إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

مكانة العفة والحياء ودوؤهما في بناء الشخصية

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مكانة العفة والحياء ودوؤهما في بناء الشخصية

    دور الأخلاق في بناء الشخصيّة
    لا شكّ أنّ الإنسان ذو بعدين ماديّ وروحيّ، وأنّ لكلٍّ منهما طريقة وأسلوباً يعمل الإنسان على تربيته وتنميته، وبهما تتقوّم إنسانيّة الإنسان، كما وتتفاوت نسبةً لطريقة الإشباع، وعمليّة بناء الذات، وتزكية وتهذيب النفس، وبالأخلاق الحسنة يتقوّى إيمان الإنسان، وتقوى إرادته وتزيد حصانته لنفسه، وتزيد مقدرته على كسب القيم والكمالات؛ ولهذا فإنّ تنمية الأخلاق في النفس الإنسانيّة لها أهمّيّة بالغة في بنائها.

    إذن، تتكوّن شخصيّة الإنسان ممّا يمتلكه من سمات وصفات أخلاقيّة. ولكلِّ إنسان "تميّزه عن غيره، ويُقال فلان ذو شخصيّة قويّة: ذو صفات متميّزة وإرادة وكيان مستقلّ"1. فكيان كلّ إنسان إنّما يتمثّل بما يمتلكه من صفات، ويُعرف كلّ إنسان بصفاته الّتي تُكوِّن شخصيّته.

    أمّا تعريفها من حيث المصطلح، فقد أشار علم النفس إلى أنّها: "نمط سلوكيّ مركّب، ثابت ودائم إلى حدٍّ كبير، يُميّز الفرد عن غيره من الناس، ويتكوّن من تنظيم فريد لمجموعة من الوظائف والسمات والأجهزة المتفاعلة معاً، والّتي تضمّ القدرات العقليّة، والوجدان أو الانفعال، والنزوع أو الإرادة، وتركيب الجسم، والوظائف الفيزيولوجيّة والّتي تُحدِّد طريقة الفرد الخاصّة في الاستجابة وأسلوبه الفريد في التوافق"2.

    وهنا يبرز دور الأخلاق من خلال دعوة الإنسان إلى تكوين الملكات الراسخة في النفس، فلكي يتّصف الفعل الإنساني بالفعل الأخلاقيّ لا بُدّ من أن يتوفّر فيه شرطان:
    1 - أن تكون النيّة لله تعالى.
    2 - أن يكون صادراً عن إرادة الإنسان.

    فالملكات منها الطالح ومنها الصالح، ولهذا على الإنسان أن يُفكِّر فيها جيّداً ويُدقِّق بها من أجل اجتثاث الأولى(الرذيلة) والقضاء عليها، وتقوية جذور الثانية(الفضيلة) للاستزادة منها. ويُطلق على هذه العمليّة بالتخلية والتحلية، وكلّ ذلك يكون وفقاً لشاكلته:﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً3. فإن كانت شاكلته وملكاته وباطنه سيّئاً فإنّه لن يخرج إلّا نباتاً خبيثاً نكداً، وإذا كانت ملكاته طاهرة وطيّبة فإنّ نباته يخرج طيّباً وطاهراً كما عبّر تعالى: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ4 5 .

    ويذكر الإمام الخميني أنّ الإنسان إنّما تتكوّن شخصيّته من خلال ما يمتلكه من ملكات، خبيثة كانت أو طاهرة وحسنة، فإذا: "كانت خلقة الإنسان في الباطن والملكة والسريرة إنسانيّة، تكون الصورة الملكوتيّة له صورة إنسانيّة أيضاً، وأمّا إذا لم تكن ملكاته ملكات إنسانيّة فصورته - في عالم ما بعد الموت – تكون غير إنسانيّة أيضاً، وهي تابعة لتلك السريرة والملكة"6.

    فالملكات الأخلاقيّة هي تلك الصفات الّتي يُمارسها ويقوم بها الإنسان، وتكون نابعة من داخله وباطنه بحيث تكاد تكون جزءاً من ذاته، فإذا كانت ملكاته الأخلاقيّة فاضلة وحسنة، فإنّها تؤثِّر على إنسانيّته وتعمل على بنائها داخليّاً وسلوكيّاً، وأمّا إذا كانت رذيلة وسيّئة، فإنّها تؤثِّر على باطنه. وبسبب ما يقترفه ويمتلكه من ملكات رذيلة فإنّه سيكون له شكل يتناسب مع هذه الصفات، وقد تأخذ أشكالاً مركّبة حسب قوى النفس، فقد يكون خلقه على صورة إحدى البهائم، أو السباع أو غير ذلك، "ومن الممكن أحياناً أن تتركّب الصورة الملكوتيّة من ملكتين أو عدّة ملكات، وفي هذه الحالة لا تكون على صورة أيٍّ من الحيوانات، بل تتشكّل له صورة غريبة، هذه الصورة المرعبة المدهشة والسيّئة المخيفة لن يكون لها مثيل في هذا العالَم"7. يُنقل عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أنّ بعض الناس يُحتجزون يوم القيامة على صوَر تكون أسوأ من صور القردة 8.

