استقراء التطوّر الفكري
في مسيرة التراث المهدوي الشيعي
في مسيرة التراث المهدوي الشيعي
الباحث مجتبى السادة- السعودية - صفوى
بحث مشارك في مسابقة خاتم الأوصياء (عجّل الله فرجه) للإبداع الفكري وحاز على المركز الخامس
العقيدة المهدويَّة قضيَّة عامَّة تخصُّ البشرية كلِّها، وهي أيضاً عقيدة مركزية في الدين الإسلامي، وقد كتب العلماء جيلاً بعد جيل وإلى زماننا هذا، مصنَّفات عديدة في العقيدة المهدويَّة ومن جوانب شتّى، حتَّى غدا البحث في المهدويَّة ميداناً معرفياً له مزاياه المنفردة، وأتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) في الطليعة، ممَّا شكَّل ثروة فكرية هائلة.
تواجه الباحث حول التراث المهدوي الشيعي مصاعب كبيرة، من قبيل أنَّ المعلومات والبيانات المتوفِّرة حول هذا الموضوع لا يمكن أن تكون وافية لدراسة قائمة على الموضوعية ومنهج البحث العلمي، وذلك للحجم الهائل لهذا التراث وسعته، بالإضافة لضياع الكثير من مفرداته. ولذا انبثقت هذه الدراسة التي سنحاول فيها إن شاء الله: دراسة التطوّر الفكري والمعرفي في الثقافة المهدويَّة الشيعية على ضوء المسار التاريخي، ورغم أهمّية هذا الموضوع إلَّا أنَّه لم ينل نصيبه من اهتمام الباحثين والمختصّين إلَّا قليلاً، وظلَّ يفتقر للدراسات التي تتناول تاريخ تطوّره، علماً بأنَّنا لسنا في مقام الرصد والاستقصاء لتلك المصنَّفات التي عنيت بتدوين القضيَّة المهدويَّة.
من الحقائق الثابتة: أنَّ العقيدة المهدويَّة منذ فجر التاريخ وإلى يوم القيامة لن تتغيَّر أو تتطوَّر، ولكن فهمنا لها هو الذي يتغيَّر ويتطوَّر، ومع مرور الأيّام نستوعب مفاهيمها أكثر فأكثر. إذاً دراسة التراث المهدوي الشيعي والتغيّرات التي طرأت عليه عبر مراحل التاريخ، تعطينا فكرة واضحة عن تطوّر فهم الإنسانية واستيعابها للمهدوية، علماً بأنَّ إدراكنا في الوقت الحالي لا زال قاصراً للإحاطة بجميع جوانبها حيث يخيم عليه ضباب وحجاب (الغيبة).
لقد تشكَّل التراث المهدوي الشيعي على مدى مساحة من الزمن تزيد على (١٤٠٠عام) تطوَّرت فيها الأفكار والمعارف والعلوم. ومثل هذه المساحة الزمنية تتطلَّب أن نندفع لالتقاط عناصر هذا التطوّر وفق سياق المسيرة التاريخية، وهذا يتطلَّب منّا دراسة مجمل الظروف والمؤثِّرات ومناخات المعرفة والفكر والسياسة والأحداث بشكل عام، وعليه فما نُقدِّمه هنا هو رؤية أوَّلية لتقويم تطوّر الأداء الفكري في التراث المهدوي.
إنَّ استقراء التطور المعرفي المهدوي ومن خلال دراسة شاملة للكتب ذات الشأن المهدوي يمكن أن نختزله في ثماني مراحل وأطوار أساسية، سنتحدَّث بتفصيل مناسب عن كلِّ واحدٍ من هذه الأطوار -وهذا هو صلب البحث-، ونُسلِّط الضوء على المستجدّات المتراكمة في الثقافة المهدويَّة عبر المسيرة التاريخية، وتأثير الأوضاع السياسية على النتاج الفكري المهدوي، ونبدأ من فجر التاريخ مروراً بالعصر الإسلامي ووقتنا المعاصر واستشفاف أولويات المرحلة وآفاق المستقبل.
