إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

المسار الاستراتيجي للشيعة في الغيبة الكبرى

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • المسار الاستراتيجي للشيعة في الغيبة الكبرى

    السيد محمود المقدس الغريفي

    ما إنْ حوصر دار الإمام العسكري (عليه السلام) بسامراء وهجم الظالمون عليها بعد وفاته سنة (٢٦٠هـ)، وعرفوا أنَّ له ولداً حيَّاً يُرْزق، وكان في علمهم كما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّ هذا المولود سيكون له الشأن العظيم والوعد الصادق، بخروجه للانتقام من الطغاة والظالمين؛ لإقامة دولة العدل الإلهية -وقد آمنوا بذلك في قرارة أنفسهم ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِينَ﴾ (النمل: ١٤)- حتى عزموا على التخلُّص منه وقتله قبل أن تنتشر أخباره بين الناس وتكثر أنصاره، ولكنَّهم لم يفقهوا قوله تعالى ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ (القصص: ٥) في أَنَّ نصره حتمٌ، وقيامه واقعٌ لا محالة ولو بعد حين، فاختفى (عجّل الله فرجه) من بين نظر الأعداء المهاجمين على الدار وخرج منها سالماً، كما خرج جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من بين صناديد قريش عندما اجتمعوا وقرروا قتله على فراشه بهجومهم على داره، فقرأ (صلى الله عليه وآله وسلم) ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ (يس: ٩) وخَرَجَ من بينهم وقد غُشي على أبصارهم.
    وقد أَخَذَ (عجّل الله فرجه) يتواصل مع شيعته ومواليه ما يقرُب السبعين عاماً في غيبته الصغرى، بواسطة نوابه وسفرائه الأربعة الخاصين على الترتيب، وهم الذين شهد بوثاقتهم وجلالة قدرهم الخاص والعام، والقاصي والداني، فكانوا من ذوي الفضل والعلم والإيمان، وأُولي المنزلة العالية في مجتمعهم، والمكانة الرفيعة بين أقرانهم من الخاصة والعامة، حتى انقاد لهم جميع الشيعة، والتزموا بما يصدر عنهم من الناحية المقدسة، بعلمائهم وعوامهم، وأقرّوا لهم بالسفارة عن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، وأذعنوا بنيابتهم عنه (عجّل الله فرجه)، وصَدَّقوهم وتابعوهم فيما يصدر من الناحية المقدسة بواسطتهم (رضي الله عنهم).
    فأدّوا ما عليهم أحسن أداء، وقاموا بأمور السفارة أحسن قيام، وأتموا عمل النيابة بإخلاص وصدق، مع شدة الظروف وقساوة الحكام وكثرة عيونهم في معرفة من يتصل بالإمام (عليه السلام)، وقد ترحَّم عليهم الإمام الحجة (عجّل الله فرجه) وجزَّاهم عنه خيراً بما أدّوا الأمانة إلى الشيعة مصونةً محفوظةً سالمةً لم تشُبْهَا شائبة شك ولا انحراف.
    وهم على الترتيب الزّمنيّ في النيابة عن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه):
    ١- عثمان بن سعيد العَمري، سفارته من سنة (٢٦٠هـ) - وفاته سنة (٢٦٥هـ).
    ٢- محمد بن عثمان الخلاني، سفارته من سنة (٢٦٥هـ) - وفاته سنة (٣٠٥هـ).
    ٣- الحسين بن روح النوبختي، سفارته من سنة (٣٠٥هـ) - وفاته سنة (٣٢٦هـ).
    ٤- علي بن محمد السمري، سفارته من سنة (٣٢٦هـ) - وفاته سنة (٣٢٩هـ).
    هذا، وبموت السفير الأخير انقطعت الغيبة الصغرى للإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، وانقطعَ تواصله مع شيعته ومواليه عن طريق السفراء والنواب الخاصِّين، وأعلن (عجّل الله فرجه) قيام الغيبة الكبرى التي لا يخرج فيها إلّا بعد خروج السفياني والصيحة، كما ورد في التوقيع الأخير الذي أخرجه الشيخ السمري قُبيل وفاته بأيام من سنة (٣٢٩هـ) والذي جاء فيه:
    «بسم الله الرحمن الرحيم: يا علي بن محمد السمري أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام، فاجمَع أمرك ولا توصِ إلى أحدٍ فيقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التامة، فلا ظهور إلّا بعد إذن الله تعالى ذكره، وذلك بعد طول الأمد، وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جوراً.
    وسيأتي شيعتي من يدعي المشاهدة، ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم».
    ثم قال الراوي: فنسخنا هذا التوقيع وخرجنا من عنده، فلما كان اليوم السادس عدنا إليه وهو يجود بنفسه، فقيل له: من وصيِّك من بعدك؟ فقال: لله أمرٌ هو بالغه، وقضى. فهذا آخر كلام سمع منه رضي الله عنه وأرضاه(٢).
    وهنا يأتي التساؤل، هل أنَّ الإمام (عجّل الله فرجه) ترك شيعته مُهْمَلِين، بلا خطة عمل، ولا طريق يسيرون عليه ويستنيرون به، وتركهم سدى تتلقفهم الأهواء والآراء، وأوكلهم إلى أنفسهم وعقولهم في إدارة شؤونهم، كلٌ بما يراه ويقرره، والتي قد تتأثر كثيراً ببعض التجاذُبات والحوادث من هنا وهناك؟
    أم أنه (عجّل الله فرجه) وضع لهم مساراً خاصاً يكون لهم عَلَماً هادياً، ونوراً يسترشدون به ويستضيئون بهداه، حتى يأذن الله تعالى له بالخروج والقيام، وأنه لم يتركهم يخوضُونَ غمار الأهواء والآراء دون ملجأ وثيق، ولا أنه تركهم تطحنهم المصاعب والمصائب دون حصن يحتمون به، ولا أمل يتعلقون به، ولا رؤيا لمستقبلهم يتمسكون بها؟
    نعم، إن من لطف الإمام (عجّل الله فرجه) بشيعته، ومزيد رعايته لهم وعنايته بهم، وشدة حرصه في المحافظة على عقيدتهم وعبادتهم نقيةً خالصةً، ولزوم استقامتهم على النهج القويم، أنْ رسم لهم مساراً استراتيجيّاً لا يُحَدَّدُ بعصر ولا يُقَيَّدُ بزمان، ولا ينحصرُ بمكان، ولا بعنوان شخص ما، بل إنّ لهذا المسار القابلية على التفاعل في كل الأزمان والعصور والأماكن ومع كل الأشخاص – بشرطها وشروطها-، ويلائم كافة الظروف، ويتعايش مع المتغيرات الطارئة بدون استثناء.
