الإخوة والأخوات الأعزاء
كان الإمام الكاظم عليه السلام مدرسة رسالية كبرى في المسيرة الإسلامية ونبراسا نيّرا يهدي السائرين في طريق الله.
كيف لا! وهو ولي الله وابن أوليائه وحجة الله وابن حججه وصفي الله وابن أصفيائه وأمين الله على دينه وابن أمنائه.
كان الإمام الكاظم نورا من أنوار الرسالة المشرقة في ظلمات الأرض ينير طريق العاملين في دياجير الليالي الحالكات. وكان إمام الهدى الذي يدل الناس الى طريق الرشاد والتقى.
كان إمامنا وسيدنا وحبيبنا الإمام الكاظم عليه السلام علم الدين الخافق في أيام المحن الغامرة والدعاوى المنحرفة. فكان خازن علم النبيين والحافظ على ميراث المرسلين. وكانت هذه مهمته القيادية في المجتمع فهو نائب الأوصياء السابقين وسليل ورثة الوحي المبين أئمة ال محمد من أصحاب العلم اليقين وعيبة معارف المرسلين.
لقد جسد إمامنا وقدوتنا الإمام موسى بن جعفر الشخصية الإسلامية الرسالية بأوضح صورها فكان الإمام الصالح الزاهد العابد السيد الرشيد. وعلى هذا الطريق كان مقتولا وشهيدا حاميا ومدافعا عن رسالة أبويه محمد سيد المرسلين وعلي أول الوصيين.
ونحن إذ نسعى لان نتدارس ونتذاكر اليوم منهاج التحرك عند الإمام الكاظم, فلعله من المناسب ان نثبت وباختصار أهم معالم هذا التحرك الرسالي. والتي تشير الفقرات التالية الى ملامح منها. فإمامنا السابع من أئمة أهل البيت عليه السلام
- بلغ عن الله ما حمله
- وحفظ ما استودعه
- وحلل حلال الله
- وحرم حرام الله
- وأقام أحكام الله
- وتلا كتاب الله.
وفي طريق الكفاح هذا دفع إمامنا ثمن حمله للرسالة. فصبر على الأذى في جنب الله وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين فراح الى الله شهيدا محتسبا يشكو ظلم الظالمين.
لقد مضى إمامنا الكاظم عليه السلام سائرا على طريق آبائه الطاهرين وأجداده الطيبين الأوصياء الهاديين والأئمة المهديين. صلبا في حركته واضحا في مسيرته لم يؤثر عمى على هدى ولم يمل من حق الى باطل. ناصحا لله ولرسوله ولأمير المؤمنين. فادى الأمانة التي ائتمن عليها, رافضا ومجتنبا لمنهج الخيانة.
لقد رسم الإمام الكاظم عليه السلام أهم معالم الطريق الإسلامي الرسالي من خلال:
- إقامة الصلاة أي الجانب العبادي
- إيتاء الزكاة أي الجانب الاقتصادي
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أي الجانب الاجتماعي السياسي
كل ذلك محاط بدافع العبادة الخالصة لله بكل اجتهاد واحتساب ويقين. ونحن أمام هذه الشخصية الرسالية الكبيرة ما علينا إلا ان نقول: جزاك الله عن الإسلام والمسلمين أفضل واشرف الجزاء.
وعلى أساس من هذا الفهم الرسالي العقائدي الواضح لهذه الشخصية الكريمة الكبيرة نعتقد بحقه ونقر بفضله ونحمل علمه ونلتزم بخطه ونوالي أولياءه ونعادي أعداءه. ومستبصرين بشأنه وبالهدى الذي عليه وعالمين بضلالة من خالفه وبالعمى الذي هم عليه.
وتأسيسا على هذا الفهم العقائدي المتين فنحن نفدي هذا الخط القويم ونضحي من اجله بآبائنا وأمهاتنا وأنفسنا وأهلينا وأموالنا وأولادنا. متقربين بذلك لله وحده وحده لا شريك له. وطالبين مغفرته ورضوانه وشفاعة رسوله وأهل بيت رسوله بتمسكنا بما امرنا ان نتمسك به.
الإمام الكاظم محور الحركة السياسية
ونحن نعيش في ذكرى استشهاد الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) نحاول ان نغترف شيئا من بحره العظيم المتلاطم، بحر المعرفة و العلم و التقى، ومدرسة الصبر والخلق والسلوك الرباني المعصوم.
ولقد قرضه أئمة العلم في زمانه بما لا زيادة عليه، ومنهم الخطيب البغدادي في كتابه تأريخ بغداد ج13 ص27 بقوله ( كان موسى يدعى العبد الصالح، من عبادته واجتهاده، وكان سخيا كريما وكان يبلغه عن الرجل انه يؤذيه فيبعث إليه بصرة فيها ألف دينار، وكان يسكن المدينة فأقدمه المهدي العباسي بغداد وحبسه فرأى في النوم علي بن أبي طالب (ع) وهو يقول يا محمد:
(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ) محمد 22
فالإمام الكاظم كان المحور الذي تدور حوله حركة الأمة فكان لزاما أن نسلط الأضواء على أجزاء مهمة من منهج الأمام موسى الكاظم (ع) وتحركه في بناء الأمة الإسلامية وفي مقارعة الظلم الذي أحاط به وبأتباعه في تلك المرحلة.
إن دراسة تاريخ الحركة الرسالية الإسلامية بقيادة ائمة اهل بيت النبوة, عبر مراحلها الطويلة منذ تأسيسها في زمن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم إلى يومنا هذا يكشف لنا وبشكل واضح عن أن التشيع لم ينقل إلينا بالهين وبالسهل، بل انه مَّر عبر سيرة طويلة معقدة دامية فيها الكثير من العطاء وفيها الكثير من الدماء وفيها الكثير من الانكسارات النفسية التي تدعو الى الإحباط والتثبيط، لكنَّ هدفيه الرساليين، وهدفية أهل البيت (ع) هي التي أمّنت وصول القافلة إلى هذا الزمان، وان ذاك الركب الصغير من المؤمنين بخط محمد وعلي عليهما السلام هو الذي حول هذه الأمة إلى امة عظيمة واسعة تعد بمئات الملايين.
و إذا أردنا أن نبحث عن احد إسرار هذا التطور الهائل الكبير في الأمة الإسلامية فسيكون دور الأمام موسى بن جعفر (ع) من اكبر الأدوار التي ساهمت في بنيانه وحافظت على ديمومته وجعل من الشيعة وهم ذلك الجسم الثر المعطاء من الأمة الإسلامية الذي تعهد بتكليف من الله عز وجل بحمل رسالة الرسول الأكرم (ص) إلى البشرية جمعاء وجعلها رسالة نقية بعيدة عن التحريف و الانحرافات التي عجت بها كتب التأريخ.
محنة الإمام الكاظم
وعندما نمعن النظر في أحداث التأريخ، نجد أن للامام موسى بن جعفر عليه السلام الدور العظيم في دفع هذه المسيرة بعد وفاة أبيه الصادق سلام الله عليه وانتقال الإمامة إليه.
وكان عمره الشريف عشرين عاما عندما اضطلع بهذه المسؤولية الإلهية، فأكمل مسيرة سلفه الصالح وتجشم أعباء ثقل الإمامة في زمن عتاة الدولة العباسية وهم المنصور الدوانيقي ثم المهدي ثم الهادي ثم الرشيد وكانت مسك ختام حياته الشهادة في زمن الرشيد.
لقد سجن الامام الكاظم (ع) مرات عديدة واختلف الرواة في مدة سجنه، ولكنهم يتفقون في أن المدة لا تقل عن سبعة سنين، هذه المدة كانت مليئة بأنواع العذابات ومشحونة بالحرب النفسية والأذية الجسدية للامام (ع) حتى بلغت الذروة بقتله مسموما سلام الله عليه.
نريد ان نفتتح بحثنا هذا بمقطع من دعاء شهير قد درج الشيعة على قراءته وهو دعاء الجو شن الصغير هذا الدعاء الذي يبين لنا من خلاله الأمام موسى بن جعفر (ع) إبعاد الوضع الرهيب الذي كان يعيشه هو وبقية الثلة الصالحة من حملة الرسالة الصحيحة آنذاك ويكشف عن طبيعة الأساليب النفسية والجسدية التي كان يستخدمها الطغاة من اجل القضاء على الحركة الرسالية الأصيلة.
يبتدأ الامام (ع) مناجاته لربه بقوله: (الهي كم من عدو انتظى علي سيف عداوته) ان استخدام الامام (ع) لأسلوب الاستفهام يبين لنا الحجم الحقيقي لهذا العدو من حيث العدة والعدد، ويعبر عنهم بأنهم انتظوا عليه سيف العداوة، ويقتضي هذا أن تكون طبيعة هذا العداء في أعلى مراتبها، أي انه صراع دموي تصفوي، ثم يردف عليه السلام قائلا ( وشحذ لي ظبة مديته وأرهف لي شبا حده وداف لي قواتل سمومه وسدد نحوي (أو) ألي صواب سهامه، ولم تنم عني عين حراسته، واضمر لي إن يسومني المكروه ويجرعني زعاف مرارته ).
يحدد لنا الامام (ع) بوصفه البلاغي الدقيق طبيعة الأهداف الحقيقية التي يروم العدو الوصول إليها وتتجلى لنا حجم المعاناة التي كان يكابدها ويعاني منها الامام (ع) وأصحابه.
الدولة العباسية القطب الأوحد في العالم
ونحن نعيش في أيامنا هذه, تجلت لنا كثير من الأمور المهمة والتاريخية التي أفرزتها المرحلة السياسية المعاصرة هي مرحلة القطبية الواحدة والتي تجلت معالمها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ولعل الكثير من الذي عاشوا في الولايات المتحدة الامريكبة ودول الغرب بصورة عامة قد عاشوا إرهاصات هذه المرحلة قد أدركوا حقيقة هذه القطبية التي أفرزت الولايات المتحدة كقطب أوحد يحكم العالم وفق نظام واحد وقوة جبارة مهولة لاتقوى أي دولة من الوقوف بوجهها او الحد من سطوتها.
فبالمقارنة مع الحقبة التاريخية التي عاشها الامام الكاظم (ع) يمكن أن نقول إن وضع الدولة الإسلامية العربية العباسية حينذاك كانت تمثل القطب الأوحد في العالم، نعم كانت هناك دويلات وولايات قسم كبير منها في أوربا وقسم منها في الهند والصين وفي غيرها، لكن القطب الأعظم في العالم كان متمثلا بالدولة العباسية الى الحد الذي دعا هرون الرشيد الى مخاطبة الغمامة بقوله: أينما تسقطي تسقطي في ملكي.
وشبيه في الحال الإمبراطورية البريطانية في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، فهي الإمبراطورية التي لاتغيب عنها الشمس. إذن ان القوى الأحادية في العالم ظاهرة ليست بالجديدة بل كانت هي المتحكمة في أغلب الأحيان.
حركة المعارضة بقيادة الإمام
وعلى هذه الأساس يمكن أن نفهم موقف الإمام الكاظم (ع) وصلابته وصموده وتحديه في انه كان يعارض القطب الأوحد في العالم المتمثل في الدولة العباسية في ذلك الزمان، ومنه يمكن أن نفهم طبيعة المعارضة وأبعادها وندرك حجم المصائب التي كانت تجري عليه وما مدى الخطورة التي تجلبها له وعلى شيعته بسب تلك المواقف.
فلم يكن الإمام (ع) معارضاً في دولة بعيدة أو ولاية صغيرة بل هو يعارض القطب الأوحد في العالم المتمثل بالدولة العباسية التي تمتلك من الإمكانات الهائلة التي تؤهلها لسحق أي معارضة كانت غير آبهة بالنتائج، الا إن الإمام بحكمته الربانية وصمود روحه الأبية وقف طودا شامخا أمام طوفان ذلك القطب الجائر.
في تلك الحقبة الزمنية تجاوزت الدولة العباسية مرحلة التأسيس وانتهت مرحلة الصراعات مع فلول بقايا آل أمية من جهة وبعض مؤسسي الدولة اللذين أوصلوا العباسين الى الحكم ثم تنكروا لهم وقتلوهم شر قتلة كأبي مسلم الخراساني وأبي سلمة الخلال، وعليه يمكن القول ان أمورا عدة قد حسمت كانت تكدر صفو العائلة العباسية في خلوص الأمر لها في زمن السفاح (132-136هـ) والمنصور (136-158هـ) وأصبحت الدولة قوية والملك ثابت الأساس للبهاليل من بني العباس كما يقول الشاعر، فلا مشاكل خارجية تشغلها عن التفرغ لمن يقف لهم بالمرصاد، ولا مشاكل اقتصادية تعيقها عن تأمين الدعم المالي للقيام بهذه المهمة، إضافة الى إحكام السيطرة على الوضع الأمني والإعلامي مما جعلها متفرغة للقضاء على المعارضة الداخلية والمتمثلة بالعلويين أصحاب الحق الشرعي في قيادة الأمة.
كان الشيعة في تلك الفترة وبقيادة الامام الكاظم (ع) المعصومة يشكلون الخطر الأكبر الذي يواجه دولة بني العباس بسبب امتلاكهم الرؤيا الفكرية والعقائدية المتميزة والمعززة بالأدلة القوية القاطعة، إضافة الى الإمكانيات الذاتية الرفيعة للقيادة العليا المتمثلة بالإمامة، ناهيك عن التحرك العسكري القوي المتمثل بالثورات الحسينية والتي كانت تسير بخط طولي مع حركة الأئمة سلام الله عليهم، فضلا عن التعاطف الجماهيري الواضح مع رموز أهل البيت (ع) الأمر الذي جعل الدولة العباسية تقف بالمرصاد لكل حركة مهما كانت صغيرة بل حتى لو كانت اعتيادية ولم يكن قصد الإمام (ع) من ذلك الفعل او التصرف المعارضة أصلا.
