إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

شرح لبعض فقرات مقبولة عمر بن حنظلة / إعداد السيد أحمد الغالبي

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • شرح لبعض فقرات مقبولة عمر بن حنظلة / إعداد السيد أحمد الغالبي

    بسم اللّه الرحمن الرحيم
    الحمد للّه رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين ، محمّد وآله الطيبين الطاهرين ، سيّما بقيّة اللّه في الأرضين ، واللّعن الدائم على أعدائهم ومعانديهم إلى قيام يوم الدين .​

    روى ابن أبي جمهور الإحسائي في عوالي اللئالي عن العلاّمة مقبولة عمر بن حنظلة رفعها إلى زرارة .
    قال: سألت أبا عبد الله ( عليه السلام ) عن رجلين من​ أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة أيحلّ ذلك ؟
    فقال: من تحاكم إلى الطاغوت فحكم له فإنّما يأخذ سحتاً وإن كان حقّه ثابتاً ، لأنّه أخذ بحكم الطاغوت ، وقد أمر الله عزّ وجلّ أن يكفر به .
    قلت : فكيف يصنعان ؟ قال : ينظران إلى من كان منكم قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما بحكم الله استخفّ وعلينا ردّ ، والرادّ علينا الرادّ على الله ، وهو على حدّ الشرك بالله عزّ وجلّ .
    قلت : فإن كان كلّ رجل اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما فاختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم ؟ قال : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث ، وأورعهما ولا يلتفت إلى ما حكم به الآخر .
    قال : قلت : فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه .
    قال : فقال : ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الّذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به من حكمهما ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، وإنّما الاُمور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ حكمه إلى الله ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات ، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم .
    قلت : فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقاة عنكم ؟ قال : ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به ، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة .
    قلت : جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامّة والآخر مخالفاً لهم بأيّ الخبرين يؤخذ ؟
    قال : ما خالف العامّة ففيه الرشاد ، قلت : جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعاً ؟ قال : ينظر إلى ما هم [ إليه ] أميل حكّامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر .
    قلت : فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعاً ؟ قال : إذا كان ذلك فارجه حتّى تلقى إمامك ،​ فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات
    .

    .................................................. ....... شرح المقبولة.................................................. ..........................


    ينبغي التعرّض لشرح فقرات المقبولة تحقيقاً للحال وتبييناً للمرام في محلّ المقال .
    قوله : « بينهما منازعة في دين أو ميراث » مع انضمام قوله - فيما يأتي - : « وكلاهما اختلفا في حديثكم » في كون المنازعة إنّما وقعت بينهما لشبهة حكميّة من جهة جهالة حكم من أحكام الدين أو الميراث، مثل أنّ الدين هل يعتبر من صلب المال أو من الثلث؟ وإنّ أولاد الأولاد هل يقومون في الإرث مقام آبائهم أو أنهم كأولاد الصلب يقتسمون على التفاوت للذكر مثل حظّ الاُنثيين من دون ملاحظة من يتقرّبون إليه ؟
    وقضيّة ذلك كون اختلاف الحاكمين في الحكم اختلافاً في الفتوى ناشئاً عن اختلاف الحديثين .

    قوله : « فإنّما يأخذ سحتاً وإن كان حقّه ثابتاً » قيل : ينبغي أن يخصّص ذلك بما لو كان حقّه كلّيّاً في الذمّة كعشرة دراهم ، لاستناد تعيينه للأداء إلى الحكم الّذي هو نحو إجبار وهو من وظيفة السلطان العادل لا سلطان الجور ، فلا يتعيّن بذلك التعيين فيكون باقياً في ملك المديون فيكون بالنسبة إلى الداين سحتاً ، بخلاف ما لو كان عيناً شخصيّة وهو يعلم كونها حقّه فإنّه لا يعقل كونها سحتاً .

