بسم الله الرحمان الرحيم
اللهم صل على محمد و آل محمد الطيبين الطاهرين
"إِن َّمَا مَثَلُ مَنْ خَبَرٍ الدُّنْيَا كَمَثَلِ قَوْمٍ سَفْرٍ، نَبَا بِهِمْ مَنْزِلٌ جَدِيبٌ، فأَمُّوا مَنْزِلاً خَصِيباً وَجَنَاباً مَرِيعاً، فَاحْتَمَلُوا وَعْثَاءَ الطَّرِيقِ، وَفِرَاقَ الصَّدِيقِ، وَخُشُونَةَ السَّفَرِ، وَجُشُوبَةَ الْمَطْعَمِ، لِيَأتُوا سَعَةَ دَارِهِمْ، وَمَنْزِلَ قَرَارِهِمْ، فَلَيْسَ يَجِدُونَ لِشَيْءٍ مِنْ ذلِكَ أَلَماً، وَلاَ يَرَوْنَ نَفَقَةً مَغْرَماً، وَلاَ شَيْءَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِمَّا قَرَّبَهُمْ مِنْ مَنْزِلِهِمْ، وَأَدْنَاهُمْ مِنْ مَحَلِّهِمْ. وَمَثَلُ مَنِ اغْتَرَّ بِهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ كَانُوا بِمَنْزِلٍ خَصِيبٍ، فَنَبا بِهِمْ إِلَى مَنْزِلٍ جَدِيب، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِمْ وَلاَ أَفْظَعَ عِنْدَهُمْ مِنْ مُفَارَقَةِ مَا كَانُوا فيِهِ، إِلَى مَا يَهْجُمُونَ عَلَيْهِ، وَيَصِيرُونَ إِلَيْهِ".
تمهيد
يصف الإمام عليه السلام في وصيته هذه لولده حال الإنسان المؤمن وحال الإنسان الكافر في هذه الدنيا وكيف يعيش كل منهما.
حال المؤمن
"قوم سفر نبا بهم منزل جديب فأموا منزلاً خصيباً وجناباً مريعاً"
المؤمن في هذه الدنيا والذي يكون همه الآخرة، هو كالمسافر الذي أراد السفر من أرض قاحلة جدباء لا نبات فيها ولا ثمر كناية عن الدنيا إلى أرض مثمرة وخصبة كناية عن الآخرة ويعاني المؤمنون في سفرهم هذا الصعاب ولكنهم يملكون القدرة على تحمل ذلك لأنهم يريدون الوصول إلى حيث النعم الوافرة.
وتشبيه حال الإنسان في هذه الدنيا بالمسافر، ورد في العديد من الروايات:
فعن الإمام علي عليه السلام: "إن الله سبحانه قد جعل الدنيا لما بعدها، وابتلى فيها أهلها، ليعلم أيهم أحسن عملاً، ولسنا للدنيا خلقنا، ولا بالسعي فيها أمرنا"1.
وعن الإمام علي عليه السلام: "هؤلاء أنبياء الله وأصفياؤه تنزهوا عن الدنيا... ثم اقتص الصالحون آثارهم... وأنزلوا الدنيا من أنفسهم كالميتة التي لا يحل لأحد أن يشبع منها إلا في حال الضرورة إليها، وأكلوا منها بقدر ما أبقى لهم النفس وأمسك الروح، وجعلوها بمنزلة الجيفة التي اشتد نتنها، فكل من مر بها أمسك على فيه، فهم يتبلغون بأدنى البلاغ..."2
ولذا يصف الإمام حال المؤمن بالتالي:
1- "احتملوا وعثاء الطريق".
الدنيا محفوفة بالمخاطر والمصاعب، وهذه المخاطر ليست هي خصوص المخاطر المادية أو الابتلاءات الجسدية، بل من أعظم هذه المخاطر هو الاغترار بهذه الدنيا، فهي تزين نفسها للناس، وتدعوهم إليها، وترغبهم بها، وأشدهم مقاومة لها هو الذي ينتصر عليها، وأعظم تشبيه ورد في وصف صعوبة هذه الدنيا، هو وصفها بالسجن، ففي رواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "الدنيا لا تصفو لمؤمن، كيف وهي سجنه وبلاؤه".
وعن الإمام الكاظم عليه السلام: "مثل الدنيا مثل ماء البحر، كلما شرب منه العطشان ازداد عطشاً حتى يقتله"3.
