العوامل المؤثّرة في ظهور الحجاب
علّة ظهور الحجاب
ما هو سبب ظهور الحجاب، وما هي فلسفته؟ وكيف أضحى الحجاب ظاهرةً بين سائر الأمم القديمة أو لدى بعضها؟
نحن نعرف أنّ الإسلام دين، جاءت كلُّ أحكامه على أساس مصلحةٍ وحكمة، فلِمَ وعلى أساس أيّة مصلحة أكّد أو أسّس الإسلام الحجاب؟
سعى المناهضون لظاهرة الحجاب الى إبراز جملة ممارساتٍ ظالمة، بوصفها عللاً لهذه الظاهرة، ولم يُميِّزوا في ذلك بين الحجاب الإسلاميّ وغير الإسلاميّ، فأوحوا بأنّ الحجاب الإسلاميّ ينطلق من هذه الممارسات الظالمة أيضاً.
لقد طرح الباحثون نظريّات متنوّعة بصدد أسباب ظهور الحجاب. وقد ثُبِّتت هذه الأسباب في الأعمِّ الأغلب لإبراز الحجاب بوصفه عملاً ظالماً وممارسة جاهلة. وبدورنا نشرع في ذكر جملة من هذه الأسباب.
يُمكننا تصنيف النظريّات التي عثرنا عليها إلى: فلسفيّة، واجتماعيّة، وأخلاقيّة، واقتصاديّة، ونفسيّة، وهي كما يلي
1 - الاتّجاه الرهبانيّ والميل نحو الرياضة الروحيّة "الجذر الفلسفيّ".
2 - فقدان الأمن والعدالة الاجتماعيّة "الجذر الاجتماعيّ".
3 - حكومة الأب وتسلُّط الرجل على المرأة، واستغلال طاقتها الاقتصاديّة لمصلحة الرجل الاقتصاديّة "الجذر الاقتصاديّ".
4 - أنانيّة الرجل وحسده "الجذر الأخلاقيّ".
5 - العادة الشهريّة وإحساس المرأة بالنقص أمام الرجل، مضافاً إلى العادات القاسية، التي تُمارس ضد المرأة أيّام حيضها من احتقارها وترك معاشرتها "الجذر النفسيّ".
هذه هي أهمُّ العوامل، وسنأتي على تفصيل كلِّ واحدٍ من هذه العوامل، ثم نُحلِّله وننقده، وسنُثبت أنّ الإسلام لم يأخذ بنظر الاعتبار أيّاً من هذه العوامل في فلسفته الاجتماعيّة، وأنّ أيّاً من هذه العوامل لا ينسجم مع الأسس المعروفة والعامّة للتفكير الإسلاميّ، وسنُشير في خاتمة البحث إلى سبب رئيس يُمثِّل - من وجهة نظرنا - أكثر العوامل وجاهة في خلق ظاهرة الحجاب.
1 ـ الاتّجاه الرهبانيُّ والرياضة الروحيّة
ترتبط مسألة الحجاب بالاتّجاه الرهبانيّ والرياضة الروحيّة من خلال كون المرأة أروع موضوع من مواضيع المتعة والّلذة، التي يتوفّر عليها الرجال. فإذا اختلط الرجل بالمرأة، وتعاشرا فسوف يتّجهان حتماً صوب المتعة والّلذة. وبغية أنْ يكون المحيط الاجتماعيّ منسجماً بشكلٍ كامل مع روح الزهد والرياضة، أقام أتباع الفلسفة الرهبانيّة حاجزاً بين الرجل والمرأة، وألزموها بالحجاب، كما جانبوا سائر المغريات الأخرى. وجاء ظهور الحجاب في ضوء هذه النظريّة نتيجة احتقار الزواج وتقديس العزوبة.
أنتج الاتّجاه الرهبانيّ وتركُ الدنيا بالنسبة للمال فلسفة الفقر والعزوف الكامل عن كلِّ الوسائل الماديّة، كما أنتج بالنسبة للمرأة العزوبة ومجانبة الجمال.
