إنّ من أبرز مقوّمات النجاح الإعلامي في شخصية السيّدة زينب (عليها السلام)، هي:
أـ إيمان العقيلة زينب وثقتها برسالتها
تميّزت العقيلة زينب (سلام الله عليها) بمميّزات شخصية وعناصر نفسية، قد مكّنتها من القيام بدورها الرسالي في إعلام الناس بحقيقة الموقف وماهية الواقعة بنجاح، واللافت في الأمر أنّ هذه العناصر والمميّزات والنجاح المبهر الذي حققته في مجال الإعلام والتأثير على الرأي العام، كانت من قَبيل العلوم الفطرية والمَلَكات للعقيلة (سلام الله عليها)، فلم تحضـر دروساً في الإعلام، ولم تتلقَ أُصولاً إعلامية من مدرسة أو جامعة أبداً، كما أنّ العقيلة زينب (سلام الله عليها) من أكثر الناس علماً ومعرفة بأخيها الإمام الحسين (عليه السلام) وبأهداف نهضته، وأشدّهم اطلاعاً على خطورة موقفه، فهي تعلم أنّه قد خُيّر بين أن يحافظ على استقامة دين جدّه ويُقتل وتسبى حريمه، وبين أن يبقى على قيد الحياة مقابل التنازل عن قيمه ومبادئه؛ لذا فالعقيلة زينب (سلام الله عليها) على ثقة ويقين تامّين بسمو الهدف الذي تخرج برفقة أخيها من أجله؛ وهذا هو سبب صبرها وصمودها ونجاحها في تغيير المناخ الإعلامي الذي كان سائداً منذ سنوات.
فعلم المصدر القائم على عملية الاتصال وثقته بقضيته يُعدَّان من الأُمور الأساسية في نجاح العملية الإعلامية ([68]).
فكلّ الشواهد التاريخية تُشير إلى أنّ شخصية العقيلة زينب (سلام الله عليها) كانت تتمتع بصلابة وقوة، ورباطة جأش، يفتقر لها حتى الرجال، فمَن يكون في موقف العقيلة زينب (سلام الله عليها)، وهي لم تزل مفجوعة بأعزّ الناس على قلبها، إمامها وسيّدها وأخيها الإمام الحسين (عليه السلام)، ومصابها بمقتل ولديها ورؤيتهم مقطّعين على الرمضاء، فلو كان أيّ شخص آخر غيرها لما أمكنه أن يقف تلك الوقفة الشامخة التي وقفتها في مجلس ابن زياد؛ إذ أخذ ينكأ الجراح ويُمعن في إيذائها (سلام الله عليها) بتهكماته، وهو يسألها كيف رأيت صنع الله بأخيك؟ فأجابته بجواب العارف بالله الذائب في حبّ الله: «ما رأيت إلّا جميلاً» ([69]).
فهي العالمة بالفطرة، والفهمة التي لم تتلقَّ التفهيم والتعليم من خلال دروس ومعلّمين؛ بشهادة حجة الله في أرضه وإمام المسلمين الإمام زين العابدين (عليه السلام)، عندما قال لها بعدما خطبت في أهل الكوفة: «يا عمّة، اسكتي ففي الباقي من الماضي اعتبار، وأنت بحمد الله عالمة غير معلَّمَة، وفهمة غير مفهَّمة» ([70]).
ب ـ كمال العقيلة زينب (سلام الله عليها) وجلالة قدرها
واللافت في دورها (سلام الله عليها) في المجال الإعلامي في واقعة عاشوراء، هو تماسكها وإصرارها على هيبتها وسؤددها، واحتفاظها بكرامتها وجلالة قدرها، بالرغم من أنّها تقف في موقف تعجز الجبال عن التماسك أمامه، وبالرغم من أنّها أدّت دوراً يعجز القلم عن وصفه، وقاومت مقاومة الأبطال،، وكانت محافظة بقوة وإصرار على هيبتها وجلالة قدرها، وكانت الرحمة والرقة والعاطفة لا تفارقها وهي تحتضن اليتامى، فكانت متمسّكة بمبادئ رسالتها، وذلك تجلّى بوضوح في موقفها في مجلس ابن زياد عندما وصفها بقوله: «هذه سجّاعة، ولعمري، لقد كان أبوها سجّاعاً شاعراً. فقالت (سلام الله عليها): ما للمرأة والسجاعة! إن لي عن السجاعة لشغلاً، ولكن صدري نفث بما قلت» ([71]). فأكّدت على أن ما نطقت به من كلام بليغ هو منبثق من فطرتها، فلم تكن في مثل هذا الموقف لتتكلّف السجع، أو تصطنع البلاغة.
وفي قولها هذا إيحاء لكلّ امرأة إعلامية مسلمة، ومهما كانت خطورة الرسالة التي تحملها، بأن عليها أن تنطلق في أداء رسالتها الإعلامية من مبادئ الدين الحنيف، الذي يحفظ للمرأة قدرها وكرامتها، وأن تكون غيورة على الدين، فيكون الدين ومبادؤه هو المقدّم على أولوياتها، لا السبق الإعلامي والصحفي، وأن تبقى محافظة على أُنوثتها، فلا تتشبه بالرجال ولا تتنصّل عن جوهرها المتمثّل بالرقة والعطف والرحمة، وأن تكون غيورة على عرضها وناموسها، كما كانت العقيلة زينب (سلام الله عليها) قمّة في العفة والوقار والاتزان، بينما كانت تغمرها الرزايا والنوائب، وتعيش في قمّة المصائب والمحن، والتزمت بحجابها ووقارها، وهي تؤدّي الرسالة الإعلامية في واقعة عاشوراء، وهي في غمرة المصائب والمحن، فقد قال الراوي: «ونظرتُ إلى زينب بنت علي يومئذٍ ولم أرَ خفرة ـ والله ـ أنطق منها» ([72]). وتُشير الروايات التاريخية إلى أنّها (سلام الله عليها) كانت جالسة في مجلس ابن زياد، وهي متنكّرة وعليها أرذل ثيابها ([73])؛ كي لا تُعرف ولا تُهان كرامتها.