    في الحديث عن البراء بن عازب قال: كان معاذ بن جبل جالساً قريباً من رسول الله في منزل أبي أيوب الأنصاري، فقال معاذ: يا رسول الله أرأيت قول الله تعالى: ﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ﴾ الآيات فقال: "يا معاذ سألت عن عظيم من الأمر، ثمّ أرسل عينيه، ثمّ قال: يحشر عشرة أصناف من أمّتي أشتاتاً قد ميّزهم الله تعالى من المسلمين وبدّل صورهم بعضهم على صورة القردة، وبعضهم على صورة الخنازير، وبعضهم منكّسون أرجلهم من فوق، ووجوههم من تحت، ثمّ ّيسحبون عليها، وبعضهم عمى يتردّدون، وبعضهم صمّ وبكم لا يعقلون، وبعضهم يمضغون بألسنتهم يسيل القيح من أفواههم لعاباً يتقذّرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطّعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم مصلّبون على جذوع من نار، وبعضهم أشدّ نتناً من الجيف، وبعضهم يلبسون جباباً سابغة من قطران لازقة بجلودهم، فأمّا الّذين بصورة القردة فالقتات من الناس (النمّامون)، وأما الّذين على صورة الخنازير فأهل السحت، وأمّا المنكّسون على رؤوسهم فأكلة الربا، والعمي الجائرون في الحكم، والصمّ البكم المعجبون بأعمالهم، والّذين يمضغون ألسنتهم العلماء والقضاة الّذين خالفت أعمالهم أقوالهم، والمقطّعة أيديهم وأرجلهم الّذين يؤذون الجيران، والمصلّبون على جذوع من نار فالسعاة بالناس إلى السلطان، والّذين أشدّ نتناً من الجيف فالّذين يتمتّعون بالشهوات واللّذات، ويمنعون حقّ الله تعالى في أموالهم، والّذين هم يلبسون الجباب فأهل الفخر والخيلاء"9.

    أصول وأمّهات الأخلاق
    تعدّدت التعريفات حول علم الأخلاق إلّا أنّ الجميع يتّفق على أنّ علم الأخلاق يهدف إلى إيصال الإنسان إلى سعادته وكماله، ونذكر هنا تعريف العلّامة الطباطبائي حيث يقول:"هو الفنُّ الباحث عن الملكات الإنسانيّة المتعلِّقة بقواه النباتيّة والحيوانيّة والإنسانيّة، وتميّز الفضائل منها عن الرذائل ليستكمل الإنسان بالتحلّي والاتّصاف بها سعادته العلميّة، فيصدر عنه الأفعال ما يجلب الحمد العامّ والثناء الجميل من المجتمع الإنسانيّ"10.

    إذن، اتّصاف الإنسان بالملكات الإنسانيّة، يوصله إلى السعادة والكمال، وبها تستقيم إنسانيّته ويرتفع عن حيوانيّته. وبناءً عليه فإنّ في داخل الإنسان ثلاث قوى متصارعة، ولكلٍّ منها أهدافها وكمالها واستعمالاتها، ولكي يصل الإنسان إلى السعادة المطلوبة لا بُدّ من إحراز حدِّ الاعتدال فيها، فلا يخرج عنه إلى أحد حدّي الإفراط أو التفريط. ونتيجة لاعتدال هذه القوى واجتماع هذه الملكات ينتج عنها ملكة وقوّة رابعة تُسمّى بالعدالة، وبها تعتدل القوى الأخرى، ويُعطي لكلٍّ منها حقّها من الاعتدال.

    وفيما يلي رسم يُبيّن قوى النفس وحدّ الوسط والإفراط والتفريط فيها 11:
    الإفراط الاعتدال التفريط القوى
    الجزبزة أو السفه(1) الحكمة البله العاقلة/ الفكريّة
    الشره العفّة الخمود الشهويّة
    التهوّر الشجاعة الجبن الغضبيّة
    الظلم العدالة الانظلام العدالة
    فيصدر عن القوى أربع فضائل تُسمّى بأمّهات وأصول الأخلاق الفاضلة، ويتفرّع عنها العديد من الفضائل الأخلاقيّة، ويصدر عن كلّ واحدة من هذه الأمّهات رذيلتان فيُصبح المجموع ثمانية أصول للرذائل، ويتفرّع عن كلّ واحدة مجموعة رذائل أخرى 12.

    "فحدّ الاعتدال في القوّة الشهويّة – وهي استعمالها على ما ينبغي كمّاً وكيفاً – يُسمّى عفّة، والجانبان الخمود والشره، وحدّ الاعتدال في القوّة الغضبيّة هو الشجاعة والجانبان التهوّر والجبن، وحدّ الاعتدال في القوّة الفكريّة يُسمّى حكمة، والجانبان هما الجربزة والبلادة. وتحصل في النفس, نتيجة اجتماع هذه الملكات، ملكة رابعة هي كالمزاج وهي الّتي تُسمّى عدالة، وهي إعطاء كلّ ذي حقّ من القوى حقّه ووضعه في موضعه الّذي ينبغي له، والجانبان فيها الظلم والانظلام"13.