فلو اشترى الإمام بستانا او حقلا سبقته التقارير الدورية الى السلطة العباسية تخبرهم بذلك ليصبح التصرف المعتاد قضية يتطلب دراستها في الجهاز الأمني للقيادة السياسية للدولة، ويبدأ سيل الأسئلة والتحليلات، لماذا اشترى البستان ؟ ومن أين أتى بالمال ؟ ومن الذي بعثه ؟ وان الإمام كان متفقا مع صاحب البستان أن يدفع له ثلاثين ألف دينار بعملة معينة فحينما رفض صاحب البستان الدفع بتلك العملة دفع له الإمام بالعملة التي أرادها، فتبدأ الأجهزة الأمنية والاستخبارية بدراسة ذلك الموقف وعندما نقول ذلك نثبت ان من يقوم به هو الهرم الأعلى في الدولة المتمثل بهرون الرشيد أي قائد الدولة التي تعادل ممتلكتها أكثر من خمسين دولة الآن، ويبقى سيل التحليلات والأفكار المريبة لماذا اشترى البستان وكيف غير الدفع بالعملة التي أرادها صاحب البستان وان تغيرها يدلل على امتلاكه للسيولة المالية، فما هي الموارد ومن أين جاءت.
وهكذا كانت حركة الإمام (ع) مرصودة بكل جزئياتها، وان جدية الدولة العباسية في موقفها هذا يكشف عن البعد الحركي والاجتماعي والسياسي الذي كان يتمتع به الإمام (ع) وكيف كانت تلك الأجهزة ترتعب من تصرفات الامام العادية في معاملاته اليومية ورغم تلك الدقة المتناهية والمتابعة المستمرة لم تستطع ان ترصد علاقة الامام (ع) بأخلص أصحابه اللذين يعملون في البلاط العباسي بأمر من الامام رغم الوشايات والتقارير التي كانت تصل لهم، الا ان حكمة الامام (ع) وإتباع تعليماته والامتثال لأوامره حال دون الكشف عن تلك الحركة المنظمة المنتشرة في جسد الجهاز الإداري والسياسي للدولة العباسية. .
لقد كانت معاناة الإمام الكاظم (ع) في عصر المنصور الدوانيقي امتدادا لمعانة أبيه الصادق (ع) وبقية الثوار والشخصيات العلوية القيادية في المجتمع، كما إن فترة المهدي العباسي(158-169هـ) على الرغم من استمرارها على نفس النهج المعادي لإل محمد (ص) إلا إن الوضع شهد نوعا من تخفيف الحدة في المطاردة والمتابعة للشيعة ولكن ذلك ولايعني عدم استمرار رصد السلطة للامام (ع) وشيعته.
أما في عصر الهادي الذي عاش فيه الإمام الكاظم (ع) سنة وبعض الأشهر، فقد بلغ الاضطهاد فيه درجة عالية جدا، بالشكل الذي جعل الوضع السياسي متأزماً وكان من نتائجه ثورة الحسين بن علي الحسني في واقعة فخ.
ثورة فخ
وفخ وهي بئر بينها وبين مكة فرسخ تقريبا وبطل هذه الواقعة هو الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ( رضوان الله عليه ) وزوجته زينب بنت عبد الله بن الحسن، وكان من كرام الرجال ومن عظماء الثوار وكان أبي النفس، شديدا في الله وقاد ثورة إسلامية تدعو الى الرضا من إل محمد وكان يدعو لبيعة الناس على الكتاب والسنة ولمحاربة الظلم وإحقاق الحق وإعطاء الفقراء حقوقهم.
ان هذه الثورة العلوية ومن خلال الكثير من القرائن كانت مدعومة من الإمام موسى بن جعفر (ع) فلقد قال حين رأى رأس الحسين بن علي حسين فخ:
(إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون مضى والله مسلما صالحا صوامَّاً آمراً بالمعروف ناهيا عن المنكر، ما كان في أهل بيته مثله ).
وكان كلامه (ع) على مرأى ومسمع من قيادة الهرم السياسي في الدولة العباسية، وكذلك يمكن تلمس هذا الدعم من خلال دعاء الإمام موسى الكاظم (ع) وتسديده للحسين بن علي حسين فخ ومن خلال رعاية الإمام لعوائل الشهداء فخ.
تأسيس دولة الأدارسة في المغرب
واستمرت جذوة المعارضة أو بكلمة أدق حركات العلويين. وبعض الأحيان حينما يقرأ التاريخ مجزءاً ومن غير تمحيص للحقائق لا نستطيع ان نأخذ العبرة بشكل واع وبصورة كاملة، ففي أعقاب ثورة فخ استطاع بعض العلويين من التخلص من سطوة بني العباس والفرار بدينهم في أصقاع الارض مهاجرين في ارض الله الواسعة وهم ثابتون وحاملون لخط الرسالة الإسلامية فالسيد الجليل إدريس (رضوان الله عليه ) استطاع أن يتملص من قبضة جلاوزة بني العباس بطريقة مرتبة و دقيقة جدا، وقد ذكر المؤرخ المصري الشيخ محمد الخضري بك في كتابه الدولة العباسية هذه الحركة الكبيرة في التاريخ وذكر قائدها فقال:
هو إدريس بن عبد الله بن الحسن المثنى ممن هرب من وقعة فخ، وهو اخو يحيى سار الى مصر ومنها اتجه الى بلاد المغرب الأقصى فالتف حوله برابرة أوربة فكّون هناك أول خلافة للعلويين وهي دولة الادارسة، وكان نزوله بمدينة وليلى سنة 172 هـ، وكانت بيعته في تلك السنة، ولما بلغ هارون إن أمر إدريس قد استقام ببلاد المغرب وكثرت جنوده وفتح بلاد تلمسان وانه عازم على غزو أفريقيا، همَّ ان يرسل له جيشاً ولكنه عدل عن ذلك لبعد الشقة واختار رجلا داهية اسمه سليمان بن جرير ويعرف بالشامخ وطلب منه ان يحتال في قتل إدريس وزوده مالا وطرفا يستعين به على أمره، فسافر الرجل ووصل الى إدريس مظهرا النزوع اليه متبرئاً من الدعوة العباسية، فقبله ادريس واختص به وأعجب بحديثه ولما انتهز الفرصة سمه إما في طيب وفر هاربا فمات إدريس سنة 177هـ ولم يكن له ولد إلا ان أمته كانت حاملا فانتظروا وضع حملها فوضعت ذكرا سمي إدريس على اسم أبيه وبايعوه بالخلافة واستمرت دولة الادارسة في المغرب رغم ارادة هارون الرشيد العباسي القضاء عليها. وحينما ولد أعطي اليه الأمر أعطيت اليه القيادة واحتضن هذا الصبي العلوي المبارك من قبل أولئك النخبة من شيعه آل محمد حتى بنوا دولة كانت شوكة في خاصرة المعتدين.
هذه الدولة العلوية الفتية بددت كلمة هارون الرشيد التي يقول بها متبجحا مخاطبا السحابة ما مضمونه: أمطري فحيث تمطري فانك تمطري على ملكي.. حيث أصبح السحاب يمطر في بعض الأحيان ليس على ملكه إنما على ملك آل بيت رسول الله.
اضطهاد ال الرسول
كان السجن احد معالم هذه المرحلة وكان أبناء رسول الله وعلي على رأسهم الإمام الكاظم (ع) لهم حضور متميز ودائم في السجون العباسية فقد سجن في هذه الفترة: محمد بن يحيى الحسني ومات بالسجن.
وسجن الحسين بن عبد الله وهو من السادات الهاشميين لإجلاء من سلالة جعفر الطيار (ع) ومات بالسجن اثر التعذيب الشديد.
وسجن العباس ابن محمد وهو من سلالة الإمام الحسن (ع) ومات بالسجن اثر التعذيب بالضرب بالعمود الحديد، عذب بالضرب العمود الحديدي هذا السيد الحسني الجليل واستشهد بالسجن.
حتى بعض العلويين الذين لم يكونوا متمحضين في العمل السياسي أو الدعوة لآل البيت كانوا مجرد علويين كان مجرد أن ينتمي نسبهم لآل البيت يؤدي الى سجنهم ومن أمثلة ذلك عبد الله بن حسن بن علي بن علي بن الحسين من سلالة الإمام الحسين (ع) و هو الحسن الأفطس كما هو مذكور في كتب الأنساب و هذا سجن عند جعفر البر مكي وقتله جعفر البرمكي دون إن يأخذ الإذن كما تقول الروايات ويبدو أن الأصابع العباسية مؤثرة على هذه الروايات قتله جعفر البرمكي بدون اخذ الإذن من الرشيد وقدم رأسه هدية للرشيد في احد الاعياد وحينما سأله عن هذا قال انه فلان ابن فلان وذكر له كالعادة انه قتل ضمن بعض السجناء ممن اعتقد انك تكرههم، تعجب الرشيد قال له عجيب انك تقتل الناس، أنا لم أعطك الإذن أصبح الرشيد هنا ذا إنسانية عارمة ويقال انه عندما قتل البرامكة وقتل جعفر قال اقتلك بدم ابن عمي الذي قتلته بدون أذني يبدو انه إذا قتل العلوي بدون إذن هارون الرشيد فهو عمل جيد إذا قتل بدون إذنه هناك إشكال إداري ولا يوجد إشكال مبدئي.
وكذلك قصة البيوت الثلاثة التي كانت مملوءة بالعلويين في كل غرفة عشرين سيد علوي من ذرية علي وفاطمة. و لا اعتقد أن كل اؤلئك العلويين كانوا قادة في العمل السياسي، إنما كانوا قادة بالقوة كما يقول الفلاسفة. وقانون الطوارئ العباسي يومذاك انه من الممكن إن يكونوا مشروع قوة تغيّرية قادمة - كما هو الحال في عراق صدام عندما يقتل الإنسان البريء، لأنه يمكن أن يكون مشروعا بالقوة لإقامة حكم أسلامي أو حكم إنساني صالح في العراق.
من معالم هذه المرحلة كذلك أن يحيى بن عبد الله الحسيني و هو ربيب الأمام الصادق (ع) و حينما يتحدث عن الأمام الصادق (ع) يقول حدثني حبيبي جعفر بن محمد الصادق (ع) هذا السيد استطاع الهرب في أعقاب ثورة الحسين بن علي صاحب فخ (رضوان الله عليه ) هرب الى الديلم وأسس بعض القواعد الشيعية وحاول التحرك في اتجاه الصدام مع الدولة العباسية، ولكن حينما أصبح الصدام قويا وأصبحت القوة المسلحة للدولة اكبر تفرق الثوار من حوله نتيجة لشراسة الهجمة وبطبيعة الحال عندما تقوم قوة غاشمة تمتلك من القوى مايفوق إمكانيتهم يهرب الناس لانهم متفاوتون حيث الإيمان والإخلاص والمصداقية، وعليه بقي هذا الثائر العلوي وحيدا فريدا
في هذه الظروف أرسل له هارون الرسل أعطاها فيها الأمان بالصيغة الفلانية كتب له صيغة، ولكن يحيى الحسيني رفض تلك الصيغة وكتب صيغة أخرى للامان قال أنا لا اسلم نفسي بهذه الصيغة وكانت صيغة محكمة لأنها صدرت عن فقيه من فقهاء آل بيت النبوة، وقبل الرشيد هذه الصيغة بعد ذلك غدر، وساعده فقهاء السلطان على هذا الغدر وقالوا له يمكن أن تقبله ولكن كلف شخص آخر يغتاله بالسوق فلا تكون أنت القاتل المباشر ووجدوا له تخريجا شرعيا. فقتله و تخلص من مشكلة الأمان التي أعطاها له.
الوضع الداخلي للحركة الشيعية
ويمكن القول ان هناك ثمة وضع داخلي ووضع خارجي واجهه تحرك الامام الكاظم. إما على صعيد الوضع الداخلي فلم يكن الوضع سهلا فقد لاقى الإمام موسى بن جعفر (ع) وضعا معقدا الى حد ما في صفوف الحركة الشيعية آنذاك و استطاع أن يجتاز هذه العقبات وان يديم عمله البناء في اعداد النخبة الصالحة من شيعة محمد وال محمد.
فبعد وفاة الإمام الصادق (ع) كانت هناك عدة فرق نجملها بالاتي:
- فرقة قالت آن الإمام الصادق لم يمت وانه هو الذي سيرسله الله في آخر الزمان فيملا الارض عدلا بعد أن ملئت ظلما، ويقال لهذه الفرقة الناووسية وهم أتباع رجل يقال له عجلان بن ناووس من قرية ناووس قرب البصرة وكان عندهم آراء و مقولات، من الطبيعي أن حركة موسى ابن جعفر (سلام الله عليه ) سوف تصطدم بهذه المعتقدات.