فلقد كملت العقيلة زينب (سلام الله عليها) بكمال معرفتها بالله ربها، وتجلّت فضائلها ومناقبها برضاها لرضا الله تعالى واحتسابها، فلم تجزع ولم تضعف ولم تهن، فهي بنت أكمل نساء العالمين، وحفيدة خير خلق الله أجمعين.
ومن كمالها ما ظهر من كمال معرفتها بالله والرضا والتسليم لرضاه، عندما رفعت جسد أخيها الطاهر وهو مقطع إرباً إرباً إلى السماء، قائلة: «... اللهمّ تقبل منّا هذا القربان» ([74]).
ج ـ مكانة العقيلة زينب (سلام الله عليها) وثقة الأُمّة بها
كانت العقيلة زينب (سلام الله عليها) من أشرف نساء عصرها وأشدّهن وثاقة بين الناس، خصوصاً بين أهل الكوفة، الذين عاشت في ديارهم مع زوجها وأبيها وعائلتها لمدّة أربع سنوات تقريباً، ويذكر المؤرخون أنّها أقامت للنساء في الكوفة حلقات العلم، وفسّرت لهن القرآن ([75])، فكان لكلام العقيلة زينب (سلام الله عليها) وقع عظيم؛ من هنا كانت (سلام الله عليها) أوّل مَن خطب من أهل البيت بعد الواقعة مباشرةً، إذ هيّأت أسماع المتلقّين وعقولهم وقلوبهم لتلقّي خطبة الإمام السجاد (عليه السلام)، وما تلاها من خطب وكلمات؛ لذا فإنّ تأثر أهل الكوفة لم يكن مستغرباً وهم يسمعون كلامها (سلام الله عليها)، فهم على ثقة كبيرة بها وبصدقها، وعلى معرفة تامّة بمقامها ومنزلتها عند الله ورسوله (سلام الله عليها)، حتى أنّهم ظلوا بعد كلامها وخطبتها حيارى لا يدرون ما يفعلون، فقد جاء في كتب التاريخ عن الراوي الذي يروي خطبة العقيلة زينب (سلام الله عليها) في الكوفة: «فو الله، لقد رأيتُ الناس يومئذٍ حيارى يبكون، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم، ورأيتُ شيخاً واقفاً إلى جنبي يبكي حتى اخضلّت لحيته وهو يقول: بأبي أنتم وأُمّي، كهولكم خير الكهول، وشبابكم خير الشباب، ونساؤكم خير النساء، ونسلكم خير نسل، لا يخزى ولا يُبزى» ([76]).
العقيلة زينب (سلام الله عليها) ـ وهي حفيدة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وابنة سيّد الوصيين (عليه السلام)، وأُمّها سيّدة نساء العالمين (سلام الله عليها) ـ تتمتع بقدرة فائقة على الإقناع؛ بسبب انتمائها إلى هذا البيت الطاهر. يقول ابن حجر العسقلاني: «زينب بنت علي بن أبي طالب بن عبد المطلب الهاشمية، سبطة رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم)، أُمّها فاطمة الزهراء... وُلِدَت في حياة النبي (صلّى الله عليه وسلّم)، وكانت عاقلة لبيبة جزلة... وكلامها ليزيد بن معاوية حين طلب الشامي أُختها فاطمة مشهور؛ يدل على عقل وقوّة جَنان» ([77])؛ كما أنّ مكانة العقيلة زينب (سلام الله عليها) وفضلها تأتي بعد مكانة أُمّها الزهراء (سلام الله عليها) فضلاً وكرامةً وشرفاً.
د ـ قدرة العقيلة زينب (سلام الله عليها) على الإقناع
استطاعت السيّدة زينب (سلام الله عليها) أن تخاطب كلّ جمهور بأُسلوب يتناسب معه، ويضمن وصول الرسالة الإعلامية التي تحملها لهم، فكانت أُنموذجاً راقياً للشخص الواثق بربّه، والإعلامي الواثق بقضيّته، وكانت تنطلق في كلماتها وخُطبها من قواعد رصينة وأُصول ثابتة، فكان كلّ مَن يسمع كلامها يتأثر به ويقتنع بمضامينه.
ولقد تجلّت كراماتها عندما أرادت أن تخطب وسط الكوفة، حيث كان الناس يتجمهرون لرؤية موكب السبايا والرؤوس المقطوعة، وبمجرد إيماءة منها (سلام الله عليها) وإذا بالسكوت يُخيّم على كلّ تلك الجماهير الغفيرة، فلم تعد تسمع رنة جرس ولا صوت نَفَس. يقول الراوي: «فأومأت إلى الناس أن اسكتوا، فسكنت الأنفاس، وهدأت الأجراس» ([
الكاتبة: نُهى القطراني-جزء من مقال
مجلة الإصلاح الحسيني – العدد الثالث عشر
تعليق