    إذن, تُمثِّل العفّة الأساس لمجموعة من الفضائل الّتي تتفرّع عنها، والّتي لها دور أساس في بناء شخصيّة الإنسان من خلال امتلاكه للملكات الأخلاقيّة الإنسانيّة الفاضلة.

    مرتكزات بناء الشخصيّة
    (الإيمان والعقل والحياء)

    تتقوّم شخصيّة الإنسان بعناصر ثلاثة: الإيمان والعقل والحياء. ويُمثِّل العقل القوام الأساس الّذي عليه ترتكز سائر العناصر، وقد أشارت الروايات إلى هذا الموضوع.

    فقد روى الأصبغ بن نباتة عن الإمام عليّ عليه السلام قال: "هبط جبرائيل على آدم عليه السلام فقال له: يا آدم إنّي أُمرت أن أُخيّرك واحدة من ثلاث فاخترها ودع اثنتين، فقال له آدم: يا جبرئيل وما الثلاث؟ فقال:العقل والحياء والدِّين، فقال آدم:إنّي اخترت العقل فقال جبرئيل للحياء والدِّين: انصرفا ودعاه، فقالا: يا جبرئيل إنّا أُمرنا أن نكون مع العقل حيث كان، قال فشأنكما وعرج "14.

    إذن، بالعقل يُكتسب الدِّين والحياء وبه يُطاع الله تعالى، فعن الرسول صلى الله عليه واله وسلم أنّه قال: "ألا، وإنّ أعقل الناس عبد عرف ربّه فأطاعه، وعرف عدوّه فعصاه، وعرف إقامته فأصلحها، وعرف سرعة رحيله فتزوّد لها"15. كما أنّه السبيل لكلّ خير، ولا يُدرك الخير إلّا به. وقد أكّد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ذلك بقوله: "الخير كلّه بالعقل ولا دين لمن لا عقل له"16. والحياء صفة تعمل على بناء إنسانيّة الإنسان ذكراً كان أم أنثى، وقد وردت روايات عديدة تصف الرسول والأئمّة عليهم السلام بأنّهم كانوا أشدّ الناس حياء.

    العلاقة بين الإيمان والحياء

    أكّدت الروايات على وجود علاقة بين الإيمان والحياء، وأنّ الحياء هو أساس له، فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: "لا إيمان لمن لا حياء له"17 ، وأيضاً عن الرسول صلى الله عليه واله وسلم : "الحياء هو الدِّين كلّه"18. وكلّما زاد إيمان الإنسان كلّما ازداد حياءً، وكذا العكس كلّما نقص حياؤه فهو دليل على نقص إيمانه، وقد أشار الإمام عليّ عليه السلام إلى هذه الحقيقة: "كثرة حياء الرجل دليل على إيمانه"19.

    تُبيّن الرواية الواردة عن الإمام الرضا عليه السلام: "الحياء من الإيمان"20، أنّ من يملك حياءً يملك ديناً وإيماناً، ومن لا حياء له لا دين له. كما أنّه إذا نقص الحياء فإنّ الإيمان ينقص بمقداره، والعلاقة وثيقة بين الإيمان والحياء. ويُشير الرسول صلى الله عليه واله وسلم إلى كون الحياء والإيمان مقرونين في "قرن واحد فإذا سُلب أحدهما تبعه الآخر"21، بمعنى أنّه من لم يكفّه الحياء عن القبيح فيما بينه وبين الناس، فلا يكفّه عن القبيح فيما بينه وبين ربِّه تعالى، ومن لم يستحي من الله عزّ وجلّ وجاهره بالقبيح فلا دين له.

    العلاقة بين العقل والحياء

    بما أنّ الحياء هو ترك القبيح، والقبيح هو مذموم عقلاً ومنهيٌّ عنه شرعاً، فإنَّ هذا يوحي إلى وجود علاقة بين الحياء والعقل، إذ كلّما ازداد حياء الإنسان ازداد عقله، والعكس صحيح أيضاً، فكلّما نقص من حيائه نقص من عقله بهذا المقدار، ومن لا حياء له فلا عقل له. جاء عن الإمام عليّ عليه السلام قوله:"أعقل الناس أحياهم" 22 وهو كذلك مفتاح كلّ خير 23، وسبب إلى كلّ جميل 24، وكلّ ذلك من العقل.

