السيد محمود المقدس الغريفي
ما إنْ حوصر دار الإمام العسكري (عليه السلام) بسامراء وهجم الظالمون عليها بعد وفاته سنة (٢٦٠هـ)، وعرفوا أنَّ له ولداً حيَّاً يُرْزق، وكان في علمهم كما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّ هذا المولود سيكون له الشأن العظيم والوعد الصادق، بخروجه للانتقام من الطغاة والظالمين؛ لإقامة دولة العدل الإلهية -وقد آمنوا بذلك في قرارة أنفسهم ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِينَ﴾ (النمل: ١٤)- حتى عزموا على التخلُّص منه وقتله قبل أن تنتشر أخباره بين الناس وتكثر أنصاره، ولكنَّهم لم يفقهوا قوله تعالى ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ (القصص: ٥) في أَنَّ نصره حتمٌ، وقيامه واقعٌ لا محالة ولو بعد حين، فاختفى (عجّل الله فرجه) من بين نظر الأعداء المهاجمين على الدار وخرج منها سالماً، كما خرج جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من بين صناديد قريش عندما اجتمعوا وقرروا قتله على فراشه بهجومهم على داره، فقرأ (صلى الله عليه وآله وسلم) ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ (يس: ٩) وخَرَجَ من بينهم وقد غُشي على أبصارهم.
وقد أَخَذَ (عجّل الله فرجه) يتواصل مع شيعته ومواليه ما يقرُب السبعين عاماً في غيبته الصغرى، بواسطة نوابه وسفرائه الأربعة الخاصين على الترتيب، وهم الذين شهد بوثاقتهم وجلالة قدرهم الخاص والعام، والقاصي والداني، فكانوا من ذوي الفضل والعلم والإيمان، وأُولي المنزلة العالية في مجتمعهم، والمكانة الرفيعة بين أقرانهم من الخاصة والعامة، حتى انقاد لهم جميع الشيعة، والتزموا بما يصدر عنهم من الناحية المقدسة، بعلمائهم وعوامهم، وأقرّوا لهم بالسفارة عن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، وأذعنوا بنيابتهم عنه (عجّل الله فرجه)، وصَدَّقوهم وتابعوهم فيما يصدر من الناحية المقدسة بواسطتهم (رضي الله عنهم).
فأدّوا ما عليهم أحسن أداء، وقاموا بأمور السفارة أحسن قيام، وأتموا عمل النيابة بإخلاص وصدق، مع شدة الظروف وقساوة الحكام وكثرة عيونهم في معرفة من يتصل بالإمام (عليه السلام)، وقد ترحَّم عليهم الإمام الحجة (عجّل الله فرجه) وجزَّاهم عنه خيراً بما أدّوا الأمانة إلى الشيعة مصونةً محفوظةً سالمةً لم تشُبْهَا شائبة شك ولا انحراف.
وهم على الترتيب الزّمنيّ في النيابة عن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه):
١- عثمان بن سعيد العَمري، سفارته من سنة (٢٦٠هـ) - وفاته سنة (٢٦٥هـ).
٢- محمد بن عثمان الخلاني، سفارته من سنة (٢٦٥هـ) - وفاته سنة (٣٠٥هـ).
٣- الحسين بن روح النوبختي، سفارته من سنة (٣٠٥هـ) - وفاته سنة (٣٢٦هـ).
٤- علي بن محمد السمري، سفارته من سنة (٣٢٦هـ) - وفاته سنة (٣٢٩هـ).
هذا، وبموت السفير الأخير انقطعت الغيبة الصغرى للإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، وانقطعَ تواصله مع شيعته ومواليه عن طريق السفراء والنواب الخاصِّين، وأعلن (عجّل الله فرجه) قيام الغيبة الكبرى التي لا يخرج فيها إلّا بعد خروج السفياني والصيحة، كما ورد في التوقيع الأخير الذي أخرجه الشيخ السمري قُبيل وفاته بأيام من سنة (٣٢٩هـ) والذي جاء فيه:
«بسم الله الرحمن الرحيم: يا علي بن محمد السمري أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام، فاجمَع أمرك ولا توصِ إلى أحدٍ فيقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التامة، فلا ظهور إلّا بعد إذن الله تعالى ذكره، وذلك بعد طول الأمد، وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جوراً.
وسيأتي شيعتي من يدعي المشاهدة، ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم».
ثم قال الراوي: فنسخنا هذا التوقيع وخرجنا من عنده، فلما كان اليوم السادس عدنا إليه وهو يجود بنفسه، فقيل له: من وصيِّك من بعدك؟ فقال: لله أمرٌ هو بالغه، وقضى. فهذا آخر كلام سمع منه رضي الله عنه وأرضاه(٢).
وهنا يأتي التساؤل، هل أنَّ الإمام (عجّل الله فرجه) ترك شيعته مُهْمَلِين، بلا خطة عمل، ولا طريق يسيرون عليه ويستنيرون به، وتركهم سدى تتلقفهم الأهواء والآراء، وأوكلهم إلى أنفسهم وعقولهم في إدارة شؤونهم، كلٌ بما يراه ويقرره، والتي قد تتأثر كثيراً ببعض التجاذُبات والحوادث من هنا وهناك؟
أم أنه (عجّل الله فرجه) وضع لهم مساراً خاصاً يكون لهم عَلَماً هادياً، ونوراً يسترشدون به ويستضيئون بهداه، حتى يأذن الله تعالى له بالخروج والقيام، وأنه لم يتركهم يخوضُونَ غمار الأهواء والآراء دون ملجأ وثيق، ولا أنه تركهم تطحنهم المصاعب والمصائب دون حصن يحتمون به، ولا أمل يتعلقون به، ولا رؤيا لمستقبلهم يتمسكون بها؟
نعم، إن من لطف الإمام (عجّل الله فرجه) بشيعته، ومزيد رعايته لهم وعنايته بهم، وشدة حرصه في المحافظة على عقيدتهم وعبادتهم نقيةً خالصةً، ولزوم استقامتهم على النهج القويم، أنْ رسم لهم مساراً استراتيجيّاً لا يُحَدَّدُ بعصر ولا يُقَيَّدُ بزمان، ولا ينحصرُ بمكان، ولا بعنوان شخص ما، بل إنّ لهذا المسار القابلية على التفاعل في كل الأزمان والعصور والأماكن ومع كل الأشخاص – بشرطها وشروطها-، ويلائم كافة الظروف، ويتعايش مع المتغيرات الطارئة بدون استثناء.
ومن هنا حاولنا تسليط الضوء والتركيز على ثلاثة محاور مهمة –على نحو الاختصار- رسمها الإمام (عجّل الله فرجه) لشيعته في طريقة التعامل مع عصر الغيبة الكبرى، وكيفية التفاعل والتواصل معه (عجّل الله فرجه)، بعد أن ألْغَى طريقة التواصل المباشر معه على النحو السابق في الغيبة الصغرى عن طريق السفراء.
فلا يقال إن الإمام (عجّل الله فرجه) لا دور له في الغيبة الكبرى، وأنه أهمل شيعته تتقاذفهم الصراعات والأهواء، بل إِنَّه (عجّل الله فرجه) وضع استراتيجيَّةً محددة وخطة عمل بعيدة المدى، لا تشوبها شائبة ولا شبهة، ولا تعارضها أو تزاحمها استراتيجيّةٌ أخرى مهما كان محل صدورها؛ لأن هذه الاستراتيجيَّة صدرت برعاية إلهية، ومن حجة الله في الأرض.
وكانت هذه الاستراتيجيَّة وخطة العمل الموضوعة من الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) لشيعته في عصر الغيبة الكبرى تحاكي ثلاثة مسارات أو مستويات:
١- على مستوى الاتصال بالإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، بنفي أي دعوى للسفارة عنه وتكذيبها.
