قوله تعالى: <وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ 16 وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ 17 فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ>[1]. المنافقون وأقسامهم
تتحدّث هذه الآيات الشريفة عن فريق ثالث، هو غير فريق المؤمنين وغير فريق الكافرين، هذا الفريق الثالث هو مع ثورة الباطل بتوجهاته، وهو فريق المنافقين. طبعًا؛ هناك بعض المفسّرين يفسرون هذه الآيات بغير ذلك، ويقولون: إنّ المراد من قوله تعالى: <وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ> إلى آخر الآية الكفّار أيضًا، لكنّ سياق الآيات في هذه السورة لا يساعد على ما ذهبوا إليه؛ فجملة من هذه الآيات الشريفة تتحدّث عن الذين في قلوبهم مرض وغيرهم، كما في قوله تعالى: <فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ>[2] وباقي الخصوصيات، والمراد من هذه الآيات المنافقون. أقسام النفاق
وإذا أردنا أن نشرح طبيعة الآيات التي تتحدّث عن النفاق في القرآن الكريم، فسنعرف من خلال تلك الآيات أنّ المنافقين على أقسام:
القسم الأول: منافقون في العقيدة؛ بمعنى أنّهم يستبطنون الكفر ويُظهرون الإيمان، فحقيقة باطنهم كفر، لكنّهم يقولون: نحن مؤمنون خوفًا أو طمعًا أو لأيّ مبرّر كان، كما تقول الآية الشريفة: <نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ>[3]، إلى أن تقول: <هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ>[4]. فهذا قسم من النفاق، وهو النفاق في العقيدة، فهؤلاء المنافقون في العقيدة استسلموا واقعًا، لا أنّهم أسلموا؛ لأنّ الإسلام لابدَّ أن يكون بطواعية، والاستسلام فرض عليهم الإسلام.
القسم الثاني: المنافقون في العمل، هؤلاء المنافقون هم مرضى القلوب، هؤلاء الذين في قلوبهم مرض، تتحدث عن هؤلاء الآيات 7 إلى 20 من سورة البقرة، ومنها: <وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ>[5]. قد يقال إنّ هذا النفاق هو نفاق في العقيدة بقرينة قوله تعالى: <وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ>، لكن سياق الآيات يتحدث عن مرضى القلوب وهو نفاق عملي، نفاق أخلاقي، وبالملازمة يكون نفاقًا في العقيدة، تقول الآية الشريفة: <يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ>[6]؛ أي عندهم مكر، وعندهم حيلة <في قُلوبِهِم مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا>[7]، فالمرض القلبي يبدأ بنقطة سوداء، وهذه النقطة السوداء تتّسع إلى أن تشمل القلب كلّه بالتدريج <زادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُم عَذابٌ أَليمٌ بِما كانوا يَكذِبونَ>[8]. من جملة خصوصيات مرضى القلوب هؤلاء، أنهم يُظهرون بالمظهر الخارجي أنّهم مُصلحون ويريدون الإصلاح <وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ>[9]، والقرآن الكريم يصرّح بأنّهم هم المفسدون، ولكن لا يشعرون، فالذي يقومون به هو إفساد، وليس بإصلاح! <وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ>[10]، يوجّهون الإهانات للمجتمع المؤمن، ويعتبرون أنفسهم مثقّفين ومتنوّرين ونُخبًا وأساسيين بهذه الصور والأشكال، لكنّ حقيقتهم ليست كذلك، <أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَٰكِن لَّا يَعْلَمُونَ>[11]، <وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا>، فهؤلاء عندما يلتقون بالإنسان المؤمن يقولون له: نحن معك، نحن جماعة الإسلام وجماعة الإيمان، <وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ>[12]، نحن نخدع هؤلاء أهل الإيمان؛ أي يؤول الأمر بهم إلى أنّهم يصيرون مع الشياطين، والطغاة، والمستبدين، والظالمين، والفسقة، والمجرمين، والمعتدين، ويحاولون أن يحيكوا لهم المؤامرات مع أعداء الإسلام خفيةً، لكنّهم ظاهرًا مع جبهة الإسلام. <اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ في طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ 15 أُولئِك الَّذينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدينَ>[13].