- فرقة أخرى قالت، فقال ان الإمام بعد الإمام الصادق هو ابنه إسماعيل و ان إسماعيل لم يمت وانه هو الذي سيكون الأمام القائم، وقد حسب الامام الصادق لذلك احتاط لهذا الأمر بامور كثيرة فقد روي في إكمال الدين ج1 ص 160 وفي بحار الأنوار ج47 ص 247 عن زرارة بن أعين قال: دعا الامام الصادق (ع) داود بن كثير الرقي وحمران بن أعين وأبا بصير ودخل عليه المفضل بن عمر وأتى بجماعة حتى صاروا ثلاثين رجلا فقال: يا داود أكشف عن وجه إسماعيل فكشف عن وجهه فقال: تأمله يا داود فأنظره حي هو أم ميت ؟ فقال بل هو ميت، فقال: يفعله على رجل رجل حتى أتى على أخرهم فقال (ع): اللهم اشهد ثم أمر بغسله وتجهيزه ثم قال: يا مفضل أحسر عن وجهه فحسر عن وجهه، فقال أهو حي أم ميت ؟ أنظروه أجمعكم.
وبعدما تأكدوا من موته, قال لهم: شهدتم بذلك وتحققتموه؟ قالوا نعم وقد تعجب الله، فعله فقال: اللهم اشهد عليهم ثم حُمل الى قبره فلما وضع في لحده قال: يامفضل اكشف عن وجهه فكشف عن فقال للجماعة:انظروا أحي هو أم ميت ؟ فقلنا:بلى ياولي الله، فقال: اللهم اشهد فانه سيرتاب المبطلون يريدون إطفاء نور الله ثم أومأ الى موسى (ع) وقال: والله متم نوره ولو كره الكافرون، ثم حثوا عليه التراب، ثم أعاد علينا القول فقال: الميت المكفن المحنط المدفون في هذا اللحد من هو ؟ قلنا: إسماعيل ولدك، فقال: اللهم اشهد، ثم أخذ بيد موسى فقال هو حق والحق معه ومنه والى ان يرث الأرض ومن عليها.
ولكن كما هو معروف في كل حركة سياسية هناك بعض الناس من ذوي الطموحات داخل هذه الحركة يحبون أن يجروا الخط العام للحركة لاهدافهم بسبب توجهاتهم المصلحيه.
- توجه أخر هو التوجه الذي التف حوله حفيد الإمام جعفر الصادق وهو محمد بن إسماعيل فقال إن الإمامة لا ترجع القهقرى وان الإمامة كانت فقط للحسن والحسين (ع) وهذا بنص الرسول فيما بعد تكون في الأعقاب والأعقاب، وقالوا إن إسماعيل حينما مات أوصى الإمام الصادق لابنه محمد بن إسماعيل. وبناء على هذه النظرية اسسو الدولة الإسماعيلية.
- وجماعة أخرى قالت إن الإمام هو محمد بن جعفر. وهذا السيد لم يدع الإمامة كما ادعى البعض، بل انه كان رمزا من رموز الثوار ولذلك اتخذته الزيدية إماما لهم ومتبوعا من قبلهم، وكان إذا خرج يحيط به مائتا إنسان من الزيدية اللذين كانوا يسمونهم الزيدية الجارودية وهي فرقة من فرق الزيدية. واقصد بالخروج الخروج الاجتماعي العادي وليس خروج الحرب ومن خلال ذلك نستطيع أن نتصور الحضور الاجتماعي والشعبي له.
-كانت هناك فرقة لها دور سيء ضد الإمام، وهذه الفرقة يقودها عبد الله الافطح وهو اكبر أبناء الإمام الصادق بعد إسماعيل الذي توفي في حياة أبيه ولم تكن منزلة عبد الله عند أبيه الصادق (ع) منزلة غيره من أخوته في الإكرام وكان متهما في الخلاف على أبيه في الاعتقاد وقد قال ابن حزم في جمهرة انساب العرب في الصفحة 59 (فقد قدم زرارة المدينة فلقي عبد الله فسأله مسائل في الفقه فألفاه في غاية الجهل فرجع عن إمامته) وقد تبعه جماعة يقال لهم الفطحية وهؤلاء آذوا وعبثوا وخلقوا عقبات أمام الحركة الأصلية للإسلام الممثلة بالإمام الكاظم (ع)
وأريد أن أقول إن هذه الفرق قسم منها لم تكن ضعيفة بدليل إنها استطاعت تأسيس دولة فيما بعد. ولكن من الطبيعي، وهو حقيقة الأمر فان الخط الأكثر والخط الأغلب والخط الذي تتوجه اليه أنظار الشيعة وهو خط الإمام موسى بن جعفر (ع) ينتمون الى خطه وتلك الخطوط قسم منها فيها جزء من الصلاح وقسم منها بها اشتباهات كثيرة ولكن لاتمثل الخط الأساسي لحمل الإمامة الشرعية.
واحدة من القضايا التي واجهت حركة الائمة, هي قضية الواقفة. صحيح انها ظهرت بعد الإمام موسى بعد وفاته والتي دعت الى الوقف وقالوا ان الامام لم يمت وإنما سيبعث في آخر الزمان وذلك بسبب الأموال التي كانت متكدسة عند بعض وكلائه، ويذكر ان اثنين من وكلائه من اللذين ائتمنهم الناس على أمواله ولكنهم خانوا وهذا يدل الى ان الأموال بلغت حدا يطمع فيه الطامعون من ضعاف النفوس، ويعزى أمر زيادة الأموال الى استقرار أحوال الدولة من الناحية الاقتصادية وهذا يترتب عليه حالة من الترف وكثرة مظاهر الفساد والمجون وهذا ما يتضح من طبيعة الشعر، الذي يمتاز في بعض جوانبه بالمجون والفساد بدرجة كبيرة جدا قياسا الى شعر المراحل السابقة وهو نتيجة طبيعية للترف الشديد للمجتمع.
لقد نشطت حركة الزنادقة وكان لها حضور شديد جدا، بعض المؤرخين عندما يصلون الى المهدي كانوا يقولون إن اضطهاده للشيعة كان قليلا جدا لانشغاله بقضية اخرى اذ ان حركة الزنادقة كانت قد نشطت نشاطا قويا جدا في زمن المهدي، وكانت تشكل خطرا محدقا بأصل الدولة الإسلامية والشيعة مؤمنون بان هذه الدولة قد أسسها الرسول (ص)، وان الزنادقة كانوا يريدون ان يقضوا على أساس هذه الدولة، هذه الحركة وغيرها من الحركات الهدامة واجهها الأمام الكاظم (ع)
ونمت مذاهب فقهية كثيرة, وقسم منها اصطنع للوقوف امام فقه اهل البيت. وإذا أردنا المزيد يمكن الرجوع الى كتاب الاحتجاج وكتب أخرى لحملة تراث آل محمد (ع) نجد أن الدولة سعت سعيا كبيرا من اجل خلق مذاهب فقهية وفكرية لأنها لم تكن تريد أن تقارع الأئمة (ع) فقط من خلال التجسس والقتل وغيره وإنما من خلال أطروحات يمكن أن يخدع بها قطاعات من الناس مخلصين.
لهذا الحد فقد سلطنا الضوء على حركة الإمام على ثلاث مساحات واوضحنا:
أولا: طبيعة حركة الدولة الإرهابية ضده.
ثانيا: مشاكل داخلية عند الشيعة.
ثالثا: مشاكل عند الأمة الإسلامية بصورة عامة.
حركة الإمام الكاظم
وفي مثل هذه الظروف تحرك الإمام (ع) منطلقا من عظمة العقيدة الإسلامية وتراث أهل البيت (ع) ومعالم الأصالة عند المسلمين. ونؤكد على النقطة الأخيرة لان عموم حركة الأمة هي حركة أصيلة لاشك في ذلك، ومثل ما ان الدولة كانت تستثمر جهل المسلمين لتوظيفه ضد حركة الأئمة فان الأئمة (ع) قد وظفوا الكثير من معالم الأصالة الإسلامية لخدمة حركتهم لان الأمة تعتمد في حركتها على الكثير من ارث رسول الله (ص) فعلى سبيل المثال ان حب أهل البيت (ع) غير مقصور على الشيعة فحب الناس للشيخ عبد القادر الكيلاني لاعتقادهم بكونه من سلالة الرسول (ص) وكذلك الشيخ امحد الرفاعي وغيرهم.
الإمام الكاظم (ع) يعبر عن القيادة الإسلامية الأصيلة وهو في موقع التصدي للطغيان المرتب والمنظر له باسم الدين, وتراث الإمام الفكري يقدم صورة جلية عن جهوده في طريق بناء الأمة.
العلم الصحيح
لقد كان الإمام الكاظم (ع) من المصادر المهمة لفقه لأهل البيت (ع) إضافة الى التراث العظيم المروي عنه (ع) في جميع مسائل العلم والمعرفة ومنها رسالته (ع) في وصف العقل التي تقدم رؤيا فلسفية تتحدث عن الالتزامات العلمية التي توجبها هذه الرؤيا الإسلامية للعقل في حين إن التيارات الفلسفية آنذاك كانت متصارعة ومتضاربة في الساحة الثقافية للأمة الإسلامية.
فضلا عن رسالة له في التوحيد حين اشتدت خطر حركة الزنادقة والملاحدة ويمكن الرجوع إليها في أصول الكافي.
مع سيل من الأحاديث في التربية والنصائح والحكم والدعاء ولعل دعاء الجوشن الصغير خير شاهد على ذلك، هذا الدعاء الذي ينبغي أن يقرأه كل مؤمن باعتباره يشير الى محطات مهمة قد مر بها أبناء تلك المدرسة العظيمة في سجون الطغاة ناهيك عن خريجي مدرسة الإمام الكاظم من المسلمين الرساليين المتمسكين بمنهج أهل البيت (ع) كهشام بن الحكم احد رموز تلك المدرسة المحمدية والذي ترك اكبر الأثر في نصرة الحق وأهله وأحد أعمدة المتكلمين في الأمة الإسلامية.
بناء العناصر القيادية
وعلى نفس الرقي والمستوى العالي خرّجت هذه المدرسة رجالا كان لهم الأثر البارز والمهم في العمل السياسي ومن أجل الأمثلة على ذلك علي بن يقطين الذي تسنم أعلى الدرجات الوظيفية في الدولة السياسية رغم كونه احد كبار رجالات الشيعة ومن خواص الإمام (ع) وتجلى ذلك من خلال حكمته في مدراة الأمور والتكتم الشديد والتحمل الكبير، والابتعاد عن المزاجية والانفعالات العاطفية لان هدفه اكبر بكثير من تلك الأمور وقد شكى مرة للامام من ثقل هذه المسؤولية وكان رد الإمام له بأنها ضريبة وعليك أن تبقى فيها لان لك فيها دور.
الصراع مع الخطوط المنحرفة عن الإسلام
لقد خاض الإمام صراعا فكريا الى جانب صراعه مع السلطة الغاصبة، بل إن منهجه الفكري ومنهجه السياسي كان منهجا واحدا يستمد من نفس المصدر الرسالي لخدمة نفس الأهداف. ومن المعالم الفكرية التي تصدى لها نذكر النماذج التالية:
- منها محاربة الدعوات المنحرفة وفي المقابل تثبيت العقائد الصحيحة عند الناس.
- ومنها إثبات بطلان المجسمين لله وكانت هذه الحركة قوية في صفوف الأمة ولازالت أثارها باقية الى اليوم تلك الحركة المنحرفة التي تجسد الخالق جل وعلا وتقول إن له يدا وانه يتحرك وانه ينزل من درجات وانه يضع رجله في جهنم فتمتلئ، وكانت هذه احد محاور الحرب ضد حركة الإسلام الصحيحة آنذاك وهي حركة التجسيم.
- هناك محور خطير أخر هو محور العدل الإلهي بين الجبر والاختيار وان هؤلاء الخلفاء هم قدر الهي لايمكن الوقوف أمام هذا القدر وعلى الأمة الخضوع
من هم أبناء الرسول ؟
إن الأئمة (ع) وبرغم تشرفهم بانتسابهم العظيم الى الرسول (ص) إلا إنهم كانوا في حركتهم يؤكدون على المعنى أكثر مما يؤكدون على الانتساب، بينما نرى العكس من ذلك في بني العباس الذين لم يمتلكوا ما عند آل علي من الفضل لكنهم اخذوا يلفقوا تصورا نسبيا لأحقيتهم فقالوا نحن بنو عم النبي (ص) والعباس حينما مات كان حاجبا لعلي (ع) عن الإرث وكأن المسألة مسألة ارث كما هو في إحكام الميراث من تقسيم للأموال الى أسهم، العباس عم النبي سيد من السادة وهو عم لهم وهو نفسه كان يجل علياً (ع) ويعتبره السيد الأول والقائد الأكبر ولكن المسألة ليس مسألة نسب على عظمته ولكنه واقع مثله وجسده علي بن أبي طالب (ع) وأراد العباسيون أن يحيدوا عن هذه الواقعية ويتمسكوا بالمسألة النسبية فقابلهم الأئمة (ع) وعلى رأسهم الإمام الكاظم (ع) في تخطئة هذه المقولة واثبات بطلانها فهم اقرب الى رسول الله (ص) حتى من ناحية النسب وهم اقرب الى رسول الله (ص) حتى بالمعيار النسبي من غيرهم و الحوار مشهور حين سأل هارون الامام: لمَ جوزّتم للعامة والخاصة أن ينسبوكم الى رسول الله (ص) ويقولون لكم: بابني رسول الله، وانتم بنو علي وإنما ينسب المرء الى أبيه وفاطمة إنما هي وعاء، والنبي (ص) جدكم من قبل أمكم ؟ فقال له الامام لو ان النبي (ص) نُشِرَ فخطب إليك كريمتك هل كنت تجبيه ؟ فقال: سبحان الله ولمّ لا أجيبه ! بل افتخر على العرب والعجم بذلك، فقال له الامام لكنه (ص) لايخطب اليَّ ولا أزوجه فقال ولِمَ؟ فقلت لانه ولدني ولم يلدك فقال: أحسنت ياموسى.