٢- على مستوى قيادة الأمة، باللجوء إلى العلماء الأعلام الأبرار، والمراجع العِظام والتمسك بهم.
٣- على مستوى الفرد، بمعرفة الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه) حق معرفته والإيمان بخروجه وانتظار ذلك.
المسار الأول: نفي أي دعوى للسفارة عنه (عجّل الله فرجه) وتكذيبها:
إنَّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بهذا المسار المهم والتوجيه السَّديد قطع دابر أي دعوى للّقاء به، وتبليغ شيء عنه ممن يدّعي ذلك، كطلّاب الدنيا وأصحاب الأهواء الذين يدّعون السفارة عنه والنيابة واللقاء به، ويبثّون الإرشادات والتوجيهات المنسوبة إليه كذباً وزوراً لشيعته ومواليه عن طريق هذه الدعوى.
فأسّس (عجّل الله فرجه) قاعدة ثابتة قبيل وفاة السفير الأخير بأيام، كذَّبَ فيها وأبطل كل دعوى تبتني على مشاهدته في الغيبة الكبرى واللقاء به ونقل الأوامر عنه حتى قيامه (عجّل الله فرجه) وظهوره العلني بأمر الله تعالى بعد الصيحة وخروج السفياني، ونبَّهَ شيعته إلى ذلك في توقيعه الأخير، حيث قال (عليه السلام):
«... وسيأتي شيعتي من يدعي المشاهدة، ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم»(٣). إِذ أنَّه (عجّل الله فرجه) حَكَمَ على كل مدّعي المشاهدة والسفارة بأنهم كاذبونَ مُفْتروُن.
وهذا ما ألفناه وجداناً، وبصورةٍ عمليةٍ، فإن كل دعاوى النيابة والسفارة على مدار القرون الماضية في الغيبة الكبرى نراها قد فشلت واضمحلت؛ لأنها لم تُحاكِ الواقع ولا العقل، وقد أُخزيَ مُدَّعُوها واتباعهم، ولم يبق لهم أثر ولا عين في الساحة الإسلامية، فضلاً عن الساحة الشيعية سوى الذكر السيء والكلام المشين في التاريخ، وتصنّف ضمن الدعاوى والفرق الضالة والطارئة على المجتمع الإسلامي.
بل نحن نرى إنكار هذا الأمر من الناحية التطبيقية العملية من عامة الشيعة وعلمائهم، فإنهم سرعان ما يلفظون أي مدّع للسفارة عن الإمام (عجّل الله فرجه) ويرفضونه ويَسخرون من دعواه، ثم تكشف الأيام زيف دعواه وكذبه، ولم يتأثروا بأي دعوى من هذا القبيل على مدار القرون الماضية، إلّا بعض الأغمار والسذج من بسطاء الناس ممن يسهل خداعهم أو إغرائهم.
فبهذا المسار الاستراتيجي الأول أراد الإمام (عجّل الله فرجه) أن يحصِّن شيعته من هؤلاء الكذابين الأدعياء، ويرسم لهم خطاً ثابتاً مستقيماً لا يميل ولا يحيد عنه أحدٌ إلّا ضَلَّ طريق الحق، ولا ينخدعوا بدعاوى المُضلين وأصحاب الأهواء، فينجرّوا خلفهم وينخدعوا بدعاواهم.
وهذا من أهم الحصون الحامية التي حفظت الشيعة من التمزّق والتشتت، وجعلتهم أمة متماسكة على مدار القرون، رغم الضغط الشديد من الظالمين والقتل والتهديد، وما زالوا تحت نهج واحد وراية واضحة.
المسار الثاني: اللجوء إلى العلماء الاعلام والمراجع العظام والتمسك بهم:
إنَّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) يَعْلَمُ بحدوث منطقة فراغ في قيادة الأمة عند غيبته الكبرى، لاسيّما بين شيعته ومواليه.
كما أنّ موضوعات الأحكام الشرعية تتبدل وتتغير على مدار الأيام والعصور، والأحداث تتطور، والوقائع تتجدد خلالها، ومع اختلاف وتنوع الأماكن والبلدان، فلابد من الوقوف على الواقع الفقهي من الحلال والحرام ونحوهما من الأحكام الشرعية على المكلف، وهذا مما لا يتيسر لكل أحد من الناس.
فضلاً عن تحصين عقائد الشيعة -لاسيما لبسطاء الناس وعوامهم- من شُبهات أهل الضلالة والتشكيك، بالوقوف بوجههم وردّهم بالحجة والبرهان.
بيد أَنَّه لا يمكن اللجوء في ذلك لكل أحد من علماء المسلمين، كعلماء العامة أو علماء الزيدية وغيرهم، بل وبعض من الشيعة من طلاب الدنيا أيضاً.
وهُنا رسم الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) مساراً استراتيجيّاً ثانياً لشيعته بعيد الأمد، لا يتقيد بِزمان ولا مكان في الغيبة الكبرى -بعد أن كانت الشيعة تستنير منه (عجّل الله فرجه) مباشرة بواسطة سفرائه ونوَّابهِ الأربعة-، وهذا المَسارُ هو الرجوع إلى رواة أحاديث أهل البيت (عليهم السلام)، كما نَبَّهَ إلى ذلك، بقوله (عجّل الله فرجه):
«وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم وأنّا حجّة الله»(٤).
ورواة الحديث المذكورون في الرواية هم العلماء الأعلام والمراجع العظام الذين حفظوا روايات أهل البيت (عليهم السلام) وتدارسوها، وعرفوا علوم آل محمد (عليهم السلام) وفهموا كلامهم، وحملوا على عاتقهم بيان الحقائق المعرفية لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وتوضيحها للناس على اختلاف العلوم وتنوعها، عقيدة ومنهجاً وسلوكاً، فكانوا مَلاذاً لحفظ عقائد الناس، ومَرجِعاً لحمايتهم من الانحراف.
وقد تمكَّن هؤلاء العلماء الأعلام من استنباط الأحكام الشرعية في مختلف الوقائع الحادثة والمستحدثة من خلال ما أصَّلَهُ أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، كما قال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): «إنما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرعوا»(٥)، وعن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: «علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع»(٦).
فقام علماؤنا الأعلام بإرجاع هذه الفروع الحادثة إلى تلك الأصول الثابتة عنهم، ورفع العسر والحرج عن عامة الناس في أحكامهم العبادية والشرعية.
ولكن ما هي صفة هؤلاء العلماء الذين أمرنا الإمام (عجّل الله فرجه) بالرجوع إليهم والتمسك بسيرتهم، وهل الأمر يشمل كافة العلماء، أو كُلَّ من ادّعى ذلك؟
أبداً، فإن والد الإمام المهدي (عليهما السلام) قد رسم صفات هؤلاء العلماء وحدد معالمهم، حيث قال (عليه السلام): «فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه»(٧). أي أن يرجعوا إليه ويتمسكوا بتوجيهاته وآرائه.
وقد حَذَّرَ (عليه السلام) من علماء الدنيا الذين يكونُ همُّهُم تَمَلُّك زمام رقاب الناس بأي نحو كان، وحب الظهور وطلب الشهرة، والطمع الدنيوي، والتشكيك في عقائد الناس، دون وازع من ورع أو تقوى، فإن هؤلاء العلماء الدنيويين الانتفاعيين -الذين هم من غير الشيعة الحقيقيين- أَضَرُّ على الشيعة من جيش يزيد بن معاوية على الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه.
فقال (عليه السلام) -بعد أن ذكر صفات العلماء الأبرار الذين ترجع لهم الشيعة-:
«وذلك -أي الفقهاء الأبرار- لا يكون إلّا في بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم.