    ومن هنا حاولنا تسليط الضوء والتركيز على ثلاثة محاور مهمة –على نحو الاختصار- رسمها الإمام (عجّل الله فرجه) لشيعته في طريقة التعامل مع عصر الغيبة الكبرى، وكيفية التفاعل والتواصل معه (عجّل الله فرجه)، بعد أن ألْغَى طريقة التواصل المباشر معه على النحو السابق في الغيبة الصغرى عن طريق السفراء.
    فلا يقال إن الإمام (عجّل الله فرجه) لا دور له في الغيبة الكبرى، وأنه أهمل شيعته تتقاذفهم الصراعات والأهواء، بل إِنَّه (عجّل الله فرجه) وضع استراتيجيَّةً محددة وخطة عمل بعيدة المدى، لا تشوبها شائبة ولا شبهة، ولا تعارضها أو تزاحمها استراتيجيّةٌ أخرى مهما كان محل صدورها؛ لأن هذه الاستراتيجيَّة صدرت برعاية إلهية، ومن حجة الله في الأرض.
    وكانت هذه الاستراتيجيَّة وخطة العمل الموضوعة من الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) لشيعته في عصر الغيبة الكبرى تحاكي ثلاثة مسارات أو مستويات:
    ١- على مستوى الاتصال بالإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، بنفي أي دعوى للسفارة عنه وتكذيبها.
    ٢- على مستوى قيادة الأمة، باللجوء إلى العلماء الأعلام الأبرار، والمراجع العِظام والتمسك بهم.
    ٣- على مستوى الفرد، بمعرفة الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه) حق معرفته والإيمان بخروجه وانتظار ذلك.
    المسار الأول: نفي أي دعوى للسفارة عنه (عجّل الله فرجه) وتكذيبها:
    إنَّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بهذا المسار المهم والتوجيه السَّديد قطع دابر أي دعوى للّقاء به، وتبليغ شيء عنه ممن يدّعي ذلك، كطلّاب الدنيا وأصحاب الأهواء الذين يدّعون السفارة عنه والنيابة واللقاء به، ويبثّون الإرشادات والتوجيهات المنسوبة إليه كذباً وزوراً لشيعته ومواليه عن طريق هذه الدعوى.
    فأسّس (عجّل الله فرجه) قاعدة ثابتة قبيل وفاة السفير الأخير بأيام، كذَّبَ فيها وأبطل كل دعوى تبتني على مشاهدته في الغيبة الكبرى واللقاء به ونقل الأوامر عنه حتى قيامه (عجّل الله فرجه) وظهوره العلني بأمر الله تعالى بعد الصيحة وخروج السفياني، ونبَّهَ شيعته إلى ذلك في توقيعه الأخير، حيث قال (عليه السلام):
    «... وسيأتي شيعتي من يدعي المشاهدة، ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم»(٣). إِذ أنَّه (عجّل الله فرجه) حَكَمَ على كل مدّعي المشاهدة والسفارة بأنهم كاذبونَ مُفْتروُن.
    وهذا ما ألفناه وجداناً، وبصورةٍ عمليةٍ، فإن كل دعاوى النيابة والسفارة على مدار القرون الماضية في الغيبة الكبرى نراها قد فشلت واضمحلت؛ لأنها لم تُحاكِ الواقع ولا العقل، وقد أُخزيَ مُدَّعُوها واتباعهم، ولم يبق لهم أثر ولا عين في الساحة الإسلامية، فضلاً عن الساحة الشيعية سوى الذكر السيء والكلام المشين في التاريخ، وتصنّف ضمن الدعاوى والفرق الضالة والطارئة على المجتمع الإسلامي.
    بل نحن نرى إنكار هذا الأمر من الناحية التطبيقية العملية من عامة الشيعة وعلمائهم، فإنهم سرعان ما يلفظون أي مدّع للسفارة عن الإمام (عجّل الله فرجه) ويرفضونه ويَسخرون من دعواه، ثم تكشف الأيام زيف دعواه وكذبه، ولم يتأثروا بأي دعوى من هذا القبيل على مدار القرون الماضية، إلّا بعض الأغمار والسذج من بسطاء الناس ممن يسهل خداعهم أو إغرائهم.
    فبهذا المسار الاستراتيجي الأول أراد الإمام (عجّل الله فرجه) أن يحصِّن شيعته من هؤلاء الكذابين الأدعياء، ويرسم لهم خطاً ثابتاً مستقيماً لا يميل ولا يحيد عنه أحدٌ إلّا ضَلَّ طريق الحق، ولا ينخدعوا بدعاوى المُضلين وأصحاب الأهواء، فينجرّوا خلفهم وينخدعوا بدعاواهم.
    وهذا من أهم الحصون الحامية التي حفظت الشيعة من التمزّق والتشتت، وجعلتهم أمة متماسكة على مدار القرون، رغم الضغط الشديد من الظالمين والقتل والتهديد، وما زالوا تحت نهج واحد وراية واضحة.
    المسار الثاني: اللجوء إلى العلماء الاعلام والمراجع العظام والتمسك بهم:
    إنَّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) يَعْلَمُ بحدوث منطقة فراغ في قيادة الأمة عند غيبته الكبرى، لاسيّما بين شيعته ومواليه.
    كما أنّ موضوعات الأحكام الشرعية تتبدل وتتغير على مدار الأيام والعصور، والأحداث تتطور، والوقائع تتجدد خلالها، ومع اختلاف وتنوع الأماكن والبلدان، فلابد من الوقوف على الواقع الفقهي من الحلال والحرام ونحوهما من الأحكام الشرعية على المكلف، وهذا مما لا يتيسر لكل أحد من الناس.
    فضلاً عن تحصين عقائد الشيعة -لاسيما لبسطاء الناس وعوامهم- من شُبهات أهل الضلالة والتشكيك، بالوقوف بوجههم وردّهم بالحجة والبرهان.