ثمّ يأتي الله تبارك وتعالى بمثالين لهذا النفاق.
القسم الثالث: ونُطلق عليه النفاق السياسي أو النفاق لخط ولاية محمّد وآل محمّد (ص)، ويمثله المنافقون الذين يخطّطون لاستلام السلطة ويخطّطون عن طريق إحياء العلاقات الاجتماعية والسياسية والقبَلية، وقد اتّضح ذلك في صدر الإسلام في زمن النبيّ الأكرم (ص)؛ حيث كانت الأمة الإسلامية التي تنتمي إلى رسول الله (ص) عدة تيّارات:
التيار الأول: كان هناك تيار معروف باسم تيار أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع) الذي كان موجودًا في زمن رسول (ص) الله يسمّونهم (شيعة عليٍّ)، وقد صرّح بهم الرسول الأقدس عدّة مرات؛ منها قوله (ص): «يا علي شيعتك هم الفائزون يوم القيامة»[14]، و«عليٌ خيرُ البرية»[15].
التيار الثاني: وهو تيار معادٍ لأمير المؤمنين (ع)، ويحاول دائمًا أن يروّج ضدَّ أمير المؤمنين والجماعة الخاصّين به في زمن رسول الله (ص)، ومن هذا التيار، أولئك الذين عندما رجعوا من غزو اليمن، أخذوا يشتكون عند رسول الله من أمير المؤمنين، ومنهم خالد بن الوليد وغيره. وتفصيل الكلام في ذلك ليس محور بحثنا.
التيار الثالث: وهم المستضعفون، والفقراء، الذين هم دائمًا محتاجون، وعادةً ليست عندهم عشيرة ولا قبيلة ولا جماعة يعتنون بهم، لكنّ الإسلام جعلهم إخوة متحابّين مع الأمة الإسلامية.
التيار الرابع: الأنصار.
التيار الخامس: المهاجرون.
وهناك تيارات أخرى من هذا القبيل. أصحاب التيارات وولاية النبيّ (ص)
وأصحاب تلك التيارات، باستثناء تيار أمير المؤمنين عليّ (ع) في زمن رسول الله، لم يكونوا مستوعبين لولاية رسول الله (ص)، ولا زعامته للأمّة بالتنصيب الإلهيّ، وأنّ له كرامات وله مقامات، وأنّه نبيّ ورسولٌ وولي؛ أي مخبر عن الله وينزل عليه الوحي، فالرسول يعني صاحب رسالة، وصاحب قرآن، ووليٌ؛ أي هو زعيم سياسي واجتماعي وولي أمر الأمة الإسلامية بتنصيب من الله تبارك وتعالى. فهؤلاء لم يكونوا مستوعبين ومدركين لمسألة الولاية؛ فما كان يحكم عقولهم والموجود عندهم هو الزّعامة العشائرية، والنظام القبائلي والاجتماعي. ولكن بما أنّ للرسول (ص) مقامًا عاليًا ومنزلة رفيعةً، وأنّه نبيٌّ ورسول، فإنّهم قبلوا ولايته هذه، لكنّهم كانوا يخطّطون لما بعد رسول الله؛ أي يخطّطون لإعادة سلطة النظام الاجتماعي السياسي القبائلي، فهؤلاء مع رسول الله ظاهرًا، لكنّهم في واقع الأمر يخطّطون لاستلام السلطة المستقبلية، وتسمى تلك الجماعة بالمصطلح القرآني بــ (المنافقين)، لكنّ نفاقهم نفاق سياسيٌّ. إذًا؛ عندنا نفاق عقائدي، ونفاق أخلاقي (عملي)، ونفاق سياسي لاستلام السلطة المستقبلية، يمارسه أصحاب النظام الاجتماعي والسياسي العشائري. أمّا الآيات القرآنية التي تتحدّث عن هذا الخط، فربّما تكون هذه الآية الشريفة: <فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ 22 أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ>[16]. لقد ذكرنا سابقًا أنّ أمير المؤمنين (ع) كان يقول في فضل هذه السورة: «آيةٌ نزلت فينا وآيةٌ في بني أمية»؛ أي أنّ هذه الآية في بني أمية، فهناك خطان: الإسلام العلوي، والإسلام الأموي.