فإِنَّ مَنْ ركب مِن القبائح والفواحش مراكب فسقة فقهاء العامة(٨) فلا تقبلوا منهم عنا شيئاً، ولا كرامة لهم، وإنما كثر التخليط فيما يتحمل عنا أهل البيت لذلك، لأن الفسقة يتحملون عنا، فهم يحرفونه بأسره لجهلهم، ويضعون الأشياء على غير مواضعها ووجوهها؛ لقلة معرفتهم.
وآخرين يتعمدون الكذب علينا ليجروا من عرض الدنيا ما هو زادهم إلى نار جهنم.
ومنهم قوم نُصاب لا يقدرون على القدح فينا، يتعلمون بعض علومنا الصحيحة فيتوجهون به عند شيعتنا، وينتقصون بنا عند نصابنا، ثم يضيفون إليه أضعافه وأضعاف أضعافه من الأكاذيب علينا، التي نحن براء منها، فيتقبله المسلمون المستسلمون من شيعتنا على أنه من علومنا فضلوا وأضلوهم.
وهم أضرُّ على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد على الحسين بن علي (عليهما السلام) وأصحابه، فإنهم يسلبونهم الأرواح والأموال، وللمسلوبين عند الله أفضل الأحوال لما لحقهم من أعدائهم.
وهؤلاء علماء السوء الناصبون المشبهون بأنهم لنا موالون، ولأعدائنا معادون، يُدخِلون الشكّ والشبهة على ضعفاء شيعتنا، فيضلونهم ويمنعونهم عن قصد الحق المصيب»(٩).
ويكفينا في الاطمئنان بصحة هذه الرواية ما شاهدناه وعرفناه من حال الكثيرين الذين أدعوا العلم والورع زوراً وبهتاناً في الواقع الشيعي، فخلخلوا نظام الناس وشوَّشوا على معتقداتهم وسلوكهم.
كما نَلْمَسُ وجداناً حُسْن القيام بهذا الدّور الذي أوكل إلى العلماء الأتقياء الأبرار على أرض الواقع، فقد اهتم علماؤنا الأعلام بتأليف الكتب والموسوعات الكبيرة والمختصرة، العقائدية والفقهية، وإِقامة الحوزات العلمية، وإِرسالِ المبلغين لمختلف البلدان لنشر الأحكام الشرعية وتوضيح العقائد للناس، في إِطارِ حفظ ونشر العلوم المعرفية والعقائدية والفقهية لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام).
وحيث إن مناط هذه الأمور هو من مسؤوليات الإمام (عليه السلام) وتحت إشرافه، فإنه (عليه السلام) أوكلها إلى بعض رعيته من العلماء الأعلام، واستنابهم فيما لا يباشره بنفسه (عليه السلام)، مِنْ نظم أمور الشِّيعة في كل زمان وضبطها وإصلاحها، ورفع الشبهات عنهم، وتقوية عقائدهم، وبيان أحكامهم، ورعاية شؤونهم.
كما يجدرُ الانتباه إلى بعض العلماء الذين غرَّتهم الدنيا، فأصبحوا من طلابها، وتفانوا في سبيلها، وانكبوا على زخارفها وحطامها، والذي هو سبب كل ظلمة وغشاوة، ورأس كل خطيئة ومعصية. فإن أمثال هؤلاء أبْعَد ما يكونُون عن مراد الإمام (عليه السلام) وهدفه، فإن أمثالهم لا يصلحون لقيادة الأمة، ولا لإدارة شؤون الشيعة ومرجعيتها، كما لا يصلحون للتقليد؛ لأن هذه المنزلة العظيمة والمكانة الرفيعة برجوع الشيعة إلى أحد العلماء لا تتأتّى إلّا لمن أخلص لله تعالى وصدق في نواياه الظاهرة والباطنة، وأزال حب الدنيا عن قلبه وهواه، فكان أهلاً لقيادة الأمة وأخذ زمام مرجعيتها.
ومن هنا نرى أن مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ما حُفِظ كيانُها ولا حمي جدرانها من التصدع والخلل، ولا بَقِيَتْ أركانها قائمة، وصورتها محفوظة، ورايتها مرفوعة ونابضةً بالعطاء الفكري والمعرفي -على الرغم من تنكّر الطغاة لها ومحاربتها، والطعن فيها من وعّاظ السلاطين وزبانيتهم من المشكّكين والمضلّلين والمنحرفين على مدار القرون الماضية- إلّا ببركة هؤلاء العلماء الأعلام، الورعين الأتقياء من مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، ورواة حديثهم، فإنهم كانوا وما زالوا قادة للأُمة صامدين ثابتين لا تغير منهم الحوادث، ولا تميلهم الرياح العاتية، ولم تُغرِهم زخارف الدنيا، وحملوا على عاتقهم الحفاظ على منهج أهل البيت (عليهم السلام) ومعارفهم، وإبقاء صورته صافية ناصعة، ومشربه عذباً زلالاً، فكان أكبر همهم وأعلى جدهم الحفاظ على عقائد المؤمنين، ونشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)، والتصدي لأعداء الدين والمذهب، وحمايته من الدخلاء والجهلاء ومدّعي العلم بمختلف الأساليب والطرق.
فنبَّهَ الإمام (عليه السلام) إلى أن العلماء الأعلام، الأتقياء الأبرار، هم القادة الفعليون للأمة في عصر الغيبة الكبرى، وباتِّباعِهِمْ تحصل النجاةُ من الضلال والضياع، والفتن التي تعصف بالأمة، وأن في طاعتهم طاعة له (عليه السلام)، حيث أمر باتباعهم والرجوع إليهم والالتزام والتمسك بهم، فإن في ذلك حفظاً للدين والعقيدة، كما قال جدُّ الإمام المهدي علي بن محمد الهادي (عليهم السلام):
«لولا مَنْ يبقى بعد غيبة قائمكم (قائمنا) (عليه الصلاة والسلام) من العلماء الداعين إليه، والدالين عليه، والذابين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شِباك إبليس ومردته، ومن فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلّا ارتدَّ عن دين الله، ولكنهم الذين يمسكون أزمَّة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكّانها، أولئك هم الأفضلون عند الله (عزّ وجل)»(١٠).
فالعلماء الأبرار هم نواب الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، وسفراؤه بالنيابة العامة بما حَمَّلَهُم الإمام (عجّل الله فرجه) من المسؤولية في حفظ معالم الشريعة في غيبته الكبرى.
المسار الثالث: معرفة الإمام المنتظر (عجّل الله فرجه) والإيمان بخروجه وانتظار ذلك:
ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الخبر المستفيض أنه قال: «مَنْ مات ولم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتة جاهلية»(١١).
بمعنى: أنَّ مَنْ لَم يعرف إمامه فإنه مُخالفٌ لنهج الإسلام، ولسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وجاحدٌ لكتاب الله تعالى، فشابه عمله عمل أهل الجاهلية، وكان بحكم الكافر المُنكر للدين الحقّ.
فإن من جملة الثوابت الإسلامية وأصوله -كما يدل عليها هذا الحديث الشريف ويثبتها- هي استمرارية وجود إمام العصر والزمان (عجّل الله فرجه)، ووجوب معرفته، والإيمان به والبيعة له والتزام طاعته، ويؤيد هذا قوله تعالى ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ (القصص: ٥).
وقد سُئل والد الإمام المهدي أبو محمد الحسن بن علي العسكري (عليهم السلام) عن الخبر الذي روي عن آبائه (عليهم السلام): «أن الأرض لا تخلو من حجة لله على خلقه إلى يوم القيامة»، وأن «مَنْ مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية».
فقال (عليه السلام): «إن هذا حق، كما أن النهار حق».