إطالة الشَّعر عادة مُتعارَفة بين السيخ والهندوس وبعض الدراويش، كما أنّ مجانبة الجمال والوقوف ضدّ الشهوة من ثمار الفلسفة الرهبانيّة والميل نحو الرياضة الروحيّة.
يقول هؤلاء: إنّ تقصير الشَّعر وتمشيطه عامل زيادة الشهوة الجنسيّة، بينما تُفضي إطالة الشَّعر إلى تقليل وإضعاف الشهوة.
يحسن بنا هنا أنْ نأتى إلى بعض ما قاله "راسل" في هذا الموضوع. يقول "راسل" في كتابه "الأخلاق والعلاقة الجنسيّة" الصفحة 30 من الترجمة الفارسيّة ما يلي:
إنّ نهج "بولس المقدّس" الفكريّ أشاعته الكنيسة بشكل كامل، خصوصاً في القرن الأوّل لميلاد المسيح، وسلك عدد كبير من الأفراد سبيل السياحة الروحيّة ليقهروا الشيطان، الذي يملأ أذهانهم في كلِّ آنٍ بألوان التخيّلات الشهوانيّة. وقد حاربت الكنيسة - ضمن هذا السياق - الاستحمام، إذ إنّ الاستحمام يدفع مفاصل البدن الإنسانيّ نحو الخطيئة. فرحّبت الكنيسة بوساخة البدن، وأخذت رائحة البدن لوناً من القدسيّة، إذ إنّ نظافة البدن وتجميله تتعارض - من وجهة نظر بولس - مع نظافة الروح...".
علّة ظهور الحجاب
نأتي الآن لنرى هل ينسجم مثل هذا التبرير للحجاب مع النهج الإسلاميّ وطريقته الفكريّة؟
للإسلام - من حسن الحظّ - نهج فكريٌّ واضح ونظرة جليّة للعالَم. فوجهة نظره بصدد الإنسان والعالَم والّلذّة واضحة، من هنا يُمكن أنْ نتعرّف بيُسرٍ، هل أنَّ للإسلام اتّجاهاً نحو الرياضة
الروحيّة أم لا؟
نحن لا نُنكر أنّ للرهبانيّة والرياضة الروحيّة وجوداً في نقاط من العالَم. وربما يُمكن اعتبار حجاب المرأة ـ في البقاع التي يُسيطر عليها هذا اللون من التفكير ـ نتيجةً له. ولكن عندما شرّع الإسلام الحجاب لم يستند في جميع الحالات إلى مثل هذه العلّة، كما أنّ مثل هذا الاتّجاه لا ينسجم مع روح الإسلام ولا مع سائر أحكامه.
فالإسلام - من حيث الأساس - حارب بشدّة التفكير الرهبانيّ. وهذه الحقيقة يُذعن بها حتى المستشرقون الأوروبيون.
لقد دعا الإسلام للنظافة، فبدلاً من اعتبار القُمَّل جواهر إلهيّة، قال: "النظافة من الإيمان". وقد جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أنّه قال: "مِنَ الدين المتعة" 1كما جاء عنه صلى الله عليه واله وسلم :"بئس العبد القاذورة"2. وجاء عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "إنّ الله جميل يُحبُّ الجمال"3.
وجاء في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "إنّ الله يُحبُّ الجمال والتجمُّل ويُبغض التبؤس والتباؤس، فإنّ الله إذا أنعم على عبده بنعمة أحبّ أنْ يُرى عليه أثرها، قيل: كيف ذلك؟ قال: يُنظِّف ثوبه ويُطيِّب ريحه، ويُجصِّص داره ويكنس أفنيته حتى أنّ السراج قبل مغيب الشمس ينفي الفقر ويزيد في الرزق"4.