    إذن, العلاقة بين العقل والحياء واضحة، لأنّ العقل يدعو إلى الطاعة والخير والحياء، وأن الحياء هو خُلُق حسن، وأن من يتّصف به يُعدّ مالكاً له. وقد عُدّ حُسن الخلق دليلاً على العقل، فقد ورد عن الرسول صلى الله عليه واله وسلم : "أكمل الناس عقلاً أحسنهم خلقاً"25. وأيضاً عن الإمام عليّ عليه السلام: "أكملكم إيماناً أحسنكم أخلاقاً"26.
    فالعلاقة إذن ثلاثيّة، إذ إنّ كلّ واحد منها يؤثِّر ويتأثّر بالآخر ويُكمله، كما إنّ نقصانه أو ضعفه يؤدّي إلى نفي أو نقص الآخر، فالعقل سبب لزيادة الحياء والإيمان، والإيمان سبب للحياء، والحياء مجلبة للدِّين.

    العلاقة بين العقل والإيمان
    كما أنّ العقل يُعتبر القوام الأساس للإنسان، وبناء عليه تُلحظ فيه سائر الصفات والأخلاقيّات، كذلك فإنّ الإيمان والدِّين الّذي هو عبارة عن مجموعة تكاليف وسلوكيّات، لا يكتمل ولا يستقيم إلا بالعقل. فمن لا عقل له حتماً لا دين له، كما ورد عن الرسول صلى الله عليه واله وسلم : "قوام المرء عقله، ولا دين لمن لا عقل له"27. بل جعلت كمّيّة العبادة ومقدارها حسب عقل المرء، فعنه صلى الله عليه واله وسلم : "لكلّ شيء دعامة ودعامة المؤمن عقله، فبقدر عقله تكون عبادته لربِّه"28. وقد وصفت الروايات العاقل: بـأنّه "لا يُفارقه الحياء"29.
    وهو الذي يتجنّب ما يُسخط الله تعالى ويُبعده عن ساحة رضاه، وقد ورد عن الإمام عليّ عليه السلام: "العاقل من تورّع عن الذنوب وتنزّه عن العيوب"30.

    فالعقل أحد مرتكزات الإيمان وكماله، فعن المعصوم عليه السلام: "ثلاث من كنّ فيه كمل إيمانه: العقل والحلم والعلم"31.

    العفّة ومكانتها في بناء الشخصيّة
    بما أنّ العفّة تُمثّل إحدى أمّهات الفضائل الأخلاقيّة الأربع الناتجة عن اعتدالٍ في قوى النفس، وأنّها جميعاً تُساهم في بناء إنسانيّة الإنسان من خلال اكتساب الملكات الفاضلة، فالعفّة تُساهم مساهمة فعّالة في بناء شخصيّة الإنسان من خلال ما يتفرّع عنها من صفات أخلاقيّة، وقد عدّها العلّامة الطباطبائي إلى ثماني عشرة فضيلة 32، وكلّ مجموعة من هذه الفضائل تعمل على تهذيب جانب من شخصيّة المرء وتربيته، بحيث يؤدّي افتقاد بعضها إلى خلل واضح فيها، وقد أشار إلى ذلك العديد من الروايات الّتي ذكرناها في هذا الكتاب وغيرها.

    وبما أنّ العفّة تصدر عن القوّة الشهويّة ولها حالتا إفراط وتفريط وهما الشره والخمود، فإنّه يصعب انقيادها للقوّة العاقلة فلا تأتمر بأوامر العقل ونواهيه، وإنّما بإمكان القوّة الغضبيّة قهرها وزجرها. فكان للصفات الأخلاقيّة الصادرة عنها، فضائل كانت أم رذائل، دور مهمّ وخطير في بناء أو هدم شخصيّة الإنسان، فهو سرعان ما يقع فريسة لملذّاته وشهواته ويستجيب للإغراءات الدنيويّة. فإذا تبع شهوته كما جاء في الرواية أصبح أخسّ من الحيوان، والقرآن الكريم شبّه متّبعي الشهوات بالأنعام: ﴿أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ33.

    ولهذا عُدّت مجاهدة النفس عن الصفات الرذيلة وتحويلها إلى ملكات حسنة راسخة في النفس الجهادَ الأكبر. وهو أمر يحتاج إلى معرفة ومِران وممارسة، لا أثناء تحصيل الملكات فحسب، بل بعدها من خلال المواظبة على حفظها ومراقبتها من التزلزل والتبدُّل. وهذه الملكات الأربع الصادرة عن قوى النفس، وما يتفرّع عنها من ملكات، تستدعيها الطبيعة الفرديّة المجهّزة بأدواتها: "وهي كلّها حسنة لأنّ معنى الحسن الملاءمة لغاية الشيء وكماله وسعادته، وهي جميعاً ملائمة مناسبة لسعادة الفرد"34.

    وقد ذكر علماء الأخلاق الفضائل المتفرِّعة عن العفّة وأوصلوها إلى ستٍّ وعشرين فضيلة، وممّا ذُكر من فضائل العفّة: "الحياء، والخجل، والمسامحة، والصبر، والسخاء، وحسن التقدير، والانبساط، والدماثة، والانتظام، وحسن الهيئة، والقناعة، والهدوء، والورع، والطلاقة، والمساعدة، والسخط، والظرف"35.