فقيل له: يا بن رسول الله فمن الحجة والإمام بعدك؟
فقال: «ابني محمد، هو الإمام والحجة بعدي، مَنْ مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية. أما إن له غيبة يحار فيها الجاهلون، ويهلك فيها المبطلون، ويكذب فيها الوقاتون، ثم يخرج فكأني أنظر إلى الأعلام البيض تخفق فوق رأسه بنجف الكوفة»(١٢).
وعن زرارة قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إن للغلام غيبة قبل أن يقوم».
قال قلت: ولم؟
قال: «يخاف»، وأومأ بيده إلى بطنه.
ثم قال: «يا زرارة وهو المنتظر، وهو الذي يُشك في ولادته، منهم من يقول: مات أبوه بلا خلف، ومنهم من يقول: حمل، ومنهم من يقول: إنه ولد قبل موت أبيه بسنتين، وهو المنتظر غير أن الله (عزّ وجل) يحب أن يمتحن الشيعة فعند ذلك يرتاب المبطلون».
قال: قلت: جعلت فداك، إن أدركتُ ذلك الزمان أي شيء أعمل؟
قال: «يا زرارة إذا أدركت ذلك الزمان فادعُ بهذا الدعاء:
اللهم عرفني نفسك فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف نبيك، اللهم عرفني رسولك فإنك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك، اللهم عرفني حجتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني»(١٣).
معرفة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) والإيمان به:
والمَعرِفة الحقيقية للإمام (عجّل الله فرجه) لا تتقوّم بمعرفة اسمه ولا صفته فقط، وإن وجب تشخيص ذلك وتمييزه عن غيره، كما في مقامنا هذا وعصرنا، فهو الإمام محمد المهدي، ابن الإمام الحسن العسكري، ابن الإمام علي الهادي، ابن الإمام محمد الجواد، ابن الإمام علي الرضا، ابن الإمام موسى الكاظم، ابن الإمام جعفر الصادق، ابن الإمام محمد الباقر، ابن الإمام علي زين العابدين، ابن الإمام الحسين الشهيد، ابن الإمام علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء (عليهم السلام)، بنت رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
فإن على الإنسان -لاسيما في عصر الغيبة الكبرى- أن يَعرف إمام زمانه حق معرفته، لكي يؤدي واجباته تجاهه، ولا يُقصر معه، فقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام):
«معرفة الإمام الذي به يأتم بنعته وصفته واسمه في حال العسر واليسر، وأدنى معرفة الإمام: أنه عِدل النبي إلّا درجة النبوة ووارثه، وأن طاعته طاعة الله وطاعة رسول الله، والتسليم له في كل أمر، والرد إليه، والأخذ بقوله»(١٤).
إنَّ معرفة الإمام (عليه السلام) حقَّ معرفته أمرٌ أوسع من هذا وأعمق، وأكبر وأهم، كما تشير الرواية: بأدنى معرفة الإمام. ومن أدنى هذه المعرفة أن طاعته طاعة لله ورسوله، وفي مخالفته والرد عليه رد عليهما ومخالفتهما، مع التسليم والانقياد التام له. وما يكون أبعد من هذا فهو في علمهم (عليهم السلام).
ومن ذلك أن على المؤمن أن يؤمن به ويسلم له ويطيعه على كل حال، سواء تقلد زمام الحكم أو تأخر عنه؛ لأن مقام الإمامة مقام إلهي يَهبه الله تعالى لمن اصطفاه، ولا يُنزع منه وإن لم يَلي الأمر والحكم.
وقد روي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام):
«مَنْ مات وليس له إمام فميتته ميتة جاهلية، ومن مات وهو عارف لإمامه لم يضره، تقدم هذا الأمر أو تأخر، ومن مات وهو عارف لإمامه، كان كمن هو مع القائم في فسطاطه»(١٥).
وروي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ﴾ (الإسراء: ٧١) فقال:
«يا فضيل اِعرفْ إمامك، فإنك إذا عرفت إمامك لم يضرك تقدم هذا الأمر أو تأخر، ومَنْ عَرِف إمامه ثم مات قبل أن يقوم صاحب هذا الأمر كان بمنزلة من كان قاعداً في عسكره، لا بل بمنزلة من قعد تحت لوائه»(١٦).
ومن بيان معرفته قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
«القائم من ولدي، اسمه اسمي، وكنيته كنيتي، وشمائله شمائلي، وسنته سنتي، يقيم الناس على ملتي وشريعتي، ويدعوهم إلى كتاب ربي (عزّ وجل)، من أطاعه فقد أطاعني، ومن عصاه فقد عصاني، ومن أنكره في غيبته فقد أنكرني، ومن كذَّبه فقد كذَّبني، ومن صدَّقه فقد صدَّقني، إلى الله أشكو المكذبين لي في أمره، والجاحدين لقولي في شأنه، والمضلّين لأُمتي عن طريقته ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ [الشعراء: ٢٢٧]»(١٧).
فمن هذا، تعرف أنَّ طريق معرفة الإمام (عجّل الله فرجه) هو طريقٌ لمعرفة الله تعالى وحدوده وأحكامه؛ لأن معرفته (عجّل الله فرجه) توجب التمسك بأحكام المولى؛ إِذ أنَّ طاعته ملازمة لمعرفة وطاعة الله ورسوله، فإنه إذا عَرفهُ المسلم حقَّ معرفته وجب الاقتداء به وطاعته، والالتزام بأوامره وإرشاداته وتوجيهاته، وقد روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال:
«إنما يَعرِف الله تعالى ويعبده مَنْ عرف الله وعَرِفَ إمامه منا أهل البيت، ومَنْ لا يَعرف الله تعالى ولا يَعرف الإمام منا أهل البيت فإنما يَعرف ويَعبد غير الله، هكذا والله ضلالاً»(١٨). أي أنهم يسلكون طريقاً خاطئاً ومنحرفاً عن الصراط المستقيم، ويقعون في مستنقع الضلالة.
وبإنكار الإمام (عليه السلام) إنكار لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومَنْ أنكر رسول الله فهو خارج عن الملة وكافر، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
«من أنكر القائم من ولدي فقد أنكرني»(١٩).
ومن جواب له (عجّل الله فرجه): «أمَّا ما سألت عنه أرشدك الله وثبتك من أمر المنكرين لي من أهل بيتنا وبني عمنا، فاعلم أنه ليس بين الله (عزّ وجل) وبين أحد قرابة، ومَنْ أنكرني فليس مني، وسبيله سبيل ابن نوح (عليه السلام)»(٢٠).
فمعرفة إمام العصر (عجّل الله فرجه) من الضروريات الثابتة لدين المسلم، وأنَّ الأرض لا تخلو من حجة وإمام، إمّا إماماً ظاهراً مشهوراً أو غائباً مستوراً، وإلّا ساخت الأرض بأهلها، كما ورد عنهم (عليهم السلام)(٢١).
إِنَّ الله (عزّ وجل) لا يترك عباده مُهْمَلِين، دون عَلَمٍ مرشد، ولا حجة هادية، ولا نور يستضيئون به، وإن وجه الانتفاع بالإمام (عجّل الله فرجه) في غيبته كالانتفاع بالشمس إذا غيَّبها عن الأبصار السحابُ، وأن الإمام (عجّل الله فرجه) أمانٌ لأهل الأرض، كما النجوم أمان لأهل السماء، فيما روي عن جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعنه (عجّل الله فرجه)(٢٢).
وفيما يُروى عنه (عجّل الله فرجه) أنه قال:
«إنا غير مُهْملِين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم...»(٢٣).
فمن كمال لطفه وعنايته، أنه يُحيطنا برعايته، ونستضيء بنوره، وإِن لم نكُن عارفين بتلك الطُّرق والمسالك.