إذًا؛ هذا النفاق سياسي؛ لذلك، عندما أراد الرسول الأكرم أن يبلّغ ولاية أمير المؤمنين، كان يحتاط في ذلك الأمر، فبلّغه الله تبارك وتعالى له (ص) بأنّه لا احتياط فيه؛ بل <… بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ>[17]؛ أي أنّ الله يعصمك من هؤلاء. إذًا؛ هذا أيضًا تيار آخر ونفاق آخر، ونسمّيه النفاق السياسي.
القسم الرابع: النفاق الاجتماعي، والمقصود بالنفاق الاجتماعي ظاهرة التغالب على أساس المكر والخداع والكذب، الأمر الذي يسمّيه أصحاب الدنيا دهاء وكياسة، فيقولون: فلان كيّس؛ أي لديه القدرة على إدارة أموره وتمشيتها في المجتمع، فهو ينافق ويراوغ، فهؤلاء يعملون بمقولة: (إن لم تكن ذئبًا أكلتكَ الذئابُ)، فإما غالب أو مغلوب، لكنّ الله تبارك وتعالى يقول لنا في الحياة الاجتماعية: <يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ>[18]، الصدق بشكلٍ مطلق في العقيدة، والصدق بشكلٍ مطلق في العمل، والصدق بشكلٍ مطلق في السلوك، والصدق بشكلٍ مطلق في القيم، والصدق بشكل مطلق في الكلام، <مِنَ المُؤمِنينَ رِجالٌ صَدَقوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيهِ>[19]. وأمّا الإنسان غير الصادق في الحياة، فإنّه يعيش بحالة ازدواجية، ويجمع بين المتناقضات، ويحاول أن يرضي الجميع ويجمع بين الحق والباطل، فهذا منافق اجتماعي، فهو يريد أن يسلك في جميع ذلك القبيح والحسن، والحق والباطل. روايات في النفاق
يتبع
تتحدّث هذه الآيات الشريفة عن فريق ثالث، هو غير فريق المؤمنين وغير فريق الكافرين، هذا الفريق الثالث هو مع ثورة الباطل بتوجهاته، وهو فريق المنافقين. طبعًا؛ هناك بعض المفسّرين يفسرون هذه الآيات بغير ذلك، ويقولون: إنّ المراد من قوله تعالى: <وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ> إلى آخر الآية الكفّار أيضًا، لكنّ سياق الآيات في هذه السورة لا يساعد على ما ذهبوا إليه؛ فجملة من هذه الآيات الشريفة تتحدّث عن الذين في قلوبهم مرض وغيرهم، كما في قوله تعالى: <فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ>[2] وباقي الخصوصيات، والمراد من هذه الآيات المنافقون. أقسام النفاق
وإذا أردنا أن نشرح طبيعة الآيات التي تتحدّث عن النفاق في القرآن الكريم، فسنعرف من خلال تلك الآيات أنّ المنافقين على أقسام:
القسم الأول: منافقون في العقيدة؛ بمعنى أنّهم يستبطنون الكفر ويُظهرون الإيمان، فحقيقة باطنهم كفر، لكنّهم يقولون: نحن مؤمنون خوفًا أو طمعًا أو لأيّ مبرّر كان، كما تقول الآية الشريفة: <نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ>[3]، إلى أن تقول: <هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ>[4]. فهذا قسم من النفاق، وهو النفاق في العقيدة، فهؤلاء المنافقون في العقيدة استسلموا واقعًا، لا أنّهم أسلموا؛ لأنّ الإسلام لابدَّ أن يكون بطواعية، والاستسلام فرض عليهم الإسلام.
