إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

صلح الإمام الحسن عليه السلام في 25 ربيع الأول انتصار الحكمة على الطغيان

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • صلح الإمام الحسن عليه السلام في 25 ربيع الأول انتصار الحكمة على الطغيان

    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الرسل وخاتم النبيين المصطفى أبي القاسم محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

    توطئة:
    بتاريخ الخامس من ربيع المولود من عام واحد وأربعين للهجرة المباركة ونتيجةً للظروف التي مرت بها الأمة، توجب اتخاذ قرار مصيري يحقن الدماء ويحقق الأهداف فتحتَّم على إمامنا الحسن بن علي عليهما السلام اتخاذ القرار الصائب في ذلك فصالح معاوية وفق شروط معينة وفيما يلي خلاصة أحداث الصلح:

    المسير إلى الحرب:
    لما عزم الإمام الحسن بن علي عليهما السلام على حرب معاوية خرج من الكوفة إلى معسكر النُخيلة وخلّف مكانه المغيرة بن نوفل بن حارث بن عبد المطلب، وأمره أن يحث الناس على الخروج والإلتحاق به في المعسكر.
    فخرج الناس أفواجاً إليه عليه السلام وسار من النُخيلة إلى دير عبد الرحمن فمكث هناك ثلاثة أيام كي يتمّ الجيش، فصاروا أربعين ألفاً بين فارس وراجل فبعث عبيد الله بن عباس وقيس بن سعد في إثني عشر ألف رجل من دير عبد الرحمن إلى حرب معاوية، فقال عليه السلام: عبيد الله أميركم فإن أصيب فقيس بن سعد على الناس، وأمر عبيد الله أن يشاور قيساً وسعيداً.

    في المدائن:
    وخرج عليه السلام من هناك وتوجه إلى الساباط في المدائن، فأراد امتحان واختبار أصحابه وانجاء كفرهم ونفاقهم وعدم وفائهم، فجمع الناس وحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد، فإني والله لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله ومنّه وأنا أنصح خلق الله لخلقه، وما أصبحت محتملاً على مسلم ضغينة ولا مريداً له بسوء ولا غائلة، ألا وان ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة.
    ألا وإني ناظرٌ لكم خيراً من نظركم لأنفسكم فلا تخالفوا أمري ولا تردّوا عليَّ رأيي، غفر الله لي ولكم وأرشدني وإياكم لما فيه المحبة والرضا».

    اعتداءٌ على الإمام:
    فنزل من المنبر، وأخذ المنافقون ينظر بعضهم إلى بعضٍ وقالوا: ما تَرَونه يريد بما قال، نظنّه والله يريد أن يصالح معاوية ويسلم الأمر إليه، فقام هؤلاء المنافقون وقد كان بعضهم على مذهب الخوارج باطناً وخفية فقالوا: «كفر والله الرجل».
    ثم شدّوا على فسطاطه وأنتهبوه حتى أخذوا مصلّاه من تحته، ثم شدَّ عليه عبد الرحمن بن عبد الله فنزع مطرفه من عاتقه فبقى جالساً متقلداً السيف بغير ردائه ثم دعا فرسه فركبه وأحدقت به طوائف من خاصته وشيعته ومنع من أراده بسوء، فخرج عليه السلام إلى المدائن، فلما مرَّ في مظلم ساباط بدر إليه رجل من بني أسد يقال له الجراح بن سنان فأخذ بلجام بغلته وبيده مغول (حديدة تجعل في السوط فيكون لها غلافاً) وقال: «الله أكبر أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل».
    ثم طعنه في فخذه، وقيل بحربة مسمومة على فخذه فشقه حتى بلغ العظم ثم اعتنقه الحسن عليه السلام من الوجع وخرّا معاً إلى الأرض، فوثب إليه شيعة الإمام فقتلوه ثم حملوا الإمام عليه السلام على سرير إلى المدائن ونزل في بيت سعد بن مسعود الثقفي وكان عامل أمير المؤمنين عليه السلام بها فأقرّه الحسن عليه السلام على ذلك وكان عمّ المختار.