    بيد أَنَّه لا يمكن اللجوء في ذلك لكل أحد من علماء المسلمين، كعلماء العامة أو علماء الزيدية وغيرهم، بل وبعض من الشيعة من طلاب الدنيا أيضاً.
    وهُنا رسم الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) مساراً استراتيجيّاً ثانياً لشيعته بعيد الأمد، لا يتقيد بِزمان ولا مكان في الغيبة الكبرى -بعد أن كانت الشيعة تستنير منه (عجّل الله فرجه) مباشرة بواسطة سفرائه ونوَّابهِ الأربعة-، وهذا المَسارُ هو الرجوع إلى رواة أحاديث أهل البيت (عليهم السلام)، كما نَبَّهَ إلى ذلك، بقوله (عجّل الله فرجه):
    «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم وأنّا حجّة الله»(٤).
    ورواة الحديث المذكورون في الرواية هم العلماء الأعلام والمراجع العظام الذين حفظوا روايات أهل البيت (عليهم السلام) وتدارسوها، وعرفوا علوم آل محمد (عليهم السلام) وفهموا كلامهم، وحملوا على عاتقهم بيان الحقائق المعرفية لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وتوضيحها للناس على اختلاف العلوم وتنوعها، عقيدة ومنهجاً وسلوكاً، فكانوا مَلاذاً لحفظ عقائد الناس، ومَرجِعاً لحمايتهم من الانحراف.
    وقد تمكَّن هؤلاء العلماء الأعلام من استنباط الأحكام الشرعية في مختلف الوقائع الحادثة والمستحدثة من خلال ما أصَّلَهُ أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، كما قال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): «إنما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرعوا»(٥)، وعن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: «علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع»(٦).
    فقام علماؤنا الأعلام بإرجاع هذه الفروع الحادثة إلى تلك الأصول الثابتة عنهم، ورفع العسر والحرج عن عامة الناس في أحكامهم العبادية والشرعية.
    ولكن ما هي صفة هؤلاء العلماء الذين أمرنا الإمام (عجّل الله فرجه) بالرجوع إليهم والتمسك بسيرتهم، وهل الأمر يشمل كافة العلماء، أو كُلَّ من ادّعى ذلك؟
    أبداً، فإن والد الإمام المهدي (عليهما السلام) قد رسم صفات هؤلاء العلماء وحدد معالمهم، حيث قال (عليه السلام): «فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه»(٧). أي أن يرجعوا إليه ويتمسكوا بتوجيهاته وآرائه.
    وقد حَذَّرَ (عليه السلام) من علماء الدنيا الذين يكونُ همُّهُم تَمَلُّك زمام رقاب الناس بأي نحو كان، وحب الظهور وطلب الشهرة، والطمع الدنيوي، والتشكيك في عقائد الناس، دون وازع من ورع أو تقوى، فإن هؤلاء العلماء الدنيويين الانتفاعيين -الذين هم من غير الشيعة الحقيقيين- أَضَرُّ على الشيعة من جيش يزيد بن معاوية على الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه.
    فقال (عليه السلام) -بعد أن ذكر صفات العلماء الأبرار الذين ترجع لهم الشيعة-:
    «وذلك -أي الفقهاء الأبرار- لا يكون إلّا في بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم.
    فإِنَّ مَنْ ركب مِن القبائح والفواحش مراكب فسقة فقهاء العامة(٨) فلا تقبلوا منهم عنا شيئاً، ولا كرامة لهم، وإنما كثر التخليط فيما يتحمل عنا أهل البيت لذلك، لأن الفسقة يتحملون عنا، فهم يحرفونه بأسره لجهلهم، ويضعون الأشياء على غير مواضعها ووجوهها؛ لقلة معرفتهم.
    وآخرين يتعمدون الكذب علينا ليجروا من عرض الدنيا ما هو زادهم إلى نار جهنم.
    ومنهم قوم نُصاب لا يقدرون على القدح فينا، يتعلمون بعض علومنا الصحيحة فيتوجهون به عند شيعتنا، وينتقصون بنا عند نصابنا، ثم يضيفون إليه أضعافه وأضعاف أضعافه من الأكاذيب علينا، التي نحن براء منها، فيتقبله المسلمون المستسلمون من شيعتنا على أنه من علومنا فضلوا وأضلوهم.
    وهم أضرُّ على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد على الحسين بن علي (عليهما السلام) وأصحابه، فإنهم يسلبونهم الأرواح والأموال، وللمسلوبين عند الله أفضل الأحوال لما لحقهم من أعدائهم.
    وهؤلاء علماء السوء الناصبون المشبهون بأنهم لنا موالون، ولأعدائنا معادون، يُدخِلون الشكّ والشبهة على ضعفاء شيعتنا، فيضلونهم ويمنعونهم عن قصد الحق المصيب»(٩).
    ويكفينا في الاطمئنان بصحة هذه الرواية ما شاهدناه وعرفناه من حال الكثيرين الذين أدعوا العلم والورع زوراً وبهتاناً في الواقع الشيعي، فخلخلوا نظام الناس وشوَّشوا على معتقداتهم وسلوكهم.
    كما نَلْمَسُ وجداناً حُسْن القيام بهذا الدّور الذي أوكل إلى العلماء الأتقياء الأبرار على أرض الواقع، فقد اهتم علماؤنا الأعلام بتأليف الكتب والموسوعات الكبيرة والمختصرة، العقائدية والفقهية، وإِقامة الحوزات العلمية، وإِرسالِ المبلغين لمختلف البلدان لنشر الأحكام الشرعية وتوضيح العقائد للناس، في إِطارِ حفظ ونشر العلوم المعرفية والعقائدية والفقهية لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام).
    وحيث إن مناط هذه الأمور هو من مسؤوليات الإمام (عليه السلام) وتحت إشرافه، فإنه (عليه السلام) أوكلها إلى بعض رعيته من العلماء الأعلام، واستنابهم فيما لا يباشره بنفسه (عليه السلام)، مِنْ نظم أمور الشِّيعة في كل زمان وضبطها وإصلاحها، ورفع الشبهات عنهم، وتقوية عقائدهم، وبيان أحكامهم، ورعاية شؤونهم.
