
دعـا ممثل المرجعية العليا في اوروبا السيد مرتضى الكشميري لزوار الامام الحسين (ع) بقبول زيارتهم وعودتهم لديارهم سالمين غانمين، قائلاً، إن زيارة الأربعين المليونية لحدث بالغ الأهمية جدير بالاهتمام والمتابعة لكننا نلاحظ تجاهل الاعلام العالمي له بنحو مريب ، و إن مسؤولية الحفاظ على الزيارة والأربعين وتبليغ الرسالة السامية للعالم أجمع تقع على عاتقنا نحن شيعة أهل البيت (ع)، كلٌ بحسب جهده وطاقته.
وجاء في كلمة القاها سماحته ما يلي: في كل عام وفي العشرين من شهر صفر يشهد العالم الإسلامي اعظم تجمع إيماني سنوي في مسيرة الأربعين الحسيني، حيث يتوافد ملايين الزائرين سيرا على الاقدام من مختلف البلدان صوب كربلاء المقدسة قاصدين مرقد الامام الحسين (ع) حفيد النبي الأعظم (ص) ومحيي الإسلام في اعظم ملحمة دينية إنسانية عرفها التاريخ.
لكن ورغم ضخامة هذا الحدث وابعاده الروحية والاجتماعية والسياسية، فان هذا الحشد المليوني المهيب لا يحظى من الإعلام باهتمام يليق به بل تكاد كثير من وسائل الاعلام العالمية والدوائر الفكرية والثقافية الغربية تتجاهله، في حين تغطي الفعاليات الفنية والرياضية او بعض القضايا الهامشية مساحة أوسع او اكبر، فما هو السبب الذي يقف وراء ذلك؟ يمكننا أن نشير الى بعض النقاط بهذا الصدد:
أولا: ان زيارة الأربعين ليست مجرد مسيرة دينية صامتة بل هي تعبير عن ولاء عميق لقيم الامام الحسين (ع) ومبادئ صورته التي شهدت تحديا صارخا للظلم والفساد والاستبداد، وهي في عمقها تعبير عن رفض منظومة الجور والانحراف عن الإسلام المحمدي الأصيل وهيمنة التزوير الديني، ولذلك فان الأنظمة الجائرة والحكومات الظالمة لا تنظر بعين الارتياح لمثل هذه المسيرة التي توقظ ضمير الامة واحياء نهضتها، ومن الطبيعي ان يتم العمل على التعتيم عليها إعلاميا لانها تهدد رواية الإسلام الخانع الذي يريدونه مقابل الإسلام الحسيني النابض بالكرامة والعزة ، فالحسين (ع) حين خرج لم يكن طالب سلطة او حاكما متعطشا، بل وقف لاعلان صرخة خالدة (انما خرجت لطلب الإصلاح في امة جدي) هذه الصرخة التي لا تزال تقض مضاجع الظالمين لانها تذكّر الشعوب بقدراتها على التحرر من الظلم، ولهذا فان كتم صوت الحسين (ع) يصبح هدفا متجددا وان تلبس بثياب عدم الاهتمام.
ثانيا: الغفلة الثقافية والعقدة النفسية تجاه التشيع ، فهذا ما تعانيه الثقافة الغربية وبعض الثقافات الأخرى من جهل شبه تام باصول الفكر الشيعي او تعرضها لتشويه ممنهج، ما يجعلها تتعامل بتحفظ مسبق مع كل ما يرتبط بالامام الحسين (ع) وزيارته، والى جانب الجهل فإن هناك عقدة كامنة تجاه المذهب الشيعي الذي كثيرا ما يرتبط بالذهنية الغربية ظلما بالتطرف او العنف او الطائفية بفعل حملات إعلامية مغرضة او احداث معزولة او مفتعلة، ومن الطبيعي في مثل هذا السياق ألا يسلط الضوء على اجمل صورة يقدمها التشيع، صورة محبة الامام الحسين (ع) والسير اليه على الاقدام بمسيرة عفوية سليمة تضرب أروع الأمثلة بالتعاون والايثار والتضحية والجود والكرم، ولو كانت هذه المسيرة نابعة من خلفية ثقافية غربية او شرقية بعيدة عن الإسلام لربما وجدنا مئات الوثائق والتحليلات الفلسفية والمقالات المطولة، لكن ارتباطها بالمدرسة الشيعية يجعلها عرضة للتجاهل من قبل بعض دوائر الاعلام العالمي.
ثالثا: التقصير الداخلي وضعف التبليغ العالمي -وهو ما يقع على عاتقنا نحن كاتباع لمدرسة اهل البيت (ع)- في تقديم هذه الظاهرة للعالم بالصورة التي تستحقها، فقد بقيت رسالة الأربعين (الى حد كبير) محصورة في محيطها الديني والشعبي ولم توظف الأدوات الحديثة للتعريف بها كما يجب سواء عبر التقارير الوثائقية المعبرة او الحملات الموجهة او المؤتمرات البحثية التي تستقطب الاكاديميين والمفكرين من مختلف انحاء العالم، على اننا ومنذ اكثر من سنتين وجهنا الخطاب الى بعض المعنيين بهذه الشؤون نحثهم على إقامة مؤتمر عالمي لهذا الغرض يدعى اليه الإعلاميين والمؤسسات المرتبطة بذلك لتغطية هذا الحدث (مع تبنينا لتغطية جانب من تكاليف هذا المشروع)، وقد لاقى ذلك استحسانا منهم الا ان الاستجابة له كانت ضعيفة ونأمل الاستمرار على ذلك لأننا امام كنز حضاري روحي انساني لا ينضب لم نؤد حقه كما ينبغي.