    غدرٌ بمراتبٍ عالية:
    واما غدر أصحابه فقد وصل إلى مرتبة بحيث كتب جماعة من رؤساء القبائل وقواد الجيش إلى معاوية بالسمع والطاعة له في السر، واستحثوه على المسير نحوهم وضمنوا له تسليم الحسن عليه السلام عند دنوه منهم أو الفتك به فبلغ الحسن عليه السلام ذلك وورد عليه كتاب قيس بن سعد وكان قد أنفذه مع عبيد الله بن عباس عند مسيره من الكوفة ليلتقي بمعاوية ويرده عن العراق، فوصل كتابه وفيه:
    إنهم نازلوا معاوية بقرية يقال لها الحبوبية بازاء مسكن وانَّ معاوية أرسل إلى عبيد الله بن عباس يرغّبه في المسير إليه وضمن له ألف ألف درهم يعجل له منها النصف ويعطه النصف الآخر عند دخوله إلى الكوفة فانسل عبيد الله في الليل إلى معسكر معاوية في خاصته وأصبح الناس وقد فقدوا أميرهم.

    صلاة وتحذير:
    ثم صلى بهم قيس بن سعد وخطب فقال: ان خان هذا الخائن إمامه وغدر به فاثبتوا انتم ولا تغدروا واحذروا غضب الله ورسوله وقاتلوا أعداء الله، فقبلوا ظاهراً ولكن كان ينسل في كل ليلة جمع منهم إلى معاوية ويفرون من جيش الإمام الحسن عليه السلام.
    فأدرك الإمام الحسن عليه السلام فساد نيات القوم من خلال خذلانهم له وبما أظهروه من السب والتكفير له، واستحلال دمه ونهب أمواله، ولم يبق معه من يأمن غوايله الا خاصته من شيعة أبيه وشيعته، وهم جماعة لا تقوم لإجناد الشام.

    معاوية يطلب الصلح:
    فكتب إليه معاوية في الهدنة والصلح وأنفذ إليه بكتب أصحابه الذين ضمنوا له فيها الفتك به وتسليمه إليه.
    ثم كتب إليه معاوية: «يا ابن عم لا تقطع الرحم الذي بينك وبيني فان الناس قد غدروا بك وبأبيك من قبلك».
    فلما رأى الإمام رسائل أصحابه، ورأى رغبة معاوية في الصلح واشتراطه له على نفسه إذا أجابه إلى الصلح شروطاً كثيرة وعقد له بها مصالح شاملة، فلم يثق الحسن عليه السلام به وعلم باحتياله بذلك واغتياله له، غير انه لم يجد بداً من إجابته إلى ما التمس من ترك الحرب وإنقاذ الهدنة لما كان عليه أصحابه من النفاق ولو أراد الحرب لقتل هو وخاصته الذين كانوا معه ولم يبق منهم احد.

    رواية المجلسي:
    قال العلامة المجلسي رحمه الله في جلاء العيون: لما وصلت رسالة معاوية إلى الحسن عليه السلام ورأى الإمام رسائل المنافقين من أصحابه إليه واطَّلع على غدر عبيد الله، وضعف جيشه ونفاقهم، قام وخطب فيهم لإتمام الحجة فقال: اني لأعلم انكم غادرون ما بيني وبينكم ان معسكري في الموضع الفلاني فوافوني هناك.
    فعسكر عليه السلام في الموضع عشرة أيام فلم يحضره إلا أربعة آلاف، فصعد الإمام المنبر وقال: يا عجباً من قوم لا حياء لهم ولا دين، ويلكم ان معاوية لا يفي لأحدٍ منكم بما ضمنه في قتلي، واني أقدر أن أعبد الله عز وجل وحدي ولكني كأني أنظر إلى أبنائكم واقفين على أبواب أبنائهم، يستسقونهم ويستطعمونهم بما جعله الله لهم فلا يسقون ولا يطعمون، والله لو وجدت صابرين عارفين بحقي غير منكرين ما سلَّمت له هذا الأمر لأنه محرم على بني أمية فأُفٍّ وترحاً يا عبيد الدنيا.

    شروط للصلح:
    ثم كتب الإمام عليه السلام إلى معاوية وأظهر رضاه بالصلح لكن بشروط فأرسل ابن عمه عبد الله بن الحارث إليه كي يكتب كتاب الصلح فكتبا:
    «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما صالح عليه الحسن بن علي بن أبي طالب معاوية بن أبي سفيان، صالحه على أن يسلِّم إليه ولاية المسلمين على ان يعمل فيهم بكتاب الله وسنة رسوله، وليس لمعاوية ان يعهد إلى احدٍ من بعده عهداً، على ان الناس آمنون حيث كانوا من ارض الله تعالى في شامهم ويمنهم وعراقهم وحجازهم.
    وعلى ان أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم حيث كانوا، وعلى معاوية بذلك عهد الله وميثاقه وعلى ان لا يبغي للحسن بن علي ولا لأخيه الحسين ولا لأحد من بيت رسول الله صلى الله عليه وآله غائلة سوء سرّاً وجهراً ولا يخيف أحداً منه في أفقٍ من الآفاق وان يتركوا سب أمير المؤمنين عليه السلام في الصلاة كما كانوا يفعلون».
    فشهد عليه عبد الله بن الحارث وعمرو بن سلمة وعبد الله بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة وغيرهم.

