عندما تكون جالساً ، وبدون سابق إنذار ، تسمع صوت قارئ القرآن الكريم ، يعتلي من مكبرات الصوت التابعة لمسجد القرية ، تشعر عندها بأن الأمر لا يخل من حالة وفاة .
هنالك ، فقط ، قد تتأمل في الدقائق السابقة لسماع القرآن الكريم ، وتحاول مقارنتها بالوضع بعد التشرف بسماعه ، عندها تستشعر بأن حالاً كهذا لا يستحق أن نتكالب فيه على مغريات الدنيا ، فربما وافت المنية أحدنا (حفظكم الله جميعاً) ، وهو يسعى في غضب ربه ، فما أشقاها من لحظة يختتم بها حياته بعاقبة سيئة .
ساعتها ، لا تملك سوى أن تلوح برأسك يمنة ويسرة ، وتسترجع ، على أمل أن تبقى هذه الحالة مصاحبة لك طيلة عمرك ، بعد أن تيقنت بأن الدنيا ما هي سوى ظل شجرة تستظل تحتها لحظات ، ثم تتركها ، وترحل إلى مكان آخر .
في الوقت ذاته ، وإذا ما قررت ، بعد ذلك ، أن تتجه إلى حيث يرقد ذلك الجسد الهامد ؛ لتتعرف على بداية الرحلة البرزخية ، التي ينوي عزيزنا الانطلاق فيها ، فإنك حتماً ستتجه إلى خط الانطلاقة ، وأعني هنا مكان تغسيل الأموات (المغيسل) ؛ لترى بعينيك تلك الفوارق الشاسعة بين من كان ، ومن سيكون ، وإليك بداية النهاية ، أو بالأحرى ، بداية البداية .
بمجرد أن تدخل جو تغسيل عزيزنا ، وتجهيزه ، ترى ذلك المتعفف الذي كان يستحي أن يمد رجليه أمام الحضور ، تراه يتمدد بينهم دون حراك ؛ مما يترك الحرية للحضور للقيام بخلع ملابسه ، وهو من كان يتحاشى أن يقابلهم بملابسه الداخلية ، وهذا يجرئهم لتغسيل حتى تلك المواضع الحرجة التي كان يحاول ألا يبديها لأعز الناس و أقربهم منه ، أفلا تكفي عبرة وعظة ؟!
وتزداد العبر والعظات ، المتواصلة في هذا المشوار الفريد من نوعه لفقيدنا الغالي ، فيُحمل الجسد المفارق لحبيبته (الروح) ، التي كانت تحركه يمنة ويسرة ، يُحمل ، من مكان إلى آخر ، دون محاولة من صاحبه لمنع من يحمله ؛ مما يجعلك تتفكر في ذلك الشموخ ، وتلك الغطرسة التي كانت تنتابه في حياته ، وسرعان ما تتبخر بمجرد خروج روحه ، فكأنّ شيئاً لم يكن .
غُسِّل صاحبنا ، والآن يتم وضعه في ثلاث قطعات من القماش الأبيض اللون ؛ مما يجعلك تتأمل طويلاً في تلك النوعية الجيدة من الخام التي كان فقيدنا يحرص على امتلاكها في حياته ، لكي يتباهى بها في حله وترحاله ، فإذا به يقنع مجبراً بهذه القطع الثلاث فقط ليتخذها لباساً يودع من خلالها ذلك الكم الهائل من الملابس التي امتلأت بها أدراج خزانته ، والتي ودعها بما فيها ، وذهب وهو لا يعلم ما سيؤول إليه مصيرها بعده ، مع ما كان يشبعها من روائح عطرية مختلفة ، كان يسعى بأن يبذل ما لا يحصى من المبالغ لاقتنائها ؛ مما يشعرك بشيء من الأسى عندما تجده يرحل معطراً برائحة الكافور فقط ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
تتواصل الأحداث ، فيُدرج الراحل في كفنه ، بعد أن ألقى عليه أهله وأقاربه نظرتهم الأخيرة ، وهم في ذهول تام ، هل هي النظرة الأخيرة حقاً ؟! إذن كيف سنقضي ذلك الوقت الذي اعتدنا أن نقضيه معه ؟! أما أنت فقد تطرح سؤالاً آخر مضمونه ، كيف سيقضي الفقيد بقية الوقت ، بعد الآن ؟! من الذي سيخفف عنه أعباء الهموم والأكدار ؟ من الذي سيتجاذب معه أطراف الحديث في محطته القادمة ؟!