وعن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال: "الجنة محفوفة بالمكاره والصبر، فمن صبر على المكاره في الدنيا دخل الجنة، وجهنم محفوفة باللذات والشهوات، فمن أعطى نفسه لذتها وشهوتها دخل النار"4.
2- وفراق الصديق.
ورد في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام: "أيها الناس لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله، فإن الناس قد اجتمعوا على مائدة شبعها قصير، وجوعها طويل"5.
المؤمن في هذه الدنيا غريب، لا يرى صديقاً يسير معه في هذا الطريق لأنه طريق معاناة ومشقة. وعدم وجود رفيق لهذا الإنسان في سفره هذا يزيد من مشقته ويجعله يعاني المزيد من الصعاب، ولكنه مع ذلك يصبر في سبيل الوصول إلى الآخرة والمستقر الأبدي.
3- وخشونة السفر.
إذا علم المؤمن أن هذه الدنيا هي دار ممر وأنه في سفر، علم أنه لا قرار له فيها، وتحمل ما فيها من خشونة وصعاب، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "كن في الدنيا كأنك غريب، أو كأنك عابر سبيل، وعد نفسك في أصحاب القبور"6.
وعن الإمام علي عليه السلام قال: "إن الدنيا دار خبال ووبال، وزوال وانتقال، لا تساوي لذاتها تنغيصها، ولا تفي سعودها بنحوسها، ولا يقوم صعودها بهبوطها"7.
4ـ "وجشوبة المطعم"
الطعام الجشب هو الطعام الغليظ الذي لا تميل إليه النفس ولا ترغب به. والمؤمن وإن كان يستفيد من هذه الدنيا ولا ينسى نصيبه منها، ولكن هذه الأمور ما دامت ليست هدفاً له، فإنها لا تحتل الأولوية أمام أهدافه الحقيقية، وبالتالي فهو يصبر على تركها إذا وقفت عائقاً أمامه لتحصيل رضا الله تعالى.
وكثرة الطعام توقع صاحبها في الابتعاد عن الله عز وجل، وقد ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "ليس شيء أضر لقلب المؤمن من كثرة الأكل، وهي مورثة لشيئين: قسوة القلب، وهيجان الشهوة"8.
إن الطعام متى كان من الملاذ تناول الإنسان منه ما يزيد عن حاجته فابتلي بكثرة الأكل، وأما لو كان الطعام من غير ما تميل إليه النفس وتلتذ به فإنه سوف يكتفي منه بقدر الحاجة، ومن الروايات المحذرة من كثرة الطعام، ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إياكم والبطنة، فإنها مفسدة للبدن ومورثة للسقم ومكسلة عن العبادة"9.
5ـ رضا النفس عند المؤمن
"ليأتوا سعة دارهم ومنزل قرارهم فليس يجدون لشيء من ذلك ألماً ولا يرون نفقة فيه مغرماً ولا شيء أحب إليهم مما قربهم من منزلهم وأدناهم من محلتهم".
بعد أن أوضح الإمام عليه السلام حال المؤمن في هذه الحياة الدنيا، أراد بيان حالة الرضا عند المؤمن بما هو عليه، فالمؤمن لا يتحمل كل هذه الصعاب والمشقات وهو مكره عليها، بل يؤديها وهو شاكر لله عز وجل وراض بما يقوم به، لأنه لا يشعر بالألم ولا بالخسارة في فعل كل ما يقربه إلى مقصوده الأساسي، ألا وهو رضا الله عز وجل، والفوز بالجنة. بل إن هذه المصاعب والمشقات أحب إليه من الرخاء والهناء إذا كانت من أسباب القرب إلى نيل مراده. ولذا يصفهم أمير المؤمنين عليه السلام أيضا بقوله: "صبروا أياماً قصيرة أعقبتهم راحة طويلة. تجارة مربحة يسرها لهم ربهم. أرادتهم الدنيا فلم يريدوها. وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها"10.