ونجد في أقدم كتب الحديث والرواية "كالكافي" الذي يعود الى ألف عام بحثاً تحت عنوان "باب الزيّ والتجمُّل".
لقد قدّم الإسلام وصايا أكيدة لتقصير الشَّعر وتمشيطه واستخدام الطيب ودهن الشَّعر.
جاء في الرواية: أنّ جماعة من الصحابة كانوا حرّموا على أنفسهم النساء والإفطار بالنهار والنوم بالليل، فأخبرت أمُّ سلمة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، فخرج إلى أصحابه فقال: " أترغبون عن النساء، إنّي آتي النساء وآكل بالنهار وأنام بالليل...".
وعن الصادق عليه السلام قال: "إنّ ثلاث نسوة أتينَ رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فقالت إحداهنَّ: إنّ زوجي لا يأكل اللحم، وقالت الأخرى: إنّ زوجي لا يشمّ الطيب، وقالت الأخرى: إنّ زوجي لا يقرب النساء، فخرج رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يجرُّ رداءه حتى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثُمّ قال: ما بال أقوام من أصحابي لا يأكلون اللحم ولا يشمّون الطيب ولا يأتون النساء، أما إنّي آكل اللحم وأشمّ الطيب وآتي النساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي"5.
إنّ الحكم بتقصير الثياب - خلافاً لعادة العرب آنذاك حيث كانت ثيابهم تخطُّ في الأرض - كان لأجل النظافة، وقد بُيّن هذا الحكم في الآيات الأولى التي نزلت على الرسول صلى الله عليه واله وسلم :﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾6.
كما أنّ استحباب لبس الثوب الأبيض هو لأجل جماله من جهة ولأجل النظافة من جهة أخرى، إذ الّلباس الأبيض يعكس بشكل أفضل الأوساخ، ولهذه المسألة جاءت الإشارة في الروايات: "إلبسوا البياض فإنّه أطيب وأطهر"7.
وقد جاء في الأثر عن النبيِّ صلى الله عليه واله وسلم أنّه كان ينظر في المرآة، ويرجّل جمّته ويمتشط، وربّما نظر في الماء وسوّى جمّته فيه، ولقد كان يتجمّل لأصحابه فضلاً عن تجمّله لأهله8.
وقد اعتبر القرآن الكريم خلق أسباب الزينة والتجمّل من ألطاف الله تعالى على عباده، وهاجم بشدّة تحريم هذه النعم الإلهيّة: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْق﴾9.وقد ورد في النصوص الإسلاميّة أنّ الأئمّة استندوا في جدالهم مع المتصوِّفة إلى نفس هذه الآية لإثبات بطلان ادعاءاتهم 10.
فالإسلام لم يرفض تمتُّع الزوجين جنسيّاً أحدهما بالآخر فحسب، بل جعل لذلك ثواباً وأجراً.
ولعلَّ من المدهش بالنسبة لشخص غربيٍّ أنْ يسمع أنّ الإسلام يذهب الى استحباب المُلاعبة بين الزوج والزوجة، وتجمُّل المرأة لزوجها. فالغربيّون سابقاً حينما كانوا يلتزمون تعاليم الكنيسة وكانوا يشجبون كلَّ ألوان الّلذّة، كانوا يعتقدون بخطأ ما يُستحبّ في الإسلام، بل كانوا يهزأون به.
لقد منع الإسلام بشدّة ألوان المتعة الجنسيّة خارج إطار الزواج الشرعيّ، ولهذا المنع فلسفة خاصّة سنوضِّحها لاحقاً. لكنّه رحّب بالمتعة الجنسيّة في حدود الشرع، حتى أنّه اعتبر حبَّ النساء من خصائص الأنبياء: "من أخلاق الأنبياء حبُّ النساء"11. وذمَّ الإسلام المرأة التي تُقصِّر في تجميل وتزيين نفسها لزوجها، كما ذمّ الأزواج الذين لا يُشبعون رغبات نسائهم.
