أعِدُكِ أَنْ لَنْ أموتَ يا أُمّي!
@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@
بقلم: صادق مهدي حسن
****************************
ما يزال ذلك اليوم- لما ضم بين ثناياه من كبرياء وألم- يومض في خاطري.. فقبيل أشهر وبعد أن أتممنا مراسم زيارة أمير المؤمنين (عليه السلام) في عيد الغدير الأغر، توجهت وصديقي إلى مقبرة وادي السلام لنجدد العهد بمن مضى من الأحبة وثوى في تلك التربة الطاهرة، كانت المقبرة مزدحمة لتوافد الزائرين بكثافة مما جعل سيرنا في طرقها بطيئاً إلى حدٍّ ما.. ورغم فرحة الغدير، كان للبكاء والعويل عند بعض الأجداث ضجيج يملأ ثنايا المكان، وفجأة لفت انتباهنا أنينٌ مَهيب سَمَرَ أقدامنا إلى الأرض.. فرأينا عجوزاً تحتضن قبراً كُتِبَ على شاهده ((..وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا..))(1) قد جرى دمعها مدراراً وهي تقرأ شيئاً من القرآن الكريم، وعلى بعد خطوات منها وقف رجلٌ ينظر إليها بشفقة.. قادنا فضولنا للدنو منه، ألقينا التحية وسألناه: ما حكاية القبر؟ ومن تكون المرأة؟ تنهد الرجل وحوقل بلوعة.. وكأنه وجد متنفساً لينفث آلاماً أثقلت فؤاده وبدأ يحدثنا..: @@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@@
بقلم: صادق مهدي حسن
****************************
"كانَ يوماً من أيام الله جَلَّ ذكره وثناؤه.. تعالت فيه صرخاتُ تكبير الملبّين لنداء الله، وارتفعت أصوات المُصلين على محمد وآله الطاهرين، فصَدى الشيخ الخطيب في تلك الجمعة الشعبانية المباركة ظل يقرعُ الأسماعَ والأفئدة: "فَإنَّهُ يكونُ شهيداً..."، وحينها كان ابن أختي (جعفر) في صَحن سيد الشهداء (عليه السلام) جالساً بين أفواج المصلين قد ((أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ))(1).. أكمل الصلاة، سجد لله شُكراً على أعتاب أبيِّ الضيم، ومضى بدموع الشوق ينادي "لَبَّيْكَ.. لَبَّيْكَ يا حُسَين، لَبَّيْكَ.. لَبَّيْكَ يا حُسَين! أقسمت عليك مولاي إلا ما قبلتني من جُندك المخلصين".. وتوجَّه نحو القمر الساقي.. هَمَسَ عند الضريح: "أَبَا الفَضْلِ يَا كَفِيلَ العَقِيلَةِ.. سَلامٌ لا يُدانِيهِ سَلامُ.. عَلَيْكَ.. عَلَى أَكُفٍّكَ.. عَلَى بَأسِكَ.. عَلَى رايةٍ أَذْهَلَتْ حَتّى شَانِئِيكَ.. سَلامٌ عَلَى إِيثَارٍ كَإيثَارِ أَمِيرِ المُؤمِنِين.. قد كان للمصطفى محض فداءٍ.. وأنت بالطفِّ للوارث فداءٌ ومواسٍ ومعين.. سلامٌ، سلامٌ على أمِّ البنين.. سيدي أتيتك ظامئاً للقياك فاروِني من قِربة رضاك يا ابن الأجودين"
وأنطلق جعفر ذو العشرين ربيعاً إلى بيتٍ، سقفه جذوع نخلٍ وحُصُر، وجدرانه لَبِناتُ طين.. حيث لا أحد سوى عجوز هدَّها الكِبَرُ وتعب السنين، فقدت زوجها في غياهب سجونٍ أعدها جند إبليس لمن لا جرم لهم إلا ولاء النبي وعترته النجباء (صلوات الله عليهم أجمعين).. فأفنت زهرة العمر لتربية وحيدها (جعفر) والذي انتظرت ولادته عشراً من السنين العجاف..