حال الكافر المغتّر بهذه الدنيا
"ومثل من اغتر بها كمثل قوم كانوا بمنزل خصيب فنبا بهم إلى منزل جديب"
إنها صورة معاكسة لحال المؤمن، فالدنيا هي جنة الكافر، فهو يرى نفسه في سفر ولكنه في سفر من النعيم إلى الجحيم. وهذا
ما يفسره لنا كراهة الموت لدى هذا الإنسان، فمن لم يضع نصب عينيه سوى هذه الدنيا فإنه سوف يرى في فنائها فناءه، وفي زواله نهاية كل شيء لديه، وعن الإمام الحسن عليه السلام: "أعظم سرور يرد على المؤمنين إذ نقلوا عن دار النكد إلى نعيم الأبد، وأعظم ثبور يرد على الكافرين إذ نقلوا عن جنتهم إلى نار لا تبيد ولا تنفد"11.
إنهم ولشده حبهم لهذه الدنيا يصعب عليهم فراقها، بل هو من أصعب ما يعانون منه، ولذا وصفهم الإمام عليه السلام بقوله: "فليس شيء أكره إليهم ولا أفظع عندهم من مفارقة ما كانوا فيه إلى ما يهجمون عليه ويصيرون إليه".
وعن الإمام زين العابدين في وصف حال الموت وفراق الدنيا للمؤمن وللكافر يقول عليه السلام: "للمؤمن كنزع ثياب وسخة قملة، وفك قيود وأغلال ثقيلة، والاستبدال بأفخر الثياب وأطيبها روائح، وأوطئ المراكب، وآنس المنازل، وللكافر كخلع ثياب فاخرة، والنقل عن منازل أنيسة، والاستبدال بأوسخ الثياب وأخشنها، وأوحش المنازل، وأعظم العذاب"12.
قصة للعبرة
تعلق القلب بالدنيا
كان المرحـوم الشيخ أحمد النراقـي قدس سره من العلماء الأجلاّء والأغنياء الموفوري الحال، كان له فـي ما يملك بستان واسع زاخر بالخيرات والنعم.
وذات يوم التقاه صوفي، عند دخوله الحمام. قال الصوفي للنراقي: كيف تدّعي لنفسك الزهد والدين، ولك ما لك من الأملاك مما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين؟!
فلم يجبه النراقي، حـتى إذا فرغا من الحمّام توجه إلى صاحبه قائلاً: أيّها المرشد! هل ذهبت إلى زيارة الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء؟
أجاب الصوفي بالنفي، فدعاه النراقي لصحبته إلى زيارة الإمام الحسين عليه السلام وافق الصوفي وانطلقا معاً، وبعد عـدّة خطوات طلب الصّوفـي من النراقي أن يمهله عدّة لحظات حتى يعود!
قال النراقي: لماذا؟
قال الصوفـي بعد أن ضرب يده بالأخرى: لقد نسيت كشكولي فـي الحمّام، ولابّد أن أصحبه معي.
قال النراقي: أيها الصوفي، إنك شهدت بأن لـي ثروة طائلـة، وأموالاً كثيرة، لكنني أودعتها عند ربّي حينما عزمت على السفر إلى العتبات المقدّسة، وأخرجت حبّها من قلبي، وأما أنت فلم تستطع أن تترك كشكولاً واحداً ولم تملك أن تنـزع حبّه من قلبك، فإن الزهد كما عن الإمام علي عليه السلام "أن لا يملكك شيء لا أن لا تملك شيئاً".
*وصايا الأمير، إعداد ونشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، ط1، تشرين الثاني 2008م ، ص57-65.
1- نهج البلاغة: الكتاب 55.
2- المجلسيمحمد باقر بحار الأنوار مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة: ج 73/ ص90 / حديث 61 .
3- الحراني ابن شعبة الوفاة: ق 4 تحف العقول الطبعة: الثانية مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة: 396.
4- الكليني الكافي دار الكتب الإسلامية، آخوندي الطبعة الثالثة ابن بابويه علي فقه الرضا مؤسسة أهل البيت ع الشيخ الكليني ج 2 ص 90.
5- نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام ج 2 ص 181.
6- الطوسي محمد بن الحسن الوفاة: 460 الأمالي دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع قم: 381/ 819.
7- غرر الحكم: 3480، 1206، 409.
8- المحقق النوري مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل مؤسسة أهل البيت لإحياء التراث الطبعة الأولى: 12/ 94/
9- المجلسي محمد باقر بحار الأنوار مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة: 62/ 266/ 41.
10- نهج البلاغة، خطبة المتقين.
11- الريشهري محمد ميزان الحكمة دار الحديث، الطبعة الأولى ج 4 ص 2959.
12- الريشهري محمد ميزان الحكمة دار الحديث، الطبعة الأولى ج 4 ص 2959.