تساؤلات ، قد تقترب من الإجابة عليها ، ولكنك تفاجأ بحمل سرير فقيدنا ، الذي كان يوماً ما يحمله مع من يحملون ، عندها تتوالى في الذهن تساؤلات أخرى ، قد تشتت ذهنك ؛ فتؤجل كل تلك التساؤلات لتستحضر بيت الشعر المعروف : وإذا رأيت جنازة محمولة فاعلم بأنك مثلها محمول
ولعله في الوقت ذاته يعنّ سؤال آخر أيضاً ، فحواه : يا ترى من الذي سيُحمل من هؤلاء الحاملين في المرة القادمة ؟ لعلك تكون صاحب الدور (أطال الله أعماركم في خير وعافية) ، ولعله شخص آخر ؛ مما يشعرك حقيقة بأن الدنيا مليئة بالعبر والعظات ، ولكن أين هم المتعظون ؟!
كيف لا نتعظ ، وكل ذلك الحشد ، تقريباً ، توجهوا ، وبشكل جماعي ، نحو القبلة ، ولكن ، لماذا يا ترى ؟ لم نسمع أذاناً لصلاة من الصلوات الخمس ! نعم الأذان هذه المرة كان بطريقة أخرى ، هذه صلاة وداعية ، أذانها موت المُصلّى عليه ، على إثرها تشاهد موقفاً لم تكن تحلم به طيلة حياتك ؛ فذلك الذي كنت تراه واقفاً يصلي في صف الجماعة ، على يمينك ، أو على يسارك ، أو أمامك ، أو خلفك ، فجأة تراه ينام أمامك وأنت تصلي ! لكنها الحقيقة ، فهو الآن ينتظر منك أن تسأل الله له الرحمة ، دون أن يقول لك كعادته : نسألكم الدعاء ؛ فموته يعبر عما في قرارة نفسه ؛ ولذلك يجتهد المصلون ، دون استثناء ، في الترحم عليه ، وكأنهم شعروا بحاجة فقيدهم الماسة لدعائهم في هذه اللحظة الحرجة ، فاعتلت الأصوات من تلك الحناجر ، والنابعة من صميم تلك القلوب الصادقة : ((اللهم إنا لا نعلم من ظاهره إلا خيراً ، اللهم فارحمه واغفر له ، فقد نزل بك وأنت خير منزول به )) .
صلى المصلون على فقيدهم صلاة لا ركوع ولا سجود لها ، وفور انتهائهم منها ، أعلنها أهله صرخة مدوية ، مفادها : رحم الله من حمل الجنازة . وكأنها دعوة إلى التعجيل بالرحيل .
نعم ، ذلك الذي كنا لا نريد مفارقته يوماً ، بل كنا نسعد بملاطفته ومداعباته ، والحديث معه ، وكنا نحزن إذا ما تغيب عنا لحظة ، أصبحنا نطالب المشيعين بالتعجيل بحمله بعيداً عنا ؛ لكي نرى مصالحنا ، بعد التشييع .
لذلك تسارعت الخطى ، قاطعة الطريق إلى حيث المحطة الأخيرة لمسافرنا ، إلى أن وصل الموكب إلى قرية الغرباء ، (( ليس الغريب غريب الشام و اليمن # إن الغريب غريب اللحد و الكفن )) .
