2024/12/14 -
أوصافٌ ومسمّيات كثيرة اتّسقت جميعها حول شخصية المرجع الديني الأعلى للطائفة الشيعية السيّد علي السيستاني المولود عام (1931) في مدينة مشهد الإيرانية، وتتحقّق في وصف واحد جامع وشامل "أمّةٌ في رجل"؛ وذلك نسبة إلى مواقفه التاريخية من العراق والشعوب الإنسانية المقهورة، والتي نتتبّعها عبرَ موقع (كلمة) الإخباري، منذ تغيير النظام في العراق والإطاحة بالديكتاتورية البعثية عام (2003) وحتى يومنا هذا.
ويمكن أن تنقسم هذه المواقف على ثلاث مراحل تاريخية، الأولى من (2003 – 2005)، وقد شهدت هذه الفترة تغييرات وتحدّيات كبيرة عاصرها السيد السيستاني وضبط نبضها وإيقاعها، من هناك حيث بيته الصغير في مدينة النجف التي يسكنها مجاوراً لمرقد الإمام علي (ع) منذ العام (1951).
أما الفترة الثانية فتمتد من (2006 – 2014)، وتعدّ الفترة الأصعب على العراق، حيث يمكن وصفها بالفترة المظلمة؛ جراء انتشار الجماعات الإرهابية، بدءاً من تنظيم القاعدة الإرهابي وصولاً إلى عصابات داعش الإرهابية، وما تخللت هذه الفترة من أعمال همجية كان يُراد منها إذكاء نار الطائفية في البلد، وخلق حرب أهلية لا تُبقي ولا تذر، ولولا حكمة السيد السيستاني لكان البلد في خبر كان.. كما يقول المراقبون للشأن العراقي.
أما المرحلة الثالثة فتمتد من (2017) وهو عام الانتصار على عصابات داعش والقضاء على فلولها الإرهابية وصولاً إلى عامنا الحالي، وهذه الفترة هي الأخرى مليئة بالتحديات وكذلك المواقف التاريخية المهمة التي لم يغب عنها ذكرُ هذا الرجل الاستثنائيّ.
2003.. ما قبلها وما بعدها
يمثل عام (2003) بالنسبة للعراقيين، العام الأبرز في حياتهم، حيث شهدوا بأنفسهم تكسّر أصنام الديكتاتور البعثي صدام حسين الذي حكم البلدَ لأكثر من ثلاثة عقود، وأدخله وشعبه في أتون حروب تُوصف عادةً بالعبثية و"الجنونية" أيضاً.
ولكنّ السيد السيستاني هذا المرجع الديني الذي تولّى زعامة الحوزة الدينية بعد رحيل أستاذه السيد أبو القاسم الخوئي، كانت له مواقف تسبق هذا العام، وعاصرَ كل هذه الأحداث التي مرّت على الشعب العراقيّ، كما وتعرّض للاعتقال من قبل أجهزة القمع الأمنية التابعة للنظام البعثي المباد.
وكان ظهور السيد السيستاني بقوّةٍ على الساحة العراقية إبان فترة حكم صدام حسين وحزب البعث العربي الاشتراكي، وكان له ثقله الديني والثقافي المؤثّر على الناس، وظهر ذلك أكثر للعالم كله وليس فقط للعراق والمنطقة ما بعد عام سقوط الصنم.
ووفقاً لمدير قسم دراسات الشرق الأوسط في ألمانيا (إيكارد فورتس) فإنّ "السيد السيستاني لم يتدخل في الشأن السياسي ولم يكن يبحث عنه إطلاقاً، خصوصاً وأنه مولود في أسرة شيعية تقليدية ومحافظة تبتعد عن النشاط السياسي".
ولا يعني ذلك أنّه كان بعيداً عن هموم العراقيين، ولكن الظروف لم تكن مؤاتية كما يقول فورتس "في ظل حكم ديكتاتوري وقمعي أقدم على قتل الآلاف من العراقيين ومن بينهم طلبة وأساتذة الحوزة العلمية في النجف"، كما وملأ بهم المقابر الجماعية المنتشرة على طول أرض العراق.
ويُظهر مثل هذا الدور المقتصر فقط على متابعة شؤون طلبة الحوزة العلمية وتثقيف الناس بعقائدهم الدينية، حكمةً وهدوءاً عُرف بهما السيّد السيستاني طوال حياته.