    كما يجدرُ الانتباه إلى بعض العلماء الذين غرَّتهم الدنيا، فأصبحوا من طلابها، وتفانوا في سبيلها، وانكبوا على زخارفها وحطامها، والذي هو سبب كل ظلمة وغشاوة، ورأس كل خطيئة ومعصية. فإن أمثال هؤلاء أبْعَد ما يكونُون عن مراد الإمام (عليه السلام) وهدفه، فإن أمثالهم لا يصلحون لقيادة الأمة، ولا لإدارة شؤون الشيعة ومرجعيتها، كما لا يصلحون للتقليد؛ لأن هذه المنزلة العظيمة والمكانة الرفيعة برجوع الشيعة إلى أحد العلماء لا تتأتّى إلّا لمن أخلص لله تعالى وصدق في نواياه الظاهرة والباطنة، وأزال حب الدنيا عن قلبه وهواه، فكان أهلاً لقيادة الأمة وأخذ زمام مرجعيتها.
    ومن هنا نرى أن مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ما حُفِظ كيانُها ولا حمي جدرانها من التصدع والخلل، ولا بَقِيَتْ أركانها قائمة، وصورتها محفوظة، ورايتها مرفوعة ونابضةً بالعطاء الفكري والمعرفي -على الرغم من تنكّر الطغاة لها ومحاربتها، والطعن فيها من وعّاظ السلاطين وزبانيتهم من المشكّكين والمضلّلين والمنحرفين على مدار القرون الماضية- إلّا ببركة هؤلاء العلماء الأعلام، الورعين الأتقياء من مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، ورواة حديثهم، فإنهم كانوا وما زالوا قادة للأُمة صامدين ثابتين لا تغير منهم الحوادث، ولا تميلهم الرياح العاتية، ولم تُغرِهم زخارف الدنيا، وحملوا على عاتقهم الحفاظ على منهج أهل البيت (عليهم السلام) ومعارفهم، وإبقاء صورته صافية ناصعة، ومشربه عذباً زلالاً، فكان أكبر همهم وأعلى جدهم الحفاظ على عقائد المؤمنين، ونشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)، والتصدي لأعداء الدين والمذهب، وحمايته من الدخلاء والجهلاء ومدّعي العلم بمختلف الأساليب والطرق.
    فنبَّهَ الإمام (عليه السلام) إلى أن العلماء الأعلام، الأتقياء الأبرار، هم القادة الفعليون للأمة في عصر الغيبة الكبرى، وباتِّباعِهِمْ تحصل النجاةُ من الضلال والضياع، والفتن التي تعصف بالأمة، وأن في طاعتهم طاعة له (عليه السلام)، حيث أمر باتباعهم والرجوع إليهم والالتزام والتمسك بهم، فإن في ذلك حفظاً للدين والعقيدة، كما قال جدُّ الإمام المهدي علي بن محمد الهادي (عليهم السلام):
    «لولا مَنْ يبقى بعد غيبة قائمكم (قائمنا) (عليه الصلاة والسلام) من العلماء الداعين إليه، والدالين عليه، والذابين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شِباك إبليس ومردته، ومن فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلّا ارتدَّ عن دين الله، ولكنهم الذين يمسكون أزمَّة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكّانها، أولئك هم الأفضلون عند الله (عزّ وجل)»(١٠).
    فالعلماء الأبرار هم نواب الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، وسفراؤه بالنيابة العامة بما حَمَّلَهُم الإمام (عجّل الله فرجه) من المسؤولية في حفظ معالم الشريعة في غيبته الكبرى.
    المسار الثالث: معرفة الإمام المنتظر (عجّل الله فرجه) والإيمان بخروجه وانتظار ذلك:
    ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الخبر المستفيض أنه قال: «مَنْ مات ولم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتة جاهلية»(١١).
    بمعنى: أنَّ مَنْ لَم يعرف إمامه فإنه مُخالفٌ لنهج الإسلام، ولسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وجاحدٌ لكتاب الله تعالى، فشابه عمله عمل أهل الجاهلية، وكان بحكم الكافر المُنكر للدين الحقّ.
    فإن من جملة الثوابت الإسلامية وأصوله -كما يدل عليها هذا الحديث الشريف ويثبتها- هي استمرارية وجود إمام العصر والزمان (عجّل الله فرجه)، ووجوب معرفته، والإيمان به والبيعة له والتزام طاعته، ويؤيد هذا قوله تعالى ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ (القصص: ٥).
    وقد سُئل والد الإمام المهدي أبو محمد الحسن بن علي العسكري (عليهم السلام) عن الخبر الذي روي عن آبائه (عليهم السلام): «أن الأرض لا تخلو من حجة لله على خلقه إلى يوم القيامة»، وأن «مَنْ مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية».
    فقال (عليه السلام): «إن هذا حق، كما أن النهار حق».
    فقيل له: يا بن رسول الله فمن الحجة والإمام بعدك؟
    فقال: «ابني محمد، هو الإمام والحجة بعدي، مَنْ مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية. أما إن له غيبة يحار فيها الجاهلون، ويهلك فيها المبطلون، ويكذب فيها الوقاتون، ثم يخرج فكأني أنظر إلى الأعلام البيض تخفق فوق رأسه بنجف الكوفة»(١٢).
    وعن زرارة قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إن للغلام غيبة قبل أن يقوم».
    قال قلت: ولم؟
    قال: «يخاف»، وأومأ بيده إلى بطنه.
    ثم قال: «يا زرارة وهو المنتظر، وهو الذي يُشك في ولادته، منهم من يقول: مات أبوه بلا خلف، ومنهم من يقول: حمل، ومنهم من يقول: إنه ولد قبل موت أبيه بسنتين، وهو المنتظر غير أن الله (عزّ وجل) يحب أن يمتحن الشيعة فعند ذلك يرتاب المبطلون».
    قال: قلت: جعلت فداك، إن أدركتُ ذلك الزمان أي شيء أعمل؟
    قال: «يا زرارة إذا أدركت ذلك الزمان فادعُ بهذا الدعاء:
    اللهم عرفني نفسك فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف نبيك، اللهم عرفني رسولك فإنك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك، اللهم عرفني حجتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني»(١٣).
