إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

مواعظ من نهج البلاغة

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #11
    الدرس الحادي عشر: معرفة القرآن الكريم
    عن أمير المؤمنين عليه السلام:"وَخَلَّفَ فِيكُمْ مَا خَلَّفَتِ الْأَنْبِيَاءُ فِي أُمَمِهَا ـ إِذْ لَمْ يَتْرُكُوهُمْ هَمَلًا بِغَيْرِ طَرِيقٍ وَاضِحٍ وَ لَا عَلَمٍ قَائِمٍ ـ كِتَابَ رَبِّكُمْ فِيكُمْ مُبَيِّناً حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ....".

    نهج البلاغة، الخطبة 1.


    111
    فضل القرآن وعظمته

    لقد أرسل الله تعالى الأنبياء لهداية البشرية إلى سواء السبيل، وأنزل على بعضهم كتباً لتكون منارات يستهدي بها الناس، ولكن للأسف حرّف الناس كتب الله تعالى كما في التوراة والإنجيل، وبذلك انحرفوا عن الصراط المستقيم ووقعوا في ضلال مبين.

    إلى أن أرسل الله تعالى نبيّه الكريم محمّداً صلى الله عليه واله وسلم ليرجع الناس إلى طريق الله، ويزيلهم عن الانحراف، وينير لهم الطريق، فأنزل على قلبه الكتاب الكريم القرآن المجيد وحفظه تعالى من التحريف:
    ï´؟إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَï´¾1.

    فكان الهادي والمبين والموعظة والمنير لطريق السالكين إلى الله تعالى،فهو الكتاب السماويّ الوحيد الذي لم تمسّه يد التحريف. يقول تعالى:
    ï´؟إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُï´¾2.

    ï´؟كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى

    113

    صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِï´¾3.

    ï´؟هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَï´¾4.

    وحسب القرآن عظمة وكفاه منزلة وفخراً وفضلاً أنّه كلام الله العظيم، ومعجزة نبيّه الكريم، وأنّ آياته هي المتكفّلة بهداية البشر في جميع شؤونهم وأطوارهم وفي جميع أجيالهم وأدوارهم، وهي الضمينة لهم بنيل الغاية القصوى والسعادة الكبرى في العاجل والآجل.

    هو كلام الله و"فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه"5.

    هو وصيّة الرسول صلى الله عليه واله وسلم الأولى والثقل الأكبر الذي خلّفه قائلاً: "إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن تضلّوا ما إن تمسّكتم بهما، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا علَيَّ الحوض"6.

    يصف الإمام عليّ عليه السلام كتاب الله ويبيّن منزلته حين يقول: "ثمّ أنزل عليه الكتابَ نوراً لا تُطفأ مصابيحُه، وسراجاً لا يخبو توقُّدُه، وبحراً لا يدركُ قعرُه، ومنهاجاً لا يُضِلّ نهجُه، وشعاعاً لا يُظِلم ضوؤه، وفرقاناً لا يخمدُ بُرهانُه، وتبياناً لا تهدم أركانه، وشفاءً لا تُخشى أسقامُه، وعزاً لا تُهزَم أنصارُه، وحقّاً لا تُخذَلُ أعوانُه.

    فهو معدِن الإيمان وبحبوحته، وينابيع العلم وبحوره، ورياض العدل وغدرانه، وأثافيّ الإسلام وبنيانه، وأودية الحقّ وغيطانه، وبحرٌ لا ينَزْفَه المستنزفون، وعيون لا ينضبها الماتحون، ومناهل لا يغيضها الواردون، ومنازل لا يضلّ نهجَها المسافرون، وأعلامٌ لا يعمى عنها السائرون، وآكامٌ لا يجوز عنها القاصدون.