اللهم صل على محمد و آل محمد الطيبين الطاهرين
"إِن َّمَا مَثَلُ مَنْ خَبَرٍ الدُّنْيَا كَمَثَلِ قَوْمٍ سَفْرٍ، نَبَا بِهِمْ مَنْزِلٌ جَدِيبٌ، فأَمُّوا مَنْزِلاً خَصِيباً وَجَنَاباً مَرِيعاً، فَاحْتَمَلُوا وَعْثَاءَ الطَّرِيقِ، وَفِرَاقَ الصَّدِيقِ، وَخُشُونَةَ السَّفَرِ، وَجُشُوبَةَ الْمَطْعَمِ، لِيَأتُوا سَعَةَ دَارِهِمْ، وَمَنْزِلَ قَرَارِهِمْ، فَلَيْسَ يَجِدُونَ لِشَيْءٍ مِنْ ذلِكَ أَلَماً، وَلاَ يَرَوْنَ نَفَقَةً مَغْرَماً، وَلاَ شَيْءَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِمَّا قَرَّبَهُمْ مِنْ مَنْزِلِهِمْ، وَأَدْنَاهُمْ مِنْ مَحَلِّهِمْ. وَمَثَلُ مَنِ اغْتَرَّ بِهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ كَانُوا بِمَنْزِلٍ خَصِيبٍ، فَنَبا بِهِمْ إِلَى مَنْزِلٍ جَدِيب، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِمْ وَلاَ أَفْظَعَ عِنْدَهُمْ مِنْ مُفَارَقَةِ مَا كَانُوا فيِهِ، إِلَى مَا يَهْجُمُونَ عَلَيْهِ، وَيَصِيرُونَ إِلَيْهِ".
تمهيد
يصف الإمام عليه السلام في وصيته هذه لولده حال الإنسان المؤمن وحال الإنسان الكافر في هذه الدنيا وكيف يعيش كل منهما.
حال المؤمن
"قوم سفر نبا بهم منزل جديب فأموا منزلاً خصيباً وجناباً مريعاً"
المؤمن في هذه الدنيا والذي يكون همه الآخرة، هو كالمسافر الذي أراد السفر من أرض قاحلة جدباء لا نبات فيها ولا ثمر كناية عن الدنيا إلى أرض مثمرة وخصبة كناية عن الآخرة ويعاني المؤمنون في سفرهم هذا الصعاب ولكنهم يملكون القدرة على تحمل ذلك لأنهم يريدون الوصول إلى حيث النعم الوافرة.
وتشبيه حال الإنسان في هذه الدنيا بالمسافر، ورد في العديد من الروايات:
فعن الإمام علي عليه السلام: "إن الله سبحانه قد جعل الدنيا لما بعدها، وابتلى فيها أهلها، ليعلم أيهم أحسن عملاً، ولسنا للدنيا خلقنا، ولا بالسعي فيها أمرنا"1.
وعن الإمام علي عليه السلام: "هؤلاء أنبياء الله وأصفياؤه تنزهوا عن الدنيا... ثم اقتص الصالحون آثارهم... وأنزلوا الدنيا من أنفسهم كالميتة التي لا يحل لأحد أن يشبع منها إلا في حال الضرورة إليها، وأكلوا منها بقدر ما أبقى لهم النفس وأمسك الروح، وجعلوها بمنزلة الجيفة التي اشتد نتنها، فكل من مر بها أمسك على فيه، فهم يتبلغون بأدنى البلاغ..."2
ولذا يصف الإمام حال المؤمن بالتالي:
1- "احتملوا وعثاء الطريق".
الدنيا محفوفة بالمخاطر والمصاعب، وهذه المخاطر ليست هي خصوص المخاطر المادية أو الابتلاءات الجسدية، بل من أعظم هذه المخاطر هو الاغترار بهذه الدنيا، فهي تزين نفسها للناس، وتدعوهم إليها، وترغبهم بها، وأشدهم مقاومة لها هو الذي ينتصر عليها، وأعظم تشبيه ورد في وصف صعوبة هذه الدنيا، هو وصفها بالسجن، ففي رواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "الدنيا لا تصفو لمؤمن، كيف وهي سجنه وبلاؤه".
وعن الإمام الكاظم عليه السلام: "مثل الدنيا مثل ماء البحر، كلما شرب منه العطشان ازداد عطشاً حتى يقتله"3.
