إذاً تَوهم عدم تشخيص وتسمية ذكر الزهراء (عليها السلام ) أو أهل البيت(عليهم السلام ) عموماً بأسمائهم ـ مع وجودهم مصاديق حيّة ـ في النص القرآني يكاد يكون قديماً، وجديداً حاضراً في كل عصر، ولعله يثار بين الحين والآخر تبعا لمرادات قائليها واعتقاداتهم وتعليل ذلك يخرج عن حدود ما نحن فيه، إلّا أنني استحضر سؤال أبي بصير للإمام الصادق(عليه السلام ) لمعرفة مدى توهم عدم اغناء المصداق الخارجي الموضوعي عن التسمية، والحق ان المصاديق الفعلية الواضحة الجلية الخارجية أحق بالاعتماد والفهم والاعتقاد من التسميات مع كونها مبينة موضحة مفسرة بقول النبي وآله، وبتعضيد أسباب النزول وعلله وموضوعاته قال: «سألت أباعبدالله(عليه السلام ) عن قـول الله عـز وجل: {أَطِيعُوا اللَّه وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}. قال: «نزلت في علي بن أبي طالب، والحسن والحسين(عليهم السلام ) » .
فقلت له: إنّ الناس يقولون: فما له لم يسمّ عليا وأهل بيته (عليهم السلام ) في كتاب الله عز وجل؟ قال: فقال:
«قولوا لهم: إن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم ) نزلت عليه الصلاة ولم يسمّ الله لهم ثلاثا، ولا أربعا، حتى كان رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم ) هو الذي فسر ذلك لهم، ونزلت عليه الزكاة ولم يسم لهم من كل أربعين درهما درهما، حتى كان رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم ) هو الذي فسر ذلك لهم، ونزل الحج ولم يقل لهم طوفوا سبعا، حتى كان رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم ) هو الذي فسر ذلك لهم.
ونزلت {أَطِيعُوا الله وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}ونزلت في علي والحسن والحسين (عليهم السلام ) ، فقال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم ) في علي : من كنت مولاه فعلي مولاه، وقال (صلى الله عليه واله وسلم ) : أوصيكم بكتاب الله وأهل بيتي، فإني سألت الله عز وجل أن لايفرّق بينهما حتى يوردهما علي الحوض، فأعطاني ذلك. وقال: لا تعلموهم، فهم أعلم منكم. وقال: إنهم لن يخرجوكم من باب هدى، ولن يدخلوكم في باب ضلالة.
فلو سكت رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم ) فلم يبين من أهل بيته لادّعاها آل فلان، وآل فلان، ولكن الله عز وجل نزل في كتابه تصديقا لنبيه (صلى الله عليه واله وسلم ) : {إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}، فكان علي والحسن والحسين وفاطمة (عليهم السلام ) ، فأدخلهم رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم ) تحت الكساء، في بيت أم سلمة، ثم قال: اللهم، إن لكل نبي أهلا وثقلا، وهؤلاء أهل بيتي وثقلي. فقالت ام سلمة: ألست من أهلك؟ فقال:
إنك إلى خير، ولكن هؤلاء أهلي وثقلي.
فلما قبض رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم ) كان علي أولى الناس بالناس، لكثرة ما بلغ فيه رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم ) ، وأقامه للناس ، وأخذ بيده ، فلما مضى علي لم يكن يستطيع علي ـ ولم يكن ليفعل ـ أن يدخل محمد بن علي، ولا العباس بن علي، ولا واحداً من ولده، إذا لقال الحسن والحسين : إن الله تبارك وتعالى أنزل فينا كما أنزل فيك، وأمر بطاعتنا كما أمر بطاعتك، وبلغ فينا رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم ) كما بلغ فيك، وأذهب عنا الرجس كما أذهبه عنك . فلما مضى علي (عليه السلام ) كان الحسن (عليه السلام ) أولى بها لكبره، فلما توفي لم يستطع أن يدخل ولده، ولم يكن ليفعل ذلك، والله عز وجل يقول : {وأُولُوا الأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أو لى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ}فيجعلها في ولده، إذن لقال الحسين (عليه السلام ) : أمر الله تبارك وتعالى بطاعتي كما أمر بطاعتك وطاعة أبيك، وبلغ في رسول الله(صلى الله عليه واله وسلم ) كما بلغ فيك وفي أبيك، وأذهب الله عني الرجس كما أذهب عنك وعن أبيك.