إلا أنّ احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وسقوط الحكم البعثي الديكتاتوري، جعل من السيد السيستاني أن يكون أكثر حزماً ويشرع إلى تشخيص المصلحة السياسية للعراقيين، ومنذ تلك اللحظة ظهرت للعالم شخصية شيعية بارزة تذكّرهم بعلماء شيعة كبار سابقين كانت لهم مواقفهم المشرّفة من الاستعمار الغربي.
وبعد محاولة سلطة التحالف المؤقتة التي شكّلتها الولايات المتحدة الأمريكية في العراق بقيادة الحاكم الأمريكي بول بريمي، إلى فرض هيمنتها على البلد، وتنفيذ خططها التي جاءت بها بعد احتلالها للعراق، جاء موقف المرجع السيستاني بالضد من هذه المحاولات، وذلك منعاً لصياغة حكومة ودستور غريب عن العراق ولا يلبي طموحاتهم، بل وقد يتحوّل إلى قيد في أيديهم لا يُكسر إلى الأبد.
وفي (يونيو/ حزيران 2003) أصدر المرجع السيستاني فتوىً تنصُّ على أن واضعي دستور العراق لابد وأن يتم انتخابهم، وليس تعيينهم، من قِبَل المسؤولين الأميركيين وأعضاء مجلس الحكم العراقي.
كما أصدر في (نوفمبر/ تشرين الثاني 2003) قالَ فيه إنّ "الانتخابات ـ وليس نظام الكتل الإقليمية الذي تصوره سلطات التحالف بقيادة الولايات المتحدة ـ هي الطريقة الصحيحة لاختيار الحكومة العراقية". حيث أكّد على ضرورة الاحتكام لصناديق الاقتراع للانتخابات النيابية التي تقام لأول مرّة بعد سقوط نظام صدام حسين.
وقد أدى هذا التشجيع والإرشاد من قبل المرجع السيستاني إلى إقامة مثل هكذا حدث ديمقراطي شامل على مستوى العراق، ووصلت نسبة المشاركة في المناطق الشيعية وحدهاً أكثر من (70 في المائة). وحينذاك صرّح الحاكم المدني ورئيس سلطة الائتلاف الحاكم المؤقت بول بريمر: إنّ " السيد السيستاني شجع أتباعه على الانخراط في العملية السياسية عقب عام 2003".
كما دعا السيد السيستاني إلى تشكيل جمعية انتقالية للتصديق على دستور مؤقت صاغه مجلس الحكم العراقي وتحديد الشروط التي بموجبها ستبقى القوات الأميركية وقوات الحلفاء في العراق بعد تسليم السيادة في الثامن والعشرين من يونيو/حزيران. وقد تم استيعاب كل آراء السيستاني.
ويعتبر مراقبون للشأن العراقي بأنّ "موقف السيد السيستاني في تلك اللحظات الحرجة ما بعد (2003) صاغها سماحته من خلال نظرية خاصة، جعلت منه قطب بناء الدولة الأكثر ثقةً لدى العامة من الناس، والتوصيات التي خرجت منه كانت مسار عمل".
وفي وصف أدق أُطلق البعضُ على هذه النظرية باسم (نظرية أبناء الأمّة) التي دعت العراقيين إلى تشكيل نظامهم السياسي وفق إرادتهم، عبر دستور ونظام تعدد برلماني، ومشاركة في الانتخابات. وبذلك اتخذت هذه النظرية مساراً مختلفاً عن باقي النظريات السابقة لمراجع الدين الشيعة.
وفي تقرير موسّع كتبه معهد (كلوبال)، أشار إلى أنّ "العراقيين ما بعد (2003) واجهوا موقفاً صعباً للغاية في ظل الغزو الأمريكي، ثم تخلّت بعدها سلطة التحالف المؤقتة عن خططها لعقد انتخابات وفشلت فشلاً ذريعاً في حماية المدنيين، كما عمدت إلى إفراغ البلد من طاقاته وخبرائه وموظّفيه وتحويلهم إلى أشخاص عاطلين عن العمل".
وتابع بأن "الزعيم الديني الشيعي المعتدل آية الله السيستاني حشّد الآلاف من العراقيين للخروج في احتجاجات منظمة ومؤيّدة للديمقراطية، وحثهم على إجراء انتخابات حرة قبل صياغة دستور جديد للبلاد".