دخل المشيعون ، حاملين فقيدهم على الأعناق ، في ظل سكون تام ، وهدوء يخيم على المكان ، هدوء ، وصمت يعبران عن نوعية ساكنيه ؛ فهم يجتمعون ويتحادثون ، كما يشير مولانا وأميرنا ، أمير المؤمنين (عليه السلام) ، ولكن حديث لا يسمعه إلا من شاء الله له ذلك ؛ لذلك بدا المكان أكثر هدوءاً وسكوناً ، بمجرد رؤية المودعين لماهية البيت الجديد الذي سيكون بديلاً لفقيدهم ، عن بيت الدنيا ، بيت لا توجد فيه سوى غرفة وحيدة ضيقة ، مُدد فيها الراحل وحيداً ، فهي لا تتسع إلا له دون شريك لكي يقضي بقية وقته فيها بهيئة خاصة ، مع (صالة) ، سيجتهد المحبون للفقيد بعد قليل بتغطيتها بذلك الكم الهائل من التراب مخلفين تحته حبيبهم ، دون اكتراث منهم بأنهم يضيقون عليه الخناق ، بسد جميع منافذ دخول الهواء ، الذي بات غير ذي أهمية لمن كان لا يستغني عنه للحظة ، يوماً ما ، صدق أو لا تصدق !
ما هي سوى لحظات قليلة ، بعد إهالة التراب على من كان لا يطيق أن يرى ذرات بسيطة من الغبار على حذائه (أعزكم الله) ، فضلاً عن وجهه وجسده ، لحظات كانت لقراءة الفاتحة المباركة ، كهدية له لتعينه على أول أوقات الفراق ، بعدها تفرق الجمع ، غير مكترثين بما سيعانيه حبيبهم . مصير لا يحسد عليه صاحبه ، ولكنه سيبقى رهين عمله ، فهو الآن مصداق للقول المأثور : (( ... ، وغداً حساب ولا عمل )) ، ولعله الآن يطالب بقوله ((ربِّ ارجعون ؛ لعلي أعمل صالحاً فيما تركت)) فيأتيه الجواب : ((كلا إنها كلمة هو قائلها ، ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون)) ، أما نحن ، المنتظرون لدورنا في الشرب من نفس الكأس ، فإننا نمتلك إمكانية تحقيق الرجوع ثانية لمراجعة حساباتنا ، قبل معايشة ذات الموقف الذي آل إليه فقيدنا الراحل ، وهذه هي الفرصة الوحيدة لبيان مصداق ما سنطالب به بعد قليل (ربِّ ارجعون) .
لعلك تقول في نفسك : كفى مضيعة للوقت ، لابد من تصحيح المسار ، من الآن فصاعداً سيكون عملي استعداداً لتلك الحفرة ، وما بعدها ، لحين بلوغ ذلك اليوم الذي ((تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت ، وتضع كل ذات حمل حملها ، وترى الناس سكارى ، وما هم بسكارى ، ولكن عذاب الله شديد)) ، هذا هو الشعور الذي يراود كل من شيع وأهال التراب لأول وهلة بعد دخول المقبرة ، ولكن ، وبمجرد أن تطأ أقدامنا الأرض ، خارج سور المقبرة ، ويمتد بصرنا إلى ذلك الفضاء الرحب الواسع ، الذي كان ضيقاً في نظرنا ، ونحن نعيش فترة التشييع ، إذا بنا نبتعد شيئاً فشيئاً عن قوله تعالى : ((ربِّ ارجعون ...)) ؛ فبكل خطوة نخطوها نحو القرية ، ونحو ما نأمله فيها من ملذات الحياة وملهياتها ، يزداد حب الدنيا في نظرنا ، وفي المقابل ، نتناسى شيئاً يسمى الموت ، وكأنه قد كتب على غيرنا ولم يكتب علينا ، وكأن من شاركنا في تشييعه قبل قليل لم يكن من عالمنا ، لدرجة أننا أصبحنا نشعر بأننا قد شربنا ماء الخلود في الدنيا ، فلن تشملنا زيارة (عزرائيل) ، كما شملت غيرنا من قبل ، وكما ستشمل غيرنا من بعد ، متناسين بالمقابل قوله تعالى : ((إنك ميت ، وإنهم ميتون)) ، وفي الوقت الذي كان يجب علينا فيه أن نحترز ونحترس من الدنيا ومغرياتها ، نجد أنفسنا أكثر انغماساً في زبرجها وزخرفها ، مما يؤكد بأننا مصداق لقوله تعالى : ((... كلا إنها كلمة هو قائلها)) ، مهما كثرت فرص التوبة ، التي يمنحنا إياها ربنا ، جلّ وعلا ، وتعددت ، فمتى سنتعظ يا ترى ؟؟؟!!! .