ان الامام (ع) يعرف المغزى من هذا الطرح فلم تكن المسألة ملاحاة في النسب. وإنما هو تبيان للحقيقة التي لاتقبل الجدل بأحقية الامام موسى (ع) بقيادة الامة من غيره وبمقدار ما كان يصر العباسيون كان الائمة عليهم السلام يصرون على تثبيت هذه القضية. كان الإمام موسى بن جعفر و أولاده و إبائه عليهم السلام يصرون على طرح المفهوم الحقيقي وهو إنهم أولاد رسول الله. ومن الغريب أن هذه المفردة شغلت حيزا كبيرا من التراث الفكري الإسلامي الأدبي و السياسي مما يعني إنها كانت محورا مهما من محاور الصراع الفكري،
مدرسة الفقه النبوي
لقد نشر الإمام (ع) الفكر الصحيح وقضايا العقيدة، وكان مدرسة للفقه النبوي الصحيح وكان امتدادا لمدرسة أبيه الصادق (عليه السلام ) الذي هو تجسيد كامل لمدرسة رسول الله (ص) في الفقه ومن هنا نجد الحوارات المكثفة بين الإمام (ع) و بين أبي حنيفة رحمه الله، و بين الإمام وبين أبي يوسف وان محور هذه النقاشات لم يكن ترفا فكرياً بل إنها قواعد لبناء هذه الامة وفعلا بنيت حينما اخذ خط القياس مأخذه في تفكير الفقه الإسلامي.
الإمام (ع) كان يقول في باب الفقه و تفقيه المسلمين و ضرورة الالتفات الى هذه الجبهة المهمة حيث أن الفقه و التفقه يجسد الفعل العملي في الشخصية الرسالية، قال الإمام (ع): فقيه واحد ينقذ يتيم من أيتامنا المنقطعين عن مشاهدتنا بتعليم ما هو محتاج اليه اشد على إبليس من ألف عابد لان العابد همه نفسه فقط وهذا همه مع ذات نفسه ذات عباد الله إمامه لينقذهم من أيدي إبليس و مردته ولذلك هو أفضل عند الله من ألف عابد و ألف عابد
موقف السلطة العباسية المضاد
لقد سعت السلطة العباسية أمام هذا الحشد الضخم النوراني من العطاء الإسلامي الى تضعيفه، ولذا نرى في أكثر من مناسبة كانوا يجيئون ببعض التافهين المضحكين والإمام بمجلسه بكل وقاره و يأتي واحد من هؤلاء التافهين يحاول أن يضحك الناس عليه حتى يسقط من هيبته لأن هذه من الأساليب النفسية, عندما تفشل أساليب القوة و القمع، ولا تفيد، وأساليب المجادلة و الحجاج العلمي، فانهم يلجئون الى أسلوب الاستهزاء وهو أسلوب ما زال لحد الآن مستعملاً ضد أبناء الحق، وبعد ان فشلت كل تلك المحاولات وخاب سعيهم لم يبق أمامهم إلا السجن كحل واقعي ينقذهم من الوضع المأزوم الذي يعيشونه وكأن لسان حالهم يقول: (كل شيء حاولنا معه ولم نقدر عليه ) ولأنه كان ربان سفينة النجاة وقائدها فلابد لهم من سجنه.
سجن الإمام في عدة مرات وأول ما سجن في عهد المهدي، ومن ثم في عهد هارون الرشيد وكان رجلا سياسيا لم يسجنه بطريقة عشوائية تبين حقده وغله على شخص الامام (ع) بل لجأ الى أسلوب مسرحي أراد من خلاله ان يبرر لنفسه ولغيره اعتقاله وسجنه للامام (ع)، فراح ووقف بخشوع أمام قبر رسول الله واخذ يبكي وقال له ياابن العم انأ اعتذر منك لأني سوف اسجن ابنك، كما جاء في عيون أخبار الرضا (ع) ج1 ص73 عن أبي إبراهيم البلاد قال: كان يعقوب بن داود يخبرني أنه قال بالإمامة، فدخلت اليه في المدينة في الليلة التي أُخذ فيها موسى بن جعفر (ع) في صبيحتها فقال لي: كنت عند الوزير الساعة يعني, يحيى بن خالد, فحدثني انه سمع الرشيد يقول عند رسول الله (ص) كالمخاطب له بابي أنت وأمي يارسول الله إني اعتذر إليك في أمر عزمتُ عليه، واني أريد ان أخذ موسى بن جعفر فأحبسه، لأني خشيت ان يُلقى بين أمتك حربا تسفك فيها دمائهم, وأنا أحسب انه سيأخذه غدا، فلما كان الغد ارسل الرسل اليه الفضل بن الربيع وهو قائم يصلي في مقام رسول الله (ص) فأمر بالقبض عليه وحبسه.
لماذا يسجن ابنه؟؟ لأنه يريد ان يشتت أمر هذه الأمة و يريد ان يسفك دماء رجال المسلمين، وعليه يجب إن يقتله، فان يكن الى ذلك من سبيل فيسجنه حتى يتمكن من درء الفتنة المزعومة.
وتبادل الأدوار واضح في مواقف الطغاة السابق منهم واللاحق، فالطاغية في يومنا هذا يقوم باعتقال "الحديث كان زمن نظام صدام المنهار" الكوادر الإسلامية العقائدية المحصنة بالفكر والمعرفة فيحكم عليهم بالإعدام او يسجنهم في طواميره او يقتلهم على الفور ويقول عنهم إنهم رجعيون منحرفون، وأنا أريد أن اخلص الأمة من شرورهم.
الاندساس في صفوف الحركة
ان سجن الإمام لم يكن بداية المطاف لصراع الامام (ع) مع طواغيت عصره، بل سبقت تلك المرحلة مرحلة الاستقصاء والتحري والمتابعة والجاسوسية، فلقد وضع الامام تحت الأضواء الكاشفة والمتابعة الدقيقة والدائمة للدولة و استطاعت السلطة أن توظف بعض ضعاف النفوس من أقارب الإمام (ع) وغيرهم، ففي رواية او أكثر من رواية تشير الى أن علي ابن إسماعيل كان هو الموظف لهذه المهمة. وتشير بعض الروايات الى أن محمد ابن إسماعيل هو الذي وظف بمهمة التجسس على الإمام موسى الكاظم و كتب تقريرا سيئا ضد عمه، فقد روي في كتاب إثبات الهداة ج5 ص504 عن علي بن جعفر في حديث أن محمد بن إسماعيل دخل على الامام موسى بن جعفر (ع) وهو يريد بغداد فودعّه فقال له: أوصني ياعم، فقال: أوصيك ان تتقي الله في دمي، ثم أرسل اليه مع علي بن جعفر ثلاثمائة دينار وأربعة آلاف درهم فقال له: إذا كنت تخاف منه مثل الذي ذكرت فَلِم تعينه على نفسك ؟ فقال (ع): إذا وصلته وقطعني قطع الله اجله، قال: فمضى على وجهه حتى دخل على هارون فسّلم له بالخلافة، وقال:ما ظننت ان في الارض خليفتين حتى رأيت عمي موسى بن جعفر يُسلم له بالخلافة، فأرسل اليه هارون بمائة ألف درهم، فرماه الله بالذبحة فما نظر منها الى درهم ولامسه.
وفي المصدر نفسه في الصفحة 520 انه (ع) قال لعلي بن إسماعيل بن جعفر وقد أراد الخروج الى بغداد: انظر يا ابن أخي ان لاتؤتم أولادي، وأمر له بثلاثمائة دينار وأربعة آلاف درهم، فلما قام من بين يديه قال أبو الحسن (ع) لمن حضره: والله ليسعينَّ في دمي ويؤتمن أولادي.
سجن الإمام: المقدمات والتنفيذ
وفي حقيقة الأمر لم تكن الدولة العباسية بحاجة الى مثل هذه التقارير والوشايات لأنها إذا أرادت أن تعتقل أحدا او تودعه السجن فان قدرتها على ذلك موجودة، لكنها تريد أكمال الصورة التي جسدها هارون الرشيد حينما ذهب لقبر رسول الله (ص) وبين انه يريد ان يعتقل الامام ويسجنه خوفا من الفتنة ومن سفك دماء المسلمين، ولتدعيم حجة الرشيد واثبات قوله وتبرير فعله جاءت هذه التقارير من داخل بيت الإمام (ع) من ابن أخيه في هذا التقرير لتبين مصداقية قول الرشيد في ان الإمام (ع) تجبى له الأموال من المشرق و المغرب وانه ينادي بالخليفة وان الامام عنده بيوت وأموال وانه على صلة بعوائل الثوار العلويين.
لقد أرادت السلطات العباسية من خلال جمع هذه التقارير والوشايات واشتمالها على جملة المعاني السابقة والتي من خلالها يمكن ان تشكل إدانة قوية للامام (ع) وتعطي مسوغا لهم للإقدام على اعتقال الامام (ع) إضافة الى عملية خداع لبعض قطاعات الامة لتهدئة الرأي العام.
لقد كان الرأي العام في مدينة رسول الله (ع) تحت تأثير سليل الدوحة النبوية موسى بن جعفر (ع) بتدينه وخلقه وعلمه ونسبه (ع) بالشكل الذي اضطرت فيه السلطة العباسية في اللجوء الى المكر والخديعة عند اعتقال الامام (ع) خوفا من ردود الأفعال غير المحسوبة ومن جملة الاحتياطات والاجرائات الاحترازية التي اتخذت, إنهم سيروا هودجين احدهما حقيقي والأخر وهمي وذلك لتشتيت أراء العامة في الجهة التي ذهب إليها الامام للحيلولة دون بلورة رأي واحد بين صفوف الناس مقابل اعتقال الامام (ع)، ففي كتاب البحار ج48 ص 221 عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي قال: سمعت أبي يقول: لما قبض الرشيد على موسى بن جعفر (ع) وهو عند رأس النبي (ص) قائماً يصلي فقطع عليه صلاته وحُمل وهو يبكي ويقول إليك أشكو يا رسول الله ما ألقى، وأقبل الناس من كل جانب يبكون ويضجون فلما حُمل الى بين يدي الرشيد شتمه وجفاه، فلما جنَّ عليه الليل أمر ببيتين (أي هودجين ) فهُيئا له فحمل موسى بن جعفر (ع) الى إحداهما في خفاء ودفعه الى حسان السَّروي وأمره ان يصير به الى البصرة فيسلمه الى عيسى بن جعفر بن أبي جعفر المنصور، وهو أميرها، ووجه قبة أخرى علانية الى نهارا الى الكوفة معها جماعة ليعمي على الناس أمر موسى بن جعفر (ع).
يتجلى لنا من خلال الرواية السابقة مدى تأثير الامام (ع) على جماهير المدينة عندما رأوه في تلك الحالة فضجوا بالبكاء، وكيف أن جلاوزة هارون سيروا موكب الامام ليلا وخدعوا الناس في الموكب العلني في الصباح التالي، فان ذلك يكشف بلا ريب عن أهمية الدور الذي كان يلعبه الامام (ع) ومكانته في نفوس المسلمين.
و بعد مدة قليلة اسقط بيد ابن عم الخليفة عيسى بن جعفر فبعث لهارون يقول له: إني لا أتحمل بعد هذا اليوم أن يبقى موسى بن جعفر (ع) عندي في السجن لان وجوده في السجن مشكلة ولم استطع أن اثبت عليه أي شيء سيئ, فعليه إما ان تأخذه من السجن او تطلق سراحه.
وليس من المستغرب أن يقول سجان الامام (ع) بجرئة مثل هذه الكلمة عند هارون الرشيد لان عيسى هو ابن جعفر ابن المنصور أخو زوجته الست زبيدة، هو عنصر كبير في الجهاز الحاكم فقال له أما أن تستلم موسى بن جعفر فانا لا أتحمل هذا، فقضيته قضية شائكة صعبة. بناء على ذلك سلموه الى الفضل ابن الربيع، نفس القصة تكررت و ضرب وأُهين الفضل بن الربيع لأنه تساهل مع الإمام موسى بن جعفر (ع)، و طيلة هذه الفترة كانت الاتصالات بين الإمام و شيعته مستمرة، بطريقة او بأخرى.
التصفية الجسدية للإمام وردة الفعل الشعبي
ثم سجن عن السندي بن شاهك وكان هذا السجن طامورة رهيبة لا يُعرف فيها الليل من النهار و الإمام مكبل بالأغلال لا يستطيع الحركة، أضف الى ذلك الأساليب التي مورست مع الإمام، جيء بجارية للإمام وهو بهذا الوضع، والمعنى واضح من ذلك، بالإضافة الى التجسس وتفتضح معاني أخرى، لكن الجارية خرجت و هي ولية من أولياء الله، في هذه الظروف الإرهابية استطاع الإمام أن يتصل بالشيعة و استطاع الشيعة أن يتصلوا بالإمام بطريقة أو بأخرى، صدر الأمر إذن أن يقتل الإمام، لا يوجد حل آخر، قتل الإمام، شهادة الإمام نموذج نمر عليه دائما مرورا سريعا و لكن شهادة الإمام (ع) تحمل عدة معاني نشير الى ما يلي منها:
المعنى الأول
هو عجز الدولة، شهادة الامام هو كشهادة بقية العلماء المجاهدين الذين الآن نحن عاصرناهم و شاهدنا وضعهم، لم تستطع السلطة تحمل تحركهم فكان لا بد من قتلهم، مع أن عملية القتل تؤثر على قرار السلطة إلا أن هذا قرار يجب أن تتخذه، لان هذا إذا استمر، فالمعادلة لا تكون لصالحها، ان عجز الدولة عن إيقاف الامام موسى بن جعفر و اتصاله بقواعده الشعبية كان هو السبب الأساسي في أمر القتل.
