من منا لا يشتكي من معاصيه وضلاله؟ بل وأحياناً يأتي سؤال : ما هو العلاج؟ وإلى متى هذا الحال؟ العلاج بسيط وسهل جداً ولا تعقيد فيه وهو فعال جداً، ألا وهو ذكر الله تعالى، ولكن ليس الذكر المصطلح عند الناس، بل الذكر هو ذكر المحبوب، فهل سيبقى حينها في القلب مكان لغير الله عز وجل؟! في هذه السطور كيفية ذكر الله ومراتبه وفوائده وعلاقته بالزهد.
غرس محبة الله تعالى في القلب
قال الله عز وجل في كتابه {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفه} الإنسان له ميل واحدٌ لمحبوب واحد، فإذا أحب أحدٌ المعصية، انعقد القلب عليها وسعى لها، وحينها يصعب إيقافها، فإذا كان المحبوب هنا هو الله، فسيصعب أيضاً الإعراض عنه، لأن القلب له وجهة واحدة لا اثنتين، محبوبٌ واحد يكفي.
لتحصيل ذكر الله (محبته) عليك أن تختار وقت مناسب ومكان مناسب لذكر الله تعالى، وأفضل الأوقاتهو الذي تكون النفس فيه غير منشغلة بأمور الدنيا، مثل بين الطلوعين (الفجر) بعد الصلاة، أو في أوقات الحزن والتعب النفسي، أما بالنسبة للمكان فعليك أن تكون في مكان هادئ وخالٍ أو شبه خالٍبحيث لا تنشغل بالناس عن ذكر الله تعالى.
بعد تحصيل هذه المقدمات ابدأ بذكر الله تعالى واستحضر وجوده ونظره إليك، واذكر نعمه عليك وحنانه ولطفه بك، فإن فكرت في الأمر فخاطب الله عز وجل قائلاً (يا رب) أو (يا الله) أو (يا لطيف) أو أي اسم آخر يشعرك بالمحبة تجاه الله عز وجل.
هناك أيضاً عدة مراتب ودرجات للذاكرين، قد تكون هناك محبة تنقدح في القلب، ولكنها ليست قويةلدرجة إدراك أن الله ينظر لكل شيء، وهذه أدنى درجة.
درجة أخرى، هي أن يستحضر الإنسان وجود الله تعالى ونظره إلينا وتدبيره ونظره لنا بعين الرحمةوالعطف، بل ترتقي هذه الدرجة أحياناً إلى مشاهدة أن الله ناظر للكل، حينها يدرك الإنسان مدى صغره أمام الخالق، وسيشعر بمشاعر الحب والعبودية، سيحس بإحساس لا مثيل له.
ومنها، أن يشاهد أن الله ناظر للجميع، فيشاهد مشاهدة الله تعالى للخلق، حينها لن يقوم الإنسانبمعصية في حال استحكمت هذه الحال على القلب.
الزهد وفوائده
بعد تحصيل كل مراتب الذكر المتقدمة، ستعرف فائدة الزهد وعلاقته، بل سيكون من السهل جداً أنتترك كل ما سوى الله تعالى، وستضحي بكل شيء بهدوء أعصاب وارتخاء واطمئنان في القلب، بل سيكون في مخالفة هوى النفس لذة لا مثيل لها. إذ كلما ضحيت بشيء لأجل الله تعالى زادت المحبة في القلب، وهو مراد النفس، ويعظُمَ استحكامها حتى يطغى على القلب كله، فلا يدع مكاناً لأي شيء مغاير لله تعالى.
بعض الروايات والمواعظ
أترككم مع كلمات الأئمة عليهم السلام وبعض أولياء الله تعالى حول الذكر وفوائده :
في كتاب غرر الحكم عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال : (ذكر الله دواء أعلال النفوس).
وقال عليه السلام : (الذكر مجالسة المحبوب).
وفي موضع آخر قال عليه السلام : (الذكر لذة المحبين).
والروايات كثيرة في هذا المجال.
أما ما قاله أولياء الله المعاصرين :
يقول الشيخ الجليل حسن علي الأصفهاني (النخودكي) رحمة الله عليه (اعلم أنه كما أن عالم المادةيتشكل في العناصر الأربعة، ففي التولد المعنوي أيضاً يحتاج إلى أربعة عناصر : قلة الأكل، قلة النوم، قلة الكلام، والإنزواء عن الخلق. لكن يوجد عنصر آخر أيضاً يكون بالنسبة لهذه العناصر الأربعةكالروح بالنسبة للجسد وهو الذكر الدائم).