هنالك ، فقط ، قد تتأمل في الدقائق السابقة لسماع القرآن الكريم ، وتحاول مقارنتها بالوضع بعد التشرف بسماعه ، عندها تستشعر بأن حالاً كهذا لا يستحق أن نتكالب فيه على مغريات الدنيا ، فربما وافت المنية أحدنا (حفظكم الله جميعاً) ، وهو يسعى في غضب ربه ، فما أشقاها من لحظة يختتم بها حياته بعاقبة سيئة .
ساعتها ، لا تملك سوى أن تلوح برأسك يمنة ويسرة ، وتسترجع ، على أمل أن تبقى هذه الحالة مصاحبة لك طيلة عمرك ، بعد أن تيقنت بأن الدنيا ما هي سوى ظل شجرة تستظل تحتها لحظات ، ثم تتركها ، وترحل إلى مكان آخر .
في الوقت ذاته ، وإذا ما قررت ، بعد ذلك ، أن تتجه إلى حيث يرقد ذلك الجسد الهامد ؛ لتتعرف على بداية الرحلة البرزخية ، التي ينوي عزيزنا الانطلاق فيها ، فإنك حتماً ستتجه إلى خط الانطلاقة ، وأعني هنا مكان تغسيل الأموات (المغيسل) ؛ لترى بعينيك تلك الفوارق الشاسعة بين من كان ، ومن سيكون ، وإليك بداية النهاية ، أو بالأحرى ، بداية البداية .
بمجرد أن تدخل جو تغسيل عزيزنا ، وتجهيزه ، ترى ذلك المتعفف الذي كان يستحي أن يمد رجليه أمام الحضور ، تراه يتمدد بينهم دون حراك ؛ مما يترك الحرية للحضور للقيام بخلع ملابسه ، وهو من كان يتحاشى أن يقابلهم بملابسه الداخلية ، وهذا يجرئهم لتغسيل حتى تلك المواضع الحرجة التي كان يحاول ألا يبديها لأعز الناس و أقربهم منه ، أفلا تكفي عبرة وعظة ؟!
وتزداد العبر والعظات ، المتواصلة في هذا المشوار الفريد من نوعه لفقيدنا الغالي ، فيُحمل الجسد المفارق لحبيبته (الروح) ، التي كانت تحركه يمنة ويسرة ، يُحمل ، من مكان إلى آخر ، دون محاولة من صاحبه لمنع من يحمله ؛ مما يجعلك تتفكر في ذلك الشموخ ، وتلك الغطرسة التي كانت تنتابه في حياته ، وسرعان ما تتبخر بمجرد خروج روحه ، فكأنّ شيئاً لم يكن .
غُسِّل صاحبنا ، والآن يتم وضعه في ثلاث قطعات من القماش الأبيض اللون ؛ مما يجعلك تتأمل طويلاً في تلك النوعية الجيدة من الخام التي كان فقيدنا يحرص على امتلاكها في حياته ، لكي يتباهى بها في حله وترحاله ، فإذا به يقنع مجبراً بهذه القطع الثلاث فقط ليتخذها لباساً يودع من خلالها ذلك الكم الهائل من الملابس التي امتلأت بها أدراج خزانته ، والتي ودعها بما فيها ، وذهب وهو لا يعلم ما سيؤول إليه مصيرها بعده ، مع ما كان يشبعها من روائح عطرية مختلفة ، كان يسعى بأن يبذل ما لا يحصى من المبالغ لاقتنائها ؛ مما يشعرك بشيء من الأسى عندما تجده يرحل معطراً برائحة الكافور فقط ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
تتواصل الأحداث ، فيُدرج الراحل في كفنه ، بعد أن ألقى عليه أهله وأقاربه نظرتهم الأخيرة ، وهم في ذهول تام ، هل هي النظرة الأخيرة حقاً ؟! إذن كيف سنقضي ذلك الوقت الذي اعتدنا أن نقضيه معه ؟! أما أنت فقد تطرح سؤالاً آخر مضمونه ، كيف سيقضي الفقيد بقية الوقت ، بعد الآن ؟! من الذي سيخفف عنه أعباء الهموم والأكدار ؟ من الذي سيتجاذب معه أطراف الحديث في محطته القادمة ؟!