جاء في الأثر عن الحسن بن الجهم قال: رأيت أبا الحسن عليه السلام (الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ) اختضب، فقلت: جُعلت فداك اختضبت؟ فقال: نعم إنّ التهيئة ممّا يزيد في
عفّة النساء، ولقد ترك النساء العفّة بترك أزواجهنّ التهيئة. ثم قال: أيسرّك أنْ تراها على ما تراك عليه إذا كنت على غير تهيئة؟ قلت: لا. قال: فهو ذاك. ثُمَّ قال: مِنْ أخلاق
الأنبياء التنظيف والتطيّب وحلق الشَّعر وكثرة الطروقة 12.
وقد جاء في حديث آخر عن الرسول صلى الله عليه واله وسلم أنّه قال:"تنظّفوا ولا تشبّهوا باليهود" 13 ثُمَّ أشار بعد ذلك إلى أنّ انحراف نساء اليهود نشأ جرّاء وساخة رجالهنّ فكانوا غير مرغوبين من قِبَل نسائهم، وأَمَرَ المسلمين بالنظافة لكي ترغب بهم نساؤهم.
وقد ورد في الأثر: أنّ الصحابيَّ عثمان بن مظعون اتّجه نحو الرهبنة وترك الدنيا وملذّاتها، فجاءت زوجته إلى النبيِّ صلى الله عليه واله وسلم فقالت: يا رسول الله إنّ عثمان يصوم النهار ويقوم الليل، فخرج رسول الله صلى الله عليه واله وسلم مُغضِباً يحمل نعليه حتى جاء الى عثمان فوجده يُصلّي، فانصرف عثمان حين رأى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، فقال له: "يا عثمان لم يُرسلني الله بالرهبانيّة ولكن بعثني بالحنيفيّة السمحة أصوم وأصلّي وألمس أهلي، فمن أحبّ فطرتي فليستنّ بسنّتي، ومِنْ سنّتي الزواج"14.
2 ـ فقدان الأمن
علّة ظهور الحجاب
ما هو سبب ظهور الحجاب، وما هي فلسفته؟ وكيف أضحى الحجاب ظاهرةً بين سائر الأمم القديمة أو لدى بعضها؟
نحن نعرف أنّ الإسلام دين، جاءت كلُّ أحكامه على أساس مصلحةٍ وحكمة، فلِمَ وعلى أساس أيّة مصلحة أكّد أو أسّس الإسلام الحجاب؟
سعى المناهضون لظاهرة الحجاب الى إبراز جملة ممارساتٍ ظالمة، بوصفها عللاً لهذه الظاهرة، ولم يُميِّزوا في ذلك بين الحجاب الإسلاميّ وغير الإسلاميّ، فأوحوا بأنّ الحجاب الإسلاميّ ينطلق من هذه الممارسات الظالمة أيضاً.
لقد طرح الباحثون نظريّات متنوّعة بصدد أسباب ظهور الحجاب. وقد ثُبِّتت هذه الأسباب في الأعمِّ الأغلب لإبراز الحجاب بوصفه عملاً ظالماً وممارسة جاهلة. وبدورنا نشرع في ذكر جملة من هذه الأسباب.
يُمكننا تصنيف النظريّات التي عثرنا عليها إلى: فلسفيّة، واجتماعيّة، وأخلاقيّة، واقتصاديّة، ونفسيّة، وهي كما يلي
1 - الاتّجاه الرهبانيّ والميل نحو الرياضة الروحيّة "الجذر الفلسفيّ".
2 - فقدان الأمن والعدالة الاجتماعيّة "الجذر الاجتماعيّ".
3 - حكومة الأب وتسلُّط الرجل على المرأة، واستغلال طاقتها الاقتصاديّة لمصلحة الرجل الاقتصاديّة "الجذر الاقتصاديّ".
4 - أنانيّة الرجل وحسده "الجذر الأخلاقيّ".