    معاني هذه الفضائل 36
    السخاء: هو وسط بين التبذير والتقتير، وهو سهولة الإنفاق وتجنُّب اكتساب الشيء من غير وجه ومبرّر.
    حسن التقدير: هو اعتدال في النفقات احترازاً عن طرفي التقتير والتبذير.
    الدماثة: حسن هيئة النفس الشهوانيّة في نحو انجذابها واشتياقها إلى اللّذّات والمشتهيات.
    الانتظام: مناسبة الشيء للشيء الآخر.
    حسن الهيئة: محبّة الزينة الواجبة الّتي تميل إليها النفس.
    القناعة: حسن تدبير المعاش من غير خداع ولا طمع.
    الهدوء: سكون النفس ممّا تناله من اللّذات الجميلة.
    الورع: تزيين النفس بالأعمال الصالحة الفاضلة طلباً لكمال النفس وتقرّباً إلى الله من دون رياء.
    الطلاقة: المزاح بالأدب من غير فحش وافتراء.
    الظرف: أن يعرف الإنسان طبقات الجلساء ويحفظ أوقات الأنس ويُعطي كلاماً لمن هو أهله من المباسطة في الوقت معه.
    المسامحة: ترك الخلاف والإنكار على المعاشرين في الأمور الاعتياديّة إيثاراً للحفاظ على لذّة المخالطة والعشرة.
    التسخّط: عدم الاغتمام بالخيرات الواصلة إلى من لم يستحقّها وبالشرور الّتي تلحق من لا يستحقّها.

    قد أضاف العلّامة الطباطبائي صفات أخرى وهي: الدعة، الوقار، الحرّيّة، المسالمة، حسن الكرم، الإيثار، المسامحة، النبل، المواساة 37.

    وأما الحياء فرغم أنّه متفرِّع عن العفّة إلّا أنّه أصل لتسع فضائل، وجاء عن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله وسلم :"أمّا الحياء فيتشعّب منه اللّين، والرأفة، والمراقبة لله في السرِّ والعلانية، والسلامة، واجتناب الشرّ، والبشاشة، والسماحة، والظفر، وحسن الثناء على المرء في الناس، فهذا ما أصاب العاقل بالحياء فطوبى لمن قبل نصيحة الله وخاف فضيحته 38.

    وأمّا الرذائل المندرجة تحت حدّي العفّة الإفراطي والتفريطي، وهما الشره وخمود الشهوة، فهي:الوقاحة، التخنُّث، والتبذير والتقتير، والرياء، والهتكة، والكزازة، والمجانة، والعبث والتحاشي، والشكاسة، والملق، والحسد، والشماتة".

    معاني الرذائل 39
    - الوقاحة: هي لجاج النفس في تعاطي القبيح من غير احتراز من الذمّ.
    - التخنُّث: حال يعتري النفس من إفراط الحياء يقبض النفس عن الانبساط قولاً وفعلاً.
    - التبذير: إفناء المال فيما لا يجب وفي الوقت الّذي لا يجب وأكثر ممّا يجب.
    -التقتير: الامتناع عن إنفاق ما يجب، وسببه البخل والشحّ واللؤم.
    -الرياء: التشبُّه بذوي الأعمال الفاضلة طلباً للسمعة والمفاخرة.
    -الهتكة: الإعراض عن تزيين النفس بالأعمال الفاضلة والمجاهرة بأضدادها.
    -الكزازة: الإفراط في الجدّ.
    -المجانة: الإفراط في الهزل.
    -العبث: الإفراط في العبث.
    -التحاشي: إفراط في التبرُّم بالجليس.
    -الشكاسة: مخالفة المعاشرين في شرائط الأنس.
    -الملق: التحبُّب إلى المعاشرين مع التغافل عمّا يلحقه من عار الاستخفاف.
    -الحسد: الاغتمام بالخير الواصل إلى المستحقّ الّذي يعرفه الحاسد.
    -الشماتة: الفرح بالشرّ الواصل إلى غير المستحقّ ممّن يعرفه الشامت.

    إذن، تُمثّل العفّة إحدى الفضائل الأربع والّتي لها دور أساس في بناء شخصيّة الإنسان من خلال امتلاكه للملكات الأخلاقيّة الإنسانيّة الفاضلة.
    * العفة والحياء, سلسلة ريحانة , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

    1
    sigpic

  • #2
    العفّة والحياء ودورهما في بناء الشخصيّة

    الحياء
    يُمثِّل الحياء صفة يرغب بها الناس ويمتدحونها ويذمّون نقيضها، لما تستبطنه من ردع عن المعاصي والقبائح، ولما تؤدّي إلى الورع عن المعاصي، عرّفها بعضٌ بـ: "انقباض النفس عن القبيح وتركه. لذلك يُقال حييّ فهو حي واستحيا فهو مستحي"1. وهذا الحياء خاصٌّ بالإنسان وهو يختلف عن حياء الله تعالى، فقد ورد عن الصادق عليه السلام: "إنّ الله يستحيي من أبناء الثمانين أن يُعذّبهم"2 ، فليس يُراد به هنا انقباض النفس، إذ هو تعالى منزَّه عن الوصف بذلك، وإنّما يُراد به ترك تعذيبهم، وعلى هذا روي: "إنّ الله حييّ" 3 أي: "تارك للقبائح فاعل للمحاسن"4. وهو "التوبة والحشمة، وقد حيى منه حياء واستحيا أو استحى"5.