وعن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال: "الجنة محفوفة بالمكاره والصبر، فمن صبر على المكاره في الدنيا دخل الجنة، وجهنم محفوفة باللذات والشهوات، فمن أعطى نفسه لذتها وشهوتها دخل النار"4.
2- وفراق الصديق.
ورد في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام: "أيها الناس لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله، فإن الناس قد اجتمعوا على مائدة شبعها قصير، وجوعها طويل"5.
المؤمن في هذه الدنيا غريب، لا يرى صديقاً يسير معه في هذا الطريق لأنه طريق معاناة ومشقة. وعدم وجود رفيق لهذا الإنسان في سفره هذا يزيد من مشقته ويجعله يعاني المزيد من الصعاب، ولكنه مع ذلك يصبر في سبيل الوصول إلى الآخرة والمستقر الأبدي.
3- وخشونة السفر.
إذا علم المؤمن أن هذه الدنيا هي دار ممر وأنه في سفر، علم أنه لا قرار له فيها، وتحمل ما فيها من خشونة وصعاب، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "كن في الدنيا كأنك غريب، أو كأنك عابر سبيل، وعد نفسك في أصحاب القبور"6.
وعن الإمام علي عليه السلام قال: "إن الدنيا دار خبال ووبال، وزوال وانتقال، لا تساوي لذاتها تنغيصها، ولا تفي سعودها بنحوسها، ولا يقوم صعودها بهبوطها"7.
4ـ "وجشوبة المطعم"
الطعام الجشب هو الطعام الغليظ الذي لا تميل إليه النفس ولا ترغب به. والمؤمن وإن كان يستفيد من هذه الدنيا ولا ينسى نصيبه منها، ولكن هذه الأمور ما دامت ليست هدفاً له، فإنها لا تحتل الأولوية أمام أهدافه الحقيقية، وبالتالي فهو يصبر على تركها إذا وقفت عائقاً أمامه لتحصيل رضا الله تعالى.
وكثرة الطعام توقع صاحبها في الابتعاد عن الله عز وجل، وقد ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "ليس شيء أضر لقلب المؤمن من كثرة الأكل، وهي مورثة لشيئين: قسوة القلب، وهيجان الشهوة"8.
إن الطعام متى كان من الملاذ تناول الإنسان منه ما يزيد عن حاجته فابتلي بكثرة الأكل، وأما لو كان الطعام من غير ما تميل إليه النفس وتلتذ به فإنه سوف يكتفي منه بقدر الحاجة، ومن الروايات المحذرة من كثرة الطعام، ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إياكم والبطنة، فإنها مفسدة للبدن ومورثة للسقم ومكسلة عن العبادة"9.
5ـ رضا النفس عند المؤمن
"ليأتوا سعة دارهم ومنزل قرارهم فليس يجدون لشيء من ذلك ألماً ولا يرون نفقة فيه مغرماً ولا شيء أحب إليهم مما قربهم من منزلهم وأدناهم من محلتهم".
بعد أن أوضح الإمام عليه السلام حال المؤمن في هذه الحياة الدنيا، أراد بيان حالة الرضا عند المؤمن بما هو عليه، فالمؤمن لا يتحمل كل هذه الصعاب والمشقات وهو مكره عليها، بل يؤديها وهو شاكر لله عز وجل وراض بما يقوم به، لأنه لا يشعر بالألم ولا بالخسارة في فعل كل ما يقربه إلى مقصوده الأساسي، ألا وهو رضا الله عز وجل، والفوز بالجنة. بل إن هذه المصاعب والمشقات أحب إليه من الرخاء والهناء إذا كانت من أسباب القرب إلى نيل مراده. ولذا يصفهم أمير المؤمنين عليه السلام أيضا بقوله: "صبروا أياماً قصيرة أعقبتهم راحة طويلة. تجارة مربحة يسرها لهم ربهم. أرادتهم الدنيا فلم يريدوها. وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها"10.
حال الكافر المغتّر بهذه الدنيا
"ومثل من اغتر بها كمثل قوم كانوا بمنزل خصيب فنبا بهم إلى منزل جديب"
إنها صورة معاكسة لحال المؤمن، فالدنيا هي جنة الكافر، فهو يرى نفسه في سفر ولكنه في سفر من النعيم إلى الجحيم. وهذا
ما يفسره لنا كراهة الموت لدى هذا الإنسان، فمن لم يضع نصب عينيه سوى هذه الدنيا فإنه سوف يرى في فنائها فناءه، وفي زواله نهاية كل شيء لديه، وعن الإمام الحسن عليه السلام: "أعظم سرور يرد على المؤمنين إذ نقلوا عن دار النكد إلى نعيم الأبد، وأعظم ثبور يرد على الكافرين إذ نقلوا عن جنتهم إلى نار لا تبيد ولا تنفد"11.