    معرفة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) والإيمان به:
    والمَعرِفة الحقيقية للإمام (عجّل الله فرجه) لا تتقوّم بمعرفة اسمه ولا صفته فقط، وإن وجب تشخيص ذلك وتمييزه عن غيره، كما في مقامنا هذا وعصرنا، فهو الإمام محمد المهدي، ابن الإمام الحسن العسكري، ابن الإمام علي الهادي، ابن الإمام محمد الجواد، ابن الإمام علي الرضا، ابن الإمام موسى الكاظم، ابن الإمام جعفر الصادق، ابن الإمام محمد الباقر، ابن الإمام علي زين العابدين، ابن الإمام الحسين الشهيد، ابن الإمام علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء (عليهم السلام)، بنت رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
    فإن على الإنسان -لاسيما في عصر الغيبة الكبرى- أن يَعرف إمام زمانه حق معرفته، لكي يؤدي واجباته تجاهه، ولا يُقصر معه، فقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام):
    «معرفة الإمام الذي به يأتم بنعته وصفته واسمه في حال العسر واليسر، وأدنى معرفة الإمام: أنه عِدل النبي إلّا درجة النبوة ووارثه، وأن طاعته طاعة الله وطاعة رسول الله، والتسليم له في كل أمر، والرد إليه، والأخذ بقوله»(١٤).
    إنَّ معرفة الإمام (عليه السلام) حقَّ معرفته أمرٌ أوسع من هذا وأعمق، وأكبر وأهم، كما تشير الرواية: بأدنى معرفة الإمام. ومن أدنى هذه المعرفة أن طاعته طاعة لله ورسوله، وفي مخالفته والرد عليه رد عليهما ومخالفتهما، مع التسليم والانقياد التام له. وما يكون أبعد من هذا فهو في علمهم (عليهم السلام).
    ومن ذلك أن على المؤمن أن يؤمن به ويسلم له ويطيعه على كل حال، سواء تقلد زمام الحكم أو تأخر عنه؛ لأن مقام الإمامة مقام إلهي يَهبه الله تعالى لمن اصطفاه، ولا يُنزع منه وإن لم يَلي الأمر والحكم.
    وقد روي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام):
    «مَنْ مات وليس له إمام فميتته ميتة جاهلية، ومن مات وهو عارف لإمامه لم يضره، تقدم هذا الأمر أو تأخر، ومن مات وهو عارف لإمامه، كان كمن هو مع القائم في فسطاطه»(١٥).
    وروي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ﴾ (الإسراء: ٧١) فقال:
    «يا فضيل اِعرفْ إمامك، فإنك إذا عرفت إمامك لم يضرك تقدم هذا الأمر أو تأخر، ومَنْ عَرِف إمامه ثم مات قبل أن يقوم صاحب هذا الأمر كان بمنزلة من كان قاعداً في عسكره، لا بل بمنزلة من قعد تحت لوائه»(١٦).
    ومن بيان معرفته قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
    «القائم من ولدي، اسمه اسمي، وكنيته كنيتي، وشمائله شمائلي، وسنته سنتي، يقيم الناس على ملتي وشريعتي، ويدعوهم إلى كتاب ربي (عزّ وجل)، من أطاعه فقد أطاعني، ومن عصاه فقد عصاني، ومن أنكره في غيبته فقد أنكرني، ومن كذَّبه فقد كذَّبني، ومن صدَّقه فقد صدَّقني، إلى الله أشكو المكذبين لي في أمره، والجاحدين لقولي في شأنه، والمضلّين لأُمتي عن طريقته ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ [الشعراء: ٢٢٧]»(١٧).
    فمن هذا، تعرف أنَّ طريق معرفة الإمام (عجّل الله فرجه) هو طريقٌ لمعرفة الله تعالى وحدوده وأحكامه؛ لأن معرفته (عجّل الله فرجه) توجب التمسك بأحكام المولى؛ إِذ أنَّ طاعته ملازمة لمعرفة وطاعة الله ورسوله، فإنه إذا عَرفهُ المسلم حقَّ معرفته وجب الاقتداء به وطاعته، والالتزام بأوامره وإرشاداته وتوجيهاته، وقد روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال:
    «إنما يَعرِف الله تعالى ويعبده مَنْ عرف الله وعَرِفَ إمامه منا أهل البيت، ومَنْ لا يَعرف الله تعالى ولا يَعرف الإمام منا أهل البيت فإنما يَعرف ويَعبد غير الله، هكذا والله ضلالاً»(١٨). أي أنهم يسلكون طريقاً خاطئاً ومنحرفاً عن الصراط المستقيم، ويقعون في مستنقع الضلالة.
    وبإنكار الإمام (عليه السلام) إنكار لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومَنْ أنكر رسول الله فهو خارج عن الملة وكافر، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
    «من أنكر القائم من ولدي فقد أنكرني»(١٩).
    ومن جواب له (عجّل الله فرجه): «أمَّا ما سألت عنه أرشدك الله وثبتك من أمر المنكرين لي من أهل بيتنا وبني عمنا، فاعلم أنه ليس بين الله (عزّ وجل) وبين أحد قرابة، ومَنْ أنكرني فليس مني، وسبيله سبيل ابن نوح (عليه السلام)»(٢٠).
    فمعرفة إمام العصر (عجّل الله فرجه) من الضروريات الثابتة لدين المسلم، وأنَّ الأرض لا تخلو من حجة وإمام، إمّا إماماً ظاهراً مشهوراً أو غائباً مستوراً، وإلّا ساخت الأرض بأهلها، كما ورد عنهم (عليهم السلام)(٢١).
    إِنَّ الله (عزّ وجل) لا يترك عباده مُهْمَلِين، دون عَلَمٍ مرشد، ولا حجة هادية، ولا نور يستضيئون به، وإن وجه الانتفاع بالإمام (عجّل الله فرجه) في غيبته كالانتفاع بالشمس إذا غيَّبها عن الأبصار السحابُ، وأن الإمام (عجّل الله فرجه) أمانٌ لأهل الأرض، كما النجوم أمان لأهل السماء، فيما روي عن جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعنه (عجّل الله فرجه)(٢٢).
    وفيما يُروى عنه (عجّل الله فرجه) أنه قال:
    «إنا غير مُهْملِين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم...»(٢٣).