ما إنْ حوصر دار الإمام العسكري (عليه السلام) بسامراء وهجم الظالمون عليها بعد وفاته سنة (٢٦٠هـ)، وعرفوا أنَّ له ولداً حيَّاً يُرْزق، وكان في علمهم كما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّ هذا المولود سيكون له الشأن العظيم والوعد الصادق، بخروجه للانتقام من الطغاة والظالمين؛ لإقامة دولة العدل الإلهية -وقد آمنوا بذلك في قرارة أنفسهم ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِينَ﴾ (النمل: ١٤)- حتى عزموا على التخلُّص منه وقتله قبل أن تنتشر أخباره بين الناس وتكثر أنصاره، ولكنَّهم لم يفقهوا قوله تعالى ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ (القصص: ٥) في أَنَّ نصره حتمٌ، وقيامه واقعٌ لا محالة ولو بعد حين، فاختفى (عجّل الله فرجه) من بين نظر الأعداء المهاجمين على الدار وخرج منها سالماً، كما خرج جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من بين صناديد قريش عندما اجتمعوا وقرروا قتله على فراشه بهجومهم على داره، فقرأ (صلى الله عليه وآله وسلم) ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ (يس: ٩) وخَرَجَ من بينهم وقد غُشي على أبصارهم.
وقد أَخَذَ (عجّل الله فرجه) يتواصل مع شيعته ومواليه ما يقرُب السبعين عاماً في غيبته الصغرى، بواسطة نوابه وسفرائه الأربعة الخاصين على الترتيب، وهم الذين شهد بوثاقتهم وجلالة قدرهم الخاص والعام، والقاصي والداني، فكانوا من ذوي الفضل والعلم والإيمان، وأُولي المنزلة العالية في مجتمعهم، والمكانة الرفيعة بين أقرانهم من الخاصة والعامة، حتى انقاد لهم جميع الشيعة، والتزموا بما يصدر عنهم من الناحية المقدسة، بعلمائهم وعوامهم، وأقرّوا لهم بالسفارة عن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، وأذعنوا بنيابتهم عنه (عجّل الله فرجه)، وصَدَّقوهم وتابعوهم فيما يصدر من الناحية المقدسة بواسطتهم (رضي الله عنهم).
فأدّوا ما عليهم أحسن أداء، وقاموا بأمور السفارة أحسن قيام، وأتموا عمل النيابة بإخلاص وصدق، مع شدة الظروف وقساوة الحكام وكثرة عيونهم في معرفة من يتصل بالإمام (عليه السلام)، وقد ترحَّم عليهم الإمام الحجة (عجّل الله فرجه) وجزَّاهم عنه خيراً بما أدّوا الأمانة إلى الشيعة مصونةً محفوظةً سالمةً لم تشُبْهَا شائبة شك ولا انحراف.
وهم على الترتيب الزّمنيّ في النيابة عن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه):
١- عثمان بن سعيد العَمري، سفارته من سنة (٢٦٠هـ) - وفاته سنة (٢٦٥هـ).
٢- محمد بن عثمان الخلاني، سفارته من سنة (٢٦٥هـ) - وفاته سنة (٣٠٥هـ).
٣- الحسين بن روح النوبختي، سفارته من سنة (٣٠٥هـ) - وفاته سنة (٣٢٦هـ).
٤- علي بن محمد السمري، سفارته من سنة (٣٢٦هـ) - وفاته سنة (٣٢٩هـ).
هذا، وبموت السفير الأخير انقطعت الغيبة الصغرى للإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، وانقطعَ تواصله مع شيعته ومواليه عن طريق السفراء والنواب الخاصِّين، وأعلن (عجّل الله فرجه) قيام الغيبة الكبرى التي لا يخرج فيها إلّا بعد خروج السفياني والصيحة، كما ورد في التوقيع الأخير الذي أخرجه الشيخ السمري قُبيل وفاته بأيام من سنة (٣٢٩هـ) والذي جاء فيه:
«بسم الله الرحمن الرحيم: يا علي بن محمد السمري أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام، فاجمَع أمرك ولا توصِ إلى أحدٍ فيقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التامة، فلا ظهور إلّا بعد إذن الله تعالى ذكره، وذلك بعد طول الأمد، وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جوراً.
وسيأتي شيعتي من يدعي المشاهدة، ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم».
ثم قال الراوي: فنسخنا هذا التوقيع وخرجنا من عنده، فلما كان اليوم السادس عدنا إليه وهو يجود بنفسه، فقيل له: من وصيِّك من بعدك؟ فقال: لله أمرٌ هو بالغه، وقضى. فهذا آخر كلام سمع منه رضي الله عنه وأرضاه(٢).
وهنا يأتي التساؤل، هل أنَّ الإمام (عجّل الله فرجه) ترك شيعته مُهْمَلِين، بلا خطة عمل، ولا طريق يسيرون عليه ويستنيرون به، وتركهم سدى تتلقفهم الأهواء والآراء، وأوكلهم إلى أنفسهم وعقولهم في إدارة شؤونهم، كلٌ بما يراه ويقرره، والتي قد تتأثر كثيراً ببعض التجاذُبات والحوادث من هنا وهناك؟
أم أنه (عجّل الله فرجه) وضع لهم مساراً خاصاً يكون لهم عَلَماً هادياً، ونوراً يسترشدون به ويستضيئون بهداه، حتى يأذن الله تعالى له بالخروج والقيام، وأنه لم يتركهم يخوضُونَ غمار الأهواء والآراء دون ملجأ وثيق، ولا أنه تركهم تطحنهم المصاعب والمصائب دون حصن يحتمون به، ولا أمل يتعلقون به، ولا رؤيا لمستقبلهم يتمسكون بها؟
نعم، إن من لطف الإمام (عجّل الله فرجه) بشيعته، ومزيد رعايته لهم وعنايته بهم، وشدة حرصه في المحافظة على عقيدتهم وعبادتهم نقيةً خالصةً، ولزوم استقامتهم على النهج القويم، أنْ رسم لهم مساراً استراتيجيّاً لا يُحَدَّدُ بعصر ولا يُقَيَّدُ بزمان، ولا ينحصرُ بمكان، ولا بعنوان شخص ما، بل إنّ لهذا المسار القابلية على التفاعل في كل الأزمان والعصور والأماكن ومع كل الأشخاص – بشرطها وشروطها-، ويلائم كافة الظروف، ويتعايش مع المتغيرات الطارئة بدون استثناء.
ومن هنا حاولنا تسليط الضوء والتركيز على ثلاثة محاور مهمة –على نحو الاختصار- رسمها الإمام (عجّل الله فرجه) لشيعته في طريقة التعامل مع عصر الغيبة الكبرى، وكيفية التفاعل والتواصل معه (عجّل الله فرجه)، بعد أن ألْغَى طريقة التواصل المباشر معه على النحو السابق في الغيبة الصغرى عن طريق السفراء.
فلا يقال إن الإمام (عجّل الله فرجه) لا دور له في الغيبة الكبرى، وأنه أهمل شيعته تتقاذفهم الصراعات والأهواء، بل إِنَّه (عجّل الله فرجه) وضع استراتيجيَّةً محددة وخطة عمل بعيدة المدى، لا تشوبها شائبة ولا شبهة، ولا تعارضها أو تزاحمها استراتيجيّةٌ أخرى مهما كان محل صدورها؛ لأن هذه الاستراتيجيَّة صدرت برعاية إلهية، ومن حجة الله في الأرض.
وكانت هذه الاستراتيجيَّة وخطة العمل الموضوعة من الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) لشيعته في عصر الغيبة الكبرى تحاكي ثلاثة مسارات أو مستويات:
١- على مستوى الاتصال بالإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، بنفي أي دعوى للسفارة عنه وتكذيبها.