    114

    جعله الله ريّاً لعطش العلماء، وربيعاً لقلوب الفقهاء، ومحاجّ‏َ لطرق الصلحاء، ودواءً ليس بعده داء ونوراً ليس معه ظلمة، وحبلاً وثيقاً عروته، ومعقلاً منيعاً ذروته، وعزاً لمن تولّاه، وسلماً لمن دخله، وهدىً لمن ائتمّ به، وعذراً لمن انتحله، وبرهاناً لمن تكلّم به، وشاهداً لمن خاصم به، وفلجاً لمن حاجّ به، وحاملاً لمن حمله، ومطيّة لمن أعمله، وآيةً لمن توسّم، وجُنّة لمن استلأم، وعِلماً لمن وعى، وحديثاً لمن روى وحكماً لمن قضى"7.

    اعتراف المفكّرين بعظمة القرآن

    وقد اعترف بعظمة القرآن وفضله المنصفون من الملل الأخرى، يقول ول ديورانت: "وقد ظلّ‏َ (القرآن) أربعة عشر قرناً من الزمان محفوظاً في ذاكرتهم (المسلمين)، يستثير خيالهم، ويشكِّل أخلاقهم، ويشحذ قرائح مئات الملايين من الرجال. والقرآن يبعث في النفوس... أسهل العقائد، وأبعدها عن التقيّد بالمراسم والطقوس، وأكثرها تحرّراً من الوثنية والكهنوتية. وقد كان له أكبر الفضل في رفع مستوى المسلمين الأخلاقيّ والثقافيّ، وهو الذي أقام فيهم قواعد النظام الاجتماعيّ والوحدة الاجتماعية، وحضّهم على اتّباع القواعد الصحية، وحرّر عقولهم من كثير من الخرافات والأوهام، ومن الظلم والقسوة، وحسن أحوال الأرقّاء، وبعث في نفوس الأذلّاء الكرامة والعزة، وأوجد بين المسلمين (إذا استثنينا ما كان يقترفه بعض الخلفاء المتأخرين) درجة من الاعتدال والبعد عن الشهوات لم يوجد لها نظير في أيّة بقعة من بقاع العالم يسكنها الرجل الأبيض..."8.


    115

    هذه شهادة - من شهادات كثيرة - للقرآن الكريم من أحد الغربيين، وهو مؤرّخ كبير معروف، أليس في شهادته دلالة على فضل القرآن وعظمته؟
    أليس في شهادته وشهادة أمثاله، دلالة على مدى تأثير القرآن وفاعليته وهدايته للبشرية؟

    العمل بالقرآن

    ولأجل ما يحمل القرآن الكريم من فضل وعظمة وأهميّة كان وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام: "فالله الله أيّها النّاس، فيما استحفظكم من كتابه، و استودعكم من حقوقه.. وأنزل عليكم الكتاب تبياناً لكلّ شيء، وعمّر فيكم نبيّه أزماناً، حتّى أكمل له ولكم فيما أنزل من كتابه دينه الّذي رضي لنفسه، وأنهى إليكم على لسانه محابّه من الأعمال ومكارهه، ونواهيه وأوامره، وألقى إليكم المعذرة، واتّخذ عليكم الحجّة، وقدّم إليكم بالوعيد، وأنذركم بين يدي عذاب شديد"9.
    والوصية بالقرآن تعني العمل به وإلّا ما فائدة أن نقرأ القرآن لقلقة لسان، كما أنّه لا فائدة لوصفة الطبيب دون أن نعمل بها.
    ومن هنا يوصي الإمام عليّ عليه السلام بالعمل بالقرآن: "والله الله في القرآن، لا يسبقكم بالعمل به غيركم"10.
    فهل نستفيد من القرآن الكريم إن زيّنّاه وألبسناه ذهباً وعلّقناه في المنزل؟!
    هل نعطي للقرآن حقّه إن نسيناه في زوايا البيوت وعلاه الغبار؟!

    هل إن تعلّمنا رسوم التجويد وحسّنّا أصواتنا في ترتيله، هل بهذا نؤدّي حقّه؟! نعم إنّ ذلك مطلوب وجيّد ولكن ليس هو الهدف والمبتغى وما لأجله نزل القرآن الكريم.