    معاوية في النُخيلة:
    فلما استتمت الهدنة على ذلك سار معاوية حتى نزل بالنخيلة، وكان ذلك اليوم يوم الجمعة فصلى بالناس ضحى النهار فخطبهم وقال في خطبته: إني والله ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتزكوا...، ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم وقد أعطاني الله ذلك وانتم له كارهون، ألا واني مَنِّيت الحسن وأعطيته أشياء وجميعها تحت قدمي لا أفي بشيء منها له.

    في الكوفة:
    ثم سار حتى قدم الكوفة فأقام بها أياماً فلما استتمت البيعة له من أهلها التمس من الحسن عليه السلام أن يتكلم بجمع من الناس ويعلمهم ان الخلافة حقه فقام عليه السلام وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله عليه وآله وأهل بيته ثم قال:
    «أيها الناس ان أكيس الكيس التقى وأحمق الحمق الفجور وإنكم لو طلبتم بين جابلق وجابرس رجلاً جده رسول الله ما وجدتموه غيري وغير أخي الحسين وقد علمتم ان الله هداكم بجدي محمد فأنقذكم من الضلالة ورفعكم به من الجهالة وأعزكم بعد الذلة وكثركم بعد القلة.
    وأن معاوية نازعني حقاً هو لي دونه فنظرت لصلاح الأمة وقطع الفتنة وقد كنتم بايعتموني على ان تسالموا من سالمت وتحاربوا من حاربت، فرأيت أن أسالم معاوية وأضع الحرب بيني وبينه وقد بايعته ورأيت انَّ حقن الدماء خير من سفكها ولم أرد بذلك الا صلحكم وبقاءكم وان أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين».
    ثم صعد معاوية المنبر فخطب الناس وذكر أمير المؤمنين عليه السلام ونال منه ونال من الحسن عليه السلام ما نال، فقام الحسين عليه السالم ليرد عليه فأخذ بيده الحسن فأجلسه، ثم قام فقال: «أيها الذاكر علياً أنا الحسن وأبي علي وأنت معاوية وأبوك صخر، وأمي فاطمة وأمك هند، وجدي رسول الله صلى الله عليه وآله وجدك حرب، وجدتي خديجة وجدتك قتيلة، فلعن الله أخملنا ذكراً وألأمنا حسباً وشرنا قدماً وأقدمنا كفراً ونفاقاً».
    فقال أهل المسجد: آمين، آمين.
    وروي انه لما وقعت المصالحة بين الإمام الحسن عليه السلام وبين معاوية، أراد معاوية إجبار الحسين عليه السلام على البيعة فقال له الحسن: «دعه فإنه لن يبايع حتى يُقتل ولن يقتل حتى يقتل معه كل أهل بيته ولن يقتل أهل بيته حتى يقتلوا أهل الشام».
    ثم دعا قيس بن سعد للبيعة ـ وكان رجلاً قوياً طويلاً يركب الفرس المشرَّف ورجلاه تخطان الأرض ـ فقال قيس بن سعد لما جاء: حلفت أن لا ألقاه الا بيني وبينه الرمح والسيف، فأمر معاوية برمح وسيف فوضعا على الأرض بينهما ليبرّ بيمينة، وكان قيس قد اعتزل في أربعة آلاف، وأبى أن يبايع فلما سمع بالصلح جاء إلى مجلس معاوية، فانتبه إلى الحسين عليه السلام وقال: أؤبايع؟ فأشار عليه السلام بيده إلى الحسن فقال: ان هذا إمامي وهو ذو اختيار.
    فبايع قيس مكرهاً لكن من دون أن يضع يده في يده بل امتنع من رفعها إليه فنزل معاوية من الكرسي فمسح يده على يد قيس، وفي رواية انه بايع ما أمره الحسن بذلك.