٢- على مستوى قيادة الأمة، باللجوء إلى العلماء الأعلام الأبرار، والمراجع العِظام والتمسك بهم.
٣- على مستوى الفرد، بمعرفة الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه) حق معرفته والإيمان بخروجه وانتظار ذلك.
المسار الأول: نفي أي دعوى للسفارة عنه (عجّل الله فرجه) وتكذيبها:
إنَّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بهذا المسار المهم والتوجيه السَّديد قطع دابر أي دعوى للّقاء به، وتبليغ شيء عنه ممن يدّعي ذلك، كطلّاب الدنيا وأصحاب الأهواء الذين يدّعون السفارة عنه والنيابة واللقاء به، ويبثّون الإرشادات والتوجيهات المنسوبة إليه كذباً وزوراً لشيعته ومواليه عن طريق هذه الدعوى.
فأسّس (عجّل الله فرجه) قاعدة ثابتة قبيل وفاة السفير الأخير بأيام، كذَّبَ فيها وأبطل كل دعوى تبتني على مشاهدته في الغيبة الكبرى واللقاء به ونقل الأوامر عنه حتى قيامه (عجّل الله فرجه) وظهوره العلني بأمر الله تعالى بعد الصيحة وخروج السفياني، ونبَّهَ شيعته إلى ذلك في توقيعه الأخير، حيث قال (عليه السلام):
«... وسيأتي شيعتي من يدعي المشاهدة، ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم»(٣). إِذ أنَّه (عجّل الله فرجه) حَكَمَ على كل مدّعي المشاهدة والسفارة بأنهم كاذبونَ مُفْتروُن.
وهذا ما ألفناه وجداناً، وبصورةٍ عمليةٍ، فإن كل دعاوى النيابة والسفارة على مدار القرون الماضية في الغيبة الكبرى نراها قد فشلت واضمحلت؛ لأنها لم تُحاكِ الواقع ولا العقل، وقد أُخزيَ مُدَّعُوها واتباعهم، ولم يبق لهم أثر ولا عين في الساحة الإسلامية، فضلاً عن الساحة الشيعية سوى الذكر السيء والكلام المشين في التاريخ، وتصنّف ضمن الدعاوى والفرق الضالة والطارئة على المجتمع الإسلامي.
بل نحن نرى إنكار هذا الأمر من الناحية التطبيقية العملية من عامة الشيعة وعلمائهم، فإنهم سرعان ما يلفظون أي مدّع للسفارة عن الإمام (عجّل الله فرجه) ويرفضونه ويَسخرون من دعواه، ثم تكشف الأيام زيف دعواه وكذبه، ولم يتأثروا بأي دعوى من هذا القبيل على مدار القرون الماضية، إلّا بعض الأغمار والسذج من بسطاء الناس ممن يسهل خداعهم أو إغرائهم.
فبهذا المسار الاستراتيجي الأول أراد الإمام (عجّل الله فرجه) أن يحصِّن شيعته من هؤلاء الكذابين الأدعياء، ويرسم لهم خطاً ثابتاً مستقيماً لا يميل ولا يحيد عنه أحدٌ إلّا ضَلَّ طريق الحق، ولا ينخدعوا بدعاوى المُضلين وأصحاب الأهواء، فينجرّوا خلفهم وينخدعوا بدعاواهم.
وهذا من أهم الحصون الحامية التي حفظت الشيعة من التمزّق والتشتت، وجعلتهم أمة متماسكة على مدار القرون، رغم الضغط الشديد من الظالمين والقتل والتهديد، وما زالوا تحت نهج واحد وراية واضحة.
المسار الثاني: اللجوء إلى العلماء الاعلام والمراجع العظام والتمسك بهم:
إنَّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) يَعْلَمُ بحدوث منطقة فراغ في قيادة الأمة عند غيبته الكبرى، لاسيّما بين شيعته ومواليه.
كما أنّ موضوعات الأحكام الشرعية تتبدل وتتغير على مدار الأيام والعصور، والأحداث تتطور، والوقائع تتجدد خلالها، ومع اختلاف وتنوع الأماكن والبلدان، فلابد من الوقوف على الواقع الفقهي من الحلال والحرام ونحوهما من الأحكام الشرعية على المكلف، وهذا مما لا يتيسر لكل أحد من الناس.
فضلاً عن تحصين عقائد الشيعة -لاسيما لبسطاء الناس وعوامهم- من شُبهات أهل الضلالة والتشكيك، بالوقوف بوجههم وردّهم بالحجة والبرهان.
بيد أَنَّه لا يمكن اللجوء في ذلك لكل أحد من علماء المسلمين، كعلماء العامة أو علماء الزيدية وغيرهم، بل وبعض من الشيعة من طلاب الدنيا أيضاً.
وهُنا رسم الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) مساراً استراتيجيّاً ثانياً لشيعته بعيد الأمد، لا يتقيد بِزمان ولا مكان في الغيبة الكبرى -بعد أن كانت الشيعة تستنير منه (عجّل الله فرجه) مباشرة بواسطة سفرائه ونوَّابهِ الأربعة-، وهذا المَسارُ هو الرجوع إلى رواة أحاديث أهل البيت (عليهم السلام)، كما نَبَّهَ إلى ذلك، بقوله (عجّل الله فرجه):
«وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم وأنّا حجّة الله»(٤).
ورواة الحديث المذكورون في الرواية هم العلماء الأعلام والمراجع العظام الذين حفظوا روايات أهل البيت (عليهم السلام) وتدارسوها، وعرفوا علوم آل محمد (عليهم السلام) وفهموا كلامهم، وحملوا على عاتقهم بيان الحقائق المعرفية لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وتوضيحها للناس على اختلاف العلوم وتنوعها، عقيدة ومنهجاً وسلوكاً، فكانوا مَلاذاً لحفظ عقائد الناس، ومَرجِعاً لحمايتهم من الانحراف.
وقد تمكَّن هؤلاء العلماء الأعلام من استنباط الأحكام الشرعية في مختلف الوقائع الحادثة والمستحدثة من خلال ما أصَّلَهُ أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، كما قال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): «إنما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرعوا»(٥)، وعن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: «علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع»(٦).
فقام علماؤنا الأعلام بإرجاع هذه الفروع الحادثة إلى تلك الأصول الثابتة عنهم، ورفع العسر والحرج عن عامة الناس في أحكامهم العبادية والشرعية.
ولكن ما هي صفة هؤلاء العلماء الذين أمرنا الإمام (عجّل الله فرجه) بالرجوع إليهم والتمسك بسيرتهم، وهل الأمر يشمل كافة العلماء، أو كُلَّ من ادّعى ذلك؟
أبداً، فإن والد الإمام المهدي (عليهما السلام) قد رسم صفات هؤلاء العلماء وحدد معالمهم، حيث قال (عليه السلام): «فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه»(٧). أي أن يرجعوا إليه ويتمسكوا بتوجيهاته وآرائه.
وقد حَذَّرَ (عليه السلام) من علماء الدنيا الذين يكونُ همُّهُم تَمَلُّك زمام رقاب الناس بأي نحو كان، وحب الظهور وطلب الشهرة، والطمع الدنيوي، والتشكيك في عقائد الناس، دون وازع من ورع أو تقوى، فإن هؤلاء العلماء الدنيويين الانتفاعيين -الذين هم من غير الشيعة الحقيقيين- أَضَرُّ على الشيعة من جيش يزيد بن معاوية على الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه.
فقال (عليه السلام) -بعد أن ذكر صفات العلماء الأبرار الذين ترجع لهم الشيعة-:
«وذلك -أي الفقهاء الأبرار- لا يكون إلّا في بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم.