    116

    هل نستفيد من القرآن المجيد إن تلوناه على الأموات وكان مقروءاً في مناسبات الموت أمّا في مناسبات الحياة فنحن ناسونه ومعرضون عنه؟!
    هل إنْ طبعنا عدداً كبيراً من القرآن المجيد ووزّعناه في مناسبات الموت ثمّ ألقينا به على الرفوف ليعلوه الغبار، هل نكون قد أدّينا واجبنا؟!
    القرآن الكريم جاء للحياة لنحيا به، جاء ليسلك طريقه في الحياة الفردية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وكل مجالات الحياة.

    الإمام عليّ عليه السلام يحذّرنا

    لقد حذّرنا الإمام عليّ عليه السلام من الإعراض عن العمل بالقرآن وأن لا يبلغ ألسنتنا وبذلك ندخل النار: "ومن قرأ القرآن فمات، فدخل النّار، فهو ممّن كان يتّخذ آيات الله هزواً"11.

    ولقد نبّه الإمام عليه السلام إلى أنّه سيبتعد الناس عن القرآن فقال: "يأتي على النّاس زمان، لا يبقى فيهم من القرآن إلاّ رسمه، ومن الإسلام إلاّ اسمه"12.
    اللهمّ إنّا نعوذ بك من أن ندخل النار ونحن نقرأ القرآن.
    اللهمّ أعنّا على تلاوة القرآن والعمل به.

    اللهمّ أعنّا على تعليم أولادنا القرآن الكريم فـ "حقّ الولد على الوالد: أن يحسّن اسمه، و يحسّن أدبه، و يعلّمه القرآن"13.
    اللهمّ أعنّا على أن نتّصف بصفات المتّقين فقد قال عليه السلام يصف المتّقين: "أمّا اللّيل فصافّون أقدامهم، تالين لأجزاء القرآن يرتّلونها ترتيلاً. يحزّنون به أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم. فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها


    117

    طمعاً، وتطلّعت نفوسهم إليها شوقاً، وظنّوا أنّها نصب أعينهم. وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم، وظنّوا أنّ زفير جهنّم وشهيقها في أصول آذانهم"14.

    اللهمّ أعنّا على أن نتّصف بصفات الزاهدين فقد قال عليه السلام في صفة الزاهدين: "أولئك قوم اتّخذوا الأرض بساطاً، و ترابها فراشاً، و ماءها طيباً، و القرآن شعاراً15, والدّعاء دثاراً"16.


    118

    للمطالعة
    أمَّن هو قانت

    خرج أمير المؤمنين عليه السلام ذات ليلة من مسجد الكوفة متوجّهاً إلى داره وقد مضى ربع من الليل ومعه كميل بن زياد وكان من خيار شيعته ومحبّيه، فوصل في الطريق إلى باب رجل يتلو القرآن في ذلك الوقت ويقرأ قوله تعالى:
    ï´؟أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابï´¾17 بصوت شجيّ حزين فاستحسن كميل ذلك في باطنه وأعجبه حال الرجل من غير أن يقول شيئاً، فالتفت صلوات الله عليه وآله إليه وقال: يا كميل لا تعجبك طنطة الرجل إنّه من أهل النار وسأنبئك فيما بعد!

    فتحيّر كميل لمكاشفته إيّاه على ما في باطنه ولشهادته بدخول النار مع كونه في هذا الأمر وتلك الحالة الحسنة ومضت مدّة متطاولة إلى أن آل حال الخوارج إلى ما آل وقاتلهم أميرالمؤمنين عليه السلام وكانوا يحفظون القرآن كما أنزل فالتفت أمير المؤمنين عليه السلام إلى كميل بن زياد وهو واقف بين يديه والسيف في يده يقطر دماً ورؤوس أُولئك الكفرة الفجرة محلّقة على الأرض فوضع رأس السيف على رأس من تلك الرؤوس وقال:يا كميل
    ï´؟أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًاï´¾ أي هو ذلك الشخص الّذي كان يقرأ القرآن في تلك الليلة فأعجبك حاله، فقبّل كميل قدميه واستغفر الله وصلّى على مجهول القدر18.