    وعن صاحب الكفاية الاستشكال في العين حيث ذكر : « أنّ الحكم بعدم جواز أخذ شيء بحكمهم وإن كان له حقّاً في الدين ظاهر ، وفي العين لا يخلو عن إشكال .
    وقيل في وجه الإشكال في العين دون الدين أنّ الثاني يحتاج إلى تشخيص لا يتأتّى إلاّ من المالك والمفروض أنّه مجبور بحكمهم لا أنّه راض بخلاف الأوّل » .​
    وفيه - مع أنّ ذلك ينافي وقوع السؤال عن الدين والميراث الّذي لا يكون في الغالب إلاّ عيناً - : أنّ ما ذكر اجتهاد في مقابلة النصّ ، وعدم احتياج العين الشخصيّة إلى تعيين وتشخيص من هي في يده وكونها حقّه في نفس الأمر وهو يعلم به لا ينافي حرمة أخذها والتصرّف فيها لعارض ، لأنّه بسبب استناده إلى حكم الطاغوت ممّا لم يمضه الشارع بل نهى عنه وإن كان الآخذ والمتصرّف مالكاً ، وعليه فيكون المراد بالسحت ما يكون سحتاً بالعرض لا بالذات ، نظير العين المرهونة والمال المحجور عليه ، بل السحتيّة في الدين أيضاً لا يستقيم إلاّ بإرادة العرضيّة نظراً إلى أنّ المشخّص له لا يكون إلاّ المالك ، فتأمّل .

    قوله: « وقد أمر الله عزّ وجلّ أن يكفر به . . . الخ » إشارة إلى قوله تعالى : ( ألم تر إلى الّذين يزعمون أنّهم آمنوا بما اُنزل إليك وما اُنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد اُمروا أن يكفروا به ) الآية نزلت في شأن الزبير بن العوام نازع رجلاً من اليهود في حديقة فقال الزبير : ترضى بابن شبهة اليهودي : وقال اليهودي ؟ ترضى بمحمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟ وبالجملة اختار اليهودي محمّداً ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لأن يتحاكما عنده ، وأنكره الزبير فاختار عالماً يهوديّاً للتحاكم عنده ، فأنزل الله تعالى ( ألم تر ) الآية .

    قوله ( عليه السلام ) : « الحكم ما حكم به أعدلهما ، وأفقههما ، وأصدقهما في الحديث ، وأورعهما » قد جمع في ذلك أربعة من المرجّحات ، وحيث إنّ العدالة بمعنى الحالة النفسانيّة الباعثة على ملازمة التقوى من الكيفيّات القابلة للتفاضل والشدّة والضعف ، فالمراد بالأعدليّة كون راوي أحد الخبرين أقوى ملكة للبعث على ملازمة التقوى ، وأمّا الأصدقيّة فالمراد به إمّا كون أحد الراويين أقوى ملكة للبعث على ملازمة الصدق ، أو كون موارد صدق أحدهما أكثر من موارد صدق الآخر ، أو كون اعتماد الناس على قول أحدهما أزيد من الآخر ، أو كون الظنّ بصدق أحدهما أقوى من الظنّ بصدق الآخر .

    ثمّ إنّ الصفات الأربع كلّها ترجع إلى السند لكونها من صفات الراوي ، والأفقهيّة تزيد على غيرها في أنّها تصلح مع ذلك للرجوع إلى المضمون ، وذلك لأنّ الراوي إذا كان فقيهاً فهو يعرف قواعد الاستنباط ويتفطّن لنكاته ودقائقه ، فلا يغفل ولا يذهل عند استماع الرواية فلا يختلط عليه الأمر في فهم حقيقة المراد ، فيكون ما فهمه من كلام المعصوم أقرب إلى الواقع ممّا فهمه غيره ممّن ليس بفقيه .

    ويظهر أثر ذلك فيما لو قال الإمام ( عليه السلام ) : « إذا بقي إلى انتصاف الليل مقدار صلاة العشاء​ فهو مختصّ به » فالفقيه لالتفاته إلى أنّ مقدار صلاة العشاء أعمّ من أربع ركعات العشاء يفهم من كلام الإمام ( عليه السلام ) عموم الاختصاص لأربع ركعات الحاضر وركعتي المسافر والخائف ، وإذا أراد نقل الحديث بالمعنى فلا يبدّل مقدار صلاة العشاء بأربع ركعات العشاء ، بخلاف غير الفقيه الّذي ليس عالماً بمواقع المعاني فربّما يختلط عليه فيفهم من مقدار صلاة العشاء أربع ركعات العشاء ، حتّى أنّه عند النقل بالمعنى يعبّر عنه بذلك فيتغيّر به الحكم الشرعي لعدم استفادته حكم الاختصاص لركعتي المسافر والخائف .