5 - العادة الشهريّة وإحساس المرأة بالنقص أمام الرجل، مضافاً إلى العادات القاسية، التي تُمارس ضد المرأة أيّام حيضها من احتقارها وترك معاشرتها "الجذر النفسيّ".
هذه هي أهمُّ العوامل، وسنأتي على تفصيل كلِّ واحدٍ من هذه العوامل، ثم نُحلِّله وننقده، وسنُثبت أنّ الإسلام لم يأخذ بنظر الاعتبار أيّاً من هذه العوامل في فلسفته الاجتماعيّة، وأنّ أيّاً من هذه العوامل لا ينسجم مع الأسس المعروفة والعامّة للتفكير الإسلاميّ، وسنُشير في خاتمة البحث إلى سبب رئيس يُمثِّل - من وجهة نظرنا - أكثر العوامل وجاهة في خلق ظاهرة الحجاب.
1 ـ الاتّجاه الرهبانيُّ والرياضة الروحيّة
ترتبط مسألة الحجاب بالاتّجاه الرهبانيّ والرياضة الروحيّة من خلال كون المرأة أروع موضوع من مواضيع المتعة والّلذة، التي يتوفّر عليها الرجال. فإذا اختلط الرجل بالمرأة، وتعاشرا فسوف يتّجهان حتماً صوب المتعة والّلذة. وبغية أنْ يكون المحيط الاجتماعيّ منسجماً بشكلٍ كامل مع روح الزهد والرياضة، أقام أتباع الفلسفة الرهبانيّة حاجزاً بين الرجل والمرأة، وألزموها بالحجاب، كما جانبوا سائر المغريات الأخرى. وجاء ظهور الحجاب في ضوء هذه النظريّة نتيجة احتقار الزواج وتقديس العزوبة.
أنتج الاتّجاه الرهبانيّ وتركُ الدنيا بالنسبة للمال فلسفة الفقر والعزوف الكامل عن كلِّ الوسائل الماديّة، كما أنتج بالنسبة للمرأة العزوبة ومجانبة الجمال.
إطالة الشَّعر عادة مُتعارَفة بين السيخ والهندوس وبعض الدراويش، كما أنّ مجانبة الجمال والوقوف ضدّ الشهوة من ثمار الفلسفة الرهبانيّة والميل نحو الرياضة الروحيّة.
يقول هؤلاء: إنّ تقصير الشَّعر وتمشيطه عامل زيادة الشهوة الجنسيّة، بينما تُفضي إطالة الشَّعر إلى تقليل وإضعاف الشهوة.
يحسن بنا هنا أنْ نأتى إلى بعض ما قاله "راسل" في هذا الموضوع. يقول "راسل" في كتابه "الأخلاق والعلاقة الجنسيّة" الصفحة 30 من الترجمة الفارسيّة ما يلي:
إنّ نهج "بولس المقدّس" الفكريّ أشاعته الكنيسة بشكل كامل، خصوصاً في القرن الأوّل لميلاد المسيح، وسلك عدد كبير من الأفراد سبيل السياحة الروحيّة ليقهروا الشيطان، الذي يملأ أذهانهم في كلِّ آنٍ بألوان التخيّلات الشهوانيّة. وقد حاربت الكنيسة - ضمن هذا السياق - الاستحمام، إذ إنّ الاستحمام يدفع مفاصل البدن الإنسانيّ نحو الخطيئة. فرحّبت الكنيسة بوساخة البدن، وأخذت رائحة البدن لوناً من القدسيّة، إذ إنّ نظافة البدن وتجميله تتعارض - من وجهة نظر بولس - مع نظافة الروح...".