دخل البيت بوئيد خُطَىً، مضطرب المشاعر بين بهجة وقلق، بادر إلى أمه ليطبع قُبلاتِه على جبينها ويديها وأقدامها، واحتضنها هاتفاً: بُشراكِ، بُشراكِ أماه.. بُشراكِ، بُشراكِ يا أعز الناس.. بُشراكِ، بُشراكِ يا (أم جعفر)!، فَسُرَّت لمرأى الانبساط على وجهه والغبطة في صوته، وقالت: بشَّركَ الله بكل خير يا بهجتي وأملي، وزادك من وافر برِّه ورحمته.. فبأي بشرى وخبرٍ سعيدٍ جئتني؟! قال: أَما عَلِمْتِ يا أُمّي؟! ((أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ))(2).. اليوم أفتى مرجعنا العظيم وسيدنا الجليل أن: حيَّ على الجهاد!.. حيَّ على نُصرة الدين!.. حيَّ على تحرير العراق من براثن الأوغاد!.. نعم يا أمي إنها البُشرى ((وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ))(3).. سأمضي على بركة الله ملبياً نداء المرجعية بالجهاد الكفائي.. ويا لها من فرصة عظمى!، وما أبهاه من شرف رفيع!، فما تقولين يا حبيبة القلب؟ صمتت أمه ولم تنبس ببنت شفة، ولكن عبرة تكسرت في صدرها وغزير دمعٍ جرى على وجنتيها أجج مخاوفه، أستأذن منها وجلس منفرداً تحت شجرة عند جدول صغير قرب البيت.. يرتل القرآن تارة، ويتهجد بالدعاء تارة أخرى منتظراً أذان المغرب؛ كان جعفر صائماً ذلك اليوم.. أما أمه فجلست في غرفتها، حاولت النوم ولكن النعاس جفا جفنيها.. هوَّمت لبضع دقائق وفتحت عينيها مع صوت المؤذن..
وبعد الصلاة وتناول الإفطار، أقبل جعفر، جلس بين يدي أمه، خُيِّل له أنها بدت مبتسمة لأول وهلة.. خاطبها قائلاً: أعلم أن الخبر فاجأك بادئ الأمر وأن قراري شكل منعطفاً غير متوقع أبداً في حياتنا.. على أي حال، أظنك فكرت في الساعات الماضية، وما زلت بانتظار جوابكِ بشوق التائقين، فما ترين يا أعز الأحبة؟.. تنهدت الأم وخاطبت فتاها: بلى يا صفي أمِّك.. لقد سمعتُ خطبة الجمعة من (الراديو) وأبهجني ما جاء فيها، وأُكْبِرُ فيك هذه الروح الوثّابة.. كأني أرى أباك (رحمه الله) أمامي، لكن أخشى أنك تعجلت في هذا القرار.. كما أنَّ الجهاد كفائي، وتذكَّر أنَّك عمادُ بيتي الوحيد فمن لي بعدك يا أملي المرتجى؟!.. قال: أما (روحي الوثّابة) فأنتِ من غرسَ بذرتها وعمَّق جذورها، لقد أرضَعتِني حب إمامنا الحسين (عليه السلام).. وهو كعبة الثائرين، ولم أعجل في قراري مطلقاً بل كانت ولا زالت (يا ليتنا كنا معكم) نشيداً خالداً يتلى على امتداد الدهور وقد استجاب الله لهذه الأمنية، وها هي (معركة طف جديدة) في عراق علي والحسين (عليهما السلام)، وإن التخاذل عن نداء الله لَخُسرانٌ مُبين يا أمي! وأعجب كثيراً من قولك (مَن لي بعدَك..)، وأنتِ المَدْرَسَةُ الأولى التي تعلمت فيها أنَّ الله سبحانه يتولَّى الصالحين، وطالما سمعتك ترددين في أحلك الأوقات ((.. فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ))(4).. أليس كذلك أمي؟! فردَّت: فكِّر وتدبر يا حبيبي الأغلى وتأنَّ في تصميمك على الجهاد. وضع جعفر يد أمه على رأسه وهو يقول: "سمعاً وطاعةً، حباً وكرامةً، سيدتي العظيمة.."