    ثمّ إنّ الأعدليّة وإن كانت تستلزم الأصدقيّة على تقدير رجوعها إلى السند كما أنّ العدالة تستلزم الصدق ، إلاّ أنّه ربّما يمكن الفرق بينهما بأنّ اعتبار العدالة يمكن أن لا يكون لأجل مطابقة الواقع بل لخصوصيّة اُخرى موجبة لمصلحة ثانويّة ، بخلاف الصدق الّذي هو عبارة عن مطابقة الخبر للواقع فإنّ اعتباره لا يكون إلاّ لأجل المطابقة ، فاعتبار الأصدقيّة لا تكون إلاّ من جهة أنّ خبر الأصدق أقرب إلى الواقع من خبر غيره ، فيحصل منه كلّيّة مطّردة في سائر المقامات أيضاً ، وهو أنّ مناط الترجيح هو الأقربيّة إلى الواقع ، فكلّما كان أحد المتعارضين أقرب إلى الواقع فهو المتعيّن ، فإذا فرضنا مع أحد المتعارضين أمارة خارجيّة غير منصوصة أوجبت كونه أقرب إلى الواقع من شهرة أو أولويّة أو نحوها تعيّن الأخذ به لهذه الضابطة .

    ثمّ إنّ « واو » الجمع في عطف هذه الصفات بعضها إلى بعض تفيد بظاهرها كون المجموع بوصف الاجتماع مرجّحاً ، وأمّا كون كلّ واحد أو كلّ اثنين أو كلّ ثلاثة منها أيضاً مرجّحاً فلا يستفاد من ظاهر قوله : « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما » إلى آخره .

    وحينئذ فلابدّ في إثبات مرجّحية ما عدا الجميع من إجماع على نفي مدخليّة الهيئة الاجتماعيّة في الترجيح بتلك الصفات ، أو رواية اُخرى قاضية بذلك ، أو قرينة في نفس المقبولة كاشفة عن عدم كون « الواو » على ظاهره ، بإرادة صلاحية هذه الصفات للترجيح مع الاجتماع ومع الانفراد وحدانيّاً وثنائيّاً وثلاثيّاً ، ولكنّ القرينة على ذلك موجودة في نفس هذه الرواية ، وهي قول السائل : « فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه » مراداً به فرض التساوي بين الراويين في العدالة والفقاهة والصدق والورع بحيث لا يفضل أحدهما على صاحبه ، ومرجعه إلى انتفاء الأفضليّة فيهما بالنسبة​ إلى جميع الصفات الأربع ، وضابطه عدم وقوع أفعل تفضيل بينهما ، أي لا يقال على واحد منهما : أنّه أعدل ولا أفقه ولا أصدق ولا أورع ، فإنّه بعد تقدّم ذكر المرجّحات الأربع يقضي بأنّ اجتماعها ممّا لا مدخليّة في الترجيح والمرجّحيّة ، بل المجموع وكلّ واحد وكلّ اثنين وكلّ ثلاثة متشاركة في أصل المرجّحيّة .

    ووجه الدلالة عليه : أنّ الجواب السابق بظاهره يفيد وجود المرجّحات الأربع بأجمعها في أحد الخبرين ، والسؤال اللاحق فرض لانتفاء الجميع عنهما معاً ، وبينهما باعتبار وجود واحدة منها تارةً ووجود اثنتين منهما اُخرى ووجود ثلاثة منها ثالثةً وسائط كثيرة ترتقي إلى أربعة عشر صورة ، وهذه الوسائط إمّا مندرجة في عنوان الجواب السابق المسوق لإعطاء المرجّحيّة ، أو في عنوان السؤال اللاحق المسوق لفرض التساوي ، والثاني باطل لعدم صدق قوله : « لا يفضل أحدهما على صاحبه » بمعنى عدم وقوع أفعل تفضيل بينهما على شيء من تلك الوسائط كما هو واضح ، فتعيّن الأوّل ولا يستقيم ذلك إلاّ على تقدير عدم كون « الواو » على ظاهره المفيد لاعتبار الاجتماع .