    فمن كمال لطفه وعنايته، أنه يُحيطنا برعايته، ونستضيء بنوره، وإِن لم نكُن عارفين بتلك الطُّرق والمسالك.


  • #2


    لتواصل بين الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وشيعته:
    وعليه، فلابد من بقاء الصلة والرابطة، والمحافظة عليها بيننا وبين الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، وتواصلها بمختلف العناوين تذكيراً وسلوكاً، فإنه مما يستحب للمؤمن أن يجدد البيعة له في كل صباح تذكيراً للنفس وتأكيداً عليها، كما ورد في دعاء العهد:
    «اللهم إنّي أُجدد له في صبيحة هذا اليوم، وما عشت به في أيامي، عهداً وعقداً وبيعة له في عنقي، لا أحول عنها ولا أزول، اللهم اجعلني من أنصاره وأعوانه، الذابين عنه، المسارعين في حوائجه، الممتثلين لأوامره، المحامين عنه، المستشهدين بين يديه»(٢٤).
    كما أن الله تعالى لا يقبل من المسلم صلاة ولا صياماً، ولا حجاً ولا زكاة، ولا فرضاً ولا جهاداً، دون معرفة الإمام (عليه السلام) والبيعة له؛ لأن قبول هذه الأعمال منوط بالإيمان به (عليه السلام) ومعرفته، إذ يُفترض أن من لوازم معرفة الإمام (عليه السلام) أن يتولد عند الإنسان باعث نفسي في أداء الفروض الشرعية الإسلامية، وباعث عَملي للتحرك نحو ذلك؛ اقتداء به (عليه السلام) والتمسك والسير على نهجه القويم، كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «ألا وإِنّ لِكلّ مأموم إِماماً يقتدي به، ويستضيء بنور علمه»(٢٥)، والالتزام بمساره الثابت بدعوته إلى الله تعالى وما يلازمها، والتمسك بتطبيق ما بلَّغ به الإمام (عجّل الله فرجه) وآباؤه الطاهرون، من الأوامر والنواهي على أرض الواقع، والتسليم المطلق له، والبحث عن مراده فيما يحب ويكره والعمل به؛ لأنه (عجّل الله فرجه) ظل الله في الأرض، وأَنَّه الطريق الأبلج والحجة الإلهية على الناس؛ وذلك بتتبع الأخبار والمرويات التي تحكي عن أقوال الإمام (عجّل الله فرجه) وسيرته وأحواله، وعن آبائه الطاهرين (عليهم السلام)، فهذا جزء من أداء حق الإمام المهدي (عجّل الله فرجه).
    لا أن يكون معنى الاقتداء به (عجّل الله فرجه) مجرد لقلقة لسان وتباهٍ بالكلام، وحكاية أماني ورغبات، خالية من أي أثر حقيقي على أرض الواقع، ولا تأثير لها في سلوك الشخص ولا مسيرته، مع الله تعالى ولا في المجتمع.
    ومن أبرز توجيهاته -ما بيناهُ سالفاً- من رفض كل مدّعٍ للسفارة والنيابة الخاصة عنه، والتمسك بالعلماء الأعلام الورعين الأتقياء، الذين بهم يحفظ الدين والمذهب، ويصان الإنسان، ويُحفظ من الفتنة والضلالة، وسوء العمل والمنقلب، فطريق معرفة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، هو طريق لمعرفة الله تعالى والالتزام بحدوده وأحكامه.
    انتظار الإمام المهدي (عجّل الله فرجه):
    كما أن من أهم حقوق معرفة الإمام (عجّل الله فرجه) التي في ذمة المؤمن به شخصاً ووجوداً، هو انتظار الفرج بخروجه المحتوم والنصر على الظالمين والدعاء له بذلك.
    قال الإمام الكاظم (عليه السلام): «أفضل العبادة بعد المعرفة انتظار الفرج»(٢٦).
    وقال الإمام الجواد (عليه السلام): «أفضل أعمال شيعتنا انتظار الفرج»(٢٧).
    وروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إِنَّ أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج»(٢٨).
    بل ورد أنَّه من أفضل الجهاد، كما قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «أفضل جهاد أمتي انتظار الفرج»(٢٩).
    كما يستحب كثرة الدعاء له بالفرج، فقد روي عنه (عجّل الله فرجه): «أكثروا الدعاء بتعجيل الفرج فإِن ذلك فرجكم»(٣٠).
    إن على الشيعة أن يكونوا من الثابتين الصابرين، فلا يأخذهم اليأس ولا الملل من طول الانتظار، فإن هذا الأمر لا يأتي إلّا بعد يأس(إياس)، «لا والله لا يأتيكم حتى تميزوا، لا والله لا يأتيكم حتى تمحصوا، ولا والله لا يأتيكم حتى يشقى من شقي، ويسعد من سعد»(٣١). فهنيئاً للثابتين، فإن أفضل العبادة انتظار الفرج.
    ومن رسالة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) إلى والد الشيخ الصدوق (رحمه الله)، منها:
    «وعليك بالصبر وانتظار الفرج فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج، ولا يزال شيعتنا في حزن حتى يظهر ولدي الذي بشر به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنه يملأ الأرض عدلاً وقسطاً، كما مُلئت جوراً وظلماً، فاصبر»(٣٢).
    وحيث إنَّ مفهوم الانتظار من أبرز مصاديقه وأصدقها يتمثل في انتظار فرج العَالم مِنْ المحرومين والمضطهدين والمستضعفين، بخروج الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وإقامة دولة العَدل الإلهية على الأرض.
    وأمّا موعد ظهور الفرج، فإِنَّه موكول إلى أمر الله تعالى، قال الإمام الباقر (عليه السلام):
    «كذب الوقاتون، كذب الوقاتون، كذب الوقاتون»(٣٣).
    وعن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) إذ دخل عليه مهزم، فقال له: جعلت فداك أخبرني عن هذا الأمر الذي ننتظر، متى هو؟
    فقال: «يا مهزم كذب الوقاتون، وهلك المستعجلون، ونجا المُسَلِّمون لأمرنا وطاعتنا وانتظار قائمنا»(٣٤).