علماً أنَّ اهتمامنا في هذا البحث لن ينصبَّ على الكمِّ وإنَّما على الكيف. ونُحِبُّ أن نجيب باختصار على تساؤل قد يثار لمن يقرأ هذا البحث، وخاصَّة لمن يطَّلع على سعة التراث المهدوي الشيعي، فيتعجَّب من كيفية استعراض هذا التراث وقراءة سياقه ومساره في هذه الصفحات المحدودة، والجواب على ذلك من عدَّة وجوه:
أوَّلاً: أنَّ التراث المهدوي الشيعي مع كثرته وسعته ممتلئ بالتكرار.
ثانياً: أنَّنا في هذه الدراسة سنُركِّز على القضايا الكبرى التي تميَّز بها التراث المهدوي في مراحله التاريخية، ولا نهتمُّ كثيراً بالتفاصيل.
ثالثاً: نُسلِّط الضوء على الأطوار الفكرية وعلاقة الأوضاع السياسية آنذاك على التراث المهدوي وما تضمَّنه من تطوّر أو انكماش أو تغيّرات جوهرية في مستواه الفكري.
وفي ختام هذه المقدَّمة نتمنّى أن يكون هذا الجهد المتواضع نواة وباكورة لبحوث ودراسات قادمة في مثل هذا الموضوع، ونأمل أن يفتح هذا العمل البحثي باباً مهمّاً لدراسات مستقبلية تقوم ببحوث تحليلية وبنقد موضوعي للتراث المهدوي الشيعي.
التراث المهدوي الشيعي:
يُعرَّف على أنَّه: مصطلح شامل يتَّسع لكلِّ ما له علاقة بالإمام المهدي (عليه السلام) من نصوص القرآن والسُّنَّة واجتهادات العلماء، وهو لا يقتصر بالضرورة على الإنتاج الفكري، بل يتَّسع ليشمل كلَّ ما خلفه الشيعة عبر العصور من أشكال متعدِّدة ثقافية وفنّية وفكرية، وبشتّى اللغات وفي كلِّ بقعة من بقاع الأرض، وبعبارة مختصرة: هو السجل الكامل للنشاط الشيعي في مجال القضيَّة المهدويَّة.
إنَّ التراث المهدوي الشيعي تتَّضح أبرز صوره في الكتب والمصنَّفات وضروب التأليف التي تعطي انطباعاً كبيراً عن أهمّية القضيَّة المهدويَّة، والمحاضرات الصوتية للعلماء، والشعر المهدوي بشتّى أشكاله، وفي العصر الحديث الأفلام الوثائقية المهدويَّة، بالإضافة للأشكال الأُخرى من أنواع التراث، ممَّا كان له بالغ الأثر في المحافظة على المهدويَّة الأصيلة وصونها من الانحراف والتضليل.
قبل بدء البحث:
تواجه الباحث حول التراث المهدوي الشيعي مصاعب كبيرة، من قبيل أنَّ المعلومات والبيانات المتوفِّرة حول هذا الموضوع لا يمكن أن تكون وافية لدراسة قائمة على الموضوعية ومنهج البحث العلمي وذلك للأسباب التالية:
١- الكتب والمصنَّفات الشيعية القديمة التي كُتِبَت في مجال العقيدة المهدويَّة تكاد تكون كلُّها مفقودة، وأنَّ معظم التراث المهدوي الشيعي في مرحلة صدر الإسلام الأوَّل وكذلك في عصر الغيبة الصغرى قد ضاع تماماً، ولا نجد في عصرنا الحالي إليه سبيلاً.
٢- محاربة السلطات الحاكمة الظالمة للعقيدة المهدويَّة ومحاولة تحريف مفاهيمها، كونها تُمثِّل التهديد الحقيقي لتلك الأنظمة، وبالخصوص إبّان الدولة الأُموية والعبّاسية، ممَّا دفعها لاتِّخاذ بعض الإجراءات بمنع تدوين أيِّ حديث شريف أو كتابة أيِّ شيء له علاقة بالمهدي (عليه السلام).