    وتوهّم جواز الإهمال بالقياس إلى الوسائط المذكورة - على معنى عدم تعرّض الرواية جواباً وسؤالا لحال تلك الوسائط - فلا يفيد قوله ( عليه السلام ) : « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما » حكماً لها ، ولا قوله : « فإنّهما عدلان مرضيّان » - إلى آخره - سؤالا عن حكمها .

    يدفعه : أنّ احتمال الإهمال من الإمام ( عليه السلام ) والسائل في هذه الوسائط على كثرتها مع كون كلّ منها أو أكثرها أكثر وقوعاً في الخارج من صورة اجتماع المرجّحات الأربع في راو واحد ، وصورة انتفاء الجميع عن الراويين معاً ، بل مع كثرة وقوع كلّ من الوسائط وندرة وقوع كلّ من اجتماع الجميع وانتفاء الجميع بعيد بل في غاية البعد ، فلابدّ إمّا من القول بأنّ الإمام ( عليه السلام ) تعرّض لبيان حكمها في الجواب السابق ، أو من القول بأنّ السائل تعرّض للسؤال عن حكمها في السؤال اللاحق ، فلا محالة هو إمّا استفاد حكمها من حيث وجوب الترجيح وعدم الفرق فيه بين وجود الجميع ووجود البعض وحدانيّاً وثنائيّاً وثلاثيّاً من قول الإمام ( عليه السلام ) : « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما » إلى آخره ، أو تعرّض للسؤال عن حكمها وحكم انتفاء الجميع بقوله : « أنّهما عدلان مرضيّان لا يفضل على صاحبه » ، والثاني باطل لما عرفت من عدم صدق عنوان هذا السؤال على شيء من الوسائط ، والأوّل هو المطلوب .

    وبالجملة فظاهر أنّ السائل فهم من كلام الإمام ( عليه السلام ) كون الصفات المذكورة مع الاجتماع​ ومع الانفراد مرجّحة ، وبذلك يصرف « الواو » عمّا هو ظاهر فيه من مدخليّة اجتماع الأربع في المرجّحيّة .

    لا يقال : إنّ ما ذكرته على تقدير استفادته من السؤال لا يجدي نفعاً في إثبات عموم المرجّحية لما عدا صورة اجتماع الأربع ، لأنّه فهم من السائل وهو ليس بمعصوم حتّى يكون فهمه مناطاً للحكم .

    لأنّا نقول أوّلا : أنّ الرواية من الخطابات الشفاهيّة ، والراوي مخاطب وفهم المخاطب في الخطابات الشفاهيّة إذا كان من أهل اللسان حجّة .

    وثانياً : أنّ المعصوم قرّره على فهمه وهو حجّة اُخرى .

    وبما بيّنّاه يندفع ما أورده بعض المجتهدين على الأخباريّة - في قولهم بمرجّحية كلّ واحد من الصفات الأربع بانفراده ، مع مصيرهم إلى الاقتصار على المرجّحات المنصوصة وعدم التعدّي والتسرّي إلى غيرها - من النقض بأنّ : ما بنيتم عليه ينقضه عملكم ، لأنّ ما يدلّ عليه النصّ في هذه الصفات إنّما هو مرجّحية المجموع من حيث هو لمكان « واو » الجمع ، وقد تعدّيتم عن المنصوص إلى غيره وهو جعل كلّ واحد مرجّحاً ولو مع الانفراد .

    إذ يمكن لهم التفصّي عن ذلك بأنّ قضيّة « واو » الجمع وإن كان كذلك إلاّ أنّا فهمنا من القرينة الموجودة في النصّ خلافه ، فخرجنا من مقتضى الظاهر من جهة هذه القرينة .

    ثمّ على ما بيّنّاه واستظهرناه أمكن دعوى جواز التسرّي إلى غير هذه الصفات ممّا ليس بمنصوص من صفات الراوي ، لأنّ ما فرضه السائل سؤال عن التساوي وعدم التفاضل في جميع الجهات الراجعة إلى الراوي كما هو المنساق من قوله : « لا يفضل أحدهما على صاحبه » عرفاً كما لا يخفى على من تأمّل قليلا ، فيكون مفاده مع انضمام التقرير : « أنّ كلّ فضيلة في أحد الراويين يوجب رجحان روايته وإن لم تكن من الاُمور المنصوص بها بالخصوص » مضافاً إلى ما تقدّم وما سيأتي في كلام الإمام ( عليه السلام ) ممّا كان دلالته على هذا المعنى أظهر وأوضح من ذلك .