علّة ظهور الحجاب
نأتي الآن لنرى هل ينسجم مثل هذا التبرير للحجاب مع النهج الإسلاميّ وطريقته الفكريّة؟
للإسلام - من حسن الحظّ - نهج فكريٌّ واضح ونظرة جليّة للعالَم. فوجهة نظره بصدد الإنسان والعالَم والّلذّة واضحة، من هنا يُمكن أنْ نتعرّف بيُسرٍ، هل أنَّ للإسلام اتّجاهاً نحو الرياضة
الروحيّة أم لا؟
نحن لا نُنكر أنّ للرهبانيّة والرياضة الروحيّة وجوداً في نقاط من العالَم. وربما يُمكن اعتبار حجاب المرأة ـ في البقاع التي يُسيطر عليها هذا اللون من التفكير ـ نتيجةً له. ولكن عندما شرّع الإسلام الحجاب لم يستند في جميع الحالات إلى مثل هذه العلّة، كما أنّ مثل هذا الاتّجاه لا ينسجم مع روح الإسلام ولا مع سائر أحكامه.
فالإسلام - من حيث الأساس - حارب بشدّة التفكير الرهبانيّ. وهذه الحقيقة يُذعن بها حتى المستشرقون الأوروبيون.
لقد دعا الإسلام للنظافة، فبدلاً من اعتبار القُمَّل جواهر إلهيّة، قال: "النظافة من الإيمان". وقد جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أنّه قال: "مِنَ الدين المتعة" 1كما جاء عنه صلى الله عليه واله وسلم :"بئس العبد القاذورة"2. وجاء عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "إنّ الله جميل يُحبُّ الجمال"3.
وجاء في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "إنّ الله يُحبُّ الجمال والتجمُّل ويُبغض التبؤس والتباؤس، فإنّ الله إذا أنعم على عبده بنعمة أحبّ أنْ يُرى عليه أثرها، قيل: كيف ذلك؟ قال: يُنظِّف ثوبه ويُطيِّب ريحه، ويُجصِّص داره ويكنس أفنيته حتى أنّ السراج قبل مغيب الشمس ينفي الفقر ويزيد في الرزق"4.
ونجد في أقدم كتب الحديث والرواية "كالكافي" الذي يعود الى ألف عام بحثاً تحت عنوان "باب الزيّ والتجمُّل".
لقد قدّم الإسلام وصايا أكيدة لتقصير الشَّعر وتمشيطه واستخدام الطيب ودهن الشَّعر.
جاء في الرواية: أنّ جماعة من الصحابة كانوا حرّموا على أنفسهم النساء والإفطار بالنهار والنوم بالليل، فأخبرت أمُّ سلمة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، فخرج إلى أصحابه فقال: " أترغبون عن النساء، إنّي آتي النساء وآكل بالنهار وأنام بالليل...".
وعن الصادق عليه السلام قال: "إنّ ثلاث نسوة أتينَ رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فقالت إحداهنَّ: إنّ زوجي لا يأكل اللحم، وقالت الأخرى: إنّ زوجي لا يشمّ الطيب، وقالت الأخرى: إنّ زوجي لا يقرب النساء، فخرج رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يجرُّ رداءه حتى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثُمّ قال: ما بال أقوام من أصحابي لا يأكلون اللحم ولا يشمّون الطيب ولا يأتون النساء، أما إنّي آكل اللحم وأشمّ الطيب وآتي النساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي"5.
إنّ الحكم بتقصير الثياب - خلافاً لعادة العرب آنذاك حيث كانت ثيابهم تخطُّ في الأرض - كان لأجل النظافة، وقد بُيّن هذا الحكم في الآيات الأولى التي نزلت على الرسول صلى الله عليه واله وسلم :﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾6.
كما أنّ استحباب لبس الثوب الأبيض هو لأجل جماله من جهة ولأجل النظافة من جهة أخرى، إذ الّلباس الأبيض يعكس بشكل أفضل الأوساخ، ولهذه المسألة جاءت الإشارة في الروايات: "إلبسوا البياض فإنّه أطيب وأطهر"7.