المعنى الثاني
الذي أحب أن أشير أليه هو انه حينما قتل هذا الإنسان و انتم تعرفون العملية المؤلمة التي مارستها السلطة و العملية الانتقامية، اذ أخذت الجنازة جنازة هذا العبد الصالح المكبل بالحديد واخذوا ينادون عليه إمام الرافضة، نوع من التوهين والازدراء ونوع من الاعتداء الذي لا يراعي حرمته كميت عادي حتى لو كان من غير المسلمين فضلا عن أن يكونوا من المسلمين و يكون من ذرية رسول الله او أن يكون سيد ذرية رسول الله في زمانه.
حادثة معينة تكشف لنا عن وجود نوع من التعاطف داخل البيت العباسي مع الأئمة و خط الامام هذا الوضع، أنا لا أريد آن أقول انه كان وضعا قويا لصالح حركة الامام, الا أني أريد أن أقول أن ثمة تعاطف كان موجودا وهذا قد يكون احد الثغرات في الجهاز العباسي في مقارعة خط الأئمة لذلك رأينا سليمان العباسي حينما أوصل له بعض الناس بطريقة خاصة أن هذا موسى ابن جعفرامر بتشييعه وتبدل شعار هذا أمام الرافضة هذا الذي تزعم الرافضة بأنه لا يموت الى شعار هذه الجنازة الطيب ابن الطيبين أصبح هناك تغير في الشعارات و تغير الشعارات يعكس حقائق كبيرة في صراع سياسي.
المعنى الثالث
من الصعب ان يحدث تغير بالشعارات بطريقة عشوائية. ومن هنا, فثمة سؤال يطرح نفسه ويتعلق بنا نحن في بعض الأحيان. انه مجرد ان أعلن الإذن بالتشييع خرجت جماهير بمئات الآلاف لتشييع الإمام, أين كان هؤلاء الناس؟!
حقيقة هذا السؤال يطرح نفسه و يحتاج الى المزيد من التفكير و إلقاء الضوء، هل أنهم كانوا يعلمون أن هناك تخطيط من هذا القبيل سيكون فانتظروا لحين تنفيذ العملية؟ أو سؤال غيره، هل انه كان الخوف و قاعدة قلوبنا معك وسيوفنا عليك هي التي كانت تتحكم بالساحة يومذاك؟!
هذه الحالة تحتاج ان تدرس دراسة تحقيق وتمحيص جديين. لان الجواب أن كان بذلك النحو أي نحو التخطيط, فهو ما ينبغي ان نتمسك به ونحرص على ان تكون حركاتنا بهذا الشكل الواعي الرشيد. إما إذا كانت الحقيقة هي ان الوضع كان حسب الاحتمال الثاني فينبغي ان نفكر بطبيعة هذا الخلل المتكرر في البناء الشيعي لما تكون العواطف متقدة باتجاه القيادة الصحيحة و لكنها غير مفعّلة.
وأنا لست في صدد ترجيح احد الاحتمالين ألان وإنما اتحدث وفق طريقة المنهج العلمي في ذكر الاحتمالات. ولكن الافتراض الأولي عندي هو ان الحالة يومذاك هي مزيج من الاحتماليين لاختلاف مديات الفهم ودرجة الانتماء عند القطاعات المختلفة.
استمرار الخط
أخر شيء أريد ان اذكره في حديثي هذا هو ان عملية الولاء لهذا الخط لم تنتكس بوفاة الامام الكاظم. فما هو الدليل؟
الدليل هو انه السلطة العباسية بعد تلك الصراعات الكبيرة التي حدثت بين الأمين و المأمون و إطراف أخرى من البيت العباسي حينما لجا المأمون الى إجبار الامام علي ابن موسى الرضا (عليه السلام) للقبول بولاية العهد فهذا ان دل على شيء فإنما يدل على انه يريد ان يحيّد قطاعا كبيرا من الأمة الصالحة.
وعليه فإن استمرار علي بن موسى الرضا (عليه السلام ) بهذا الموضع القيادي الكبير هو تأكيد على نجاح حركة الامام موسى ابن جعفر (عليه السلام ) وقد استمرت بعد علي ابن موسى الرضا حركة الامام موسى ابن جعفر و شيعته و أبنائه، و استمرت تؤسس هنا وهناك.
وختاما, نسال الله ان يمكّن هذا الخط الكبير من ان يرث العالم فيقيم الحق و يقضي على الباطل و يملا الارض عدلا بعدما ملئت جورا على يد حفيد الامام الكاظم الأكبر أمامنا المهدي أرواحنا له الفداء
كان الإمام الكاظم عليه السلام مدرسة رسالية كبرى في المسيرة الإسلامية ونبراسا نيّرا يهدي السائرين في طريق الله.
كيف لا! وهو ولي الله وابن أوليائه وحجة الله وابن حججه وصفي الله وابن أصفيائه وأمين الله على دينه وابن أمنائه.
كان الإمام الكاظم نورا من أنوار الرسالة المشرقة في ظلمات الأرض ينير طريق العاملين في دياجير الليالي الحالكات. وكان إمام الهدى الذي يدل الناس الى طريق الرشاد والتقى.
كان إمامنا وسيدنا وحبيبنا الإمام الكاظم عليه السلام علم الدين الخافق في أيام المحن الغامرة والدعاوى المنحرفة. فكان خازن علم النبيين والحافظ على ميراث المرسلين. وكانت هذه مهمته القيادية في المجتمع فهو نائب الأوصياء السابقين وسليل ورثة الوحي المبين أئمة ال محمد من أصحاب العلم اليقين وعيبة معارف المرسلين.
لقد جسد إمامنا وقدوتنا الإمام موسى بن جعفر الشخصية الإسلامية الرسالية بأوضح صورها فكان الإمام الصالح الزاهد العابد السيد الرشيد. وعلى هذا الطريق كان مقتولا وشهيدا حاميا ومدافعا عن رسالة أبويه محمد سيد المرسلين وعلي أول الوصيين.
ونحن إذ نسعى لان نتدارس ونتذاكر اليوم منهاج التحرك عند الإمام الكاظم, فلعله من المناسب ان نثبت وباختصار أهم معالم هذا التحرك الرسالي. والتي تشير الفقرات التالية الى ملامح منها. فإمامنا السابع من أئمة أهل البيت عليه السلام
- بلغ عن الله ما حمله
- وحفظ ما استودعه
- وحلل حلال الله
- وحرم حرام الله
- وأقام أحكام الله
- وتلا كتاب الله.
وفي طريق الكفاح هذا دفع إمامنا ثمن حمله للرسالة. فصبر على الأذى في جنب الله وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين فراح الى الله شهيدا محتسبا يشكو ظلم الظالمين.
لقد مضى إمامنا الكاظم عليه السلام سائرا على طريق آبائه الطاهرين وأجداده الطيبين الأوصياء الهاديين والأئمة المهديين. صلبا في حركته واضحا في مسيرته لم يؤثر عمى على هدى ولم يمل من حق الى باطل. ناصحا لله ولرسوله ولأمير المؤمنين. فادى الأمانة التي ائتمن عليها, رافضا ومجتنبا لمنهج الخيانة.
لقد رسم الإمام الكاظم عليه السلام أهم معالم الطريق الإسلامي الرسالي من خلال:
- إقامة الصلاة أي الجانب العبادي
- إيتاء الزكاة أي الجانب الاقتصادي
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أي الجانب الاجتماعي السياسي
كل ذلك محاط بدافع العبادة الخالصة لله بكل اجتهاد واحتساب ويقين. ونحن أمام هذه الشخصية الرسالية الكبيرة ما علينا إلا ان نقول: جزاك الله عن الإسلام والمسلمين أفضل واشرف الجزاء.
وعلى أساس من هذا الفهم الرسالي العقائدي الواضح لهذه الشخصية الكريمة الكبيرة نعتقد بحقه ونقر بفضله ونحمل علمه ونلتزم بخطه ونوالي أولياءه ونعادي أعداءه. ومستبصرين بشأنه وبالهدى الذي عليه وعالمين بضلالة من خالفه وبالعمى الذي هم عليه.
وتأسيسا على هذا الفهم العقائدي المتين فنحن نفدي هذا الخط القويم ونضحي من اجله بآبائنا وأمهاتنا وأنفسنا وأهلينا وأموالنا وأولادنا. متقربين بذلك لله وحده وحده لا شريك له. وطالبين مغفرته ورضوانه وشفاعة رسوله وأهل بيت رسوله بتمسكنا بما امرنا ان نتمسك به.
الإمام الكاظم محور الحركة السياسية
ونحن نعيش في ذكرى استشهاد الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) نحاول ان نغترف شيئا من بحره العظيم المتلاطم، بحر المعرفة و العلم و التقى، ومدرسة الصبر والخلق والسلوك الرباني المعصوم.
ولقد قرضه أئمة العلم في زمانه بما لا زيادة عليه، ومنهم الخطيب البغدادي في كتابه تأريخ بغداد ج13 ص27 بقوله ( كان موسى يدعى العبد الصالح، من عبادته واجتهاده، وكان سخيا كريما وكان يبلغه عن الرجل انه يؤذيه فيبعث إليه بصرة فيها ألف دينار، وكان يسكن المدينة فأقدمه المهدي العباسي بغداد وحبسه فرأى في النوم علي بن أبي طالب (ع) وهو يقول يا محمد:
(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ) محمد 22
فالإمام الكاظم كان المحور الذي تدور حوله حركة الأمة فكان لزاما أن نسلط الأضواء على أجزاء مهمة من منهج الأمام موسى الكاظم (ع) وتحركه في بناء الأمة الإسلامية وفي مقارعة الظلم الذي أحاط به وبأتباعه في تلك المرحلة.
إن دراسة تاريخ الحركة الرسالية الإسلامية بقيادة ائمة اهل بيت النبوة, عبر مراحلها الطويلة منذ تأسيسها في زمن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم إلى يومنا هذا يكشف لنا وبشكل واضح عن أن التشيع لم ينقل إلينا بالهين وبالسهل، بل انه مَّر عبر سيرة طويلة معقدة دامية فيها الكثير من العطاء وفيها الكثير من الدماء وفيها الكثير من الانكسارات النفسية التي تدعو الى الإحباط والتثبيط، لكنَّ هدفيه الرساليين، وهدفية أهل البيت (ع) هي التي أمّنت وصول القافلة إلى هذا الزمان، وان ذاك الركب الصغير من المؤمنين بخط محمد وعلي عليهما السلام هو الذي حول هذه الأمة إلى امة عظيمة واسعة تعد بمئات الملايين.
و إذا أردنا أن نبحث عن احد إسرار هذا التطور الهائل الكبير في الأمة الإسلامية فسيكون دور الأمام موسى بن جعفر (ع) من اكبر الأدوار التي ساهمت في بنيانه وحافظت على ديمومته وجعل من الشيعة وهم ذلك الجسم الثر المعطاء من الأمة الإسلامية الذي تعهد بتكليف من الله عز وجل بحمل رسالة الرسول الأكرم (ص) إلى البشرية جمعاء وجعلها رسالة نقية بعيدة عن التحريف و الانحرافات التي عجت بها كتب التأريخ.
محنة الإمام الكاظم
وعندما نمعن النظر في أحداث التأريخ، نجد أن للامام موسى بن جعفر عليه السلام الدور العظيم في دفع هذه المسيرة بعد وفاة أبيه الصادق سلام الله عليه وانتقال الإمامة إليه.
وكان عمره الشريف عشرين عاما عندما اضطلع بهذه المسؤولية الإلهية، فأكمل مسيرة سلفه الصالح وتجشم أعباء ثقل الإمامة في زمن عتاة الدولة العباسية وهم المنصور الدوانيقي ثم المهدي ثم الهادي ثم الرشيد وكانت مسك ختام حياته الشهادة في زمن الرشيد.
لقد سجن الامام الكاظم (ع) مرات عديدة واختلف الرواة في مدة سجنه، ولكنهم يتفقون في أن المدة لا تقل عن سبعة سنين، هذه المدة كانت مليئة بأنواع العذابات ومشحونة بالحرب النفسية والأذية الجسدية للامام (ع) حتى بلغت الذروة بقتله مسموما سلام الله عليه.
نريد ان نفتتح بحثنا هذا بمقطع من دعاء شهير قد درج الشيعة على قراءته وهو دعاء الجو شن الصغير هذا الدعاء الذي يبين لنا من خلاله الأمام موسى بن جعفر (ع) إبعاد الوضع الرهيب الذي كان يعيشه هو وبقية الثلة الصالحة من حملة الرسالة الصحيحة آنذاك ويكشف عن طبيعة الأساليب النفسية والجسدية التي كان يستخدمها الطغاة من اجل القضاء على الحركة الرسالية الأصيلة.
