بسم الله الرحمن الرحيم
ثمّة كلام في هذه المسألة العقائديّة يلاك في ألسنة بعض البسطاء ؛ لما تواتر من أنّ سيّد الشهداء الحسين ع ، قد أوصى يوم عاشوراء إلى أخته زينب صلوات الله عليها ، وهذا فيما قد يقال ، في غاية الإشكال ؛ لما علم ضرورة من أنّ وصيّة العصمة ، بما هي كذلك ، لا يتلقّاها إلاّ معصوم ، أو لا يمكن عقلاً وشرعاً أن ينوء بعبئها غيره ، ولا أن ينهض بكاهلها سواه ؛ يدلّ على ذلك أنّ وصيّة العصمة هذه ، أو قل : وصيّة الإمامة والخلافة ، ولك أن تقول : الأمانة فيما قال القرآن...، أبت السماوات والأرضون والجبال أن يحملنها وحملها الإنسان ؛ أي خصوص الغاصب ، إنّه كان ظلوماً جهولاً .وهنا أنبّه إلى نقطة غاية في الخطورة ، فحتّى الأنبياء والأوصياء لم يحملوا هذه الأمانة اختياراً من عند أنفسهم ، وإنّما حُـمِّلُوها من قبل الله تعالى ؛ اصطفاءً بأمره ، واجتباءً بقضائه ، وانتخاباً بإرادته ، واستخلاصاً بحكمته وعدالته ؛ فالنبيّ محمّد ص بالقطع واليقين ، لم يحمل النبوّة الخاتمة لولا أنّ الله تقدّست حكمته قد اصطفاه لذلك دون العالمين ، وقس على ذلك ولاية أمير المؤمنين ، وإمامة من بعده صلوات الله عليهم ؛ وكلّنا سمع قول النبي الصحيح في شأن علي في القضيّة المعروفة : «ما أنا انتجيته ولكنّ الله انتجاه»([1]) ، وتفسيره ما قلناه ، وأنّ الأمر ، كلّ الأمر ، بيد الله الواحد الأحد..
فالإشكال كلّ الإشكال ، فيما يقال ، أن تتلقّى زينب صلوات الله عليها هذه الأمانة ، في حين لا يمكن أن يطيق حملها أحد من البشر إلاّ تسعة من ذريّة الحسين إلى يوم القيامة ، أوّلهم السجّاد وآخرهم المهدي المنتظر : ؛ ووجه عدم الإمكان أنّ الأمانة هنا ، إمامة مطلقة وخلافة عامّة مقدسة ، ونيابة سماويّة شاملة ، وقد علم ضرورة أنّها خاصّة بهؤلاء المعصومين فقط صلوات الله عليهم جميعاً ؛ فما يتناقله البعض ، من أنّ زينب ع حملت أمانة الإمامة والعصمة في فترة مرض الإمام السجّاد يوم كربلاء ، أو أيّام حبسه بالجامعة ، كلام لا يصدر إلاّ عن جاهل بأصول العقيدة وقواعد علم الكلام..
وبلا تطويل أجابنا عن هذا الإشكال السيّدة حكيمة بنت الإمام محمّد بن عليّ بن موسى الهادي : ؛ فلقد أخرج الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة قال : محمد بن يعقوب الكليني ، عن محمد بن جعفر الأسدي ، قال : حدثني أحمد بن إبراهيم قال : دخلت على حكيمة بنت محمد بن علي الرضا عليهما السلام سنة اثنتين وستين ومائتين ، فكلّمتها من وراء حجاب ، وسألتها عن دينها ، فسمّت لي من تأتم بهم ؛ قالت : «فلان ابن الحسن» فسمته . فقلت لها : جعلني الله فداك معاينة أو خبراً؟!. فقالت : «خبراً عن أبي محمد عليه السلام ، كـتب به إلى أمّه». قلت لها : فأين الولد؟!. قالت : «مستور». فقلت : إلى من تفزع الشيعة؟!. قالت : «إلى الجدّة ؛ أم أبي محمد عليه السلام».
فقلت : أقتدي بمن وصيته إلى إمرأة . فقالت : «إقتد بالحسين بن علي عليهما السلام ؛ أوصى إلى أخته زينب بنت علي في الظاهر ، وكان ما يخرج من علي بن الحسين من علم ، ينسب إلى زينب ستراً على علي بن الحسين » . ثم قالت : « إنكم قوم أصحاب أخبار ، أما رويتم أنّ التاسع من ولد الحسين عليه السلام يقسم ميراثه وهو في الحياة» ([2]).