٣- انحياز معظم الحكومات (قديماً وحديثاً) إلى مذهبها الديني، فتؤكِّد على مذهبها وتنشر كتب المتون والشروح حوله، وتلغي لصالحه تراث الفِرَق الإسلاميَّة الأُخرى، ويصل منطق الإلغاء والتغييب إلى حدِّ الحظر والمنع لكتب المذاهب المختلفة، ممَّا أثَّر سلباً على التراث المهدوي الشيعي.
٤- إنَّ ممَّا يزيد مشقَّة الباحث في دراسة شاملة عن التراث المهدوي، انعدام أو قلَّة توفّر الدراسات المهدويَّة التاريخية المتخصِّصة والتي تواكب التغيّرات التي طرأت على هذا التراث في العصور المختلفة، ممَّا يجعل ذلك تحدّياً رئيسياً في هذا الإطار.
من هنا نلاحظ أنَّ البحث حول التراث المهدوي بالغ العُسر، فإنَّ ما في متناول أيدينا من أو عن هذا التراث لا يعطينا معلومات شاملة وافيه عنه، حيث إنَّ الكثير من كتب التراث القديمة ضائع.
الهدف من الدراسة:
إنَّ ملامح الثقافة المهدويَّة المعاصرة تشكَّلت من المفاهيم والأفكار الإسلاميَّة الأصيلة التي بُنيت عليها أُسسه، ومن التراث المهدوي الواسع الذي تواصلت معه وانطلقت منه. لذا فقد انبثقت هذه الدراسة للتعريف بتاريخ التراث المهدوي الشيعي، ومدى استجابة التغيّرات والمستجدّات فيه لمتطلِّبات كلِّ مرحلة تاريخية، وسيكون تركيزنا فيها على نقطتين جوهريتين:
أوَّلاً: إعطاء رؤية واضحة عن التراث المهدوي الشيعي، ومجرى الأحداث التاريخية المؤثِّرة في مسيرة القضيَّة المهدويَّة، لتتَّضح لنا الأزمنة الفكرية التي مرَّ بها التراث، والمؤثِّرات الجوهرية على النتاج الثقافي المهدوي لكلِّ مرحلة.
ثانياً: استقراء التطوّر الفكري في التراث المهدوي الشيعي على ضوء المسار التاريخي، وسيكون معيارنا في رصد التطوّر في المنظومة الفكرية المهدويَّة هو المنهج العلمي المتبع في كلِّ مرحلة تاريخية، وسنُركِّز على منهجين: المنهج الروائي والمنهج العقلي، ومدى اتِّساع استخدام كلِّ منهج في مصنَّفات الفترات الزمنية المختلفة.
إحصائيات عن التراث المهدوي الشيعي:
أهمّ ما يُميِّز أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) على طول التاريخ هو حضارية الفكر والموقف، فقد انحاز الشيعة إلى العلم وحرّية الرأي، واهتمّوا كثيراً بآلية المعرفة وبالأخصِّ فيما يرجع إلى تدوين العلوم والمعارف والأحاديث الشريفة، ممَّا كان له بالغ الأثر في النهوض الفكري للطائفة وتشكيل التراث الشيعي.
وبنظرة سريعة وبتتبُّع موجز نجد أنَّ الكتب والدراسات المهدويَّة تحتلُّ مساحة واسعة من البحوث والتقصّي المعرفي، فالمكتبة المهدويَّة خزانة عظيمة متشعِّبة الأبعاد ومتعدِّدة الجوانب، ومن أجل تسليط الضوء على أهمّية التراث المهدوي وحجمه وغزارته، نودُّ الإشارة إلى الإحصائيات التي تفصح عن حجم هذا التراث، وتعطينا فكرة عن تصانيف علماء الشيعة عبر مراحل التاريخ:
تعليق