وقد جاء في الأثر عن النبيِّ صلى الله عليه واله وسلم أنّه كان ينظر في المرآة، ويرجّل جمّته ويمتشط، وربّما نظر في الماء وسوّى جمّته فيه، ولقد كان يتجمّل لأصحابه فضلاً عن تجمّله لأهله8.
وقد اعتبر القرآن الكريم خلق أسباب الزينة والتجمّل من ألطاف الله تعالى على عباده، وهاجم بشدّة تحريم هذه النعم الإلهيّة: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْق﴾9.وقد ورد في النصوص الإسلاميّة أنّ الأئمّة استندوا في جدالهم مع المتصوِّفة إلى نفس هذه الآية لإثبات بطلان ادعاءاتهم 10.
فالإسلام لم يرفض تمتُّع الزوجين جنسيّاً أحدهما بالآخر فحسب، بل جعل لذلك ثواباً وأجراً.
ولعلَّ من المدهش بالنسبة لشخص غربيٍّ أنْ يسمع أنّ الإسلام يذهب الى استحباب المُلاعبة بين الزوج والزوجة، وتجمُّل المرأة لزوجها. فالغربيّون سابقاً حينما كانوا يلتزمون تعاليم الكنيسة وكانوا يشجبون كلَّ ألوان الّلذّة، كانوا يعتقدون بخطأ ما يُستحبّ في الإسلام، بل كانوا يهزأون به.
لقد منع الإسلام بشدّة ألوان المتعة الجنسيّة خارج إطار الزواج الشرعيّ، ولهذا المنع فلسفة خاصّة سنوضِّحها لاحقاً. لكنّه رحّب بالمتعة الجنسيّة في حدود الشرع، حتى أنّه اعتبر حبَّ النساء من خصائص الأنبياء: "من أخلاق الأنبياء حبُّ النساء"11. وذمَّ الإسلام المرأة التي تُقصِّر في تجميل وتزيين نفسها لزوجها، كما ذمّ الأزواج الذين لا يُشبعون رغبات نسائهم.
جاء في الأثر عن الحسن بن الجهم قال: رأيت أبا الحسن عليه السلام (الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ) اختضب، فقلت: جُعلت فداك اختضبت؟ فقال: نعم إنّ التهيئة ممّا يزيد في
عفّة النساء، ولقد ترك النساء العفّة بترك أزواجهنّ التهيئة. ثم قال: أيسرّك أنْ تراها على ما تراك عليه إذا كنت على غير تهيئة؟ قلت: لا. قال: فهو ذاك. ثُمَّ قال: مِنْ أخلاق
الأنبياء التنظيف والتطيّب وحلق الشَّعر وكثرة الطروقة 12.
وقد جاء في حديث آخر عن الرسول صلى الله عليه واله وسلم أنّه قال:"تنظّفوا ولا تشبّهوا باليهود" 13 ثُمَّ أشار بعد ذلك إلى أنّ انحراف نساء اليهود نشأ جرّاء وساخة رجالهنّ فكانوا غير مرغوبين من قِبَل نسائهم، وأَمَرَ المسلمين بالنظافة لكي ترغب بهم نساؤهم.
وقد ورد في الأثر: أنّ الصحابيَّ عثمان بن مظعون اتّجه نحو الرهبنة وترك الدنيا وملذّاتها، فجاءت زوجته إلى النبيِّ صلى الله عليه واله وسلم فقالت: يا رسول الله إنّ عثمان يصوم النهار ويقوم الليل، فخرج رسول الله صلى الله عليه واله وسلم مُغضِباً يحمل نعليه حتى جاء الى عثمان فوجده يُصلّي، فانصرف عثمان حين رأى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، فقال له: "يا عثمان لم يُرسلني الله بالرهبانيّة ولكن بعثني بالحنيفيّة السمحة أصوم وأصلّي وألمس أهلي، فمن أحبّ فطرتي فليستنّ بسنّتي، ومِنْ سنّتي الزواج"14.
2 ـ فقدان الأمن
تعليق