    جاء عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أنّه قال: "الحياء شعبة من الإيمان"، وعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: "الحياء من الإيمان والإيمان في الجنّة"6.

    وقد يتساءل بعضُ الناس كيف جُعل الحياء وهو غريزة عند الإنسان، شعبةً من الإيمان الّذي هو اكتسابٌ. والجواب: هو أنّ الشخص المستحي ينقطع بواسطة الحياء عن المعاصي، وإن لم تكن له تقيّة (تقوى) داخليّة، فصار كالإيمان الّذي يقطع عن المعاصي ويحول بين المؤمن وبينها، فقد جاء عن ابن الأثير قوله: "وإنّما جُعل الحياء بعض الإيمان لأنّ الإيمان ينقسم إلى إيمان بما أمر الله به، وانتهاء عمّا نهى الله عنه، فإذا حصل الانتهاء عن القبائح بالحياء كان بعض الإيمان" 7. ومنه الحديث: "إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت"8، والمراد أنّه إذا لم يستحِ الإنسان صنع ما شاء، لأنّه لا يكون له حينها حياءٌ يحجزه عن المعاصي والفواحش.

    العفّة
    أمّا لغة: فقد ورد عن ابن منظور أنّها "الكفّ عمّا لا يحلّ ويَجمُلُ، عفّ عن المحارم والأطماع الدنية يعِفُّ عِفّة وعفا وعفافاً فهو عفيف، وعفّ أي كفّ"9.
    أمّا اصطلاحاً: فقد عرّفها النراقي "انقياد القوّة الشهويّة للعاقلة فيما تأمرها به وتنهاها عنه حتّى تكتسب الحريّة وتتخلّص عن أسر عبوديّة الهوى"10.
    وقد عرّفها أيضاً في مكان آخر بأنّها: "عبارة عن ملكة انقياد القوّة الشهويّة للعقل حتّى يكون تصرّفها مقصوراً على أمره ونهيه، فيقدم على ما فيه المصلحة وينزجر عمّا يتضمّن المفسدة بتجويزه، ولا يخالفه في أوامره ونواهيه"11.

    وهي من الصفات الممدوحة لدى الناس، فقد عُرِّفت بأنّها الكفّ عمّا لا يحلّ القيام به من الأفعال القبيحة والشنيعة 12، وهي: "حصول حالة للنفس تمتنع بها عن غلبة الشهوة، والمتعفِّف هو المتعاطي لذلك، بضربٍ من الممارسة والقهر، وأصله الاقتصار على تناول الشيء القليل الجاري مجرى العفافة والعفّة أي: البقيّة من الشيء"13. وأغلب الأخبار والروايات تُشير إلى عفّة البطن والفرج، وكفّهما عن مشتهياتهما المحرّمة، ويدلّ على أنّهما من أفضل العبادات لكونهما أشقّهما على النفس، وملازمة النفس لهذه المشتهيات منذ الصغر حتّى صارت جزءاً منه ولهذا يشقّ عليه مجاهدة نفسه، وقد ورد عن الإمام أبي جعفر عليه السلام: "إنّ أفضل العبادة عفّة البطن والفرج"14.

    منشأ العفّة والحياء
    إنّ للعفّة والحياء منشأين

    الأوّل: منشأ فطريّ: وقد حفلت الروايات بذلك، وأشارت إلى أنّهما من الأمور الفطريّة، ومن لوازم الفطرة لدى الإنسان، وهما من جنود العقل أيضاً... فالعفّة والحياء والخجل من لوازم الفطرة البشريّة، كما أنّ التهتُّك والفحش وعدم الحياء على خلاف ذلك 15. وهي تظهر على الإنسان وحركاته بشكل جليٍّ وواضح، إذ بمجرّد تعرُّضه لحادث أو أمر حرج فإنّ العفّة والحياء يظهران عليه تلقائيّاً من دون حاجة إلى التعلُّم والاكتساب.

    الثاني: منشأ بيولوجيّ: وقد أشارت الدراسات إلى أنّ للحياء منشأًً بيولوجيّاً يحصل إثر "نشاط الغدد التناسليّة على الصفات الجنسيّة للذكر والأنثى، وهذه الصفات تنقسم إلى قسمين أساسيّة وثانويّة. وتتمثّل الصفات الأساسيّة في شكل ووظيفة الأعضاء التناسليّة، وفي قدرة الشخص على التناسل، أمّا الصفات الثانويّة فتتمثّل في تمييز الرجل بضخامة تكوينه وقوّة عضلاته والجرأة والغلظة، وفي تمييز المرأة بنمو صدرها وتركُّز الدهن في أماكن خاصّة من جسمها وبالاستحياء والرقّة"16.
    فالحديث عن وجود وبروز الاستحياء لدى الفتاة أثناء نشاط الغدد التناسليّة وتغيير جسدها، إشارة إلى عامل الإثارة والإغراء الّذي يصدر عن الفتاة أمام الرجال، ولذا كان الاستحياء حاجزاً ومانعاً وحصناً لها من الوقوع في الفساد وحفظ نفسها من ذلك.

