الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الرسل وخاتم النبيين المصطفى أبي القاسم محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.
توطئة:
بتاريخ الخامس من ربيع المولود من عام واحد وأربعين للهجرة المباركة ونتيجةً للظروف التي مرت بها الأمة، توجب اتخاذ قرار مصيري يحقن الدماء ويحقق الأهداف فتحتَّم على إمامنا الحسن بن علي عليهما السلام اتخاذ القرار الصائب في ذلك فصالح معاوية وفق شروط معينة وفيما يلي خلاصة أحداث الصلح:
المسير إلى الحرب:
لما عزم الإمام الحسن بن علي عليهما السلام على حرب معاوية خرج من الكوفة إلى معسكر النُخيلة وخلّف مكانه المغيرة بن نوفل بن حارث بن عبد المطلب، وأمره أن يحث الناس على الخروج والإلتحاق به في المعسكر.
فخرج الناس أفواجاً إليه عليه السلام وسار من النُخيلة إلى دير عبد الرحمن فمكث هناك ثلاثة أيام كي يتمّ الجيش، فصاروا أربعين ألفاً بين فارس وراجل فبعث عبيد الله بن عباس وقيس بن سعد في إثني عشر ألف رجل من دير عبد الرحمن إلى حرب معاوية، فقال عليه السلام: عبيد الله أميركم فإن أصيب فقيس بن سعد على الناس، وأمر عبيد الله أن يشاور قيساً وسعيداً.
في المدائن:
وخرج عليه السلام من هناك وتوجه إلى الساباط في المدائن، فأراد امتحان واختبار أصحابه وانجاء كفرهم ونفاقهم وعدم وفائهم، فجمع الناس وحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد، فإني والله لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله ومنّه وأنا أنصح خلق الله لخلقه، وما أصبحت محتملاً على مسلم ضغينة ولا مريداً له بسوء ولا غائلة، ألا وان ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة.
ألا وإني ناظرٌ لكم خيراً من نظركم لأنفسكم فلا تخالفوا أمري ولا تردّوا عليَّ رأيي، غفر الله لي ولكم وأرشدني وإياكم لما فيه المحبة والرضا».
اعتداءٌ على الإمام:
فنزل من المنبر، وأخذ المنافقون ينظر بعضهم إلى بعضٍ وقالوا: ما تَرَونه يريد بما قال، نظنّه والله يريد أن يصالح معاوية ويسلم الأمر إليه، فقام هؤلاء المنافقون وقد كان بعضهم على مذهب الخوارج باطناً وخفية فقالوا: «كفر والله الرجل».
ثم شدّوا على فسطاطه وأنتهبوه حتى أخذوا مصلّاه من تحته، ثم شدَّ عليه عبد الرحمن بن عبد الله فنزع مطرفه من عاتقه فبقى جالساً متقلداً السيف بغير ردائه ثم دعا فرسه فركبه وأحدقت به طوائف من خاصته وشيعته ومنع من أراده بسوء، فخرج عليه السلام إلى المدائن، فلما مرَّ في مظلم ساباط بدر إليه رجل من بني أسد يقال له الجراح بن سنان فأخذ بلجام بغلته وبيده مغول (حديدة تجعل في السوط فيكون لها غلافاً) وقال: «الله أكبر أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل».
ثم طعنه في فخذه، وقيل بحربة مسمومة على فخذه فشقه حتى بلغ العظم ثم اعتنقه الحسن عليه السلام من الوجع وخرّا معاً إلى الأرض، فوثب إليه شيعة الإمام فقتلوه ثم حملوا الإمام عليه السلام على سرير إلى المدائن ونزل في بيت سعد بن مسعود الثقفي وكان عامل أمير المؤمنين عليه السلام بها فأقرّه الحسن عليه السلام على ذلك وكان عمّ المختار.
غدرٌ بمراتبٍ عالية:
واما غدر أصحابه فقد وصل إلى مرتبة بحيث كتب جماعة من رؤساء القبائل وقواد الجيش إلى معاوية بالسمع والطاعة له في السر، واستحثوه على المسير نحوهم وضمنوا له تسليم الحسن عليه السلام عند دنوه منهم أو الفتك به فبلغ الحسن عليه السلام ذلك وورد عليه كتاب قيس بن سعد وكان قد أنفذه مع عبيد الله بن عباس عند مسيره من الكوفة ليلتقي بمعاوية ويرده عن العراق، فوصل كتابه وفيه:
إنهم نازلوا معاوية بقرية يقال لها الحبوبية بازاء مسكن وانَّ معاوية أرسل إلى عبيد الله بن عباس يرغّبه في المسير إليه وضمن له ألف ألف درهم يعجل له منها النصف ويعطه النصف الآخر عند دخوله إلى الكوفة فانسل عبيد الله في الليل إلى معسكر معاوية في خاصته وأصبح الناس وقد فقدوا أميرهم.