وتماشياً للمادة (21) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أكد العراقيون المحتجّون بأن لهم الحق في المشاركة في تشكيل حكومة بلدهم، وأنهم لن يسمحوا بتشكيلها من قبل جهات خارجية تحت أي مسميات كانت".
وأشار إلى أن "الزعيم الديني السيد علي السيستاني فضّل إقامة دولة إسلامية ديمقراطية، تحترم حرية الدين والحريات المدنية والحقوق المشروعة للمواطنين، كما شجّعت النساء على التصويت والمشاركة".
وفي استفتاء وُجّه له، جاء فيه أن سلطات الاحتلال في العراق قررت تشكيل مجلس لكتابة الدستور العراقي الجديد، وأنها ستعين أعضاء هذا المجلس بالمشاورة مع الجهات السياسية والاجتماعية في البلد ، ثم تطرح الدستور الذي يقرّه المجلس للتصويت عليه في استفتاء شعبي عام.
فما كان من السيد السيستاني إلا أستنكر مثل هذا التدخّل وقال في بيان له: إنّ "تلك السلطات لا تتمتع بأية صلاحية في تعيين أعضاء مجلس كتابة الدستور ، كما لا ضمان ان يضع هذا المجلس دستوراً يطابق المصالح العليا للشعب العراقي ويعبّر عن هويته الوطنية التي من ركائزها الأساس الدين الإسلامي الحنيف والقيم الاجتماعية النبيلة"، فالمشروع المذكور كما رأى السيد السيستاني "غير مقبول من أساسه، ولابدّ أولاً من إجراء انتخابات عامة لكي يختار كل عراقي مؤهل للانتخاب من يمثّله في مجلس تأسيسي لكتابة الدستور، ثم يجرى التصويت العام على الدستور الذي يقرّه هذا المجلس".
وحينذاك وجه آية الله السيستاني "المؤمنين كافة إلى المطالبة بتحقيق هذا الأمر المهم والمساهمة في إنجازه على أحسن وجه".
وكتب السيد السيستاني بأنه "يجب أن تكون هناك انتخابات عامة؛ حيث يمكن لكل عراقي مؤهّل اختيار ممثله في الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور".
ويعتبر استخدام السيد السيستاني لعبارة "سلطة الاحتلال" أو "سلطات الاحتلال" البارزةَ والأولى على مستوى العراق، وكانت هذه التسميات بحسب الباحثة (كارولين مرجي صايغ) في كتابها (المرجعية الدينية ـ الموقف الوطني في العراق بعد 2003): "لم تكن حكماً من السيد السيستاني؛ بل مصطلحات استعملها مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، والحاكم الأمريكي بريمير نفسه".
وأعلن حينها أن الأمم المتحدة يجب أن تشرف على الانتخابات السياسية في العراق؛ لضمان الشرعية الديمقراطية لأي هيئة حاكمة منتخبة، ورفض بذلك خطط الأمريكيين وكذلك استخدام العنف لتحقيق الأجندات الغربية.
وبذلك احتلّت المنظمة الأممية مكانة بارزة في خطاباته، إذ كان يوضّح أن أهمية الأمم المتحدة كانت "محورية في إرساء الأمن والاستقرار في العراق إبان المرحلة الانتقالية.
وعندما سُئل السيّد السيستاني عن الجدول الزمني لانسحاب الولايات المتحدة، كان يجيب بأنه "لا يوجد سبب معقول بادئ ذي بدء يدعو للوجود الأمريكي" وبذلك لم يمنح أي شرعية للبقاء مدّة أطول، كما أشارت إلى ذلك الباحثة كارولين صايغ.
ويظهر اهتمام السيد السيستاني بأدوار منظمة الأمم المتحدة ودعوته المستمرة لإرساء ثقافة التعايش السلمي في العراق والمنطقة، من خلال التصريحات والبيانات الصادرة عن المنظمة ذاتها، واعتبرته بأنه رجل سلام.
وفي كانون الأول (2004)، دعا السيد السيستاني إلى احتجاجات حاشدة بعد رفض الحاكم الأمريكي بول بريمر إجراء الانتخابات العامة بحجّة عدم وجود وقت كافٍ لها، وشهدت أغلب المحافظات العراقية مشاركة مئات الآلاف من المواطنين المحتجّين، الذينَ استجابوا إلى نداء المرجعية، وقد جرى تغطية هذه التظاهرات من قبل وسائل إعلام عديدة بينها قناة الجزيرة الفضائية.
تعليق