رغم كل هذا الأمان فمازالت الخشية في قلبي توجع روحي مع كل سؤال، لكني أحتاج لتلك الأسئلة، وإذا به يباغتني وأنا الذي كنت أرجو أن تنتهي مواضيعه، فقال: ما هو أصل الحلم في العربية؟ قلت: تعني اللين، ورجل حليم أي ليّن في المعاملة. فسألني: وما ارتباط هذا المعنى بحلم النوم؟ قلت: سهلة ياحاج لكونه يمثل السكون والهدوء (قلت مع نفسي لأتفلسف قليلاً برأس الحاج) قلت: هل تعلم ياحاج أن اللغة راحت أبعد من هذا المفهوم، عندما سوّغت لنا أن نقول: احتلم الغلام وهو محتلم... قلت مع نفسي والله لن أترك الحاج اليوم دون أن أتوسع في هذه المفردة ولاعتبرها شطارة أو تعلم أو فضول... قلت: يا حاج وما علاقة هذا الحاج بالحلمة قال يابني أعتقد صعبة عليك أستخراج الرابط وهو الحليب الذي يفرزه الثدي والذي يعتبر بدوره حلم الصبي فترة صمت وكأننا أنتهينا من المحاورة كلياً وقد بان التعب على كلينا وراح الحاج يندمج مع المذياع وهو ينشر عبق القرآن الكريم سرعان ما كسر الحاج رتابة الصمت ليقول لي: انتبه لقوله تعالى: (فَأَحْيَيْنا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) قلت: أي جعلنا حالها كحال الحي للانتفاع بها، وعلى هذا كيف نقول أن الله حي؟ فأجابني: هي مأخوذة من الحياة على التقدير لا على الحقيقة كما أن صفتةُ بانه موجود مأخوذة من الوجود، فالله حي لنفسه.
قلت مع نفسي: والله أذهلني هذا الرجل، فجمال هذا النقاش بذكاء التقاطاته... قلت: والله ياحاج أنا أشكرك وكانت خشيتي أن تتضايق من جهلي وكسلي وخفت على نفسي من الفشل. فقال الحاج: مهلاً الا تقف معي عند قوله تعالى: (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) كما قال الله تعالى: (وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) قلت مع نفسي: ياسبحان الله... ليست هناك كلمة دون اشتغال عند هذا الرجل، وكل كلمة أقولها تصبح مادة لدرس جديد، فتأمل فعلا في دقة التشخيص، واقرأ قوله تعالى: (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ).
يقول بعض العلماء: خشيت زيدا ولا يقال خشيت ذهاب زيد. قلت: يا حاج أتريد الصدق، أنا لم أفهم الفارق بينهما بعد؟! فابتسم الحاج بعدها ليقول: لغة ليس هناك فرق بمعنى واحد الا أن بين خوف الله وخشيته فرق، الخوف تألم النفس من العقاب والخشيه حالة شعورية من هيبتهِ، وهذه حالة لاتحصل إلا لمن اطلع على حال الكبرياء، ولذا قال الله تعالى: (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) فالخشية الاكرام والانعام.
قلت: والله يا حاج لم أكن أعلم أن سفري مفيد الى هذا الحد، فقد ازددت دراية وفهماً للكثير من المواضيع. استعدل الحاج في جلسته وكأني فتحت له موضوعا جديدا وقال: ما معنى الدراية؟ فحدثت نفسي: يارب أين كانت لي هذه الصدفة التي رغم جمالها مليئة بالإحراج. قلت: الدراية بمعنى الفهم. فصاح: صحيح، رائع أيها الرجل رائع...
خجلت أن أقول له أن مثل هذه الفواصل التعقيبية لم تعد تنفع عندي، وكلما أصدقها أرتطم بمفاجأة أكبر، ورحت أشرح للحاج وكلي ثقة بالنفس، لا أعلم لأنه لا يستقيم أن يسأل عما لا يعلم... (لا أفهم) تعني لا أفهم سؤالك... (لا أدري) لا أعلم ما الجواب... لأن الدراية علم يشتمل على المعلوم من كل وجوهه؛ وهي تفيد ما لا يفيده العلم.