صلاة وتحذير:
ثم صلى بهم قيس بن سعد وخطب فقال: ان خان هذا الخائن إمامه وغدر به فاثبتوا انتم ولا تغدروا واحذروا غضب الله ورسوله وقاتلوا أعداء الله، فقبلوا ظاهراً ولكن كان ينسل في كل ليلة جمع منهم إلى معاوية ويفرون من جيش الإمام الحسن عليه السلام.
فأدرك الإمام الحسن عليه السلام فساد نيات القوم من خلال خذلانهم له وبما أظهروه من السب والتكفير له، واستحلال دمه ونهب أمواله، ولم يبق معه من يأمن غوايله الا خاصته من شيعة أبيه وشيعته، وهم جماعة لا تقوم لإجناد الشام.
معاوية يطلب الصلح:
فكتب إليه معاوية في الهدنة والصلح وأنفذ إليه بكتب أصحابه الذين ضمنوا له فيها الفتك به وتسليمه إليه.
ثم كتب إليه معاوية: «يا ابن عم لا تقطع الرحم الذي بينك وبيني فان الناس قد غدروا بك وبأبيك من قبلك».
فلما رأى الإمام رسائل أصحابه، ورأى رغبة معاوية في الصلح واشتراطه له على نفسه إذا أجابه إلى الصلح شروطاً كثيرة وعقد له بها مصالح شاملة، فلم يثق الحسن عليه السلام به وعلم باحتياله بذلك واغتياله له، غير انه لم يجد بداً من إجابته إلى ما التمس من ترك الحرب وإنقاذ الهدنة لما كان عليه أصحابه من النفاق ولو أراد الحرب لقتل هو وخاصته الذين كانوا معه ولم يبق منهم احد.
رواية المجلسي:
قال العلامة المجلسي رحمه الله في جلاء العيون: لما وصلت رسالة معاوية إلى الحسن عليه السلام ورأى الإمام رسائل المنافقين من أصحابه إليه واطَّلع على غدر عبيد الله، وضعف جيشه ونفاقهم، قام وخطب فيهم لإتمام الحجة فقال: اني لأعلم انكم غادرون ما بيني وبينكم ان معسكري في الموضع الفلاني فوافوني هناك.
فعسكر عليه السلام في الموضع عشرة أيام فلم يحضره إلا أربعة آلاف، فصعد الإمام المنبر وقال: يا عجباً من قوم لا حياء لهم ولا دين، ويلكم ان معاوية لا يفي لأحدٍ منكم بما ضمنه في قتلي، واني أقدر أن أعبد الله عز وجل وحدي ولكني كأني أنظر إلى أبنائكم واقفين على أبواب أبنائهم، يستسقونهم ويستطعمونهم بما جعله الله لهم فلا يسقون ولا يطعمون، والله لو وجدت صابرين عارفين بحقي غير منكرين ما سلَّمت له هذا الأمر لأنه محرم على بني أمية فأُفٍّ وترحاً يا عبيد الدنيا.
شروط للصلح:
ثم كتب الإمام عليه السلام إلى معاوية وأظهر رضاه بالصلح لكن بشروط فأرسل ابن عمه عبد الله بن الحارث إليه كي يكتب كتاب الصلح فكتبا:
«بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما صالح عليه الحسن بن علي بن أبي طالب معاوية بن أبي سفيان، صالحه على أن يسلِّم إليه ولاية المسلمين على ان يعمل فيهم بكتاب الله وسنة رسوله، وليس لمعاوية ان يعهد إلى احدٍ من بعده عهداً، على ان الناس آمنون حيث كانوا من ارض الله تعالى في شامهم ويمنهم وعراقهم وحجازهم.
وعلى ان أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم حيث كانوا، وعلى معاوية بذلك عهد الله وميثاقه وعلى ان لا يبغي للحسن بن علي ولا لأخيه الحسين ولا لأحد من بيت رسول الله صلى الله عليه وآله غائلة سوء سرّاً وجهراً ولا يخيف أحداً منه في أفقٍ من الآفاق وان يتركوا سب أمير المؤمنين عليه السلام في الصلاة كما كانوا يفعلون».
فشهد عليه عبد الله بن الحارث وعمرو بن سلمة وعبد الله بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة وغيرهم.
معاوية في النُخيلة:
فلما استتمت الهدنة على ذلك سار معاوية حتى نزل بالنخيلة، وكان ذلك اليوم يوم الجمعة فصلى بالناس ضحى النهار فخطبهم وقال في خطبته: إني والله ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتزكوا...، ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم وقد أعطاني الله ذلك وانتم له كارهون، ألا واني مَنِّيت الحسن وأعطيته أشياء وجميعها تحت قدمي لا أفي بشيء منها له.