    ثمّ إنّ الإمام ( عليه السلام ) بعد السؤال المذكور المفروض لصورة اليأس عن الترجيح بالصفات الراجعة إلى الراوي المعبّر عنها بالمرجّحات السنديّة انتقل عنها إلى مرجّحات المتن ، فقال : « ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الّذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك ، فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذّ الّذي ليس بمشهور » والمراد بالمجمع عليه ما اتّفق​ أصحاب الحديث على روايته على وجه القبول ، بعبارة اُخرى : اتّفاقهم على روايته وتلقّيه بالقبول ، وبالشاذّ ما اختصّ روايته وقبوله ببعض هؤلاء ، على معنى أنّ ذلك البعض مع روايته لما رواه الآخرون وقبوله إيّاه روى غيره ممّا لم يروه الآخرون وقبله ، فالأوّل هو المجمع عليه والثاني هو الشاذّ .

    ومحصّل الفرق بينهما: أنّ المجمع [ عليه ] ما اتّفق أصحاب الحديث ونقلته على نقله من الراوي عن الإمام ، والشاذّ ما نقله بعض هؤلاء من الراوي عن الإمام ، وكون المجمع عليه عبارة عن هذا المعنى لا ينافيه إطلاق « المشهور » عليه في قوله : « يترك الشاذّ الّذي ليس بمشهور » ، إذ الشهرة لا تلازم وجود الخلاف لغةً ولا عرفاً عامّاً ولا خاصّاً ، بأن يكون المشهور ملازماً لأن يكون في مقابله خلاف ، فإنّ الشهرة لغةً عبارة عن ظهور الشيء ، والمشهور : المعروف ، ومنه : « شهر سيفه » ، أي سلّه ، لأنّه بإخراجه من الغمد أظهره ، وهذا يشمل صورة الاتّفاق وما يوجد معه الخلاف فيكون أعمّ من المجمع عليه مطلقاً ، فإطلاقه عليه في الرواية إنّما هو باعتبار أحد فرديه ، فحمله عليه ليس تصرّفاً فيه حتّى يستبعد لعدم تحقّق نقل فيه لغةً ولا عرفاً عامّاً ولا خاصّاً ، وإطلاق الشهرة في لسان الاُصوليّين على ما في مقابله خلاف حيثما يطلق عليه - قبالاً للإجماع بناءً على إطلاقه على ما لا يقابله الخلاف - غير مناف لذلك أيضاً ، بل هو أيضاً باعتبار المعنى العامّ لعدم ابتنائه على النقل ، ولو تصرّف فهو تصرّف محدث مبتن على الاصطلاح ، وظاهر أنّ الخطابات الشرعيّة لا تنزّل على الاُمور المحدثة الاصطلاحيّة ، بل العبرة فيها إنّما هي بالمعاني اللغويّة أو العرفيّة .

    قوله : « فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه . . . الخ » تعليل لما أمر به من الأخذ بالمجمع عليه ، فيفيد بعمومه جواز التعدّي إلى كلّ مزيّة موجبة لانتفاء الريب في جانبها كائنة ما كانت ، وذلك لأنّ الريب المنفيّ في قضيّة التعليل عن المجمع عليه ليس عبارة عن سنخ الريب وطبيعته حتّى يكون معناه : أنّه لا ريب فيه أصلا لا سنداً ولا متناً ولا دلالةً ولا مضموناً .
    ويشهد ذلك اُمور :
    منها : تأخّر ذكره عن الأعدليّة وغيرها من صفات الراوي ومرجّحات السند ، فإنّه قاض بأنّ رتبته متأخّرة عن مرتبة أعدليّة الراوي وغيرها من الثلاث المتقدّمة ، وذلك لا يجامع انتفاء طبيعة الريب عنه المستلزم لانتفائه بجميع أفراده وإلاّ لوجب ذكره قبل ذكرها .