مرَّ يومان وخبر الفتوى يهزُّ العالم بأسره، وجعفر يزداد وجداً وحماساً، لم يُطِق صبراً وانتظاراً.. صلى ركعتين بنية قضاء الحاجة، واسترسل بالحديث مع أمه: كما تعلمين أمي الحبيبة.. أربع عقود مرت أو أكثر وعراق التضحيات ينزف دماً ودمعاً.. ينزف أبنائَه المشردين في شتى الأصقاع.. ينزف ثرواتِه للسارقين، فالوحوش الكواسر وعلى مر العهود ما ادخرت وسعاً في نهشه بمخالبها وأنيابها، حتى تمخض الشر بكل بؤسه عن (داعش)!.. وتلك شرذمة أوغاد صنعتها قوى الباطل والطغيان لتعيث في الأرض فساداً وتهلك الحرث والنسل، زحفوا نحو عراق الأئمة الأطهار تدعمهم الضمائر النتنة بفتاوى التكفير لتدنيس المقدسات وهتك الأعراض.. وهنا كانت للمرجعية الملهمة كلمة الفصل التي ستدك أوكار البغاة الظالمين بعونه تبارك تعالى.. وقد تعلمنا من منبر سيد الشهداء (عليه السلام) قول أمير المؤمنين ومولى المتقين علي (عليه السلام) "إِنَّ اَلْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ اَلْجَنَّةِ فَتَحَهُ اَللَّهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ وَهُوَ لِبَاسُ اَلتَّقْوَى وَدِرْعُ اَللَّهِ اَلْحَصِينَةُ وَجُنَّتُهُ اَلْوَثِيقَةُ فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ أَلْبَسَهُ اَللَّهُ ثَوْبَ اَلذُّلِّ..." وقبل هذا فكتاب الله بين أيدينا يصدح بآياته آناء الليل وأطراف النهار مُقَدِّساً هذا الفرض الإلهي، ورافعاً شأن المجاهدين. إنها أربح تجارة يا أمي.. هكذا يقول الله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ))(5)، بل هو أقصر طريق لنيل حبه سبحانه ((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ))(6)، وانبرى يسطر الآيات تلو الآيات ويذكر الأحاديث تلو الأحاديث..
ومع هذا البركان القرآني الهادر، والبأس الإيماني البطولي الناصع، كان سيل الدمع لا ينقطع من تلك المقلتين الحنونتين، والغبطة تملأ شغاف فؤادها وهي ترى ذلك الغرس كيف أثمر وأينع.. قبَّلت جبين جعفر وخاطبته ملؤها زهواً وفخراً: بوركت بنيَّ وزادك الله معرفة في دينك وقوة في قلبك.. والله ما أخرت ردي عليك إلا لأطمئن أنك على بصيرة ويقين من أمرك، وأن تربيتي قد ((آَتَتْ أُكُلَهَا))(7)، فجُزيت عني كل خير بحق مولاتي الزهراء صلوات الله عليها.. بلى يا نور العين، قُم واركب سفينة الهداة المهديين وأسألُ الله أن تكون ممن قال فيهم: ((إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى))(8).. وهنا تنفس جعفر الصعداء ((..وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ))(9) .
عند إطلالة الفجر.. وعلى أعتاب باب ذلك البيت..كان الوداع شجيَّاً، أمسكته من أكتافه وقالت: عِدْنِي أَنْ لن تموت يا جعفر!.. أطرَق قليلاً، ورفع رأسه.. أعادت عليه القول بحزم: عِدْنِي أَنْ لن تموت يا جعفر!.. ألا تسمعني؟، ردَّ بلهجة واثقة: بلى.. سمعتك يا جنتي الوارفة بأفياء الرحمة.. أعِدُكِ أَنْ لنَ أموتَ يا أُمّي!