    وجاء في نهج البلاغة أيضاً أنّ أمير المؤمنين عليه السلام سمع رجلاً من الحرورية (الخوارج) يتهجّد ويقرأ فقال عليه السلام: "نَوْمٌ عَلَى يَقِين خَيْرٌ مِنْ صَلاَة فِي شَكّ"19.

    وقد تكون مقولته هذه مرتبطة بهذا الشخص.
    هوامش
    1-الحجر: 9.

    2-الإسراء: 9.

    3-إبراهيم: 1.

    4-آل عمران: 138.

    5-بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 6، ص 89.

    6-الحديث متواتر رواه خمسة وثلاثون صحابياً (راجع مصادره في خلاصة عبقات الأنوار الجزء الأول والثاني).

    7-نهج البلاغة، الخطبة 198، بحبوحته: وسطه، وأثافيّ: جمع أُثفيّة، وهي ما يوضع عليه القِدْر، فالمراد أنه قواعد الإسلام وبنيانه. غيطانه: المستقر من الأرض. الماتحون: الذين ينزحون الماء من البئر أو العين.

    لا يغيضها: لا ينضبها، غيض الماء: جفّ ونضب. معقلاً: ملجأ، ذروته: أعاليه. فلَجاً: الفلَج هو الظَفَر والغلبة، استلأم: لبس اللأمة أي الدرع، والجُنّة: الوقاية، فهو وقاء لمن أراد أن يدّرع ليقي نفسه الأخطار.

    8-قصة الحضارة، ول ديورانت، مج‏ 1-2، ج‏1، ص‏48، دار الجيل.

    9-نهج البلاغة، الخطبة 86.

    10-م. ن، الخطبة 47.

    11-نهج البلاغة، الحكمة 228.

    12-م. ن، الحكمة 369.

    13-م. ن، الحكمة 399.

    14-نهج البلاغة، الخطبة 191.

    15-الشعار: ما يلي البدن من الثياب، أي يقرؤون القرآن سرّا للتفكر والاتّعاظ.

    16-نهج البلاغة، الحكمة 104.

    17-الزمر: 9.

    18-بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج33، ص 399.

    19-نهج البلاغة، الحكمة 97.


    يتبع

    تعليق


    • #12
      الدرس الثاني عشر: محبّة أهل البيت عليهم السلام
      من خطبة له عليه السلام لمّا أظفره الله بأصحاب الجمل وقد قال له بعض أصحابه: وددت أنّ أخي فلاناً كان شاهدنا ليرى ما نصرك الله به على أعدائك.
      فقال له عليه السلام: "أهوى أخيك معنا؟ فقال نعم، قال: فقد شهدنا. ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال وأرحام النساء، سيرعف بهم الزمان ويقوى بهم الإيمان".

      نهج البلاغة، الخطبة 12.


      121
      تمهيد

      قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه:
      ï´؟ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورï´¾1.

      أجمع أهل البيت وأولياؤهم على أنّ المقصود في (القربى) هنا إنّما هم: عليّ وفاطمة وأبناؤهما، والمعنى: قل لا أسألكم على أداء الرسالة أجراً إلا أن تودّوا قرابتي وتحفظوني فيهم. وهذا في الحقيقة ليس أجراً له صلى الله عليه واله وسلم، لأنّ قرابته حجج الله البالغة على الخلق، ونعمه السابغة لديهم، فمودّتهم لازمة للخلق، ونفعها عائد عليهم، كما قال في سورة سبأ - وهو أصدق القائلين-:
      ï´؟قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْï´¾2، يعني لا أسألكم على تبليغ الرسالة شيئاً من عرَض الدنيا ليتّهمني المنافقون، وما طلبت منكم أجراً من مودّة قرابتي فإنّما هو لكم.