    خطبة للإمام:
    روى الشيخ الطبرسي في الاحتجاج انه: لما صالح الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام معاوية بن أبي سفيان دخل عليه الناس، فلامه بعضهم على بيعته فقال عليه السلام:
    «ويحكم أما تدرون اني إمامكم ومفترض الطاعة عليكم وأحد سَيدَي شباب أهل الجنة بنصٍ من رسول الله عليَّ؟».
    قالوا: بلى، قال: «أما الخضر لما خرق السفينة، وأقام الجدار، وقتل الغلام كان ذلك سخطاً لموسى بن عمران عليه السلام إذ خفى عليه وجه الحكمة في ذلك، وكان ذلك عند الله تعالى ذكره حكمة وصواباً؟ أما علمتم انه ما منا أحد إلا ويقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه الا القائم عجل الله فرجه الذي يصلي خلفه روح الله عيسى بن مريم عليه السلام، فان الله عز وجل يخفي ولادته ويغيب شخصه لئلا يكون لأحدٍ في عنقه بيعة إذا خرج، ذاك التاسع من ولد أخي الحسين ابن سيدة الآماء، يطيل الله عمره في غيبته ثم يظهره بقدرته في صورة شاب دون أربعين سنة، ذلك ليعلم ان الله على كل شيء قدير».
    ​موقع الشيرازي نت