ومضت الأيام.. وجعفر ورفاقه يملئون ساحات النزال بطولة وعنفواناً.. من نصرٍ إلى نصر، ومن ألقٍ إلى ألق.. كان يعود في إجازة بين فينة وأخرى ويقص على أمه أقاصيص الظَّفَر والإيثار في ميادين الإباء، وفي إحدى إجازاته وحين ودَّعها قالت: إياك أن تنسى وعدك يا جعفر.. فابتسم وأدى تحيته العسكرية رافعاً صوته: أعِدُكِ أَنْ لنَ أموتَ يا أُمّي!.. وهذه المرة لم يرجع في إجازته كالمعتاد، ولكنه أرسل إليها مع بعض أخوته المقاتلين رسالة مسجلة (مقطع فيديو).
(شغَّل الرجل جهاز الموبايل وعرض لنا التسجيل) ظهر جعفر وهو يمازح أمه بابتسامته المشرقة وطيبته المعهودة –كما عبر خاله عنها- رافعاً كلتا يديه قائلاً: "سلامٌ عذبٌ معطرٌ بعبق جِنان السواتر مكلّلٌ بأجر ((..وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ))(10)..أتمنى أن تسمعي كلماتي وأنتِ ترفلين بالخير والعافية، لقد حال دون حضوري المعتاد واجبٌ لا بد من أداءه، فعذراً غاليتي..
أمي العزيزة.. تجيش في صدري كلمات فحدثي بها عني:
سيكتب التأريخ يا أمي -شاء المرجفون أم أبوا- شهادة القاصي والداني، وشهادة العدو قبل الصديق، أن الفتوى قد أبهرت الجميع بما حمله من لبى ندائها من عقيدة مخلصة فكانوا قوة ضاربة لا قبل للدواعش بما حققته وتحققه من انتصارات تلو انتصارات..
وعن الفتوى سيكتب التاريخ يا أمي بفخر عظيم: هي شمس هدى أشرقت لتهدم غياهب المكر بعراق الصابرين.. هي عصا موسى التي تلقف ما يأفكون.. هي سيف علي وهو يفلق هامات البغي الأموي ومن لف لفهم ويفري جموع البغاة والمشركين ومن سار على ضلالتهم.. هي راية من رايات القائم المؤمل والعدل المنتظر بإذن الله.. بلى يا أمي.. سيكتب التأريخ مزهواً على صحائف النور أن فتيةً وشيباً ذابوا بالهدى عشقاً، لبسوا القلوب على الدروع، جُنّوا بالشهادة كما جُنَّ جون بحب الحسين عليه السلام، أبوا الركوع إلا لله تعالى، ارخصوا في سبيله أعمارهم وما ملكوا، يتسابقون على بذل دمائهم الطاهرة ليزلزلوا بفيضها أركان الكفر والإلحاد..
قد تكون هذه آخر كلماتي فإن لم أرجع خلال أسبوع فاعلمي أني وفيت بالوعد يا أمي العزيزة، وسيركع الخلود على أقدامي حين أمزج دمي بنهر الدماء الزاكية، وستبقى الفتوى وساماً على جبين المجاهدين.
وداعاً أمي وليُكن قبري عند سيدي أمير المؤمنين سلام الله عليه.. وداعاً ..وداعاً، والملتقى عند الكوثر."
أجهش الرجل معولاً وهو يقول: "كانت هذه حقاً آخر كلمات سمعناها من جعفر.. حيث لحق قَرير العينِ بِمَنْ ((لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ))(12).. وها هي أمه لا تفتأ تقرأ القرآن امتناناً لولدها الذي تشرف بالشهادة وأنالها شفاعة الزهراء البتول (عليها السلام).. وكأنها تأست بعنفوان بطلة كربلاء فلم ترَ إلا جميلاً!
================================================== ============================
1) (البقرة:177)
2) (ق:37).
3) (الحج:39)
4) (الأنفال:10)
5) (يوسف:64)
6) (التوبة:111)
7) (الصف:4)
8) (الكهف:13)
9) (الكهف:33)
10) (ص:24)
11) (البقرة:155)
12) (يونس:2)
تعليق