تساؤلات ، قد تقترب من الإجابة عليها ، ولكنك تفاجأ بحمل سرير فقيدنا ، الذي كان يوماً ما يحمله مع من يحملون ، عندها تتوالى في الذهن تساؤلات أخرى ، قد تشتت ذهنك ؛ فتؤجل كل تلك التساؤلات لتستحضر بيت الشعر المعروف : وإذا رأيت جنازة محمولة فاعلم بأنك مثلها محمول
ولعله في الوقت ذاته يعنّ سؤال آخر أيضاً ، فحواه : يا ترى من الذي سيُحمل من هؤلاء الحاملين في المرة القادمة ؟ لعلك تكون صاحب الدور (أطال الله أعماركم في خير وعافية) ، ولعله شخص آخر ؛ مما يشعرك حقيقة بأن الدنيا مليئة بالعبر والعظات ، ولكن أين هم المتعظون ؟!
كيف لا نتعظ ، وكل ذلك الحشد ، تقريباً ، توجهوا ، وبشكل جماعي ، نحو القبلة ، ولكن ، لماذا يا ترى ؟ لم نسمع أذاناً لصلاة من الصلوات الخمس ! نعم الأذان هذه المرة كان بطريقة أخرى ، هذه صلاة وداعية ، أذانها موت المُصلّى عليه ، على إثرها تشاهد موقفاً لم تكن تحلم به طيلة حياتك ؛ فذلك الذي كنت تراه واقفاً يصلي في صف الجماعة ، على يمينك ، أو على يسارك ، أو أمامك ، أو خلفك ، فجأة تراه ينام أمامك وأنت تصلي ! لكنها الحقيقة ، فهو الآن ينتظر منك أن تسأل الله له الرحمة ، دون أن يقول لك كعادته : نسألكم الدعاء ؛ فموته يعبر عما في قرارة نفسه ؛ ولذلك يجتهد المصلون ، دون استثناء ، في الترحم عليه ، وكأنهم شعروا بحاجة فقيدهم الماسة لدعائهم في هذه اللحظة الحرجة ، فاعتلت الأصوات من تلك الحناجر ، والنابعة من صميم تلك القلوب الصادقة : ((اللهم إنا لا نعلم من ظاهره إلا خيراً ، اللهم فارحمه واغفر له ، فقد نزل بك وأنت خير منزول به )) .
صلى المصلون على فقيدهم صلاة لا ركوع ولا سجود لها ، وفور انتهائهم منها ، أعلنها أهله صرخة مدوية ، مفادها : رحم الله من حمل الجنازة . وكأنها دعوة إلى التعجيل بالرحيل .
نعم ، ذلك الذي كنا لا نريد مفارقته يوماً ، بل كنا نسعد بملاطفته ومداعباته ، والحديث معه ، وكنا نحزن إذا ما تغيب عنا لحظة ، أصبحنا نطالب المشيعين بالتعجيل بحمله بعيداً عنا ؛ لكي نرى مصالحنا ، بعد التشييع .
لذلك تسارعت الخطى ، قاطعة الطريق إلى حيث المحطة الأخيرة لمسافرنا ، إلى أن وصل الموكب إلى قرية الغرباء ، (( ليس الغريب غريب الشام و اليمن # إن الغريب غريب اللحد و الكفن )) .
دخل المشيعون ، حاملين فقيدهم على الأعناق ، في ظل سكون تام ، وهدوء يخيم على المكان ، هدوء ، وصمت يعبران عن نوعية ساكنيه ؛ فهم يجتمعون ويتحادثون ، كما يشير مولانا وأميرنا ، أمير المؤمنين (عليه السلام) ، ولكن حديث لا يسمعه إلا من شاء الله له ذلك ؛ لذلك بدا المكان أكثر هدوءاً وسكوناً ، بمجرد رؤية المودعين لماهية البيت الجديد الذي سيكون بديلاً لفقيدهم ، عن بيت الدنيا ، بيت لا توجد فيه سوى غرفة وحيدة ضيقة ، مُدد فيها الراحل وحيداً ، فهي لا تتسع إلا له دون شريك لكي يقضي بقية وقته فيها بهيئة خاصة ، مع (صالة) ، سيجتهد المحبون للفقيد بعد قليل بتغطيتها بذلك الكم الهائل من التراب مخلفين تحته حبيبهم ، دون اكتراث منهم بأنهم يضيقون عليه الخناق ، بسد جميع منافذ دخول الهواء ، الذي بات غير ذي أهمية لمن كان لا يستغني عنه للحظة ، يوماً ما ، صدق أو لا تصدق !