      وقد روى الزمخشريّ وهو من أعلام المفسّرين السنّة، قال: "أتت الأنصار رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بمال جمعوه وقالوا: يا رسول الله قد هدانا الله بك وأنت ابن أختنا


      123

      وتعروك نوائب وحقوق ومالك سعة فاستعن بهذا على ما ينوبك، فنزلت، وردّه (النبيّ صلى الله عليه واله وسلم وتلاها عليهم)" إلى أن قال (أي الزمخشري): "والظاهر العموم في أيّ حسنة كانت إلا أنّها لما ذكرت عقيب ذكر المودّة في القربى دلّ ذلك على أنّها تناولت المودّة تناولاً أوّليّاً كأنّ سائر الحسنات لها توابع"3.

      وروى ابن حجر الهيثميّ وغيره: عن ابن عبّاس قال: لما نزلت
      ï´؟قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىï´¾ قالوا: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال: "عليّ وفاطمة وابناهما"4.

      وفي الحديث المتواتر عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بلغة للباحث وهداية للطالب وقد ذكره أعلام المسلمين في كتبهم، إذ يقول صلى الله عليه واله وسلم : "من مات على حبّ آل محمّد مات شهيداً، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مغفوراً له.... ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات على السنّة والجماعة، ألا ومن مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله..."5.

      وبعد هذا كلّه يتبيّن لنا أنّ محبّة أهل البيت عليهم السلام ومودّتهم الخالصة هي سبيل النجاة، وسبب الفلاح، ومنطلق الوصول إلى ساحة رضا الله تعالى، وبدونها لا يقبل العمل إذ إنّ سائر الحسنات لها توابع.

      ولنعم ما قيل:

      إذا أنا لم أهوَ النبيّ وآله فمن غيرهم لي في القيامة يشفع
      فلا دين إلا حبّ آل محمّد ولا شيء في يوم القيامة أنفع


      لماذا أمرنا الله سبحانه وتعالى بمحبّتهم عليهم السلام؟
      إنّ الجواب عن هذا السؤال يظهر ممّا روي عن الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام


      124

      حيث روى محمّد بن يعقوب عن عليّ بن محمّد عن إسحاق بن إسماعيل النيسابوري أنّ العالم كتب إليه يعني الحسن بن عليّ العسكريّ: "إنّ الله تعالى بمنّه ورحمته لمّا فرض عليكم الفرائض لم يفرض ذلك عليكم لحاجة منه إليها بل رحمة منه إليكم -لا إله إلا هو- ليميز الخبيث من الطيّب وليبتلي ما في صدوركم وليمحّص ما في قلوبكم ولتتسابقوا إلى رحمته، ولتتفاضل منازلكم في جنّته ففوّض عليكم الحجّ والعمرة وإيقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والولاية وجعل لكم باباً لتفتحوا به أبواب الفرايض، ومفتاحاً إلى سبيله، ولولا محمّد صلى الله عليه واله وسلم والأوصياء من ولده كنتم حيارى كالبهائم لا تعرفون فرضاً من الفرايض، وهل تدخل قرية إلا من بابها؟!

      فلمّا منّ الله عليكم بإقامة الأولياء بعد نبيّكم صلى الله عليه واله وسلم قال الله عزّ وجلّ:
      ï´؟الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًاï´¾ وفرض عليكم لأوليائه حقوقاً فأمركم بأدائها إليهم ليحلّ لكم ما وراء ظهوركم من أزواجكم وأموالكم ومأكلكم ومشربكم ويعرّفكم بذلك البركة والنماء والثروة وليعلم من يطيعه منكم بالغيب، وقال الله تبارك وتعالى: ï´؟قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىï´¾ فاعلموا أنّ من يبخل فإنّما يبخل على نفسه إنّ الله هو الغنيّ وأنتم الفقراء إليه لا إله إلّا هو، فاعملوا من بعد ما شئتم فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ثمّ تردّون إلى عالم الغيب والشهادة فينبّئكم بما كنتم تعملون6 والعاقبة للمتّقين والحمد لله ربّ العالمين"7.