فإِنَّ مَنْ ركب مِن القبائح والفواحش مراكب فسقة فقهاء العامة(٨) فلا تقبلوا منهم عنا شيئاً، ولا كرامة لهم، وإنما كثر التخليط فيما يتحمل عنا أهل البيت لذلك، لأن الفسقة يتحملون عنا، فهم يحرفونه بأسره لجهلهم، ويضعون الأشياء على غير مواضعها ووجوهها؛ لقلة معرفتهم.
وآخرين يتعمدون الكذب علينا ليجروا من عرض الدنيا ما هو زادهم إلى نار جهنم.
ومنهم قوم نُصاب لا يقدرون على القدح فينا، يتعلمون بعض علومنا الصحيحة فيتوجهون به عند شيعتنا، وينتقصون بنا عند نصابنا، ثم يضيفون إليه أضعافه وأضعاف أضعافه من الأكاذيب علينا، التي نحن براء منها، فيتقبله المسلمون المستسلمون من شيعتنا على أنه من علومنا فضلوا وأضلوهم.
وهم أضرُّ على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد على الحسين بن علي (عليهما السلام) وأصحابه، فإنهم يسلبونهم الأرواح والأموال، وللمسلوبين عند الله أفضل الأحوال لما لحقهم من أعدائهم.
وهؤلاء علماء السوء الناصبون المشبهون بأنهم لنا موالون، ولأعدائنا معادون، يُدخِلون الشكّ والشبهة على ضعفاء شيعتنا، فيضلونهم ويمنعونهم عن قصد الحق المصيب»(٩).
ويكفينا في الاطمئنان بصحة هذه الرواية ما شاهدناه وعرفناه من حال الكثيرين الذين أدعوا العلم والورع زوراً وبهتاناً في الواقع الشيعي، فخلخلوا نظام الناس وشوَّشوا على معتقداتهم وسلوكهم.
كما نَلْمَسُ وجداناً حُسْن القيام بهذا الدّور الذي أوكل إلى العلماء الأتقياء الأبرار على أرض الواقع، فقد اهتم علماؤنا الأعلام بتأليف الكتب والموسوعات الكبيرة والمختصرة، العقائدية والفقهية، وإِقامة الحوزات العلمية، وإِرسالِ المبلغين لمختلف البلدان لنشر الأحكام الشرعية وتوضيح العقائد للناس، في إِطارِ حفظ ونشر العلوم المعرفية والعقائدية والفقهية لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام).
وحيث إن مناط هذه الأمور هو من مسؤوليات الإمام (عليه السلام) وتحت إشرافه، فإنه (عليه السلام) أوكلها إلى بعض رعيته من العلماء الأعلام، واستنابهم فيما لا يباشره بنفسه (عليه السلام)، مِنْ نظم أمور الشِّيعة في كل زمان وضبطها وإصلاحها، ورفع الشبهات عنهم، وتقوية عقائدهم، وبيان أحكامهم، ورعاية شؤونهم.
كما يجدرُ الانتباه إلى بعض العلماء الذين غرَّتهم الدنيا، فأصبحوا من طلابها، وتفانوا في سبيلها، وانكبوا على زخارفها وحطامها، والذي هو سبب كل ظلمة وغشاوة، ورأس كل خطيئة ومعصية. فإن أمثال هؤلاء أبْعَد ما يكونُون عن مراد الإمام (عليه السلام) وهدفه، فإن أمثالهم لا يصلحون لقيادة الأمة، ولا لإدارة شؤون الشيعة ومرجعيتها، كما لا يصلحون للتقليد؛ لأن هذه المنزلة العظيمة والمكانة الرفيعة برجوع الشيعة إلى أحد العلماء لا تتأتّى إلّا لمن أخلص لله تعالى وصدق في نواياه الظاهرة والباطنة، وأزال حب الدنيا عن قلبه وهواه، فكان أهلاً لقيادة الأمة وأخذ زمام مرجعيتها.
ومن هنا نرى أن مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ما حُفِظ كيانُها ولا حمي جدرانها من التصدع والخلل، ولا بَقِيَتْ أركانها قائمة، وصورتها محفوظة، ورايتها مرفوعة ونابضةً بالعطاء الفكري والمعرفي -على الرغم من تنكّر الطغاة لها ومحاربتها، والطعن فيها من وعّاظ السلاطين وزبانيتهم من المشكّكين والمضلّلين والمنحرفين على مدار القرون الماضية- إلّا ببركة هؤلاء العلماء الأعلام، الورعين الأتقياء من مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، ورواة حديثهم، فإنهم كانوا وما زالوا قادة للأُمة صامدين ثابتين لا تغير منهم الحوادث، ولا تميلهم الرياح العاتية، ولم تُغرِهم زخارف الدنيا، وحملوا على عاتقهم الحفاظ على منهج أهل البيت (عليهم السلام) ومعارفهم، وإبقاء صورته صافية ناصعة، ومشربه عذباً زلالاً، فكان أكبر همهم وأعلى جدهم الحفاظ على عقائد المؤمنين، ونشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)، والتصدي لأعداء الدين والمذهب، وحمايته من الدخلاء والجهلاء ومدّعي العلم بمختلف الأساليب والطرق.
فنبَّهَ الإمام (عليه السلام) إلى أن العلماء الأعلام، الأتقياء الأبرار، هم القادة الفعليون للأمة في عصر الغيبة الكبرى، وباتِّباعِهِمْ تحصل النجاةُ من الضلال والضياع، والفتن التي تعصف بالأمة، وأن في طاعتهم طاعة له (عليه السلام)، حيث أمر باتباعهم والرجوع إليهم والالتزام والتمسك بهم، فإن في ذلك حفظاً للدين والعقيدة، كما قال جدُّ الإمام المهدي علي بن محمد الهادي (عليهم السلام):
«لولا مَنْ يبقى بعد غيبة قائمكم (قائمنا) (عليه الصلاة والسلام) من العلماء الداعين إليه، والدالين عليه، والذابين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شِباك إبليس ومردته، ومن فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلّا ارتدَّ عن دين الله، ولكنهم الذين يمسكون أزمَّة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكّانها، أولئك هم الأفضلون عند الله (عزّ وجل)»(١٠).
فالعلماء الأبرار هم نواب الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، وسفراؤه بالنيابة العامة بما حَمَّلَهُم الإمام (عجّل الله فرجه) من المسؤولية في حفظ معالم الشريعة في غيبته الكبرى.
المسار الثالث: معرفة الإمام المنتظر (عجّل الله فرجه) والإيمان بخروجه وانتظار ذلك:
ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الخبر المستفيض أنه قال: «مَنْ مات ولم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتة جاهلية»(١١).
بمعنى: أنَّ مَنْ لَم يعرف إمامه فإنه مُخالفٌ لنهج الإسلام، ولسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وجاحدٌ لكتاب الله تعالى، فشابه عمله عمل أهل الجاهلية، وكان بحكم الكافر المُنكر للدين الحقّ.
فإن من جملة الثوابت الإسلامية وأصوله -كما يدل عليها هذا الحديث الشريف ويثبتها- هي استمرارية وجود إمام العصر والزمان (عجّل الله فرجه)، ووجوب معرفته، والإيمان به والبيعة له والتزام طاعته، ويؤيد هذا قوله تعالى ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ (القصص: ٥).
وقد سُئل والد الإمام المهدي أبو محمد الحسن بن علي العسكري (عليهم السلام) عن الخبر الذي روي عن آبائه (عليهم السلام): «أن الأرض لا تخلو من حجة لله على خلقه إلى يوم القيامة»، وأن «مَنْ مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية».
فقال (عليه السلام): «إن هذا حق، كما أن النهار حق».