في الكوفة:
ثم سار حتى قدم الكوفة فأقام بها أياماً فلما استتمت البيعة له من أهلها التمس من الحسن عليه السلام أن يتكلم بجمع من الناس ويعلمهم ان الخلافة حقه فقام عليه السلام وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله عليه وآله وأهل بيته ثم قال:
«أيها الناس ان أكيس الكيس التقى وأحمق الحمق الفجور وإنكم لو طلبتم بين جابلق وجابرس رجلاً جده رسول الله ما وجدتموه غيري وغير أخي الحسين وقد علمتم ان الله هداكم بجدي محمد فأنقذكم من الضلالة ورفعكم به من الجهالة وأعزكم بعد الذلة وكثركم بعد القلة.
وأن معاوية نازعني حقاً هو لي دونه فنظرت لصلاح الأمة وقطع الفتنة وقد كنتم بايعتموني على ان تسالموا من سالمت وتحاربوا من حاربت، فرأيت أن أسالم معاوية وأضع الحرب بيني وبينه وقد بايعته ورأيت انَّ حقن الدماء خير من سفكها ولم أرد بذلك الا صلحكم وبقاءكم وان أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين».
ثم صعد معاوية المنبر فخطب الناس وذكر أمير المؤمنين عليه السلام ونال منه ونال من الحسن عليه السلام ما نال، فقام الحسين عليه السالم ليرد عليه فأخذ بيده الحسن فأجلسه، ثم قام فقال: «أيها الذاكر علياً أنا الحسن وأبي علي وأنت معاوية وأبوك صخر، وأمي فاطمة وأمك هند، وجدي رسول الله صلى الله عليه وآله وجدك حرب، وجدتي خديجة وجدتك قتيلة، فلعن الله أخملنا ذكراً وألأمنا حسباً وشرنا قدماً وأقدمنا كفراً ونفاقاً».
فقال أهل المسجد: آمين، آمين.
وروي انه لما وقعت المصالحة بين الإمام الحسن عليه السلام وبين معاوية، أراد معاوية إجبار الحسين عليه السلام على البيعة فقال له الحسن: «دعه فإنه لن يبايع حتى يُقتل ولن يقتل حتى يقتل معه كل أهل بيته ولن يقتل أهل بيته حتى يقتلوا أهل الشام».
ثم دعا قيس بن سعد للبيعة ـ وكان رجلاً قوياً طويلاً يركب الفرس المشرَّف ورجلاه تخطان الأرض ـ فقال قيس بن سعد لما جاء: حلفت أن لا ألقاه الا بيني وبينه الرمح والسيف، فأمر معاوية برمح وسيف فوضعا على الأرض بينهما ليبرّ بيمينة، وكان قيس قد اعتزل في أربعة آلاف، وأبى أن يبايع فلما سمع بالصلح جاء إلى مجلس معاوية، فانتبه إلى الحسين عليه السلام وقال: أؤبايع؟ فأشار عليه السلام بيده إلى الحسن فقال: ان هذا إمامي وهو ذو اختيار.
فبايع قيس مكرهاً لكن من دون أن يضع يده في يده بل امتنع من رفعها إليه فنزل معاوية من الكرسي فمسح يده على يد قيس، وفي رواية انه بايع ما أمره الحسن بذلك.
خطبة للإمام:
روى الشيخ الطبرسي في الاحتجاج انه: لما صالح الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام معاوية بن أبي سفيان دخل عليه الناس، فلامه بعضهم على بيعته فقال عليه السلام:
«ويحكم أما تدرون اني إمامكم ومفترض الطاعة عليكم وأحد سَيدَي شباب أهل الجنة بنصٍ من رسول الله عليَّ؟».
قالوا: بلى، قال: «أما الخضر لما خرق السفينة، وأقام الجدار، وقتل الغلام كان ذلك سخطاً لموسى بن عمران عليه السلام إذ خفى عليه وجه الحكمة في ذلك، وكان ذلك عند الله تعالى ذكره حكمة وصواباً؟ أما علمتم انه ما منا أحد إلا ويقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه الا القائم عجل الله فرجه الذي يصلي خلفه روح الله عيسى بن مريم عليه السلام، فان الله عز وجل يخفي ولادته ويغيب شخصه لئلا يكون لأحدٍ في عنقه بيعة إذا خرج، ذاك التاسع من ولد أخي الحسين ابن سيدة الآماء، يطيل الله عمره في غيبته ثم يظهره بقدرته في صورة شاب دون أربعين سنة، ذلك ليعلم ان الله على كل شيء قدير».
موقع الشيرازي نت