وقد أخرجه شيخ مشايخنا الصدوق في الإكمال قال : حدثنا علي بن أحمد بن مهزيار قال : حدثني أبو الحسين محمد بن جعفر الأسدي قال : حدثنا أحمد بن إبراهيم مثله([3]).
كما قد أخرجه من طريق آخر ، في موضع ثان من الإكمال قال : حدثنا علي بن الحسين بن شاذويه المؤدب رضي الله عنه قال : حدثنا محمد بن عبد الله ، عن أبيه عبد الله بن جعفر الحميري قال : حدثني محمد بن جعفر قال : حدثني أحمد بن إبراهيم مثله([4]) .
رجاله ثقات ، وأحمد بن إبراهيم لا يحضرني حاله بدقّة مع هذه العجالة ، لكنّه في هذه الطبقة مردّد بين الثقة والممدوح ، فسند الحديث على كلا التقديرين مقبول حجّة . وهو نصّ ظاهر في أنّ الإمامة المطلقة فعليّة عند صاحبها من المعصومين بكلّ التقادير وبجميع الفروض ، وإن أوصي لغيره صوريّاً ؛ فالهدف من هذه الوصيّة الصوريّة ، هو إزواء شخص المعصوم عن أعين الطغاة حتّى لا يقتل ، وتغييب عنوانه حتّى لا يهلك .
والنصّ صريح في أنّ وصيّة الإمام الحسين للصدّيقة زينب ، ووصيّة العسكري للجدّة ، من هذا الباب ، وصيّة صوريّة لا غير ، كما هو ظاهر الخبر . أمّا متى أوصى المعصوم لمن يليه وصيّة الإمامة الحقيقيّة ، في فرضي الحسين والعسكري صلوات الله عليهم جميعاً ، وكيف؟!.
فالجواب بإيجاز : كوصيّة الإمام الكاظم للإمام الرضا ع، مع أنّ الأوّل في سجن بغداد والثاني في مدينة النبي ص، وكوصيّة الإمام الرضا ع للإمام الجواد ع، مع أنّ الأوّل في خراسان والثاني في المدينة ، فافهم ؛ إذ لا يشترط في الوصيّة أن تكون كوصيّة النبي لعلي معلومة الكيف والوقت والمكان ، أو كوصيّة الحسن للحسين صلوات الله عليهم جميعاً ، والأمر هو الأمر مع وصيّة الإمام العسكري للمهدي المنتظر ع.
والحقّ فإنّ بعدي الزمان والمكان لا يمنعان المعصوم من أداء أيّ وظيفة ملقاة على عاتقه من قبل الله تعالى ، وبإذنه ، مهما كانت هذه الوظيفة مستحيلة على بقيّة البشر ؛ فيكفي أنّ الله يأذن لترتفع الاستحالة ، ويأمر فيندفع غير الممكن ؛ وحسبنا إحياء عيسى الموتى بإذنه سبحانه ، ونقل آصف ع لعرش بلقيس بأسرع من ارتداد الطرف .
فالمقصود -إذن- من الوصيّة الصوريّة في الموردين ، هو الحفاظ على الإمام من الهلاك ، والتورية عن شخصه المطهّر من القتل ، ولو بهذه الوسيلة المقدّسة ؛ فالأعداء يتربّصون به الدوائر ، ويبحثون عن أيّ ذريعة لقتله وإعدامه ؛ وكلّنا يعرف كم مرّة تعرّضّ الإمام السجّاد للقتل من قبل مجرمي كربلاء ؛ لمجرّد أنّه من نسل الحسين ، فكيف لو علموا أنّه صاحب الوصيّة ، وقرين العصمة ، ورجل الإمامة؟!!. واحدة من هذه المواقف مع المجرم ابن زياد لماّ أراد قتل السجّاد لولا زينب فيما نعرف جميعاً .
بهذا يظهر فضل القدّيسة زينب صلوات الله عليها على الخلق كافّة ؛ فبعد أن فرغ المجرمون الكافرون من سيّد الشهداء جاؤوا ليستأصلوا السجّاد ، وهو آخر من بقي من نسله ، وقد كان عليلاً بمرض ثقيل لا يقوى على القيام ، فلمّا أرادوا ذلك ، ألقت الصدّيقة زينب بجسدها الشريف عليه تفتديه ، وهي ما زالت غارقة في بحر المصيبة ، فتركوه لأجلها في قصّة معروفة بل متواترة ..
([1]) سنن الترمذي 5 : 303 وقد جزم بأنّه : حديث حسن .
([2]) الغيبة (الطوسي) : 230 .
([3]) إكمال الدين وإتمام النعمة (الشيخ الصدوق) : 501 .
([4]) إكمال الدين وإتمام النعمة (الشيخ الصدوق) : 507 .
تعليق