    ومنها : ما يفرضه الراوي فيما بعد ذلك من كونهما معاً مشهورين رواهما الثقات عنكم ،​ لوضوح امتناع انتفاء طبيعة الريب عن كلّ من المتعارضين وإلاّ لزم التناقض .

    ومنها : المرجّحات الّتي ذكرها الإمام ( عليه السلام ) فيما بعد ذلك ، فإنّ كلّ مرجوح في مقابلة راجحه فيه ريب .

    فلابدّ وأن يكون الريب المنفيّ هنا إضافيّاً ، على معنى أنّ الريب المنفيّ فيه هو شخص الريب الّذي هو موجود في الشاذّ ، ومعناه : أنّه بالإضافة إلى الشاذّ لا ريب فيه وإن كان فيه ريب آخر مشترك بينه وبين الشاذّ ، ومرجعه إلى اختصاص الشاذّ لشذوذه بريب لا يجري في المجمع عليه .

    وبعبارة اُخرى : أنّ المجمع عليه لكونه مجمعاً عليه لا يحتمل فيه ما احتمل في الشاذّ لكونه شاذّاً ، وإن كانا متشاركين في الاحتمالات الاُخر الجارية فيهما من حيث إنّهما خبر العدل الفقيه الصادق الورع ، فيستفاد من التعليل المذكور - بعد توجيه الريب المنفيّ بما عرفت - كبرى كلّية وهو : أنّه كلّما دار الأمر بين شيئين لا يجري في أحدهما ما يجري في صاحبه من الريب والاحتمال وجب فيهما الأخذ بما لا يجري فيه الريب والاحتمال ، وحينئذ يتعدّى إلى المرجّحات الغير المنصوصة أيضاً ممّا أمكن اندراجه تحت الكلّية المذكورة ، بل يتعدّى إلى ما لو كان فيهما معاً ريب ولكن كان الريب الموجود في أحدهما أقلّ أو أضعف منه في الآخر فيتعيّن الأخذ به ، لأنّه لا يجري فيه ما يجري في صاحبه من الريب ، بل يمكن إجراء هذا العموم في الظنّ بل مطلق الأدلّة الظنّية ، نظراً إلى أنّ الموهوم يجري فيه من الريب والاحتمال ما لا يجري في المظنون - ولو باعتبار ضعف الاحتمال فيه - فيجب اتّباعه ، وبذلك يثبت أصل حجّية الظنّ بل الأدلّة الظنّية أيضاً .

    وممّا يشهد بالعموم والكلّية المذكورين استشهاد الإمام ( عليه السلام ) لما أعطاه من وجوب الأخذ بالمجمع عليه لأنّه لا ريب فيه ، ووجوب طرح الشاذّ الّذي فيه الريب بقوله ( عليه السلام ) : « إنّما الاُمور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع ، أمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ إلى الله » .

    وظاهر أنّ المجمع عليه مندرج في الأمر البيّن رشده ، فينتظم بذلك قياس آخر صورته : « أنّ المجمع عليه أمر بيّن رشده ، وكلّ أمر بيّن رشده يجب اتّباعه » .
    ________________________________
    للمزيد ينظر: تعلقة على معالم الأصول: 7/ 623 للسيد علي الموسوي القزويني.

  • #2
    احسنتم...وبارك الله فيكم سيدنا الفاضل الكريم.

    تعليق


    • #3
      احسنتم سيدنا الجليل بارك الله بكم على هكذا جهود مميزة .
      ياحبذا الاسترسال بتوضيح هكذا روايات مهمه عن ائمة اهل البيت عليهم السلام
      جعلها الله لكم ذخرا وذخيره للاخرة .
      السَّلامُ عَلَى مَحَالِّ مَعْرِفَةِ اللهِ ، وَمَسَاكِنِ بَرَكَةِ اللهِ ، وَمَعَادِنِ حِكْمَةِ اللهِ ، وَحَفَظَةِ سِرِّ اللهِ ، وَحَمَلَةِ كِتَابِ اللهِ ، وَأَوْصِيَاءِ نَبِيِّ اللهِ ، وَذُرِّيَّةِ رَسُولِ اللهِ .

      تعليق

      المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
      حفظ-تلقائي
      Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
      x
      يعمل...
      X