ليس المقصود بالانزواء هو ترك الواجبات اليومية، وإغلاق كل الأبواب المشرعة على الناس، ولكن مجالستهم فيما ينفعهم وينفعك وإلا فاعزب عنهم، فيما يتعلق بالنوم فست ساعات مناسبة لسلب النفس قواها الحيوانية فتكون مائلة لله تعالى أكثر، أما الطعام فتثليثه كما عن المعصومين عليهم السلام من لوازم هذا الطريق، ويجب أن تذيق نفسك طعم الجوع لمدة ساعة قبل الوجبة لأن الأجوفين هما سبب كثير من المعاصي و (الجوع غذاء القلب) كما روي عنهم عليهم السلام.
ويَنقل الشيخ أيضا في موضع آخر كلام الفيض الكاشاني حول نفس الموضوع قائلاً : (يقول المرحوم الفيض بعد هذه العبارات : حسبما يقول أرباب المعرفة، الذكر أربع مراتب :
الأول : ذلك الذكر الذي يجري على اللسان فقط.
الثاني : ذلك الذي عادوه على اللسان، يصير القلب ذاكراً ومتذكراً أيضاً، وبديهي أنه لحضور القلب يلزم المراقبة والمداومة، لأن القلب إذا تُرك لحال نفسه يسرح في وادي الإنكار.
الثالث : ذلك الذي يتمكن من القلب أيضاً، ويستولي عليه بشكل يكون رجوع القلب منه صعباً، كما كان في النوع الثاني حضور القلب بالنسبة للذكر مشكلاً.
وأخيراً الرابع : ذاك الذي يكون فيه العبد مستغرقًا في المذكور جل شأنه مباشرة، بأن لا ينتبه أبداً إلىذكره ولا إلى قلبه.. في هذه الحال التي ينصرف توجه الذاكر إلى الذكر، نفس الذكر يكون حجاب روحه، وهذه الحال تكون نفس التي عُبّر عنها في عرف العارفين بالفناء، وذلك كل المقصود وتمامه وكمال المطلوب من ذكر الباري تعالى.
ينبغي التركيز حول ما نقله الشيخ عن الذكر ومراتبه للوصول لحالة استحكام الذكر على القلب، فربما يكشف لك شيء من الجلال والجمال الإلهي، فتكون قد هزمت جيوش الشيطان، وفتحت عالم الملكوت.
وقال الشيخ حسن علي الأصفهاني (النخودكي) في أحد رسائله لأحد أتباعه :
(..... قسّموا وقتكم بين الطلوعين أربعة أقسام، قسم للأذكار والتسبيح، وآخر للأدعية، والثالث لقراء ةالقرآن، والأخير في محاسبة أنفسكم على أعمالكم في اليوم المنصرم، فإن كنتم قد وفقتم لطاعةفاشكروا الله على ذلك، وإن كنتم لا سمح الله قد ابتليتم بمعصية فاستغفروا الله).
الفجر هو أفضل وقت لكون الإنسان قد استيقظ من نومه للتو، فيكون في حالة أشبه بغسل ما في ذائقةالنفس من طعم المعصية، فلا يميل إليها، فيكون ذكر الله تعالى سهلاً والمحاسبة ستكون مؤثرة أيضاً. قال أمير المؤمنين عليه السلام بهذا الصدد : (تفكرك يفيدك الاستبصار ويكسبك الاعتبار)
قف مع نفسك وعاتبها وسائلها حول منفعة المعاصي التي تقوم بها، وإلى متى ستستمر، وأمرهاوأرشدها لخطوات ترك المعصية في خطاب مليء بالحزن والأسف على ما فات (ونهى النفس عن الهوى) وحينها لا تنس ذكر اللهـ فهو بمثابة مادة للطاعات ولا تتحقق الطاعات بدونها.
علمنا بأن الذكر هو مادة الطاعة ـ كما أن الغفلة عن ذكر الله تعالى هي مادة المعصية، وأن للقلب وجهةإما الغفلة أو التذكر والذكر، وأن الذكر الذي يستحكم في القلب يصد عن المعصية ـ كما أن الغفلة التامةتوجب الرين على القلب فتعمينا إلى يوم القيامة، فعلى الإنسان أن يسعى لغرس جذور محبة الله تعالى في القلبـ لتثمر ذكراً فطاعة فوصولاً إلى أعلى عليين.