    العلاقة بين العفّة والحياء
    رغم أنّ العفّة تُشكِّل إحدى الفضائل الأخلاقيّة وتُعدّ واحدة من أمّهات الفضائل الأربع (العفّة، الشجاعة، الحكمة، والعدالة) 17، ويُمثِّل الحياء فرعاً من فروع العفّة، فإنّ العلاقة بينهما وثيقة جدّاً تكاد تخفى على بعضهم لدرجة أنّه يظنّ أنّهما بمعنى واحد، لكن يظهر للمتمعِّن أنّ الحياء، وإن كان فرعاً من فروع العفّة، إلّا أنّ له دوراً كبيراً في ثبات العفّة وشدّتها لدى الإنسان، إذ كلّما اشتدّ حياء المرء كلّما زادت عفّته، فعن الإمام عليّ عليه السلام: "على قدر الحياء تكون العفّة"18 ، وذلك لأنّ الحياء هو ترك القبيح 19، كما جاء في الروايات، ويصدّ عن الفعل القبيح ، وكلّما اشتدّ وازداد حياء المرء، كلّما ابتعد عن القبيح والمعاصي، فهو كفّ وابتعاد عنها، وهذا هو معنى العفّة. ولا يعني ذلك غياباً لاستعمال إرادة الإنسان، بل للإرادة دور مهمٌّ من أجل الوصول إلى حالة تمتنع بها النفس وتتحصّن من غلبة غريزة الشهوة والوقوع في الملذّات والشهوات غير المشروعة، فقد جاء في الحديث عن الإمام عليّ عليه السلام: "سبب العفّة الحياء"20. صحيح أنّ حياء الإنسان من فعل القبيح ينبغي أن يكون نابعاً من ذاته، لكن أحياناً قد يحصل الحياء ويكون حياءً من الناس، حتّى إذا ما اختلى بنفسه قام بما يُريده،إلّا أنّ للحياء هنا درجات ومراتب، وكلّ مرتبة تُمهِّد للأخرى.

    ولهذا فإنّ الحياء من الناس، وترك القبيح استحياءً منهم، وإن لم يكن مندرجاً تحت عنوان الفعل الأخلاقيّ إلّا أنّ الاستمرار به ومداومة القيام به يؤدّي شيئاً فشيئاً إلى الانتقال للمراتب العليا للحياء، ليصل به إلى مرتبة أعلى وهي الحياء من النفس، ثمّ بعدها الحياء من الله تعالى، وهذا هو الإيمان. فقد ورد عن الإمام العسكريّ عليه السلام: "من لم يتقّ وجوه الناس لم يتقّ الله"21. ولهذا اعتبرت العفّة إحدى ثمرات الحياء، ولهذا أشار الإمام عليّ عليه السلام: "أصل المروءة الحياء وثمرته العفّة"22.

    الفرق بين الحياء المذموم والحياء الممدوح
    ينقسم الحياء إلى قسمين: ممدوح ومذموم، وكونه صفة أخلاقيّة لا يعني كونه ممدوحاً بالمطلق، فهو كأيّ صفة أخلاقيّة لها حدّا إفراط وتفريط وحدّ وسط، والإنسان بنفسه يُمكنه أن يحوِّله إلى مذموم أو ممدوح، تبعاً لعمله وكيفيّة الاستفادة منه، لذا فما كان من العقل والدِّين فهو ممدوح، وما كان من الحمق والجهل فهو مذموم، واليه أشار الرسول صلى الله عليه واله وسلم بقوله: "الحياء حياءان: حياء عقل وحياء حمق، فحياء العقل العلم وحياء الحمق الجهل"23.

    الحياء المذموم: هو الحياء المنبثق من عدم الثقة بالنفس، والخوف من مواجهة الناس على صعيد محادثة أو مقابلة، وإظهار الحقّ وما ينبغي إظهاره، وهذا ما يُسبِّب الجمود والانطواء للشخص ويضعف من شخصيّتة، ويقيّد طاقاتها ويعيق تقدُّمها وتطوّرها، فهذا من قسم الحياء المذموم وهو سلبيّ، وقد نهى الإسلام عنه لأنّه يمنع من التعلُّم والتفقُّه في الدِّين ويمنع الرزق، ويحدّ الشخصيّة، ويُعطِّل قدراتها، ويَحرم المرء من الكثير من الأمور الّتي تواجهه. وبتعبير الرواية هو حرمان، فقد ورد عن الإمام عليّ عليه السلام: "قُرن الحياء بالحرمان" 24 لأنّه يحرم الإنسان من الكثير، فهذا الحياء هو المذموم، وكلّ ما من شأنه أن يحرم الإنسان ويُقتّر عليه في عيشه وعلمه ويحدّ من علاقاته الاجتماعيّة وتفكيره فهو مذموم، وجاء أيضاً: "الحياء يمنع الرزق"25.

