بسم الله الرحمن الرحيم
حقيقة سرّ الدعاء هو ارتباط الإنسان المؤمن بخالقه في جميع شؤون حياته، وانقطاعه إليه بعيداً عن كلّ الآمال التي يعيش الإنسان معها في خيال، فلا تتحقق إلّا إذا أخلص لله في أعماله وأفعاله، وأن تكون هناك وسيلة تربط العبد بربّه حتى يصل إلى غايته وهي الدعاء الذي يكمن في داخله الكثير من الفوائد العظيمة التي تتكشف له في حياته، فيدرك معنى القرب من الله سبحانه وتعالى، ويعيش حياته التي تصنع المجد والكرامة فعندما يعرف الإنسان مدى فائدة الدعاء، وتفعليه في جميع أمور حياته خاصة في صنع الإرادة التي تحقق الكثير من الغايات والأهداف في المستقبل، فإذا فعّلت دور الإرادة في ذاتك تتجلى لك أمور كثيرة في صُنع مستقبلك المشرق الذي يُضيء للعالم شمعة صفحات تاريخك المملوءة بالخير والصلاح، والعمل الجاد الذي يخدم الأُمّة الإسلامية في عصرنا الحاضر الذي نرى فيه الكثير من الأعمال الخيرة والصالحة التي تخدم المجتمعات في ترقيتها إلى ذروة الكمال البشري، الذي يسعى كل إنسان إلى الوصول إليه في حياته.
فإذا فعّلت الدعاء في كلّ أمور حياتك سترى الأثر الكبير في صُنع المستقبل، وستعرف مدى أهمية الدعاء في صُنع أي عمل تُريد تحقيقه، وكذلك سترى كيفية صُنع الإرادة في ذاتك، وكلّ ذلك يكمن في شعيرة الدعاء الذي يحقق جميع الأمنيات في الحياة.
وأعلم أنّ طريق الإرادة هو الطريق الذي سوف يصلك إلى طريق السعادة الحقيقية في حياتك وستعرف مدى أهمية الإرادة الذاتية، عندما تفعّلها في حياتك وتستخدمها في الوصول إلى أهدافك وإلى مستقبل مشرق كلّ هذا لن يتحقق إلّا إذا فعّلت الإرادة في ذاتك وأخذت الأسرار التي تساعدك في الطريق إلى السعادة، وبعدها تعيش الحياة الطيِّبة والسعيدة مع الله سبحانه وتعالى، ومع الصالحين والمؤمنين، وهذا ما يتمنّاه كلّ إنسان في الحياة أن يعيش كما عاش الأولياء والصالحون حياة الكرماء والشرفاء الذين خلدوا التاريخ بصفحات حياتهم، التي أشرقت نوراً للمستقبل.
سرّ الدعاء مع العبودية:
يُولد الإنسان وتُولد معه الحاجة والعجز على تلبية رغباته، والقيام بشؤونه، ومتطلبات حياته، وهذا العجز كما هو واضح متأصل في حقيقة وجوده وذاته، ويُمكن أن يتحسسه الإنسان بأدنى مناسبة.
إذ من الممكن أن يهد كيانه وقواه الجسمانية اختلال بسيط في وظائف أعضائه، بل ارتفاع بسيط في درجات حرارته، فيجعله منحرف المزاج غير مرتاح البال.
وهذه الحالة لا يشذ منها فرد من أفراد البشر، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (فاطر/ 15).
ولكنّ الإنسان وفي غمرة انشغاله بالحياة، وفي كثير من حالاته وأوقاته تتملكه الغفلة، ويستولي عليه الغرور ويعيش سكرة الحياة المادية، ونعيمها لما مُنح من نعم كثيرة كالصحّة، أو المال، أو الجاه وغيرها فيبقى في غيّه مُسلِّماً زمام نفسه لهواه ورغباته فينسى نفسه وما بها من ضعف وحاجة وفقر، إلّا الذين آمنوا بالله وأدركوا حاجتهم وضعفهم وعبودتهم، فنفضوا عنهم غبار الغفلة، ومزّقوا حجب الهوى، والتفتوا إلى أنفسهم فاتجهوا بكلّ وعي وشعور إلى القوّي الذي لا يعرف الوهن، وإلى الغنيّ الذي لا يشوبه الاحتياج ليترجموا الشعور بدعائهم بكلّ تضرع، واستكانة وانكسار وتذلل، ليرفع الله حاجتهم، ويسدّ فقرهم.