    هذا، وتجد من الروايات في انتظار فرج قائم آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والحث على ذلك الشيء الكثير، وقد أعد الله تعالى للمنتظرين الصادقين المقام الرفيع والأجر العظيم؛ لثبات نفوسهم واطمئنانهم بخروجه ونصره على الظالمين ولو بعد حين، بما أعطاهم الله تعالى من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به غيبته (عجّل الله فرجه) عندهم بمنزلة المشاهدة واليقين في نفوسهم، منها:
    عن أبي عبد الله (عليه السلام) يقول:
    «من مات منكم وهو منتظر لهذا الأمر كمن هو مع القائم في فسطاطه».
    قال: ثم مكث هنيئة ثم قال:
    «لا بل كمن قارع معه بسيفه»، ثم قال:
    «لا والله إلّا كمن استشهد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)»(٣٥).
    وسألَ سائل الإمام الباقر (عليه السلام): أخبرني بدينك الذي تدين الله تعالى به أنت وأهل بيتك؛ لأدين الله تعالى به؟
    قال (عليه السلام): «إن كنت أقصرت الخطبة فقد أعظمت المسألة، والله لأعطينك ديني ودين آبائي الذي ندين الله تعالى به، شهادة أن لا إله إلّا الله وأن محمداً رسول الله، والإقرار بما جاء به من عند الله، والولاية لولينا، والبراءة من عدونا، والتسليم لأمرنا، وانتظار قائمنا، والاجتهاد والورع»(٣٦).
    وعن الإمام زين العابدين (عليه السلام):
    «إن أهل زمان غيبته، القائلون بإمامته، المنتظرون لظهوره، أفضل أهل كل زمان؛ لأن الله تعالى ذكره أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسيف، أولئك المخلصون حقاً، وشيعتنا صدقاً، والدعاة إلى دين الله سراً وجهراً»(٣٧).
    وقال (عليه السلام): «انتظار الفرج من أعظم الفرج»(٣٨).
    وغير ذلك كثير من الروايات الحاثة على انتظار الفرج بقائم آل محمد (عليهم السلام)، وقد اقتصرنا على هذه الروايات روماً للاختصار.
    وهذه الروايات وغيرها تؤكد وتدلل على القناعة التامة بجدارة الحل الإسلامي كمنهج عبادة وحياة لقيادة العَالم، بقيادة الإمام المنتظر مهدي هذه الأمة (عجّل الله فرجه)، وقدرته على حَلِّ مشاكل هذا العَالم بما تتهيأ له من الظروف والإمكانات والرجال، ليفتح أبواب العدالة والسعادة للعَالم أجمع.
    فمعنى الانتظار هو استراتيجيَّة إلهية وتخطيط سماوي بآلية عِبادية لبناء الإنسان وتكامله، والوصول به نحو تكامل الذات والروح، مُقدمة للارتقاء به نحو بذل الجهد والاجتهاد على مستوى التطبيق العملي؛ وإقامة الهدف المنشود لإقامة دولة العدل الإلهية، بالاستعداد وتهيئة النفس، بعد الإيمان بالإمام (عجّل الله فرجه) ومعرفته، مما يترتب على ذلك سلوك عمليٌ، واقعي فعلي، بل إلى كل ما يبعث في الإنسان روح المسؤولية، ويوقظ فيه روح العقل، ويفتح طاقات الإنسان الكامنة في إقامة دولة العدل الإلهي، فتكون المسؤولية أكبر والتَّهيُّؤُ لذلك أعظم، ولا يأخذه اليأس إلى ذلك، بل لابد أن تكون قيم الثبات والصمود والصبر والإيمان راسخة في النفس مهما طال الأمد وقست القلوب وكَثُرَ المشككون.
    وقد بنى ركيزةَ الانتظار ومَهَّدَ لها رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والأئمة الأطهار (عليهم السلام)، حتى أرسى (عجّل الله فرجه) دعائمها بعد غيبته الكبرى، كمسار استراتيجي لشيعته، لكي لا يُنسى ذِكره، ولا يُهمل أثره في نفوس شيعته ومواليه.
    هذا، وإنَّ هناك كثيراً من العناصر التي تُعد من مقومات الانتظار الحقيقي التي تبني روح الإنسان المؤمن، وتتكامل بها شخصيته، وتقوى صلته بإمامه وتواصله، منها:
    - الاستعداد التام والتَّهيُّؤُ العملي لانتظار الفرج صباحاً ومساءً، والجِدّ في الانتظار وعدم التغافل، ولا يكون مجرد لقلقة لسان وذكر أحاديث عابرة.
    - اِستحبابُ كثرة الدعاء للإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بالفرج، فإن أعظم الفَرج هو انتظار الفرج، والتصدق عنه (عجّل الله فرجه).
    - الصبر على الانتظار وعدم اليأس من الفرج مهما مَرَّت المصاعب والأحداث، وتطاولت الأيام والدهور، فعن أبي بصير قال: قال الصادق (عليه السلام):
    «طوبى لمن تمسك بأمرنا في غيبة قائمنا، فلم يزغ قلبه بعد الهداية»(٣٩).
    - التورُّع عن محارم الله تعالى، والتمسك بنهج أهل البيت (عليهم السلام)، والتزين بمحاسن الأخلاق، قال الإمام الباقر (عليه السلام):
    «لِيَعنْ قويُّكم ضعيفَكم، ولِيعطف غنيكم على فقيركم، ولينصح الرجل أخاه كنصيحته لِنفسه، واكتموا أسرارنا، ولا تحملوا الناس على أعناقنا، وانظروا أمرنا وما جاءكم عنا، فإن وجدتموه للقرآن موافقاً فخذوا به، وإن لم تجدوه موافقاً فردوه، وإن اشتبه الأمر عليكم فيه فقفوا عنده، وردوه إلينا حتى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا، وإذا كنتم كما أوصيناكم، لم تعدوا إلى غيره، فمات منكم ميت قبل أن يخرج قائمنا كان شهيداً، ومن أدرك منكم قائمنا فقتل معه كان له أجر شهيدين، ومن قتل بين يديه عدواً لنا كان له أجر عشرين شهيداً»(٤٠).
    - تحصين قواعد الشيعة وتثقيفها ورعايتها بالمعرفة بما يدفع عنهم آراء المتخرصين في إلقاء الشبهات والتشكيك بالإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وعقائدهم.