    الحياء الإيجابي أو الممدوح: هو ذلك الّذي يجعل المرء يستحي من مخالفة الله وارتكاب نواهيه، والتجاوز لحدوده الشرعيّة، فهو حياء ينبثق من الخوف منه تعالى، و يعني الدقّة والحذر الشديدين في أيِّ أمر، فهو حياء إيمانيّ إلهيّ. فكلُّ ما من شأنه أن يدفع بالإنسان إلى التعلُّم والتفقُّه في الدِّين وكسب العيش وإظهار الحقّ وغيرها، فلا داعي للحياء فيه، ولهذا جاء النهي عن الحياء في الدِّين.

    وإنّ من أهمِّ ما يُفرّق بين الحياءين، هو أنّ الحياء السلبيّ لا يُمثِّل حصانة قويّة للإنسان،لأنّه حياء معرّض للزوال والذوبان، بينما الحياء الإيجابيّ هو حياء راسخ وعميق، لأنّه ينبثق من أسس إيمانيّة وخوف من مخالفة الله تعالى وعصيانه. ثمّ إنّ هذا الاختلاف بين الحياءين هو ثمرة العفّة والاحتشام، الّذي ينشأ من شجرة الحياء الإيماني وليس الحياء الطبيعيّ، إذ إنّ الحياء الناشئ من الطبع والعادة لا ينتج بالضرورة حبّ الاحتشام والعفّة26.

    والمراد من الحياء الطبيعيّ هنا هو الّذي لا يكون له منشأ إيمانيّ.

    الفرق بين الحياء والخجل
    قد مرّ تعريف الحياء وأنّه قسمان ممدوح ومذموم، أمّا الخجل فإنّه يفترق عن الحياء من حيث موقعه، فقد ذُكِرَ أنّه من الذلّ والدهشة وهو استرخاء، يُقال "رجل خجل وبه خجلة أي حياء، والخجل: التحيُّر والدهشة من الاستحياء وخجل الرجل خجلاً: فعل فعلاً فاستحى منه ودهش وتحيّر"27.

    فقد يقع الخجل من الإنسان موقع الذلّ والحيرة والدهشة، ويمنعه من اتّخاذ الموقف المناسب إزاءه. وهذا من الصنف المذموم، ويتلاقى مع الحياء المذموم الّذي هو من الحمق والجهل.

    ويذكر الغزالي 28 الفرق بينهما فيُشير إلى أنّ كلّاً من الحياء والخجل من متفرِّعات العفّة، إلّا أنّ الحياء هو وسط بين الوقاحة والخنوثة ويُستعمل في الانقباض والامتناع عن القبيح، وعمّا يظنّه المستحيي قبيحاً، وقيل هو ألمٌ يعرض للنفس عند الفزع من النقيصة والذمّ والتصغير، وقيل إنّه تقصير يقع فيه الإنسان أمام من هو أفضل منه، وقيل إنّه رقّة الوجه عند إتيان القبائح وتحفّظ النفس عن مذمومة يتوجّه عليها الحقّ فيها. وهذا ما يحصل عادة لدى الصبيان والنساء دون الرجال.

    وأمّا الخجل فهو فترة من النفس لفرط الحياء، وإنّما يستحيي الإنسان ممّن يكبر ويعظم في نفسه، فأمّا من يستحيي من الناس، فنفسه أخسّ عنده من غيره، ومن لا يستحيي من الله فلعدم معرفته به تعالى. ولذلك قال الإمام عليّ عليه السلام: "استحيوا من الله حقّ الحياء"29.

    وقوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى30 ، إشارة إلى أنّه كلّما أحسّ في نفسه أنّ الله يراه فيستحيي لا محالة منه إن كان متديّناً معظِّماً له تعالى، كما قال عليه السلام: "لا إيمان لمن لا حياء له"31 ، لأنّ الحياء لدى الإنسان يُمثِّل أوّل إمارات العقل، والإيمان آخر مراتب العقل، وكيف ينال المرتبة الأخيرة من لم يُجاوز الأولى؟

    إذن، ضعف النفس وعدم ثقتها اتّجاه موقف ما يُسبِّب خجلاً فيمنع الإنسان من القيام به أو الانتهاء عنه وهو مذموم، بينما إذا كان صادراً عن رقّة الوجه ومنعها عن إتيان القبائح فهو من الممدوح عقلاً و شرعاً وهو من الإيمان، وأوّل درجاته، وأمارة من أمارات العقل، كما جاء عن الأمير عليه السلام: "أعقل الناس أحياهم"32.
    * العفة والحياء, سلسلة ريحانة , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

    sigpic

    تعليق

    المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
    حفظ-تلقائي
    Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
    x
    يعمل...
    X