القسم الثاني: المنافقون في العمل، هؤلاء المنافقون هم مرضى القلوب، هؤلاء الذين في قلوبهم مرض، تتحدث عن هؤلاء الآيات 7 إلى 20 من سورة البقرة، ومنها: <وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ>[5]. قد يقال إنّ هذا النفاق هو نفاق في العقيدة بقرينة قوله تعالى: <وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ>، لكن سياق الآيات يتحدث عن مرضى القلوب وهو نفاق عملي، نفاق أخلاقي، وبالملازمة يكون نفاقًا في العقيدة، تقول الآية الشريفة: <يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ>[6]؛ أي عندهم مكر، وعندهم حيلة <في قُلوبِهِم مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا>[7]، فالمرض القلبي يبدأ بنقطة سوداء، وهذه النقطة السوداء تتّسع إلى أن تشمل القلب كلّه بالتدريج <زادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُم عَذابٌ أَليمٌ بِما كانوا يَكذِبونَ>[8]. من جملة خصوصيات مرضى القلوب هؤلاء، أنهم يُظهرون بالمظهر الخارجي أنّهم مُصلحون ويريدون الإصلاح <وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ>[9]، والقرآن الكريم يصرّح بأنّهم هم المفسدون، ولكن لا يشعرون، فالذي يقومون به هو إفساد، وليس بإصلاح! <وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ>[10]، يوجّهون الإهانات للمجتمع المؤمن، ويعتبرون أنفسهم مثقّفين ومتنوّرين ونُخبًا وأساسيين بهذه الصور والأشكال، لكنّ حقيقتهم ليست كذلك، <أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَٰكِن لَّا يَعْلَمُونَ>[11]، <وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا>، فهؤلاء عندما يلتقون بالإنسان المؤمن يقولون له: نحن معك، نحن جماعة الإسلام وجماعة الإيمان، <وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ>[12]، نحن نخدع هؤلاء أهل الإيمان؛ أي يؤول الأمر بهم إلى أنّهم يصيرون مع الشياطين، والطغاة، والمستبدين، والظالمين، والفسقة، والمجرمين، والمعتدين، ويحاولون أن يحيكوا لهم المؤامرات مع أعداء الإسلام خفيةً، لكنّهم ظاهرًا مع جبهة الإسلام. <اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ في طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ 15 أُولئِك الَّذينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدينَ>[13].
ثمّ يأتي الله تبارك وتعالى بمثالين لهذا النفاق.
القسم الثالث: ونُطلق عليه النفاق السياسي أو النفاق لخط ولاية محمّد وآل محمّد (ص)، ويمثله المنافقون الذين يخطّطون لاستلام السلطة ويخطّطون عن طريق إحياء العلاقات الاجتماعية والسياسية والقبَلية، وقد اتّضح ذلك في صدر الإسلام في زمن النبيّ الأكرم (ص)؛ حيث كانت الأمة الإسلامية التي تنتمي إلى رسول الله (ص) عدة تيّارات:
التيار الأول: كان هناك تيار معروف باسم تيار أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع) الذي كان موجودًا في زمن رسول (ص) الله يسمّونهم (شيعة عليٍّ)، وقد صرّح بهم الرسول الأقدس عدّة مرات؛ منها قوله (ص): «يا علي شيعتك هم الفائزون يوم القيامة»[14]، و«عليٌ خيرُ البرية»[15].
التيار الثاني: وهو تيار معادٍ لأمير المؤمنين (ع)، ويحاول دائمًا أن يروّج ضدَّ أمير المؤمنين والجماعة الخاصّين به في زمن رسول الله (ص)، ومن هذا التيار، أولئك الذين عندما رجعوا من غزو اليمن، أخذوا يشتكون عند رسول الله من أمير المؤمنين، ومنهم خالد بن الوليد وغيره. وتفصيل الكلام في ذلك ليس محور بحثنا.
التيار الثالث: وهم المستضعفون، والفقراء، الذين هم دائمًا محتاجون، وعادةً ليست عندهم عشيرة ولا قبيلة ولا جماعة يعتنون بهم، لكنّ الإسلام جعلهم إخوة متحابّين مع الأمة الإسلامية.
التيار الرابع: الأنصار.
التيار الخامس: المهاجرون.