فقيل له: يا بن رسول الله فمن الحجة والإمام بعدك؟
فقال: «ابني محمد، هو الإمام والحجة بعدي، مَنْ مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية. أما إن له غيبة يحار فيها الجاهلون، ويهلك فيها المبطلون، ويكذب فيها الوقاتون، ثم يخرج فكأني أنظر إلى الأعلام البيض تخفق فوق رأسه بنجف الكوفة»(١٢).
وعن زرارة قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إن للغلام غيبة قبل أن يقوم».
قال قلت: ولم؟
قال: «يخاف»، وأومأ بيده إلى بطنه.
ثم قال: «يا زرارة وهو المنتظر، وهو الذي يُشك في ولادته، منهم من يقول: مات أبوه بلا خلف، ومنهم من يقول: حمل، ومنهم من يقول: إنه ولد قبل موت أبيه بسنتين، وهو المنتظر غير أن الله (عزّ وجل) يحب أن يمتحن الشيعة فعند ذلك يرتاب المبطلون».
قال: قلت: جعلت فداك، إن أدركتُ ذلك الزمان أي شيء أعمل؟
قال: «يا زرارة إذا أدركت ذلك الزمان فادعُ بهذا الدعاء:
اللهم عرفني نفسك فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف نبيك، اللهم عرفني رسولك فإنك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك، اللهم عرفني حجتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني»(١٣).
معرفة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) والإيمان به:
والمَعرِفة الحقيقية للإمام (عجّل الله فرجه) لا تتقوّم بمعرفة اسمه ولا صفته فقط، وإن وجب تشخيص ذلك وتمييزه عن غيره، كما في مقامنا هذا وعصرنا، فهو الإمام محمد المهدي، ابن الإمام الحسن العسكري، ابن الإمام علي الهادي، ابن الإمام محمد الجواد، ابن الإمام علي الرضا، ابن الإمام موسى الكاظم، ابن الإمام جعفر الصادق، ابن الإمام محمد الباقر، ابن الإمام علي زين العابدين، ابن الإمام الحسين الشهيد، ابن الإمام علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء (عليهم السلام)، بنت رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
فإن على الإنسان -لاسيما في عصر الغيبة الكبرى- أن يَعرف إمام زمانه حق معرفته، لكي يؤدي واجباته تجاهه، ولا يُقصر معه، فقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام):
«معرفة الإمام الذي به يأتم بنعته وصفته واسمه في حال العسر واليسر، وأدنى معرفة الإمام: أنه عِدل النبي إلّا درجة النبوة ووارثه، وأن طاعته طاعة الله وطاعة رسول الله، والتسليم له في كل أمر، والرد إليه، والأخذ بقوله»(١٤).
إنَّ معرفة الإمام (عليه السلام) حقَّ معرفته أمرٌ أوسع من هذا وأعمق، وأكبر وأهم، كما تشير الرواية: بأدنى معرفة الإمام. ومن أدنى هذه المعرفة أن طاعته طاعة لله ورسوله، وفي مخالفته والرد عليه رد عليهما ومخالفتهما، مع التسليم والانقياد التام له. وما يكون أبعد من هذا فهو في علمهم (عليهم السلام).
ومن ذلك أن على المؤمن أن يؤمن به ويسلم له ويطيعه على كل حال، سواء تقلد زمام الحكم أو تأخر عنه؛ لأن مقام الإمامة مقام إلهي يَهبه الله تعالى لمن اصطفاه، ولا يُنزع منه وإن لم يَلي الأمر والحكم.
وقد روي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام):
«مَنْ مات وليس له إمام فميتته ميتة جاهلية، ومن مات وهو عارف لإمامه لم يضره، تقدم هذا الأمر أو تأخر، ومن مات وهو عارف لإمامه، كان كمن هو مع القائم في فسطاطه»(١٥).
وروي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ﴾ (الإسراء: ٧١) فقال:
«يا فضيل اِعرفْ إمامك، فإنك إذا عرفت إمامك لم يضرك تقدم هذا الأمر أو تأخر، ومَنْ عَرِف إمامه ثم مات قبل أن يقوم صاحب هذا الأمر كان بمنزلة من كان قاعداً في عسكره، لا بل بمنزلة من قعد تحت لوائه»(١٦).
ومن بيان معرفته قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
«القائم من ولدي، اسمه اسمي، وكنيته كنيتي، وشمائله شمائلي، وسنته سنتي، يقيم الناس على ملتي وشريعتي، ويدعوهم إلى كتاب ربي (عزّ وجل)، من أطاعه فقد أطاعني، ومن عصاه فقد عصاني، ومن أنكره في غيبته فقد أنكرني، ومن كذَّبه فقد كذَّبني، ومن صدَّقه فقد صدَّقني، إلى الله أشكو المكذبين لي في أمره، والجاحدين لقولي في شأنه، والمضلّين لأُمتي عن طريقته ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ [الشعراء: ٢٢٧]»(١٧).
فمن هذا، تعرف أنَّ طريق معرفة الإمام (عجّل الله فرجه) هو طريقٌ لمعرفة الله تعالى وحدوده وأحكامه؛ لأن معرفته (عجّل الله فرجه) توجب التمسك بأحكام المولى؛ إِذ أنَّ طاعته ملازمة لمعرفة وطاعة الله ورسوله، فإنه إذا عَرفهُ المسلم حقَّ معرفته وجب الاقتداء به وطاعته، والالتزام بأوامره وإرشاداته وتوجيهاته، وقد روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال:
«إنما يَعرِف الله تعالى ويعبده مَنْ عرف الله وعَرِفَ إمامه منا أهل البيت، ومَنْ لا يَعرف الله تعالى ولا يَعرف الإمام منا أهل البيت فإنما يَعرف ويَعبد غير الله، هكذا والله ضلالاً»(١٨). أي أنهم يسلكون طريقاً خاطئاً ومنحرفاً عن الصراط المستقيم، ويقعون في مستنقع الضلالة.
وبإنكار الإمام (عليه السلام) إنكار لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومَنْ أنكر رسول الله فهو خارج عن الملة وكافر، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
«من أنكر القائم من ولدي فقد أنكرني»(١٩).
ومن جواب له (عجّل الله فرجه): «أمَّا ما سألت عنه أرشدك الله وثبتك من أمر المنكرين لي من أهل بيتنا وبني عمنا، فاعلم أنه ليس بين الله (عزّ وجل) وبين أحد قرابة، ومَنْ أنكرني فليس مني، وسبيله سبيل ابن نوح (عليه السلام)»(٢٠).
فمعرفة إمام العصر (عجّل الله فرجه) من الضروريات الثابتة لدين المسلم، وأنَّ الأرض لا تخلو من حجة وإمام، إمّا إماماً ظاهراً مشهوراً أو غائباً مستوراً، وإلّا ساخت الأرض بأهلها، كما ورد عنهم (عليهم السلام)(٢١).
إِنَّ الله (عزّ وجل) لا يترك عباده مُهْمَلِين، دون عَلَمٍ مرشد، ولا حجة هادية، ولا نور يستضيئون به، وإن وجه الانتفاع بالإمام (عجّل الله فرجه) في غيبته كالانتفاع بالشمس إذا غيَّبها عن الأبصار السحابُ، وأن الإمام (عجّل الله فرجه) أمانٌ لأهل الأرض، كما النجوم أمان لأهل السماء، فيما روي عن جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعنه (عجّل الله فرجه)(٢٢).
وفيما يُروى عنه (عجّل الله فرجه) أنه قال:
«إنا غير مُهْملِين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم...»(٢٣).
فمن كمال لطفه وعنايته، أنه يُحيطنا برعايته، ونستضيء بنوره، وإِن لم نكُن عارفين بتلك الطُّرق والمسالك.
تعليق