  • #2




    ولعل معاوية بن أبي سفيان وجد فرصة ثمينة في توجيه الاختراق الذي حصل بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله مباشرة. حيث استثمر الأحداث لصالحه بعد أن أعدّ لنفسه جيشاً وسلطاناً بعيداً عن مركز الدولة الإسلامية، وقد وجد في دم عثمان ذريعة للتمرد على قرار الحل والعقد، واستعداده للتصادم مع الإمام علي عليه السلام ثم مع الإمام الحسن عليه السلام عسكرياً.
    لا شك أن معاوية قد استغرق في إعداد حكمه وجيشه فترة طويلة، وتمرن على المناورة السياسية، واستمكانه لجيش جرار تحت قيادته بطرق مختلفة حقق من خلالها طاعة جيش الشام له، وحيث اعتمد على كل الأساليب غير الشرعية من أجل تمويه وعي الأفراد المنخرطين في جيشه، فقد بدأ على أهبة الاستعداد لدخول أي معركة مفاجئة.
    أما الإمام الحسن عليه السلام فقد تولى أمة عصفت بها الأحداث والفتن، وبدأت تختلف على الفتن وتلتقي أحياناً على المبررات المموهة بأحابيل وسلطة الشام، وهكذا تداعت الأحداث بشكل عجيب بحيث أوصلت معاوية على رأس سلطة تستحوذ على كل موازين القوة، بينما جاء الإمام الحسن عليه السلام ليجد نفسه أمام مرحلة طويلة من الإعداد، وترميم مواقع سياسية وعسكريّة وحتى اقتصاديّة واجتماعية مرتبكة.
    ولأن قرار الحرب بين السلطة الشرعية للإمام الحسن عليه السلام وبين التمرد الذي يمثله موقع معاوية في الشام يخدم الثاني بسبب الفترة الطويلة نسبياً في إعداد سلطانه وجيشه وحتى إدارته، فإن الصلح كان نتيجة طبيعية لاختلال موازين القوى بين الطرفين وإدراكاً من الإمام الحسن عليه السلام بضرورة حفظ كيان الإسلام وصيانة وجوده المتمثل بالدولة الإسلامية آنذاك. لكن قرار الصلح كغيره من قرارات القيادة الشرعية لم يكن موقف خال من المبررات الموضوعية التي تجعله قراراً صائباً وسليماً في مرحلة تعتبر من ضمن أخطر المراحل التي مرت بها التجربة الإسلامية الفتية آنذاك. ولهذا لعبت أربع عوامل في تحديد قرار الصلح سنذكرها بإيجاز.
    أولاً: شرعية الصلح
    إذا كان الإجراء ـ أي إجراء ـ يتعلق بالمصلحة الإسلامية العليا، فمن الطبيعي أنه ينطبع بالطابع الشرعي، أي لا إشكال في اتخاذه من الناحية الشرعية، أما إذا عرفنا أن صاحب هذا الإجراء هو الإمام الحسن عليه السلام وهو إمام قام أو قعد، فلك أن تتصور الحكمة التي يتضمنها قرار بهذا المستوى.
    فالإمام عليه السلام كان يحتل موقعاً قيادياً ليس من ذلك النوع الذي يتم الاستحواذ عليه بالقوة والقهر كما هو الحال في تمرد معاوية على الشرعية الإسلامية، وحيث تجد العصمة والإمامة في شخصية الإمام الحسن، فضلاً عن السيرة والتربية التي نهل بها من الوحي ونبوة جده صلّى الله عليه وآله، ومن الإمامة وولاية أبيه عليه السلام فإن قيادة الإمام الحسن عليه السلام كانت تدرك مصلحة الإسلام من أدق تفاصيلها، ولذلك (كان الصلح أمراً ضرورياً يحتمه الشرع ويلزم به العقل). إن الدولة الإسلامية آنذاك كانت بأمس الحاجة إلى هدوء أوضاعها الداخلية بعد أن أدت الاضطرابات التي سبقت صلح الإمام الحسن في نضوج الفتن الصفراء التي شغلت الدولة عن الجبهة الخارجية، واستمرار معاوية في البحث عن الزعامة على حساب أشلاء المسلمين يؤدي بالتأكيد إلى إحداث شروخ عميقة في جسد الأمة، فضلاً عن الانقسامات التي تعني في نهايتها خطورة وضع الدولة أمام الأعداء الطامعين في تمزيقها وتناثرها، ولهذا كان من الطبيعي أن يدرك الإمام الحسن عليه السلام خطورة هذا الوضع، حيث أصبح أمام خيارين هما: إما أن يتنازع مع معاوية فتأتي النتائج لغير صالح الإسلام بالمرة. وإما أن يميل إلى الصلح ويحفظ الوجود الإسلامي على الأقل، ويمارس عميلة الإصلاح خارج أداة الدولة، وهكذا فعل. هذا وقد أدرك الإمام عليه السلام أن الأوضاع القائمة لا تساعده في حسم الموقف حتى إذا افترضنا أنه سيقدم تضحيات على هذا الجانب، ذلك أن الأمة الإسلامية تعرضت لهزات عنيفة في الداخل عندما نشط المغرمون في السلطة، وأصبحت ظاهرة نشوء القيادات والأحزاب واقع قائم احتدم فيه الصراع بشكليه المسلح وغير المسلح. ولمّا كان الإمام الحسن عليه السلام إمام بشهادة الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله: (الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا) و(الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة). فليس من المعقول أن يبتعد قرار الإمامة السياسي - وفي حادثة تشكل منعطفاً خطيراً على مستقبل الإسلام والدولة الإسلامية - عن المصلحة الإسلامية، هذا على أن الإمام الحسن قد عاصر فترة من أشد الفترات سخونة في تاريخ الدولة الإسلامية وتابع عن كثب التقلبات السياسية التي حصلت بعد وفاة جده صلى الله عليه وآله واطلع عن قرب على قرارات الإمامة والقيادة، ومواقفها تجاه الأحداث العاصفة، وأحاط بكل التفاصيل التي عالجها أبوه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