وهناك تيارات أخرى من هذا القبيل. أصحاب التيارات وولاية النبيّ (ص)
وأصحاب تلك التيارات، باستثناء تيار أمير المؤمنين عليّ (ع) في زمن رسول الله، لم يكونوا مستوعبين لولاية رسول الله (ص)، ولا زعامته للأمّة بالتنصيب الإلهيّ، وأنّ له كرامات وله مقامات، وأنّه نبيّ ورسولٌ وولي؛ أي مخبر عن الله وينزل عليه الوحي، فالرسول يعني صاحب رسالة، وصاحب قرآن، ووليٌ؛ أي هو زعيم سياسي واجتماعي وولي أمر الأمة الإسلامية بتنصيب من الله تبارك وتعالى. فهؤلاء لم يكونوا مستوعبين ومدركين لمسألة الولاية؛ فما كان يحكم عقولهم والموجود عندهم هو الزّعامة العشائرية، والنظام القبائلي والاجتماعي. ولكن بما أنّ للرسول (ص) مقامًا عاليًا ومنزلة رفيعةً، وأنّه نبيٌّ ورسول، فإنّهم قبلوا ولايته هذه، لكنّهم كانوا يخطّطون لما بعد رسول الله؛ أي يخطّطون لإعادة سلطة النظام الاجتماعي السياسي القبائلي، فهؤلاء مع رسول الله ظاهرًا، لكنّهم في واقع الأمر يخطّطون لاستلام السلطة المستقبلية، وتسمى تلك الجماعة بالمصطلح القرآني بــ (المنافقين)، لكنّ نفاقهم نفاق سياسيٌّ. إذًا؛ عندنا نفاق عقائدي، ونفاق أخلاقي (عملي)، ونفاق سياسي لاستلام السلطة المستقبلية، يمارسه أصحاب النظام الاجتماعي والسياسي العشائري. أمّا الآيات القرآنية التي تتحدّث عن هذا الخط، فربّما تكون هذه الآية الشريفة: <فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ 22 أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ>[16]. لقد ذكرنا سابقًا أنّ أمير المؤمنين (ع) كان يقول في فضل هذه السورة: «آيةٌ نزلت فينا وآيةٌ في بني أمية»؛ أي أنّ هذه الآية في بني أمية، فهناك خطان: الإسلام العلوي، والإسلام الأموي.
إذًا؛ هذا النفاق سياسي؛ لذلك، عندما أراد الرسول الأكرم أن يبلّغ ولاية أمير المؤمنين، كان يحتاط في ذلك الأمر، فبلّغه الله تبارك وتعالى له (ص) بأنّه لا احتياط فيه؛ بل <… بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ>[17]؛ أي أنّ الله يعصمك من هؤلاء. إذًا؛ هذا أيضًا تيار آخر ونفاق آخر، ونسمّيه النفاق السياسي.
القسم الرابع: النفاق الاجتماعي، والمقصود بالنفاق الاجتماعي ظاهرة التغالب على أساس المكر والخداع والكذب، الأمر الذي يسمّيه أصحاب الدنيا دهاء وكياسة، فيقولون: فلان كيّس؛ أي لديه القدرة على إدارة أموره وتمشيتها في المجتمع، فهو ينافق ويراوغ، فهؤلاء يعملون بمقولة: (إن لم تكن ذئبًا أكلتكَ الذئابُ)، فإما غالب أو مغلوب، لكنّ الله تبارك وتعالى يقول لنا في الحياة الاجتماعية: <يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ>[18]، الصدق بشكلٍ مطلق في العقيدة، والصدق بشكلٍ مطلق في العمل، والصدق بشكلٍ مطلق في السلوك، والصدق بشكلٍ مطلق في القيم، والصدق بشكل مطلق في الكلام، <مِنَ المُؤمِنينَ رِجالٌ صَدَقوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيهِ>[19]. وأمّا الإنسان غير الصادق في الحياة، فإنّه يعيش بحالة ازدواجية، ويجمع بين المتناقضات، ويحاول أن يرضي الجميع ويجمع بين الحق والباطل، فهذا منافق اجتماعي، فهو يريد أن يسلك في جميع ذلك القبيح والحسن، والحق والباطل. روايات في النفاق
يتبع
تعليق