وفي دعاء الإمام زين العابدين (ع): "اللّهمّ سُدّ فقرنا بغناك اللّهمّ غيِّر سوء حالنا بحسن حالك".
فالدعاء بهذا المعنى هو صدى وانعكاس حقيقي لمشاعر الفاقة، والعجز الذي يغمر الإنسان، وترجمة واقعية لعبودية الإنسان، وارتباطه بخالقه، فقد ورد في موارد الدعاء: "أنا الفقير في غناي فكيف لا أكون فقيراً في فقري".
إذن الدعاء هو الذي يُجذر في الإنسان شعوره بالعبودية والرهبة لله سبحانه، فلذا عُدَّ الدعاء من أفضل أنواع الوعي الذاتي الذي يستذكر فيه الإنسان أصالته وعبوديته، يقول الإمام زين العابدين (ع): "إلهي أصبحت وأمسيت عبداً داخراً لك لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلّا بك".
وأما الذين لم تنفتح لهم نوافذ الوعي والإدراك بحقيقة أنفسهم، وابتعدوا عن حظيرة عبودية الله بعد ما أوصدوا على أنفسهم منافذ الرحمة الإلهية، فمن المؤكد أن لا تنفتح أبواب قلوبهم على بارئهم. فلا تلهج حينئذٍ ألسنتهم بالدعاء والابتهال لله سبحانه وهذا معنى الاستكبار عن عبادة الله الذي يستوجب دخول النار.
وبهذا تتضح العلاقة الوطيدة بين الدعاء والعبادة ونفهم من خلالها الأحاديث التي تعتبر سر حقيقة الدعاء بكونها مُخ العبادة، وجوهرها في صنع الإرادة الذاتية للإنسان في جميع حياته التي يصل بها إلى غايته، وأمله في الدنيا والآخرة.
موانع استجابة الدعاء:
1- الذنب: عن الإمام عليّ (ع) قال: "لا تستبطئ إجابة دعائك وقد سددت طريقك بالذنوب".
2- الظلم: عن الإمام عليّ (ع) قال: "الله أوحى إلى عيسى بن مريم: قُل للملأ من بني إسرائيل أني غير مستجيب لأحد منكم دعوة ولا لأحد من خلقي قِبَلَهُ مظلمة".
3- الدعاء لفعل المعصية: فمن يدعو ربّه أن يسهل عليه أمراً فيه غضبه لا يستجاب له، عن رسول الله (ص) قال: "قال الله عزّ وجلّ ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني إلّا قطعت أسباب السماوات وأسباب الأرض من دونه فإن سألني لم أعطه وإن دعاني لم أجبه".
4- عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: عن رسول الله (ص) قال: "لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهُنّ عن المنكر، أو ليُسلطنّ الله شراركم على خياركم فيدعوا أخياركم فلا يستجاب لهم".
اللّهمّ هب لنا حالة الانقطاع إليك:
حُب الطفل واهتمامه يدوران حول محور واحد، وهو أُمّه فإن سقط على الأرض وبكى فإنّه سُرعان ما يهدأ لأنّ أُمّه أسرعت إلى ملاطفته، وهو أيضاً يبادلها العاطفة بالعاطفة لأنّها أُمّه، ومحور عالمه ودنياه.
وكذلك مرحلة الانقطاع إلى الله في درجة ومنزلة غاية في الرفعة، والسّمو بحيث دأب الإمام الحسين (ع) في دعائه: "إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق أبصار القلوب حُجب النور فتصل إلى معدن العظمة".
وهذه الحالة من أعظم مراتب، ومنازل المؤمن عندما يعيش حالة الانقطاع مع ربّه فتكون حياته سعيدة، قانعة، راضية فعند ذلك تحقق كمال العبودية لله سبحانه وتعالى التي تتجلى في سر الدعاء، وحقيقته في الوصول إلى الأمنيات والآمال التي يبحث عنها المؤمن في حياته.
المصدر: البلاغ- كتاب طريق الإرادة إلى مستقبل السعادة
تعليق