فلما صارت إلى الحسين (عليه السلام ) لم يكن أحد من أهل بيته يستطيع أن يدعي عليه كما كان هو يدعي على أخيه، وعلى أبيه، لو أرادا أن يصرفا الأمر عنه، ولم يكونا ليفعلا، ثم صارت حين أفضت إلى الحسين (عليه السلام ) ، فجرى تأويل هذه الآية: {وأُولُوا الأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ}، ثم صارت من بعد الحسين لعلي بن الحسين (عليه السلام ) ، ثم صارت من بعد علي بن الحسين (عليه السلام ) إلى محمد بن علي(عليه السلام ) »([7]).
ولنا أن نستنتج أن خصوصية الزهراء الصديقة (عليها السلام ) قد كشفها النبي (صلى الله عليه واله وسلم ) وآله (عليهم السلام ) من خلال هذه الآيات وغيرها، ولاسيما في تصور علاقتها بالسيدة مريم(عليها السلام ) ، ومدى تطابق صفاتهما وتماثلها من لحاظ، وتفاضل الزهراء عليها من لحاظ آخر. وقد أكدت هذه البيانات الرسالية نقض ودفع التوهم وانصراف الذهن لأفضلية السيدة مريم على الصديقة الكبرى (عليها السلام ) اعتماداً على مقامها القرآني، والتصريح باسمها، على حين لم يتصور ـ عند الغافلين والواهمين ـ مقام الزهراء الرسالي ومنزلتها الشاملة عند من سبقها بوجودها مصداقاً حياً لمرادات ومفاهيم النصوص القرآنية. لذا جاء تقرير ووصف النبي (صلى الله عليه واله وسلم ) افضلية الصديقة(عليها السلام ) على مريم (عليها السلام ) في اكثر من موقف، ملمّحاً في الوقت نفسه الى مقام ومنزلة مريم (عليها السلام ) وعلو مرتبتها كونهما سيدة النساء، وهذا الامر لا ينفي التفاضل بينهما وهو سنّة إلهية تكون تبعا للاجتباء والاصطفاء الإلهي والمسؤولية الرسالية التي تقترن بصاحبها، وعلى كل حال فقد روي عن ابن عباس قال: «إن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم ) كان جالساً ذات يوم وعنده علي وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام ) فقال: اللهم إنك تعلم أن هؤلاء أهل بيتي وأكرم الناس علي فاحبب من أحبهم، وابغض من أبغضهم، ووال من والاهم، وعاد من عاداهم، وأعن من أعانهم، واجعلهم مطهرين من كل رجس معصومين من كل ذنب، وأيّدهم بروح القدس. ثم قال: [يعني فاطمة] ... وإنها لسيدة نساء العالمين. فقيل له: يا رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم ) أهي سيدة نساء عالمها، فقال النبي (صلى الله عليه واله وسلم ) : ذاك لمريم بنت عمران، فأمّا ابتني فاطمة فهي سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين...»([8]) .
وتلحظ تأكيد أهل البيت (عليهم السلام ) على منزلة أمهم فاطمة (عليها السلام ) عند بيانهم لقول النبي الاكرم فعن المفضل بن عمر قال: «قلت لأبي عبدالله (عليه السلام ) أخبرني عن قول رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم ) في فاطمة: «إنها سيدة نساء العالمين» أهي سيدة نساء عالمها؟ فقال: ذاك لمريم كانت سيدة نساء عالمها، وفاطمة سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين»([9]).