يبتدأ الامام (ع) مناجاته لربه بقوله: (الهي كم من عدو انتظى علي سيف عداوته) ان استخدام الامام (ع) لأسلوب الاستفهام يبين لنا الحجم الحقيقي لهذا العدو من حيث العدة والعدد، ويعبر عنهم بأنهم انتظوا عليه سيف العداوة، ويقتضي هذا أن تكون طبيعة هذا العداء في أعلى مراتبها، أي انه صراع دموي تصفوي، ثم يردف عليه السلام قائلا ( وشحذ لي ظبة مديته وأرهف لي شبا حده وداف لي قواتل سمومه وسدد نحوي (أو) ألي صواب سهامه، ولم تنم عني عين حراسته، واضمر لي إن يسومني المكروه ويجرعني زعاف مرارته ).
يحدد لنا الامام (ع) بوصفه البلاغي الدقيق طبيعة الأهداف الحقيقية التي يروم العدو الوصول إليها وتتجلى لنا حجم المعاناة التي كان يكابدها ويعاني منها الامام (ع) وأصحابه.
الدولة العباسية القطب الأوحد في العالم
ونحن نعيش في أيامنا هذه, تجلت لنا كثير من الأمور المهمة والتاريخية التي أفرزتها المرحلة السياسية المعاصرة هي مرحلة القطبية الواحدة والتي تجلت معالمها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ولعل الكثير من الذي عاشوا في الولايات المتحدة الامريكبة ودول الغرب بصورة عامة قد عاشوا إرهاصات هذه المرحلة قد أدركوا حقيقة هذه القطبية التي أفرزت الولايات المتحدة كقطب أوحد يحكم العالم وفق نظام واحد وقوة جبارة مهولة لاتقوى أي دولة من الوقوف بوجهها او الحد من سطوتها.
فبالمقارنة مع الحقبة التاريخية التي عاشها الامام الكاظم (ع) يمكن أن نقول إن وضع الدولة الإسلامية العربية العباسية حينذاك كانت تمثل القطب الأوحد في العالم، نعم كانت هناك دويلات وولايات قسم كبير منها في أوربا وقسم منها في الهند والصين وفي غيرها، لكن القطب الأعظم في العالم كان متمثلا بالدولة العباسية الى الحد الذي دعا هرون الرشيد الى مخاطبة الغمامة بقوله: أينما تسقطي تسقطي في ملكي.
وشبيه في الحال الإمبراطورية البريطانية في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، فهي الإمبراطورية التي لاتغيب عنها الشمس. إذن ان القوى الأحادية في العالم ظاهرة ليست بالجديدة بل كانت هي المتحكمة في أغلب الأحيان.
حركة المعارضة بقيادة الإمام
وعلى هذه الأساس يمكن أن نفهم موقف الإمام الكاظم (ع) وصلابته وصموده وتحديه في انه كان يعارض القطب الأوحد في العالم المتمثل في الدولة العباسية في ذلك الزمان، ومنه يمكن أن نفهم طبيعة المعارضة وأبعادها وندرك حجم المصائب التي كانت تجري عليه وما مدى الخطورة التي تجلبها له وعلى شيعته بسب تلك المواقف.
فلم يكن الإمام (ع) معارضاً في دولة بعيدة أو ولاية صغيرة بل هو يعارض القطب الأوحد في العالم المتمثل بالدولة العباسية التي تمتلك من الإمكانات الهائلة التي تؤهلها لسحق أي معارضة كانت غير آبهة بالنتائج، الا إن الإمام بحكمته الربانية وصمود روحه الأبية وقف طودا شامخا أمام طوفان ذلك القطب الجائر.
في تلك الحقبة الزمنية تجاوزت الدولة العباسية مرحلة التأسيس وانتهت مرحلة الصراعات مع فلول بقايا آل أمية من جهة وبعض مؤسسي الدولة اللذين أوصلوا العباسين الى الحكم ثم تنكروا لهم وقتلوهم شر قتلة كأبي مسلم الخراساني وأبي سلمة الخلال، وعليه يمكن القول ان أمورا عدة قد حسمت كانت تكدر صفو العائلة العباسية في خلوص الأمر لها في زمن السفاح (132-136هـ) والمنصور (136-158هـ) وأصبحت الدولة قوية والملك ثابت الأساس للبهاليل من بني العباس كما يقول الشاعر، فلا مشاكل خارجية تشغلها عن التفرغ لمن يقف لهم بالمرصاد، ولا مشاكل اقتصادية تعيقها عن تأمين الدعم المالي للقيام بهذه المهمة، إضافة الى إحكام السيطرة على الوضع الأمني والإعلامي مما جعلها متفرغة للقضاء على المعارضة الداخلية والمتمثلة بالعلويين أصحاب الحق الشرعي في قيادة الأمة.
كان الشيعة في تلك الفترة وبقيادة الامام الكاظم (ع) المعصومة يشكلون الخطر الأكبر الذي يواجه دولة بني العباس بسبب امتلاكهم الرؤيا الفكرية والعقائدية المتميزة والمعززة بالأدلة القوية القاطعة، إضافة الى الإمكانيات الذاتية الرفيعة للقيادة العليا المتمثلة بالإمامة، ناهيك عن التحرك العسكري القوي المتمثل بالثورات الحسينية والتي كانت تسير بخط طولي مع حركة الأئمة سلام الله عليهم، فضلا عن التعاطف الجماهيري الواضح مع رموز أهل البيت (ع) الأمر الذي جعل الدولة العباسية تقف بالمرصاد لكل حركة مهما كانت صغيرة بل حتى لو كانت اعتيادية ولم يكن قصد الإمام (ع) من ذلك الفعل او التصرف المعارضة أصلا.
فلو اشترى الإمام بستانا او حقلا سبقته التقارير الدورية الى السلطة العباسية تخبرهم بذلك ليصبح التصرف المعتاد قضية يتطلب دراستها في الجهاز الأمني للقيادة السياسية للدولة، ويبدأ سيل الأسئلة والتحليلات، لماذا اشترى البستان ؟ ومن أين أتى بالمال ؟ ومن الذي بعثه ؟ وان الإمام كان متفقا مع صاحب البستان أن يدفع له ثلاثين ألف دينار بعملة معينة فحينما رفض صاحب البستان الدفع بتلك العملة دفع له الإمام بالعملة التي أرادها، فتبدأ الأجهزة الأمنية والاستخبارية بدراسة ذلك الموقف وعندما نقول ذلك نثبت ان من يقوم به هو الهرم الأعلى في الدولة المتمثل بهرون الرشيد أي قائد الدولة التي تعادل ممتلكتها أكثر من خمسين دولة الآن، ويبقى سيل التحليلات والأفكار المريبة لماذا اشترى البستان وكيف غير الدفع بالعملة التي أرادها صاحب البستان وان تغيرها يدلل على امتلاكه للسيولة المالية، فما هي الموارد ومن أين جاءت.
وهكذا كانت حركة الإمام (ع) مرصودة بكل جزئياتها، وان جدية الدولة العباسية في موقفها هذا يكشف عن البعد الحركي والاجتماعي والسياسي الذي كان يتمتع به الإمام (ع) وكيف كانت تلك الأجهزة ترتعب من تصرفات الامام العادية في معاملاته اليومية ورغم تلك الدقة المتناهية والمتابعة المستمرة لم تستطع ان ترصد علاقة الامام (ع) بأخلص أصحابه اللذين يعملون في البلاط العباسي بأمر من الامام رغم الوشايات والتقارير التي كانت تصل لهم، الا ان حكمة الامام (ع) وإتباع تعليماته والامتثال لأوامره حال دون الكشف عن تلك الحركة المنظمة المنتشرة في جسد الجهاز الإداري والسياسي للدولة العباسية. .
لقد كانت معاناة الإمام الكاظم (ع) في عصر المنصور الدوانيقي امتدادا لمعانة أبيه الصادق (ع) وبقية الثوار والشخصيات العلوية القيادية في المجتمع، كما إن فترة المهدي العباسي(158-169هـ) على الرغم من استمرارها على نفس النهج المعادي لإل محمد (ص) إلا إن الوضع شهد نوعا من تخفيف الحدة في المطاردة والمتابعة للشيعة ولكن ذلك ولايعني عدم استمرار رصد السلطة للامام (ع) وشيعته.
أما في عصر الهادي الذي عاش فيه الإمام الكاظم (ع) سنة وبعض الأشهر، فقد بلغ الاضطهاد فيه درجة عالية جدا، بالشكل الذي جعل الوضع السياسي متأزماً وكان من نتائجه ثورة الحسين بن علي الحسني في واقعة فخ.
ثورة فخ
وفخ وهي بئر بينها وبين مكة فرسخ تقريبا وبطل هذه الواقعة هو الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ( رضوان الله عليه ) وزوجته زينب بنت عبد الله بن الحسن، وكان من كرام الرجال ومن عظماء الثوار وكان أبي النفس، شديدا في الله وقاد ثورة إسلامية تدعو الى الرضا من إل محمد وكان يدعو لبيعة الناس على الكتاب والسنة ولمحاربة الظلم وإحقاق الحق وإعطاء الفقراء حقوقهم.
ان هذه الثورة العلوية ومن خلال الكثير من القرائن كانت مدعومة من الإمام موسى بن جعفر (ع) فلقد قال حين رأى رأس الحسين بن علي حسين فخ:
(إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون مضى والله مسلما صالحا صوامَّاً آمراً بالمعروف ناهيا عن المنكر، ما كان في أهل بيته مثله ).
وكان كلامه (ع) على مرأى ومسمع من قيادة الهرم السياسي في الدولة العباسية، وكذلك يمكن تلمس هذا الدعم من خلال دعاء الإمام موسى الكاظم (ع) وتسديده للحسين بن علي حسين فخ ومن خلال رعاية الإمام لعوائل الشهداء فخ.
تأسيس دولة الأدارسة في المغرب
واستمرت جذوة المعارضة أو بكلمة أدق حركات العلويين. وبعض الأحيان حينما يقرأ التاريخ مجزءاً ومن غير تمحيص للحقائق لا نستطيع ان نأخذ العبرة بشكل واع وبصورة كاملة، ففي أعقاب ثورة فخ استطاع بعض العلويين من التخلص من سطوة بني العباس والفرار بدينهم في أصقاع الارض مهاجرين في ارض الله الواسعة وهم ثابتون وحاملون لخط الرسالة الإسلامية فالسيد الجليل إدريس (رضوان الله عليه ) استطاع أن يتملص من قبضة جلاوزة بني العباس بطريقة مرتبة و دقيقة جدا، وقد ذكر المؤرخ المصري الشيخ محمد الخضري بك في كتابه الدولة العباسية هذه الحركة الكبيرة في التاريخ وذكر قائدها فقال:
هو إدريس بن عبد الله بن الحسن المثنى ممن هرب من وقعة فخ، وهو اخو يحيى سار الى مصر ومنها اتجه الى بلاد المغرب الأقصى فالتف حوله برابرة أوربة فكّون هناك أول خلافة للعلويين وهي دولة الادارسة، وكان نزوله بمدينة وليلى سنة 172 هـ، وكانت بيعته في تلك السنة، ولما بلغ هارون إن أمر إدريس قد استقام ببلاد المغرب وكثرت جنوده وفتح بلاد تلمسان وانه عازم على غزو أفريقيا، همَّ ان يرسل له جيشاً ولكنه عدل عن ذلك لبعد الشقة واختار رجلا داهية اسمه سليمان بن جرير ويعرف بالشامخ وطلب منه ان يحتال في قتل إدريس وزوده مالا وطرفا يستعين به على أمره، فسافر الرجل ووصل الى إدريس مظهرا النزوع اليه متبرئاً من الدعوة العباسية، فقبله ادريس واختص به وأعجب بحديثه ولما انتهز الفرصة سمه إما في طيب وفر هاربا فمات إدريس سنة 177هـ ولم يكن له ولد إلا ان أمته كانت حاملا فانتظروا وضع حملها فوضعت ذكرا سمي إدريس على اسم أبيه وبايعوه بالخلافة واستمرت دولة الادارسة في المغرب رغم ارادة هارون الرشيد العباسي القضاء عليها. وحينما ولد أعطي اليه الأمر أعطيت اليه القيادة واحتضن هذا الصبي العلوي المبارك من قبل أولئك النخبة من شيعه آل محمد حتى بنوا دولة كانت شوكة في خاصرة المعتدين.
هذه الدولة العلوية الفتية بددت كلمة هارون الرشيد التي يقول بها متبجحا مخاطبا السحابة ما مضمونه: أمطري فحيث تمطري فانك تمطري على ملكي.. حيث أصبح السحاب يمطر في بعض الأحيان ليس على ملكه إنما على ملك آل بيت رسول الله.
اضطهاد ال الرسول
كان السجن احد معالم هذه المرحلة وكان أبناء رسول الله وعلي على رأسهم الإمام الكاظم (ع) لهم حضور متميز ودائم في السجون العباسية فقد سجن في هذه الفترة: محمد بن يحيى الحسني ومات بالسجن.
وسجن الحسين بن عبد الله وهو من السادات الهاشميين لإجلاء من سلالة جعفر الطيار (ع) ومات بالسجن اثر التعذيب الشديد.
وسجن العباس ابن محمد وهو من سلالة الإمام الحسن (ع) ومات بالسجن اثر التعذيب بالضرب بالعمود الحديد، عذب بالضرب العمود الحديدي هذا السيد الحسني الجليل واستشهد بالسجن.