      فمحبّة أهل البيت عليهم السلام واتّباعهم هي امتحان للمؤمنين برسالة النبيّ الأكرم صلى الله عليه واله وسلم بها يميّز الله سبحانه الخبيث من الطيب ويرفع الدرجات ويجعل البركة في الدنيا والآخرة.


      125

      ولنعم ما قال الفرزدق:

      هم معشر حبّهم دين وبغضهم كفر وقربهم منجى ومعتصم
      يستدفع السوء والبلوى بحبّهم ويستربّ به الإحسان والنعم
      مقدّم بعد ذكر الله ذكرهم في كلّ برّ ومختوم به الكلِم


      كيف تكون المحبّة؟
      إنّ المحبّ صنفان فصنف أحبّ بقلبه ولم يظهر ذلك الحبّ بعمله وصنف أحبّ بقلبه وأيّد ذلك بعمله، فأيّ الصنفين يُقصد من محبّة أهل البيت عليهم السلام؟
      نجد الجواب عن هذا السؤال أيضاً في كلام إمامنا الباقر عليه السلام حيث قال لجابر بن عبد الله الأنصاريّ:" يا جابر أيكتفي من ينتحل التشيّع أن يقول بحبّنا أهل البيت؟ فوالله ما شيعتنا إلّا من اتّقى الله وأطاعه؛ وما كانوا يُعرفون يا جابر إلّا بالتواضع والتخشّع والأمانة وكثرة ذكر الله والصوم والصلاة والبرّ بالوالدين والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكفّ الألسن عن الناس إلّا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء.

      قال جابر: فقلت: يا ابن رسول الله ما نعرف اليوم أحداً بهذه الصفة، فقال عليه السلام: يا جابر لا تذهبنّ بك المذاهب حسب الرجل أن يقول: أحبّ عليّاً وأتولّاه ثمّ لا يكون مع ذلك فعّالاً؟ فلو قال: إنّي أحبّ رسول الله فرسول الله صلى الله عليه واله وسلم خير من عليّ عليه السلام ثمّ لا يتّبع سيرته ولا يعمل بسنّته ما نفعه حبّه إياه شيئاً، فاتّقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحبّ العباد إلى الله عزّ وجلّ وأكرمهم عليه أتقاهم وأعملهم بطاعته، يا جابر والله ما يتقرّب إلى الله تبارك وتعالى إلّا بالطاعة وما معنا براءة من النار ولا على الله لأحد من حجّة، من كان لله مطيعاً


      126

      فهو لنا وليّ ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، وما تنال ولايتنا إلّا بالعمل والورع"8.

      إنّ كثيراً من الروايات جاءت دالة على نفس هذا المعنى وفيه تحذير واضح لكلّ من ادّعى محبّة وودّ وولاية أهل البيت ولم يعمل بعملهم، فالأمر الإلهيّ بمودّتهم عليهم السلام لا عن عبث بل المراد منه أنّهم وصلوا إلى هذه الدرجة بطاعتهم لله فكلّ عمل يقدمون عليه لا يمكن أن تشوبه شائبة المعصية، وإلّا فكيف يأمر الله تعالى بمودّة العصاة ومحبّتهم، إنّه سبحانه يأمر بمودّة المطيعين، لأنّ محبّتهم من محبّة عملهم، فإن كنت من أهل هذا الحبّ فعليك بالعمل الموافق له، وإلّا تكون كما قال الفرزدق للإمام الحسين عليه السلام في وصفه لأهل الكوفة: "قلوبهم معك وسيوفهم عليك".

      الاقتداءُ بالإمام عليّ عليه السلام في جميع الأبعاد

      وفي هذا يقول الإمام الخمينيّ : "نُقِل عن أمير المؤمنين عليه السلام شغله بعامَّة المسلمين وفكره بالجائعين، فكان يُعاني شظفَ العَيْش وشدّة الجوع خشية أن يكون أحد في الثغور الإسلاميّة من هو أكثر جوعاً منه.

