لَيلَةُ قَدْرٍ في مَقْعَدِ صِدْق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ
بقلم: صادق مهدي حسن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــ
"كنا لا نفترق أبداً.. فمنذ بواكير الطفولة تَرَعْرَعْنا في زقاق من تلك الأزقة الضيقة، لعبنا الكرة في ساحات صغيرة لم تسع أحلامنا البريئة، درسنا كفريق واحد عندما جمعتنا مقاعد الدراسة، وحين كبرنا بدأنا نرتاد المسجد ذاته للصلاة، ونتوق لحضور المجالس والمآتم الحسينية سوية، ولا نقصد زيارة المراقد المقدسة والمقامات المشرفة إلا مجتمعين.. واعتدنا نحن الأربعة، ولسنوات طوال، على إحياء ليلة القدر عند الإمام الحسين (عليه السلام).. أما ليلة القدر الأخيرة فكانت استثنائية بكل المقاييس!" – هذا ما قاله المجاهد الجريح (حسن) حين التقيته في المستشفى في الثامن والعشرين من شهر رمضان المبارك، حيث تحدَّث بهدوء مهيب رغم بليغ الجراح التي ألمَّت به، وقد تلبَّد مُحياه بغمامة أسىً عميق حجب عنه إشراقات المسرَّة – وأضاف "لقد كانت ليلة قدسية معطَّرة بمِسْك البارود، تسبيحها وأذكارها أزيز الرصاص وتهجدها دوي القنابل، أقمنا صلواتها على سواتر العشق والولاء، فما أسفر فجرُها إلا وبعض إخوتي – هنيئاً لهم – منعَّمين ((فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ))(1)".. ثم سالت دموعه وهاجَ أنينه حين قال: "ولكنهم، على غير دأبهم، تركوني وحيداً ومضوا إلى حبيبي الحسين (عليه السلام).. ما خلتهم يفعلوها يوماً أبداً، أما إنَّ عتبي عليهم لعظيمٌ عظيم!" ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ
بقلم: صادق مهدي حسن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــ
سكت برهةً ليستجمع أنفاسه، قاوم عبراته بكبرياء البواسل وأكمل حديثه..
"حين حلَّ غروب تلك الليلة المباركة كانت منطقة تمركزنا هادئةً إلا من صوت بعض البنادق البعيدة المتفرقة هنا وهناك، أدى المجاهدون صلاة المغرب والعشاء تباعاً تحسباً لأي هجومٍ غادر، طلبنا من (محمد) أن يؤمنا أنا و(كريم) و(فاضل) لنحظى بجزيل أجر صلاة الجماعة، ثم قسمنا أعمال الليلة الثالثة والعشرين بيننا على أن نؤدي كل عمل نيابة عن كل إخوتنا من جنود الحشد الآخرين، وإن أسعفنا الوقت والظروف سننقطع لله ببعض الركعات، ولكن لم يمض بعد المغرب سوى ساعة ونصف حتى بدأ شرذمة من الدواعش اللئام بهجوم على فوجنا، وقد أُرعبوا بتصدٍّ شرس من أبطال الحشد المقدس الأشاوس..
بينما كان محمد يرمي العدو بسلاحه الـ (بي كي سي)، كان يقرأ فقراتٍ من دعاء الجوشن الكبير ويردد بِوَجْدِ المخلصين (سُبْحانَكَ يا لا اِلهَ إلاّ أنْتَ الْغَوْثَ، الْغَوْثَ خَلِّصْنا مِنَ النّارِ يا رَبِّ)، أما كريم فعرفته شغوفاً بـ (اَللّهُمَّ إنّا نَرْغَبُ إلَيْكَ في دَوْلَة كَريمَة، تُعِزُّ بِهَا الإسْلامَ وَأهْلَهُ..) فلم تنقطع شفتاه عنها، وعلى نغم رشاشته مضى فاضل يرتل سورة الروم وتهلل ابتهاجاً لمّا وصل آخرها ((فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ))(2)، أما أنا (والكلام لحسن) فختمت القرآن عشرات المرات!! لأني ما انفككت عن قراءة سورة الإخلاص المباركة.. ومعقباً بالصلاة على محمد وآل محمد"
صمتَ لحظات.. تناول جرعة ماء.. صلّى على سيد الشهداء واسترسل حسن بقصته "أصيبَ محمد في كتفه أول الأمر فلم يأبه لجرحه النازف واستمر بقتاله البطولي مما شكل لنا حافزاً كبيراً على القتال بعزيمة لا تلين، كان يضحك قائلاً: جذع النخلة لا يأبه لوخز الأشواك!! نعم هكذا عرفت محمداً، فرغم كل ما واجهه من مصاعب اقتصادية واجتماعية وسياسية في الزمن الغابر إلا أنه صلب الشكيمة ثابت الجَنان متسلح بأوثق عرى الإيمان..