إنهم ولشده حبهم لهذه الدنيا يصعب عليهم فراقها، بل هو من أصعب ما يعانون منه، ولذا وصفهم الإمام عليه السلام بقوله: "فليس شيء أكره إليهم ولا أفظع عندهم من مفارقة ما كانوا فيه إلى ما يهجمون عليه ويصيرون إليه".
وعن الإمام زين العابدين في وصف حال الموت وفراق الدنيا للمؤمن وللكافر يقول عليه السلام: "للمؤمن كنزع ثياب وسخة قملة، وفك قيود وأغلال ثقيلة، والاستبدال بأفخر الثياب وأطيبها روائح، وأوطئ المراكب، وآنس المنازل، وللكافر كخلع ثياب فاخرة، والنقل عن منازل أنيسة، والاستبدال بأوسخ الثياب وأخشنها، وأوحش المنازل، وأعظم العذاب"12.
قصة للعبرة
تعلق القلب بالدنيا
كان المرحـوم الشيخ أحمد النراقـي قدس سره من العلماء الأجلاّء والأغنياء الموفوري الحال، كان له فـي ما يملك بستان واسع زاخر بالخيرات والنعم.
وذات يوم التقاه صوفي، عند دخوله الحمام. قال الصوفي للنراقي: كيف تدّعي لنفسك الزهد والدين، ولك ما لك من الأملاك مما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين؟!
فلم يجبه النراقي، حـتى إذا فرغا من الحمّام توجه إلى صاحبه قائلاً: أيّها المرشد! هل ذهبت إلى زيارة الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء؟
أجاب الصوفي بالنفي، فدعاه النراقي لصحبته إلى زيارة الإمام الحسين عليه السلام وافق الصوفي وانطلقا معاً، وبعد عـدّة خطوات طلب الصّوفـي من النراقي أن يمهله عدّة لحظات حتى يعود!
قال النراقي: لماذا؟
قال الصوفـي بعد أن ضرب يده بالأخرى: لقد نسيت كشكولي فـي الحمّام، ولابّد أن أصحبه معي.
قال النراقي: أيها الصوفي، إنك شهدت بأن لـي ثروة طائلـة، وأموالاً كثيرة، لكنني أودعتها عند ربّي حينما عزمت على السفر إلى العتبات المقدّسة، وأخرجت حبّها من قلبي، وأما أنت فلم تستطع أن تترك كشكولاً واحداً ولم تملك أن تنـزع حبّه من قلبك، فإن الزهد كما عن الإمام علي عليه السلام "أن لا يملكك شيء لا أن لا تملك شيئاً".
*وصايا الأمير، إعداد ونشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، ط1، تشرين الثاني 2008م ، ص57-65.
1- نهج البلاغة: الكتاب 55.
2- المجلسيمحمد باقر بحار الأنوار مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة: ج 73/ ص90 / حديث 61 .
3- الحراني ابن شعبة الوفاة: ق 4 تحف العقول الطبعة: الثانية مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة: 396.
4- الكليني الكافي دار الكتب الإسلامية، آخوندي الطبعة الثالثة ابن بابويه علي فقه الرضا مؤسسة أهل البيت ع الشيخ الكليني ج 2 ص 90.
5- نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام ج 2 ص 181.
6- الطوسي محمد بن الحسن الوفاة: 460 الأمالي دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع قم: 381/ 819.
7- غرر الحكم: 3480، 1206، 409.
8- المحقق النوري مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل مؤسسة أهل البيت لإحياء التراث الطبعة الأولى: 12/ 94/
9- المجلسي محمد باقر بحار الأنوار مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة: 62/ 266/ 41.
10- نهج البلاغة، خطبة المتقين.
11- الريشهري محمد ميزان الحكمة دار الحديث، الطبعة الأولى ج 4 ص 2959.
12- الريشهري محمد ميزان الحكمة دار الحديث، الطبعة الأولى ج 4 ص 2959.
تعليق