حتى بعض العلويين الذين لم يكونوا متمحضين في العمل السياسي أو الدعوة لآل البيت كانوا مجرد علويين كان مجرد أن ينتمي نسبهم لآل البيت يؤدي الى سجنهم ومن أمثلة ذلك عبد الله بن حسن بن علي بن علي بن الحسين من سلالة الإمام الحسين (ع) و هو الحسن الأفطس كما هو مذكور في كتب الأنساب و هذا سجن عند جعفر البر مكي وقتله جعفر البرمكي دون إن يأخذ الإذن كما تقول الروايات ويبدو أن الأصابع العباسية مؤثرة على هذه الروايات قتله جعفر البرمكي بدون اخذ الإذن من الرشيد وقدم رأسه هدية للرشيد في احد الاعياد وحينما سأله عن هذا قال انه فلان ابن فلان وذكر له كالعادة انه قتل ضمن بعض السجناء ممن اعتقد انك تكرههم، تعجب الرشيد قال له عجيب انك تقتل الناس، أنا لم أعطك الإذن أصبح الرشيد هنا ذا إنسانية عارمة ويقال انه عندما قتل البرامكة وقتل جعفر قال اقتلك بدم ابن عمي الذي قتلته بدون أذني يبدو انه إذا قتل العلوي بدون إذن هارون الرشيد فهو عمل جيد إذا قتل بدون إذنه هناك إشكال إداري ولا يوجد إشكال مبدئي.
وكذلك قصة البيوت الثلاثة التي كانت مملوءة بالعلويين في كل غرفة عشرين سيد علوي من ذرية علي وفاطمة. و لا اعتقد أن كل اؤلئك العلويين كانوا قادة في العمل السياسي، إنما كانوا قادة بالقوة كما يقول الفلاسفة. وقانون الطوارئ العباسي يومذاك انه من الممكن إن يكونوا مشروع قوة تغيّرية قادمة - كما هو الحال في عراق صدام عندما يقتل الإنسان البريء، لأنه يمكن أن يكون مشروعا بالقوة لإقامة حكم أسلامي أو حكم إنساني صالح في العراق.
من معالم هذه المرحلة كذلك أن يحيى بن عبد الله الحسيني و هو ربيب الأمام الصادق (ع) و حينما يتحدث عن الأمام الصادق (ع) يقول حدثني حبيبي جعفر بن محمد الصادق (ع) هذا السيد استطاع الهرب في أعقاب ثورة الحسين بن علي صاحب فخ (رضوان الله عليه ) هرب الى الديلم وأسس بعض القواعد الشيعية وحاول التحرك في اتجاه الصدام مع الدولة العباسية، ولكن حينما أصبح الصدام قويا وأصبحت القوة المسلحة للدولة اكبر تفرق الثوار من حوله نتيجة لشراسة الهجمة وبطبيعة الحال عندما تقوم قوة غاشمة تمتلك من القوى مايفوق إمكانيتهم يهرب الناس لانهم متفاوتون حيث الإيمان والإخلاص والمصداقية، وعليه بقي هذا الثائر العلوي وحيدا فريدا
في هذه الظروف أرسل له هارون الرسل أعطاها فيها الأمان بالصيغة الفلانية كتب له صيغة، ولكن يحيى الحسيني رفض تلك الصيغة وكتب صيغة أخرى للامان قال أنا لا اسلم نفسي بهذه الصيغة وكانت صيغة محكمة لأنها صدرت عن فقيه من فقهاء آل بيت النبوة، وقبل الرشيد هذه الصيغة بعد ذلك غدر، وساعده فقهاء السلطان على هذا الغدر وقالوا له يمكن أن تقبله ولكن كلف شخص آخر يغتاله بالسوق فلا تكون أنت القاتل المباشر ووجدوا له تخريجا شرعيا. فقتله و تخلص من مشكلة الأمان التي أعطاها له.
الوضع الداخلي للحركة الشيعية
ويمكن القول ان هناك ثمة وضع داخلي ووضع خارجي واجهه تحرك الامام الكاظم. إما على صعيد الوضع الداخلي فلم يكن الوضع سهلا فقد لاقى الإمام موسى بن جعفر (ع) وضعا معقدا الى حد ما في صفوف الحركة الشيعية آنذاك و استطاع أن يجتاز هذه العقبات وان يديم عمله البناء في اعداد النخبة الصالحة من شيعة محمد وال محمد.
فبعد وفاة الإمام الصادق (ع) كانت هناك عدة فرق نجملها بالاتي:
- فرقة قالت آن الإمام الصادق لم يمت وانه هو الذي سيرسله الله في آخر الزمان فيملا الارض عدلا بعد أن ملئت ظلما، ويقال لهذه الفرقة الناووسية وهم أتباع رجل يقال له عجلان بن ناووس من قرية ناووس قرب البصرة وكان عندهم آراء و مقولات، من الطبيعي أن حركة موسى ابن جعفر (سلام الله عليه ) سوف تصطدم بهذه المعتقدات.
- فرقة أخرى قالت، فقال ان الإمام بعد الإمام الصادق هو ابنه إسماعيل و ان إسماعيل لم يمت وانه هو الذي سيكون الأمام القائم، وقد حسب الامام الصادق لذلك احتاط لهذا الأمر بامور كثيرة فقد روي في إكمال الدين ج1 ص 160 وفي بحار الأنوار ج47 ص 247 عن زرارة بن أعين قال: دعا الامام الصادق (ع) داود بن كثير الرقي وحمران بن أعين وأبا بصير ودخل عليه المفضل بن عمر وأتى بجماعة حتى صاروا ثلاثين رجلا فقال: يا داود أكشف عن وجه إسماعيل فكشف عن وجهه فقال: تأمله يا داود فأنظره حي هو أم ميت ؟ فقال بل هو ميت، فقال: يفعله على رجل رجل حتى أتى على أخرهم فقال (ع): اللهم اشهد ثم أمر بغسله وتجهيزه ثم قال: يا مفضل أحسر عن وجهه فحسر عن وجهه، فقال أهو حي أم ميت ؟ أنظروه أجمعكم.
وبعدما تأكدوا من موته, قال لهم: شهدتم بذلك وتحققتموه؟ قالوا نعم وقد تعجب الله، فعله فقال: اللهم اشهد عليهم ثم حُمل الى قبره فلما وضع في لحده قال: يامفضل اكشف عن وجهه فكشف عن فقال للجماعة:انظروا أحي هو أم ميت ؟ فقلنا:بلى ياولي الله، فقال: اللهم اشهد فانه سيرتاب المبطلون يريدون إطفاء نور الله ثم أومأ الى موسى (ع) وقال: والله متم نوره ولو كره الكافرون، ثم حثوا عليه التراب، ثم أعاد علينا القول فقال: الميت المكفن المحنط المدفون في هذا اللحد من هو ؟ قلنا: إسماعيل ولدك، فقال: اللهم اشهد، ثم أخذ بيد موسى فقال هو حق والحق معه ومنه والى ان يرث الأرض ومن عليها.
ولكن كما هو معروف في كل حركة سياسية هناك بعض الناس من ذوي الطموحات داخل هذه الحركة يحبون أن يجروا الخط العام للحركة لاهدافهم بسبب توجهاتهم المصلحيه.
- توجه أخر هو التوجه الذي التف حوله حفيد الإمام جعفر الصادق وهو محمد بن إسماعيل فقال إن الإمامة لا ترجع القهقرى وان الإمامة كانت فقط للحسن والحسين (ع) وهذا بنص الرسول فيما بعد تكون في الأعقاب والأعقاب، وقالوا إن إسماعيل حينما مات أوصى الإمام الصادق لابنه محمد بن إسماعيل. وبناء على هذه النظرية اسسو الدولة الإسماعيلية.
- وجماعة أخرى قالت إن الإمام هو محمد بن جعفر. وهذا السيد لم يدع الإمامة كما ادعى البعض، بل انه كان رمزا من رموز الثوار ولذلك اتخذته الزيدية إماما لهم ومتبوعا من قبلهم، وكان إذا خرج يحيط به مائتا إنسان من الزيدية اللذين كانوا يسمونهم الزيدية الجارودية وهي فرقة من فرق الزيدية. واقصد بالخروج الخروج الاجتماعي العادي وليس خروج الحرب ومن خلال ذلك نستطيع أن نتصور الحضور الاجتماعي والشعبي له.
-كانت هناك فرقة لها دور سيء ضد الإمام، وهذه الفرقة يقودها عبد الله الافطح وهو اكبر أبناء الإمام الصادق بعد إسماعيل الذي توفي في حياة أبيه ولم تكن منزلة عبد الله عند أبيه الصادق (ع) منزلة غيره من أخوته في الإكرام وكان متهما في الخلاف على أبيه في الاعتقاد وقد قال ابن حزم في جمهرة انساب العرب في الصفحة 59 (فقد قدم زرارة المدينة فلقي عبد الله فسأله مسائل في الفقه فألفاه في غاية الجهل فرجع عن إمامته) وقد تبعه جماعة يقال لهم الفطحية وهؤلاء آذوا وعبثوا وخلقوا عقبات أمام الحركة الأصلية للإسلام الممثلة بالإمام الكاظم (ع)
وأريد أن أقول إن هذه الفرق قسم منها لم تكن ضعيفة بدليل إنها استطاعت تأسيس دولة فيما بعد. ولكن من الطبيعي، وهو حقيقة الأمر فان الخط الأكثر والخط الأغلب والخط الذي تتوجه اليه أنظار الشيعة وهو خط الإمام موسى بن جعفر (ع) ينتمون الى خطه وتلك الخطوط قسم منها فيها جزء من الصلاح وقسم منها بها اشتباهات كثيرة ولكن لاتمثل الخط الأساسي لحمل الإمامة الشرعية.
واحدة من القضايا التي واجهت حركة الائمة, هي قضية الواقفة. صحيح انها ظهرت بعد الإمام موسى بعد وفاته والتي دعت الى الوقف وقالوا ان الامام لم يمت وإنما سيبعث في آخر الزمان وذلك بسبب الأموال التي كانت متكدسة عند بعض وكلائه، ويذكر ان اثنين من وكلائه من اللذين ائتمنهم الناس على أمواله ولكنهم خانوا وهذا يدل الى ان الأموال بلغت حدا يطمع فيه الطامعون من ضعاف النفوس، ويعزى أمر زيادة الأموال الى استقرار أحوال الدولة من الناحية الاقتصادية وهذا يترتب عليه حالة من الترف وكثرة مظاهر الفساد والمجون وهذا ما يتضح من طبيعة الشعر، الذي يمتاز في بعض جوانبه بالمجون والفساد بدرجة كبيرة جدا قياسا الى شعر المراحل السابقة وهو نتيجة طبيعية للترف الشديد للمجتمع.
لقد نشطت حركة الزنادقة وكان لها حضور شديد جدا، بعض المؤرخين عندما يصلون الى المهدي كانوا يقولون إن اضطهاده للشيعة كان قليلا جدا لانشغاله بقضية اخرى اذ ان حركة الزنادقة كانت قد نشطت نشاطا قويا جدا في زمن المهدي، وكانت تشكل خطرا محدقا بأصل الدولة الإسلامية والشيعة مؤمنون بان هذه الدولة قد أسسها الرسول (ص)، وان الزنادقة كانوا يريدون ان يقضوا على أساس هذه الدولة، هذه الحركة وغيرها من الحركات الهدامة واجهها الأمام الكاظم (ع)
ونمت مذاهب فقهية كثيرة, وقسم منها اصطنع للوقوف امام فقه اهل البيت. وإذا أردنا المزيد يمكن الرجوع الى كتاب الاحتجاج وكتب أخرى لحملة تراث آل محمد (ع) نجد أن الدولة سعت سعيا كبيرا من اجل خلق مذاهب فقهية وفكرية لأنها لم تكن تريد أن تقارع الأئمة (ع) فقط من خلال التجسس والقتل وغيره وإنما من خلال أطروحات يمكن أن يخدع بها قطاعات من الناس مخلصين.
لهذا الحد فقد سلطنا الضوء على حركة الإمام على ثلاث مساحات واوضحنا:
أولا: طبيعة حركة الدولة الإرهابية ضده.
ثانيا: مشاكل داخلية عند الشيعة.
ثالثا: مشاكل عند الأمة الإسلامية بصورة عامة.
حركة الإمام الكاظم
وفي مثل هذه الظروف تحرك الإمام (ع) منطلقا من عظمة العقيدة الإسلامية وتراث أهل البيت (ع) ومعالم الأصالة عند المسلمين. ونؤكد على النقطة الأخيرة لان عموم حركة الأمة هي حركة أصيلة لاشك في ذلك، ومثل ما ان الدولة كانت تستثمر جهل المسلمين لتوظيفه ضد حركة الأئمة فان الأئمة (ع) قد وظفوا الكثير من معالم الأصالة الإسلامية لخدمة حركتهم لان الأمة تعتمد في حركتها على الكثير من ارث رسول الله (ص) فعلى سبيل المثال ان حب أهل البيت (ع) غير مقصور على الشيعة فحب الناس للشيخ عبد القادر الكيلاني لاعتقادهم بكونه من سلالة الرسول (ص) وكذلك الشيخ امحد الرفاعي وغيرهم.
الإمام الكاظم (ع) يعبر عن القيادة الإسلامية الأصيلة وهو في موقع التصدي للطغيان المرتب والمنظر له باسم الدين, وتراث الإمام الفكري يقدم صورة جلية عن جهوده في طريق بناء الأمة.
العلم الصحيح
لقد كان الإمام الكاظم (ع) من المصادر المهمة لفقه لأهل البيت (ع) إضافة الى التراث العظيم المروي عنه (ع) في جميع مسائل العلم والمعرفة ومنها رسالته (ع) في وصف العقل التي تقدم رؤيا فلسفية تتحدث عن الالتزامات العلمية التي توجبها هذه الرؤيا الإسلامية للعقل في حين إن التيارات الفلسفية آنذاك كانت متصارعة ومتضاربة في الساحة الثقافية للأمة الإسلامية.