      ذلك أميرُنا، هو سيِّدنا، إمامُنا، وما أكثر ما نقول عنه: إمامُنا، ولا نقتدي به!

      فليس لنا اقتداء في الأعمال، أهذا هو معنى (الإمام)؟! في حين أنّ معنى الإمام والشيعة هو أن يتقدّمَهم، ويقتفوا أثره(فلو كان هناك جنازة فيها نعش ومن يريد تشييع صاحب النعش يمشي في طريق غير طريقه أكان يسمّى مشيّعاً؟!).

      هكذا يجب أن يكون الشيعة؛ أن يتّبعوا علياً- عليه السلام -(في أعماله وأفعاله) ولا قدرة لنا طبعاً أن نكون مثلَه( يعني أن نصل إلى مقامه ومنزلته). لا أحد يمتلك هذه القدرة، لكن(بالإمكان أن) نتّبعه في الزهد والتقوى والانتصار للمظلومين ومساعدة الفقراء
      "9.


      127

      ومن خطبة للإمام عليّ عليه السلام: "ألا وإنّ لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه، ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطِمريه (الثوب الخلق)، ومن طعمه بقرصيه. ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفّة وسداد"10.

      أهوى أخيك معنا؟
      فمن كان يمتلك هذه الخصائص ولديه هذا الحبّ فهو ممّن ذكره أمير المؤمنين عليه السلام في معركة الجمل إذ سأله بعض أصحابه فقال: وددت أنّ أخي فلاناً كان شاهدنا ليرى ما نصرك الله به على أعدائك.

      فقال له عليه السلام: "أهوى أخيك معنا؟ فقال نعم، قال: "فقد شهدنا. ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال وأرحام النساء، سيرعف بهم الزمان ويقوى بهم الإيمان"11.

      إنّ الجواب من الإمام عليه السلام فيه أمل المحبّ ومنية المريد إذ معناه أنّ من كان يحبّنا ويميل بقلبه إلينا فهو معنا ومشارك فيما صنعنا وشريك في أجرنا حتّى إن لم يكن معنا في مكاننا وزماننا.
      ونحن نلاحظ تأكيد الإمام عليه السلام على الهوى، فإنّ من كان قلبه معه فهو مشارك في هذا المشهد، إذ لا فرق بين حاضر وغائب، ولا بين زمان ومكان، وقد أنبأ الإمام أنّه سيأتي رجال يرعف ويجود بهم الزمان بعد حين، تكون قلوبهم معنا، يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا، وهؤلاء كأنّما هم حاضرون معنا في معركتنا هذه...

      فالهوى هنا هوى من لو أدرك أمير المؤمنين عليه السلام لكان معه في جنده وحارب بين يديه وبين يدي رسول الله صلى الله عليه واله وسلم في معارك بدر وأحد وخيبر والأحزاب، بل كان


      128

      ممّن نصر الإمام الحسين عليه السلام بكربلاء ووقاه بنفسه الحتوف وحدّ السيوف.

      نقول في زيارته عليه السلام: "لبّيك داعي الله، إن كان لم يجبك بدني فقد أجابك قلبي وشعري وبشري ورأيي وهواي"12.


      129

      للمطالعة
      عاشق الإمام عليّ عليه السلام مع أحد الحاقدين

      قال الأصبغ بن نباتة: كنت جالساً عند أمير المؤمنين عليه السلام وهو يقضي بين الناس، إذ أقبل جماعة ومعهم أسود مشدود الأكتاف، فقالوا: هذا سارق يا أميرالمؤمنين، فقال عليه السلام: يا أسود أسرقت؟
      قال: نعم يا مولاي.
      قال: ويلك، أُنظر ماذا تقول. أسرقت؟ قال: نعم.
      فقال له: ثكلتك أُمّك إن قلتها ثانية قطعت يدك، أسرقت؟