ان ملايين البشر التي تسير صوب كربلاء كانت لتثير دهشة العالم لو عرضت بلسان الإنسانية لا الطائفية، ولربما كانت تحتاج الى من يترجمها الى لغة الضمير العالمي لا بلغة الخطيب والرادود.
رابعا: أن العالم اليوم وخاصة في بنية اعلامية وثقافية يمر بمرحلة خطيرة من الانقلاب على القيم الاصيلة حيث ترفع التفاهة الى مصاف القداسة وتهمش القضايا الكبرى، يحتفى بما لا يستحق ويقصى ما يستحق كل اجلال. فالمتابع الاعلامي يجد احتفاءا صاخبا بمسابقات الغناء ومباريات كرة القدم والحفلات، بينما يغيب الحدث عن اكبر تجمع ديني يشهده القرن فقط لانه لا يخدم نمط الحياة الاستهلاكية التي تروج له المنظومة الغربية او لا يتماشى معها.
ان زيارة الأربعين لما تحمله من دعوة للتقشف والزهد والايثار والرجوع للقيم تتحدى مباشرة نمط الحياة الراسمالية المادية السائدة، ولهذا لا ترحب هذه المنظومة المسيطرة على الإعلام -والتي تفضل الترويج لصورة الانسان النرجسي المترف اللاهي- بأنموذج الانسان الذي يجهد في السير حبا لإمامه ويخدم غيره حبا لله.
إن مسؤوليتنا تجاه حفظ اصالة زيارة الأربعين في مواجهة هذه التحديات تقع على عاتق العلماء والمفكرين والمثقفين والخطباء والرواديد وعلى عموم الزائرين، مسؤولية جسيمة في الحفاظ على اصالة وقدسية هذه الشعيرة وذلك من خلال ما يلي:
• تجديد الخطاب المرتبط بالزيارة بربطه بمبادئ الثورة الحسينية وتسليط الضوء على مضمونها الإصلاحي والعقائدي لا الاكتفاء الموسمي للعواطف.
• التأكيد على البعد العالمي للزيارة وانها لا تختص بطائفة دون أخرى او مذهب دون مذهب اخر او دين دون دين اخر ، بل هي رسالة إنسانية شاملة يمكن ان تلامس ضمير أي حر بالعالم اذا أبرزت بالصورة اللائقة والمناسبة.
• المشاركة الواعية بالزيارة من خلال الالتزام بالسلوك الحسن واحترام القوانين والنظافة والانضباط والتعامل الاخلاقي مع الاخرين لتكون الزيارة تجسيدا عمليا للاسلام المحمدي كما جاء في توصيات المرجعية العليا لزوار الحسين (ع).
• انتاج مواد إعلامية راقية تظهر عمق الزيارة وتاريخها واهدافها تخاطب بها المجتمعات بالأساليب المناسبة للفت الانتباه لهذا الحدث العظيم. ولعل اقدر الجهات على ذلك هي العتبة الحسينية والعباسية لما يتوفر لهما من قدرات مالية وإعلامية وكوادر مؤهلة لعرض هذا الحدث بالطريقة المناسبة وبالوقت المناسب.
وفي ختام حديثنا نقول ان زيارة الأربعين ليست مجرد مسيرة شعبية بل هي صورة متجددة ومشروع تربوي روحي طويل الامد ورسالة مفتوحة الى البشرية بأن الحق لا يموت بل ينتصر، ولذلك فان كل محاولات التحريف والتشوية مهما تعددت وسائلها لن تطفئ نور الحسين (ع)، ولكنها تحتم علينا ان نكون اكثر وعيا واصدق ولاءا واشد حرصا على حماية هذه المسيرة من ان تفرغ من محتواها.
هذا وقد قال الامام الصادق (ع) في وصف الزائر (من زار الحسين عارفا بحقه كمن زار الله في عرشة) ، فهل يعقل منا أن نترك مثل هذ الفضل عرضة للضياع بالتشويه او الغفلة، ام علينا ان ننهض جميعا بهذه النعمة الربانية وننقلها كما أرادها الله ورسوله (ص) واهل البيت (ع) للعالم اجمع؟
هذا نسال من المولى سبحانه وتعالى ان يتقبل من الزائرين زيارتهم ويعيدهم الى اوطانهم سالمين غانمين وان يوفقهم لتبليغ رسالة الحسين (ع) السامية.
((وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون))
انتهى
03:54 | الثلاثاء 5 أغسطس، 2025