    ومن هنا يبدو تصرف الإمام الحسن عليه السلام خلاصة لفهم واقعي عن وضع معقد جداً، وحكمة بالغة للحفاظ على الدولة الإسلامية، ذلك أن حكم معاوية ووجوده على رأس السلطة إذا كان يتضمن ضرراً واضحاً على التجربة الإسلامية الحديثة، فإن الصراع الذي يهدد الوجود الإسلامي برمته هو بالتأكيد الضرر الأكبر، وعندئذ يكون أهون الشرين هو الصلح.
    ثم إن الفترة الزمنية التي أمضاها معاوية في الحكم بدمشق مكنته من إعداد جيش قوي، وتوفير إمكانات كافية لإعلان الانفصال عن الدولة المركزية كاحتمال وارد إذا لم يستطع حسم الصراع لصالحه، أضف إلى ذلك أن واقع الأمة الإسلامية وتراكم الأحداث وتداعيها بتلك الصورة ربما كان لا يسمح للإمام الحسن الدخول في مواجهة مسلحة مع معاوية، ولهذا وذاك بقاء الدولة الإسلامية التي تتبنى الإسلام كقاعدة فكرية لها أفضل من كل النتائج الأخرى.
    ثانياً: الظروف
    لا شك أن الظروف تتحكم بدرجة كبيرة في اتخاذ القرار، ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا أن القرار السياسي يؤسس على حسابات الظروف القائمة والمتوقعة حتى مع توفر أسبابه الموضوعية الأخرى، ولذلك فإن هذه المسألة شكلت ظاهرة طبيعية حتى في قرار الرسول صلى الله عليه وآله والإمام علي عليه السلام الظروف غير المؤاتية هي التي أجلت قرار الحرب عند الرسول مثلاً، في حين أصبح تغيّر بعض الظروف سبباً في الانتقال إلى المواجهة العسكرية مع الكفار، وهكذا مع الإمام علي عليه السلام أيضاً. فالظروف مرة تكون بهيئة عوامل مساعدة لاتخاذ القرار، ومرة أخرى تكون بهيئة معوقات ضد القرار، ومن هنا يمكن تقسيمها إلى نوعين.. ظروف سلبية وأخرى إيجابية.
    الظروف السلبية
    وهي تلك العوامل والتغيرات التي حصلت في الواقع القائم والتي كانت لغير صالح اتخاذ قرار الحرب من قبل الإمام الحسن عليه السلام ومنها: عدم توفر الحشد العسكري المؤمن الذي يكافئ جيش معاوية ويتفوق عليه، ويمكن أن تلمس ذلك وبدقة من خلال قول الإمام عليه السلام نفسه حيث قال: (والله ما سلمت الأمر إليه إلا أني لم أجد أنصاراً، ولو وجدت أنصاراً لقاتلته ليلي ونهاري). فقدان وحدة الرأي في جيش الإمام. إذ أن أخطر مظاهر تفكك الجيش هي توزع الرأي على عدة اتجاهات، ولما كان جيش الإمام الحسن خليط من مختلف الاتجاهات والفئات، فإن دخول المعركة بجيش تحكمه الاجتهادات المتنوعة والآراء المختلفة وعدم انضباطه بالقرار المركزي للقيادة هو أشبه بعملية الانتحار، ولذلك نجد أن الإمام الحسن عليه السلام لا يعتبر أن أهل الكوفة مؤهلين كي يدخل المعركة بهم.. يقول عليه السلام: (إني رأيت أهل الكوفة قوماً لا يوثق بهم، وما اغتر بهم إلا من ذل، ليس رأي أحد منهم يوافق الآخر. تواطؤ كثير من أفراد الجيش مع معاوية، حيث كتب أكثر أهل الكوفة إلى معاوية: (فإنا معك وإن شئت أخذنا الحسن وبعثناه إليك). سريان الفتن والإشاعات داخل صفوف الجيش بسبب نفوذ الدعايات التي يبثها معاوية في أوساط جيش الإمام الحسن كجزء من الحرب النفسية لتثبيط عزيمة الجيش وتفكيكه من الداخل، منها على سبيل المثال تلك الشائعة التي سرت قبل أن يصالح الإمام الحسن عليه السلام معاوية والتي مفادها (إن الحسن يكاتب معاوية على الصلح، فلم تقتلون أنفسكم). تمايل الجيش نحو الصلح وعدم رغبته في القتال، حيث أن الحرب النفسية التي شنها معاوية عن طريق شراء الذمم وتجنيد الخونة أدت إلى تثاقل الأفراد، وهروب بعضهم إلى جانب معاوية ممّا أدى إلى خلخلة الجيش من الداخل.
    الظروف الإيجابية
    وهي تلك الظروف التي يمكن اعتبارها عوامل مساعدة لتحرك موقع الإمامة القيادي الذي تمثل بشخص الإمام الحسن عليه السلام وإذا استذكرنا عوامل السلب الكثيرة في حالة اتخاذ قرار الحرب، ومنازلة معاوية، لم يبق أمام الإمام الحسن عليه السلام إلا استثمار الظروف الإيجابية وهي تلك التي شجّعت الإمام عليه السلام على الصلح أملاً في استثمار الشروط التي أدرجها الإمام في وثيقة الصلح مع معاوية. فالإمام عليه السلام أمامه فرصة موافقة معاوية على شروطه، حيث عندها يستطيع أن يصلح الأوضاع قدر المستطاع باتجاه تعزيز وجود الدولة الإسلامية وجمع شتات الأمة ورص صفوفها وتوحيد كلمتها على النحو الذي يتم فيه تطهير مفاصل الدولة ومؤسساتها من وجود العابثين والظواهر القاتلة التي أوجدوها. هذا على أن معاوية إذا لم يف بالشروط التي يوقعها فإن هذا النكث يشكل عاملاً مهماً في كشف زيف معاوية أمام الرأي العام، وبالتالي يكسب الإمام الحسن عليه السلام المعركة السياسية على الأقل.

    ​مصادر خبرية

    تعليق

    المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
    حفظ-تلقائي
    Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
    x
    يعمل...
    X