    - التمسك بولاية أهل البيت (عليهم السلام) والبراءة من أعدائهم والثبات على ذلك، وأن لا يكون متردداً مضطرباً شاكاً. ومن معاني التمسك بولايتهم معرفتهم بأنهم اثنا عشر إماماً وخليفة، أولهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وآخرهم المهدي القائم محمد بن الحسن العسكري (عليهم السلام)، الذي بخروجه يتمّ الفرج، والإيمان بعقيدة المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه) وغيرها.
    - أن لا يكون انتظار الإمام القائم (عجّل الله فرجه) انتظار الكسالى والخاملين.
    - أن لا يكون انتظاره انتظار المتفرج الذي لا يهمه شيء، ولا يعنيه من الأمر إلّا نفعه الشخصي الآني.
    - أن لا يكون انتظاره انتظار اتكال بل أن يكون انتظار توكل واستعداد وبناء.
    فإنَّ على أمثال هؤلاء أن يبحثوا عن ساحة بعيدة عن منهج أهل البيت (عليهم السلام) ولينتفعوا في حياتهم بغيرهم لا بهم (عليهم السلام).
    وقال تعالى: ﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾ (هود: ١٢١-١٢٢). فإِنَّ المؤمن المنتظر حقاً هو الذي يُمهد للنصر، ويَستعد للفتح مع الإمام القائم (عجّل الله فرجه)، ويتجهز لذلك اليوم فكراً وسلوكاً وعملاً.
    لا أن ينتظر انتظار العاطلين البطالين؛ ليأتيه النصر والفتح مُنحة سماوية خالصة من دون ثمن ولا جِدٍّ ولا اجتهاد؛ فإنه مطرود.
    فبهذه المسارات الاستراتيجيَّة الثلاث، التي رسمها الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، حافظ على كيان شيعته ومواليه ثابتاً متماسكاً، وجعل الترابط والتواصل الروحي قائماً بينه وبينهم إلى أن يأذن الله تعالى له بالخروج، إنَّه سميع مجيب.

    تعليق


    • #3
      المصادر:

      (١) القرآن الكريم كلام رب العالمين.
      (٢) الاحتجاج- الشيخ الطبرسي، تعليق وملاحظات السيد محمد باقر الخرسان/١٣٨٦- ١٩٦٦م، نشر دار النعمان للطباعة والنشر- النجف الأشرف.
      (٣) الأمالي- الشيخ الصدوق، تحقيق قسم الدراسات الإسلامية - مؤسسة البعثة – قم، الطبعة الأولى/١٤١٧ نشر مركز الطباعة والنشر في مؤسسة البعثة.
      (٤) الأمالي- الشيخ الطوسي- تحقيق قسم الدراسات الإسلامية - مؤسسة البعثة، الطبعة الأولى/ ١٤١٤هـ، نشر دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع– قم المشرفة.
      (٥) تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)- ابن شعبة الحراني، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، الطبعة الثانية/ ١٤٠٤ - ١٣٦٣ ش، نشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.
      (٦) تفسير الإمام العسكري (عليه السلام)- المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه السلام)، تحقيق مدرسة الإمام المهدي ¨، الطبعة الأولى محققة/ ربيع الأول ١٤٠٩هـ، المطبعة مهر - قم المقدسة، نشر مدرسة الإمام المهدي ¨- قم المقدسة.
      (٧) جامع أحاديث الشيعة- السيد البروجردي /١٤١٥- ١٣٧٣ش، مطبعة مهر – قم، الناشر المؤلف.
      (٨) صحيح مسلم- مسلم النيسابوري، نشر دار الفكر- بيروت- لبنان.
      (٩) الكافي- الشيخ الكليني، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، الطبعة الخامسة/ ١٣٦٣ ش، مطبعة الحيدري نشر دار الكتب الإسلامية – طهران.
      (١٠) كفاية الأثر- الخزاز القمي، تحقيق السيد عبد اللطيف الحسيني الكوهكمري الخوئي/ ١٤٠١ مطبعة الخيام – قم، انتشارات بيدار.
      (١١) كمال الدين وتمام النعمة- الشيخ الصدوق، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري/ محرم الحرام ١٤٠٥ - ١٣٦٣ ش، نشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.
      (١٢) مجمع الزوائد- الهيثمي/ ١٤٠٨ - ١٩٨٨ م، نشر دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان.
      (١٣) المحاسن- أحمد بن محمد بن خالد البرقي/١٣٧٠ - ١٣٣٠ ش نشر دار الكتب الإسلامية – طهران.
      (١٤) المزار- محمد بن جعفر المشهدي- تحقيق جواد القيومي الاصفهاني الطبعة الأولى/رمضان المبارك ١٤١٩هـ، مطبعة مؤسسة النشر الإسلامي، نشر القيوم - قم - إيران.
      (١٥) مستطرفات السرائر (موسوعة ابن إدريس الحلي)، ابن إدريس الحلي، تحقيق وتقديم السيد محمد مهدي الموسوي الخرسان، الطبعة الأولى/ ١٤٢٩- ٢٠٠٨ م، نشر العتبة العلوية المقدسة.
      (١٦) مسند أحمد – ابن حنبل، نشر دار صادر - بيروت – لبنان.
      (١٧) مناقب آل أبي طالب- ابن شهر آشوب/١٣٧٦- ١٩٥٦م، الناشر مطبعة الحيدرية - النجف الأشرف.
      (١٨) الموسوعة الحرة (ويكيبيديا) على شبكة الأنترنت.
      (١٩) نهج البلاغة- خطب الإمام علي (عليه السلام) شرح الشيخ محمد عبده، الطبعة الأولى/١٤١٢- ١٣٧٠ش، مطبعة النهضة - قم، نشر دار الذخائر- قم - إيران.
      (٢٠) الوافي- الفيض الكاشاني- تحقيق وتصحيح والتعليق عليه والمقابلة مع الأصل ضياء الدين الحسيني (العلامة) الأصفهاني، الطبعة الأولى/أول شوال المكرم (١٤٠٦هـ)، طباعة أفست نشاط أصفهان، نشر مكتبة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) العامة

      تعليق

      المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
      حفظ-تلقائي
      Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
      x
      يعمل...
      X