      قال: نعم، فعند ذلك قال عليه السلام: اقطعوا يده، فقد وجب عليه القطع، قال: فقطعت يمينه، فأخذها بشماله وهي تقطر، فاستقبله رجل يقال له ابن الكوّاء فقال له: يا أسود مَنْ قطع يمينك؟
      قال له: قطع يميني سيّد الوصيّين، وقائد الغرّ المحجّلين، وأولى الناس باليقين... خاتم الأوصياء لصفوة الأنبياء، القسور الهمام، والبطل الضرغام، المؤيّد بجبرئيل، والمنصور بميكائيل المبين، فرض ربّ العالمين، المطفي نيران الموقدين، وخير من نشأ من قريش أجمعين، المحفوف بجند من السماء، أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام على رغم أنف الراغمين، ومولى الخلق أجمعين.
      قال: فعند ذلك قال له ابن الكوّاء: ويلك يا أسود، قطع يمينك وأنت تثني عليه هذا الثناء كلّه؟ قال: وما لي لا أثني عليه وقد خالط حبّه لحمي ودمي؟ والله ما قطع يميني إلاّ بحقّ أوجبه الله تعالى عليَّ.
      قال ابن الكوّاء: فدخلت إلى أميرالمؤمنين عليه السلام وقلت له: يا سيّدي رأيت عجباً.
      فقال: وما رأيت؟

      قلت: صادفت الأسود وقد قطعت يمينه، وقد أخذها بشماله، وهي تقطر دماً، فقلت: يا أسود مَنْ قطع يمينك؟
      فقال: سيّدي أمير المؤمنين، فأعدت عليه القول وقلت له: ويحك قطع يمينك، وأنت تثني عليه هذا الثناء كلّه؟ فقال: ما لي لا أثني عليه وقد خالط حبّه لحمي ودمي، والله ما قطعها إلاّ بحقّ أوجبه الله تعالى، فالتفت أمير المؤمنين عليه السلام إلى ولده الحسن وقال له: قم وهات عمّك الأسود.
      قال: فخرج الحسن عليه السلام في طلبه فوجده في موضع يقال له: كندة، فأتى به إلى أمير المؤمنين، فقال: يا أسود، قطعت يمينك وأنت تثني عليَّ؟
      فقال: يا مولاي يا أمير المؤمنين، وما لي لا أثني عليك وقد خالط حبّك لحمي ودمي؟ فوالله ما قطعتها إلاّ بحقّ كان عليَّ ممّا ينجي من عذاب الآخرة.
      فقال عليه السلام: هات يدك، فناوله إيّاها، فأخذها ووضعها في الموضع الّذي قطعت منه، ثمّ غطّاها بردائه، وقام فصلّى عليه السلام ودعا بدعوات لم تردّ، وسمعناه يقول في آخر دعائه: آمين، ثمّ شال الرداء وقال: اتّصلي أيّتها العروق كما كنت.
      قال: فقام الأسود وهو يقول: آمنت بالله وبمحمّد رسوله وبعليّ الّذي ردّ اليد بعد القطع، وتخليتها من الزند، ثمّ انكبّ على قدميه وقال: بأبي أنت وأُمّي يا وارث علم النبوّة13.

      وهذه القصّة تؤكّد قوله عليه السلام: لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني، ولو صببت الدنيا بجماتها على المنافق على أن يحبني ما أحبني. وذلك أ نّه قضى فانقضى على لسان النبيّ الاُمي صلى الله عليه واله وسلم أ نّه قال: "يا عليّ لا يبغضك مؤمن ولا يحبّك منافق"14.

      تعليق


      • #13
        بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
        الشكر موصول لكم اخي الفاضل على انتقائكم من درر بحر نهج البلاغة الذي لاينضب ...وما اروعها من مواعظ وما اعظمه من واعظ ..سلام الله تعالى وصلواته ما بقي الليل والنهار
        مَوالِىَّ لا اُحْصى ثَنائَكُمْ وَلا اَبْلُغُ مِنَ الْمَدْحِ كُنْهَكُمْ وَمِنَ الْوَصْفِ قَدْرَكُمْ

        تعليق

        المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
        حفظ-تلقائي
        Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
        x
        يعمل...
        X