ماذا نقول في علم رجل شهد له رسول الله صلى الله عليه واله الذي لا ينطق عن الهوى بأنه -يبقر العلم بقراً - وقد أظهر من مخبآت كنوز المعارف، وحقائق الأحكام والحكم واللّطائف ما لا يخفى إلا على منطمس البصيرة، أو فاسد الطوية والسريرة، وقد قيل فيه: (هو باقر العلم وجامعه، وشاهر علمه ورافعه، ومتفوق درّه وراضعه، ومنمق درّه وواضعه، صفا قلبه، وزكا عمله، وطهرت نفسه، وشرفت أخلاقه، وعمرت بطاعة الله أوقاته،..).(1)
كان جابر بن يزيد الجعفيّ إذا روى عن محمّد بن عليّعليه السلام شيئاً قال: (حدثني وصيّ الأوصياء ووارث علوم الأنبياء محمد بن علي بن الحسين..).(2)
يمكن تقسيم حياة الإمام الباقر عليه السلام على ثلاث مراحل أساسية:
1. مرحلة الطفولة الرائعة: فقد فتح عينه وهو في أحضان جدّه سيّد الشهداء، وانقلبت هذه المرحلة بعد معركة الطّف التي شهدها بتفاصيلها وكان عمره الشريف آنذاك أربعة أعوام لتبدأ مرحلة الحزن والبكاء مع أبيه الإمام السجاد عليه السلام.
2. مرحلة التربية والنشأة: وهي المدة التي عاشها مع أبيه السّجاد عليه السلام، وبها تعلّم علوم الدين والدنيا، مضافاً إلى العلوم اللّدُنية التي يخصّها الله تعالى أنبياءه وخلفاءه، وفيها بان للناس فضله وظهر نبوغه وعلمه، وكلّها كانت برعاية والده الإمام زين العابدين عليه السلام.
3. مرحلة قيادة الأمة الإسلامية: وهي أعظم مرحلة من حياة الإمام الباقر عليه السلام فضلاً عن خطورتها واستمرت مدة 19سنة تقريباً، وكان لها من الأثر الخالد والتأثير الواضح في الأمة الإسلامية جمعاء، وهي مرحلة مهمة جداً، وقد كان دور إمامنا الباقر عليه السلام هو دور التعليم، وفتح أبواب علوم الدين، ووضع أُسس علوم الدنيا؛ لذلك يعدُّ الإمام الباقر عليه السلام هو مؤسّس الحوزة العلمية، ومثبت أولى دعائمها، وهنا سؤال يطرحه الفكر، لماذا أراد الإمام إنشاء حوزته؟
الجواب: لقد أراد الإمام عليه السلام أن يخلق ثورة فكرية واسعة بتأسيس المدارس والحوزات الدّينية، وتربية علماء يحملون علم آل محمد صلى الله عليه واله، فوضع عليه السلام حجر الأساس لهذه الثّورة الفكريّة والثقافيّة.
في حياة الإمام الباقر عليه السلام كانت مرحلة جديدة من مراحل عمل الأئمة المعصومين عليهم السلام، حيث بدأ الفساد الثقافي يتفشّى في قلوب الناس، وبدأت الشّبهات تعمّ رجال العلم وغيرهم، وشاع حديث الزندقة، والإلحاد، والانحراف العقائدي، حتى بات يهدّد المجتمع الإسلامي برمته، فهبّ عندئذ الإمام الباقر عليه السلام لإظهار علمه ودحض هؤلاء المتمرّدين وفضح أمرهم، وذلك عن طريق إعداد دعاة رسالييّن، وأشخاص يقومون بهذه المَهمة، لينتشروا في أكبر مساحة ممكنة من جسد العالم الإسلامي.
وسؤال آخر يطرح نفسه، كيف أسّس الإمام الباقر عليه السلام مدرسته العلمية؟
إنّ العامل الجيّد الذي ساند التأسيس هو ضعف الدولة الأموية وانهيارها السياسي الحاصل في زمن (هشام بن عبد الملك)، فكانت الظروف مناسبة جداً - وذلك لانشغال الحكّام ببعضهم - لفتح مدرسته الربّانية، ليتخرّج فيها المئات من العلماء الأكفاء الذين يتصدّون للتيارات الشيطانية، واليوم وبعد مضي ثلاثة عشر قرناً على تأسيسه عليه السلام لهذه المدرسة، وما يزال الفقه والحديث والتفسير وغيرها من العلوم عيالاً عليها، كلٌّ يستمد من منهلها العذب، ويغترف من معينها الفياض.
إذن المدرسة أُسّست والتلاميذ أيضاً كانوا يشربون من المعين نفسه، ولكن برز من بينهم أربعة فطاحل حفظوا لنا الحديث من مصدره ومنبعه العذب، وهم (محمد بن مسلم، وزرارة بن أعين، وبريد البجلي، وأبو بصير).
وكان للوجود المبارك للإمام الباقر عليه السلام وتأسيسه الحوزة العلمية لإحياء فقه الشيعة، ونشر العلوم أثر عميق في الناس وفي إحياء الدين الإسلامي وحفظه من الضياع.
.......................................
(1) منتهى الآمال: ج2، ص115.
(2) مستدرك سفينة البحار: ج2، ص399.
نرجس مهدي
تم نشره في رياض الزهراء العدد99
تعليق