أخلص إلى أن ثمة تماثل وتقارب بين مقام السيدة مريم العذراء (عليها السلام ) ، والسيدة الصديقة الشهيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام ) فهما ممن كانتا موضع عناية الخالق واجتبائه، ورعايته واصطفائه فهما سيدتا النساء، إلا أن الزهراء (عليها السلام ) اختصت بسيدة نساء الاولين والآخرين، وكانت مريم (عليها السلام ) سيدة نساء عالمها، كما أنهما من المحدّثات، مريم بشهادة القرآن، والزهراء (عليها السلام ) بشهادة أهل بيت([10])، وهما من المطهرات بنص الكتاب المجيد، والمخصوصات بالكرامات والإفاضات الإلهية، وهما قاعدة الدعوة للرسالتين السماويتين مريم أم السيد المسيح (عليه السلام ) ، وفــاطمة أم أبيها والمدافعة عن الدعوة الإسلامية في حياة النبي والخلافة والولاية بعد شهادته (صلى الله عليه واله وسلم ) ، وهما شريكتا الخطاب الإلهي في القرآن الكريم بآيات عديدة، أوضحت شبكة روحية قِيَميَّة في تمثـّل مريم (عليها السلام ) المصرح بها، المنصوص عليها قرآنياً، لفاطمة الزهراء (عليها السلام ) المكنى عنها، المشار إليها هدفاً في التأمل والنظر والتفكر وغاية للاطمئنان، والاعتقاد المستخلص من الاستدلال والاستنباط. عن أبي عبدالله الصادق (عليه السلام ) قال: «ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها مثلاً ضرب الله لفاطمة (عليها السلام ) وقال: إن فاطمة احصنت فرجها فحرّم ذريتها على النار»([11]) هذا غيض من فيض مما ذكر وعرف وما سواه فالله العالم به.
([1]) ظ: لفظ (مريم)، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، وانظر كذلك الآيات الآتية التي كنى فيها القرآن عن مريم (عليها السلام) منها مثلاً: آل عمران/36، 47 المائدة/75، مريم/19، 20، 22، 23، 25، 26، 27، 28، 32، الأنبياء/91 وغيرها.
([2]) مقامات فاطمة الزهراء/60.
([3]) ظ في ذلك مقامات فاطمة الزهراء/42 ومابعدها
([4]) «عن أم سلمة رضى الله عنها ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال لفاطمة$ ائتنى بزوجك وابنيه فجاءت بهم فالقى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم كساء فدكيا ثم وضع يده عليهم ثم قال اللهم ان هؤلاء أهل محمد وفي لفظ آل محمد فاجعل صلواتك وبركاتك على آل محمد كما جعلتها على آل ابراهيم انك حميد مجيد قالت أم سلمة رضى الله عنها فرفعت الكساء لأدخل معهم فجذبه من يدى وقال انك على خير» الدر المنثور: 5 / 198.
([5]) مقامات فاطمة الزهراء/20، 33، وفي هذا الباب الحديث المشهور عن «الإمام العسكري(عليه السلام): نحن حجج اللّه على خلقه، وجدّتنا فاطمة (عليها السلام) حجّة اللّه علينا» موسوعة الإمام العسكري: 2/265.
([6]) ظ على سبيل المثال: جامع البيان:3/407، تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم الرازي (327هـ): 3/24، تفسير القرطبي: 4/104، الكشاف: 1/282، وغيرها كثير.
([7]) البرهان في تفسير القرآن: 3/309 وظ كذلك: تفسير العياشي:1 / 249، الكافي: 1 /287، بحار انوار : 35 /210، وغيرها .
([8]) الأمالي للصدوق/575، ظ كذلك: روضة الواعظين/149، شرح الاخبار: 3/56، 520، مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي/292 والمختصر/197، سير اعلام النبلاء/2/126، الإصابة لابن حجر: 8/102، المستدرك: 3/157.
([9]) معاني الاخبار/107، ظ كذلك: دلائل الإمامة/149، شرح الاخبار: 3/520.
([10]) ويبدو أن اهل البيت (عليهم السلام) غالباً ما يوضحون ويظهرون مقام الزهراء في اوساط الناس هدفاً في ترسيخ معرفتها وتجسيد مكانتها الإلهية التي يغفل عنها فعن الصادق (عليه السلام ) قال: «سميت فاطمة محدثة لان الملائكة كانت تهبط من السماء فتناديها كما كانت تنادي مريم بنت عمران، فتقول: يا فاطمة، إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين. يا فاطمة، اقنتي لربك، الآية، وتحدثهم ويحدثونها. فقالت لهم ذات ليلة: أليست المفضلة على نساء العالمين مريم بنت عمران؟ فقالوا: إن مريم كانت سيدة نساء عالمها، وإن الله جعلك سيدة عالمك، وسيدة نساء الاولين والآخرين » دلائل الامامة/ 81، 152، علل الشرائع /1/182، بحارالانوار: 14/206، 43/78، تفسير نورالثقلين:1/337، الدر النظيم/456.
([11]) البرهان في تفسير القرآن/3/245، ظ كذلك مقامات فاطمة الزهراء (عليها السلام): 41، مانزل من القرآن في شأن فاطمة (عليها السلام) : 104.
تعليق