ما هي سوى لحظات قليلة ، بعد إهالة التراب على من كان لا يطيق أن يرى ذرات بسيطة من الغبار على حذائه (أعزكم الله) ، فضلاً عن وجهه وجسده ، لحظات كانت لقراءة الفاتحة المباركة ، كهدية له لتعينه على أول أوقات الفراق ، بعدها تفرق الجمع ، غير مكترثين بما سيعانيه حبيبهم . مصير لا يحسد عليه صاحبه ، ولكنه سيبقى رهين عمله ، فهو الآن مصداق للقول المأثور : (( ... ، وغداً حساب ولا عمل )) ، ولعله الآن يطالب بقوله ((ربِّ ارجعون ؛ لعلي أعمل صالحاً فيما تركت)) فيأتيه الجواب : ((كلا إنها كلمة هو قائلها ، ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون)) ، أما نحن ، المنتظرون لدورنا في الشرب من نفس الكأس ، فإننا نمتلك إمكانية تحقيق الرجوع ثانية لمراجعة حساباتنا ، قبل معايشة ذات الموقف الذي آل إليه فقيدنا الراحل ، وهذه هي الفرصة الوحيدة لبيان مصداق ما سنطالب به بعد قليل (ربِّ ارجعون) .
لعلك تقول في نفسك : كفى مضيعة للوقت ، لابد من تصحيح المسار ، من الآن فصاعداً سيكون عملي استعداداً لتلك الحفرة ، وما بعدها ، لحين بلوغ ذلك اليوم الذي ((تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت ، وتضع كل ذات حمل حملها ، وترى الناس سكارى ، وما هم بسكارى ، ولكن عذاب الله شديد)) ، هذا هو الشعور الذي يراود كل من شيع وأهال التراب لأول وهلة بعد دخول المقبرة ، ولكن ، وبمجرد أن تطأ أقدامنا الأرض ، خارج سور المقبرة ، ويمتد بصرنا إلى ذلك الفضاء الرحب الواسع ، الذي كان ضيقاً في نظرنا ، ونحن نعيش فترة التشييع ، إذا بنا نبتعد شيئاً فشيئاً عن قوله تعالى : ((ربِّ ارجعون ...)) ؛ فبكل خطوة نخطوها نحو القرية ، ونحو ما نأمله فيها من ملذات الحياة وملهياتها ، يزداد حب الدنيا في نظرنا ، وفي المقابل ، نتناسى شيئاً يسمى الموت ، وكأنه قد كتب على غيرنا ولم يكتب علينا ، وكأن من شاركنا في تشييعه قبل قليل لم يكن من عالمنا ، لدرجة أننا أصبحنا نشعر بأننا قد شربنا ماء الخلود في الدنيا ، فلن تشملنا زيارة (عزرائيل) ، كما شملت غيرنا من قبل ، وكما ستشمل غيرنا من بعد ، متناسين بالمقابل قوله تعالى : ((إنك ميت ، وإنهم ميتون)) ، وفي الوقت الذي كان يجب علينا فيه أن نحترز ونحترس من الدنيا ومغرياتها ، نجد أنفسنا أكثر انغماساً في زبرجها وزخرفها ، مما يؤكد بأننا مصداق لقوله تعالى : ((... كلا إنها كلمة هو قائلها)) ، مهما كثرت فرص التوبة ، التي يمنحنا إياها ربنا ، جلّ وعلا ، وتعددت ، فمتى سنتعظ يا ترى ؟؟؟!!! .
(( إنا لله و إنا إليه راجعون ))
تعليق