وبعد مرور ساعتين على المناوشات أصيب كريم بعينه اليمنى وسقط أرضاً.. احتضنه فاضل فحرك كريم شفاهه هامساً آخر أنفاسه: لقد عثرت على حياتي يا رفاق العمر الطيبين!،.. سلامٌ عليكم جميعاً، فها أنا بين يدي قمر بني هاشم، وفاضت روحه الطاهرة على تلك الحال، لقد كان كريم اسماً على مسمى والإيثار من أبهى سجاياه.. فما رأيته بخل بشيء أبداً، ويعجز البيان عن وصف سروره حين أصدرت المرجعية فتوى الجهاد المقدس، وما زلت أذكره يهتف بيننا (لقد ولّى عهد الموت، عجِّلوا بنا نحو الحياة!).
وقبيل صلاة الفجر بنصف ساعة تقريباً سقطت قذيفة بالقرب منا وهذا آخر ما أذكره من تلك الليلة الرمضانية.. وبعد يومين أفقت من غيبوبتي في المستشفى حيث أُخبِرتُ باستشهاد محمد وفاضل.. وهذه أول مرة لا أجدهم أمامي عند الشدة، فيا لها من وحشة لا تطاق!"
غالَبَتْهُ اللوعة وأمطرَتْ عيناه بغزارة، مسحتُ دموعه بمنديل وحدَّثتهُ مواسياً: أعاذك الله من الوحشة أيها الأبيُّ المعطاء، وصبراً على البأساء وفراق الأحبّة.. ارضَ بقضاء الله تعالى واستبشر خيراً واحتسب إخوانك عنده فهو أحكم الحاكمين.. أتركك الآن بخير وعافية ولنا لقاء قريب إن شاء الله تعالى.. ودَّعْتُه ودعوت من أعماقي أن ينتصر على آلامه وأحزانه.
في صبيحة عيد الفطر وبُعَيْدَ صلاة العيد، توجهت إلى المستشفى لزيارة حسن، سررت لتبسمه حين رآني مقبلاً.. وما إن جلست عنده حتى بادرني الكلام مستبشراً:"رأيت رؤياً أزالت كل همومي وأشجاني.. زارتني أطيافهم ليلة أمس كبُدور متلألئة زاهرة، تملأ الآفاق أنوارهم البهية، يحملون مصاحفهم الشريفة بين أيديهم، وأقبلوا عليَّ بأحاديثهم الطيبة.. قال محمد، رافعاً راية كَتَبَ عليها ((نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ))(3)،: هوِّنْ عليك يا صديقي، إنما هو بلاء وامتحان وتذكر قول أمير المؤمنين (عليه السلام): (إِنْ صَبَرْتَ جَرَى عَلَيْكَ اَلْقَدَرُ وَأَنْتَ مَأْجُورٌ وَإِنْ جَزِعْتَ جَرَى عَلَيْكَ اَلْقَدَرُ وَأَنْتَ مَأْزُورٌ).. فإياك إياك أن تجزع يا حسن!.. ((وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ))(4)
وخاطبني كريم مشجعاً: طوبى لك أيها الجبل الأشم.. وكن كما عهدتك دوماً متأسياً بنبي الرحمة محمد وآله الطاهرين (صلوات الله عليهم)، واجعل شعارك قول إمامنا الحسين (عليه السلام): (هَوِّنْ عَلَيَّ ما نَزَلَ بي، أَنَّهُ بِعَيْنِ اللّهِ).. لقد نلتَ يا حسن ما لم ننله نحن من الأجر على شهادتنا ليلة القدر؛ فشوقك للشهادة وعظيم حبك لإخوانك المجاهدين وقلبك الحاني عليهم رفع درجتك فوق مراتبنا، وستعود لتلك السواتر لتنعم بثواب المجاهدين فلا تنسنا بدعائك على سواتر الإباء، وأعلم أن كل قطرة عرق تذرفها ستكون على إخلاصك من الشاهدين، وكل أرض تطؤها ستفخر بكريم خطاك عليها، وكل ذرَّة تراب تلامسك هي لك ذخرٌ مباركٌ يوم القيامة، فأحمد الله على نعمائه.
أما فاضل.. ذلك النمر الوقور، فكان هادئاً كعادته، ألقى تحيَّته وضع يده على كتفي وقال: الفرج قريبٌ.. قريبٌ.. قريبٌ يا حسن.. ((إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً غ وَنَرَاهُ قَرِيباً))(5)، إليك مني هدية مباركة مشفوعة بأمل الفوز العظيم بما عند الله من أجر جزيل.. وأعطاني لوحة مغلفة بقماش أخضر.. فتحتها، وجدت آية مباركة تتلألأ كالذهب الإبريز على صحائف اللُّجين ((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا))(6)، قبَّلتها فَشَمَمْتُ أريج الجِنان.. وعندها فتحت عينيَّ مع أولى تكبيرات أذان الفجر."
مر شهران.. شُفيت جراح حسن وصدقت الرؤيا فعاد متوجاً بالعلياء إلى ساحات الهيجاء.. فطوبى للعراق بهؤلاء الأبناء البررة.
تعليق