فضلا عن رسالة له في التوحيد حين اشتدت خطر حركة الزنادقة والملاحدة ويمكن الرجوع إليها في أصول الكافي.
مع سيل من الأحاديث في التربية والنصائح والحكم والدعاء ولعل دعاء الجوشن الصغير خير شاهد على ذلك، هذا الدعاء الذي ينبغي أن يقرأه كل مؤمن باعتباره يشير الى محطات مهمة قد مر بها أبناء تلك المدرسة العظيمة في سجون الطغاة ناهيك عن خريجي مدرسة الإمام الكاظم من المسلمين الرساليين المتمسكين بمنهج أهل البيت (ع) كهشام بن الحكم احد رموز تلك المدرسة المحمدية والذي ترك اكبر الأثر في نصرة الحق وأهله وأحد أعمدة المتكلمين في الأمة الإسلامية.
بناء العناصر القيادية
وعلى نفس الرقي والمستوى العالي خرّجت هذه المدرسة رجالا كان لهم الأثر البارز والمهم في العمل السياسي ومن أجل الأمثلة على ذلك علي بن يقطين الذي تسنم أعلى الدرجات الوظيفية في الدولة السياسية رغم كونه احد كبار رجالات الشيعة ومن خواص الإمام (ع) وتجلى ذلك من خلال حكمته في مدراة الأمور والتكتم الشديد والتحمل الكبير، والابتعاد عن المزاجية والانفعالات العاطفية لان هدفه اكبر بكثير من تلك الأمور وقد شكى مرة للامام من ثقل هذه المسؤولية وكان رد الإمام له بأنها ضريبة وعليك أن تبقى فيها لان لك فيها دور.
الصراع مع الخطوط المنحرفة عن الإسلام
لقد خاض الإمام صراعا فكريا الى جانب صراعه مع السلطة الغاصبة، بل إن منهجه الفكري ومنهجه السياسي كان منهجا واحدا يستمد من نفس المصدر الرسالي لخدمة نفس الأهداف. ومن المعالم الفكرية التي تصدى لها نذكر النماذج التالية:
- منها محاربة الدعوات المنحرفة وفي المقابل تثبيت العقائد الصحيحة عند الناس.
- ومنها إثبات بطلان المجسمين لله وكانت هذه الحركة قوية في صفوف الأمة ولازالت أثارها باقية الى اليوم تلك الحركة المنحرفة التي تجسد الخالق جل وعلا وتقول إن له يدا وانه يتحرك وانه ينزل من درجات وانه يضع رجله في جهنم فتمتلئ، وكانت هذه احد محاور الحرب ضد حركة الإسلام الصحيحة آنذاك وهي حركة التجسيم.
- هناك محور خطير أخر هو محور العدل الإلهي بين الجبر والاختيار وان هؤلاء الخلفاء هم قدر الهي لايمكن الوقوف أمام هذا القدر وعلى الأمة الخضوع
من هم أبناء الرسول ؟
إن الأئمة (ع) وبرغم تشرفهم بانتسابهم العظيم الى الرسول (ص) إلا إنهم كانوا في حركتهم يؤكدون على المعنى أكثر مما يؤكدون على الانتساب، بينما نرى العكس من ذلك في بني العباس الذين لم يمتلكوا ما عند آل علي من الفضل لكنهم اخذوا يلفقوا تصورا نسبيا لأحقيتهم فقالوا نحن بنو عم النبي (ص) والعباس حينما مات كان حاجبا لعلي (ع) عن الإرث وكأن المسألة مسألة ارث كما هو في إحكام الميراث من تقسيم للأموال الى أسهم، العباس عم النبي سيد من السادة وهو عم لهم وهو نفسه كان يجل علياً (ع) ويعتبره السيد الأول والقائد الأكبر ولكن المسألة ليس مسألة نسب على عظمته ولكنه واقع مثله وجسده علي بن أبي طالب (ع) وأراد العباسيون أن يحيدوا عن هذه الواقعية ويتمسكوا بالمسألة النسبية فقابلهم الأئمة (ع) وعلى رأسهم الإمام الكاظم (ع) في تخطئة هذه المقولة واثبات بطلانها فهم اقرب الى رسول الله (ص) حتى من ناحية النسب وهم اقرب الى رسول الله (ص) حتى بالمعيار النسبي من غيرهم و الحوار مشهور حين سأل هارون الامام: لمَ جوزّتم للعامة والخاصة أن ينسبوكم الى رسول الله (ص) ويقولون لكم: بابني رسول الله، وانتم بنو علي وإنما ينسب المرء الى أبيه وفاطمة إنما هي وعاء، والنبي (ص) جدكم من قبل أمكم ؟ فقال له الامام لو ان النبي (ص) نُشِرَ فخطب إليك كريمتك هل كنت تجبيه ؟ فقال: سبحان الله ولمّ لا أجيبه ! بل افتخر على العرب والعجم بذلك، فقال له الامام لكنه (ص) لايخطب اليَّ ولا أزوجه فقال ولِمَ؟ فقلت لانه ولدني ولم يلدك فقال: أحسنت ياموسى.
ان الامام (ع) يعرف المغزى من هذا الطرح فلم تكن المسألة ملاحاة في النسب. وإنما هو تبيان للحقيقة التي لاتقبل الجدل بأحقية الامام موسى (ع) بقيادة الامة من غيره وبمقدار ما كان يصر العباسيون كان الائمة عليهم السلام يصرون على تثبيت هذه القضية. كان الإمام موسى بن جعفر و أولاده و إبائه عليهم السلام يصرون على طرح المفهوم الحقيقي وهو إنهم أولاد رسول الله. ومن الغريب أن هذه المفردة شغلت حيزا كبيرا من التراث الفكري الإسلامي الأدبي و السياسي مما يعني إنها كانت محورا مهما من محاور الصراع الفكري،
مدرسة الفقه النبوي
لقد نشر الإمام (ع) الفكر الصحيح وقضايا العقيدة، وكان مدرسة للفقه النبوي الصحيح وكان امتدادا لمدرسة أبيه الصادق (عليه السلام ) الذي هو تجسيد كامل لمدرسة رسول الله (ص) في الفقه ومن هنا نجد الحوارات المكثفة بين الإمام (ع) و بين أبي حنيفة رحمه الله، و بين الإمام وبين أبي يوسف وان محور هذه النقاشات لم يكن ترفا فكرياً بل إنها قواعد لبناء هذه الامة وفعلا بنيت حينما اخذ خط القياس مأخذه في تفكير الفقه الإسلامي.
الإمام (ع) كان يقول في باب الفقه و تفقيه المسلمين و ضرورة الالتفات الى هذه الجبهة المهمة حيث أن الفقه و التفقه يجسد الفعل العملي في الشخصية الرسالية، قال الإمام (ع): فقيه واحد ينقذ يتيم من أيتامنا المنقطعين عن مشاهدتنا بتعليم ما هو محتاج اليه اشد على إبليس من ألف عابد لان العابد همه نفسه فقط وهذا همه مع ذات نفسه ذات عباد الله إمامه لينقذهم من أيدي إبليس و مردته ولذلك هو أفضل عند الله من ألف عابد و ألف عابد
موقف السلطة العباسية المضاد
لقد سعت السلطة العباسية أمام هذا الحشد الضخم النوراني من العطاء الإسلامي الى تضعيفه، ولذا نرى في أكثر من مناسبة كانوا يجيئون ببعض التافهين المضحكين والإمام بمجلسه بكل وقاره و يأتي واحد من هؤلاء التافهين يحاول أن يضحك الناس عليه حتى يسقط من هيبته لأن هذه من الأساليب النفسية, عندما تفشل أساليب القوة و القمع، ولا تفيد، وأساليب المجادلة و الحجاج العلمي، فانهم يلجئون الى أسلوب الاستهزاء وهو أسلوب ما زال لحد الآن مستعملاً ضد أبناء الحق، وبعد ان فشلت كل تلك المحاولات وخاب سعيهم لم يبق أمامهم إلا السجن كحل واقعي ينقذهم من الوضع المأزوم الذي يعيشونه وكأن لسان حالهم يقول: (كل شيء حاولنا معه ولم نقدر عليه ) ولأنه كان ربان سفينة النجاة وقائدها فلابد لهم من سجنه.
سجن الإمام في عدة مرات وأول ما سجن في عهد المهدي، ومن ثم في عهد هارون الرشيد وكان رجلا سياسيا لم يسجنه بطريقة عشوائية تبين حقده وغله على شخص الامام (ع) بل لجأ الى أسلوب مسرحي أراد من خلاله ان يبرر لنفسه ولغيره اعتقاله وسجنه للامام (ع)، فراح ووقف بخشوع أمام قبر رسول الله واخذ يبكي وقال له ياابن العم انأ اعتذر منك لأني سوف اسجن ابنك، كما جاء في عيون أخبار الرضا (ع) ج1 ص73 عن أبي إبراهيم البلاد قال: كان يعقوب بن داود يخبرني أنه قال بالإمامة، فدخلت اليه في المدينة في الليلة التي أُخذ فيها موسى بن جعفر (ع) في صبيحتها فقال لي: كنت عند الوزير الساعة يعني, يحيى بن خالد, فحدثني انه سمع الرشيد يقول عند رسول الله (ص) كالمخاطب له بابي أنت وأمي يارسول الله إني اعتذر إليك في أمر عزمتُ عليه، واني أريد ان أخذ موسى بن جعفر فأحبسه، لأني خشيت ان يُلقى بين أمتك حربا تسفك فيها دمائهم, وأنا أحسب انه سيأخذه غدا، فلما كان الغد ارسل الرسل اليه الفضل بن الربيع وهو قائم يصلي في مقام رسول الله (ص) فأمر بالقبض عليه وحبسه.
لماذا يسجن ابنه؟؟ لأنه يريد ان يشتت أمر هذه الأمة و يريد ان يسفك دماء رجال المسلمين، وعليه يجب إن يقتله، فان يكن الى ذلك من سبيل فيسجنه حتى يتمكن من درء الفتنة المزعومة.
وتبادل الأدوار واضح في مواقف الطغاة السابق منهم واللاحق، فالطاغية في يومنا هذا يقوم باعتقال "الحديث كان زمن نظام صدام المنهار" الكوادر الإسلامية العقائدية المحصنة بالفكر والمعرفة فيحكم عليهم بالإعدام او يسجنهم في طواميره او يقتلهم على الفور ويقول عنهم إنهم رجعيون منحرفون، وأنا أريد أن اخلص الأمة من شرورهم.
الاندساس في صفوف الحركة
ان سجن الإمام لم يكن بداية المطاف لصراع الامام (ع) مع طواغيت عصره، بل سبقت تلك المرحلة مرحلة الاستقصاء والتحري والمتابعة والجاسوسية، فلقد وضع الامام تحت الأضواء الكاشفة والمتابعة الدقيقة والدائمة للدولة و استطاعت السلطة أن توظف بعض ضعاف النفوس من أقارب الإمام (ع) وغيرهم، ففي رواية او أكثر من رواية تشير الى أن علي ابن إسماعيل كان هو الموظف لهذه المهمة. وتشير بعض الروايات الى أن محمد ابن إسماعيل هو الذي وظف بمهمة التجسس على الإمام موسى الكاظم و كتب تقريرا سيئا ضد عمه، فقد روي في كتاب إثبات الهداة ج5 ص504 عن علي بن جعفر في حديث أن محمد بن إسماعيل دخل على الامام موسى بن جعفر (ع) وهو يريد بغداد فودعّه فقال له: أوصني ياعم، فقال: أوصيك ان تتقي الله في دمي، ثم أرسل اليه مع علي بن جعفر ثلاثمائة دينار وأربعة آلاف درهم فقال له: إذا كنت تخاف منه مثل الذي ذكرت فَلِم تعينه على نفسك ؟ فقال (ع): إذا وصلته وقطعني قطع الله اجله، قال: فمضى على وجهه حتى دخل على هارون فسّلم له بالخلافة، وقال:ما ظننت ان في الارض خليفتين حتى رأيت عمي موسى بن جعفر يُسلم له بالخلافة، فأرسل اليه هارون بمائة ألف درهم، فرماه الله بالذبحة فما نظر منها الى درهم ولامسه.
وفي المصدر نفسه في الصفحة 520 انه (ع) قال لعلي بن إسماعيل بن جعفر وقد أراد الخروج الى بغداد: انظر يا ابن أخي ان لاتؤتم أولادي، وأمر له بثلاثمائة دينار وأربعة آلاف درهم، فلما قام من بين يديه قال أبو الحسن (ع) لمن حضره: والله ليسعينَّ في دمي ويؤتمن أولادي.
سجن الإمام: المقدمات والتنفيذ
وفي حقيقة الأمر لم تكن الدولة العباسية بحاجة الى مثل هذه التقارير والوشايات لأنها إذا أرادت أن تعتقل أحدا او تودعه السجن فان قدرتها على ذلك موجودة، لكنها تريد أكمال الصورة التي جسدها هارون الرشيد حينما ذهب لقبر رسول الله (ص) وبين انه يريد ان يعتقل الامام ويسجنه خوفا من الفتنة ومن سفك دماء المسلمين، ولتدعيم حجة الرشيد واثبات قوله وتبرير فعله جاءت هذه التقارير من داخل بيت الإمام (ع) من ابن أخيه في هذا التقرير لتبين مصداقية قول الرشيد في ان الإمام (ع) تجبى له الأموال من المشرق و المغرب وانه ينادي بالخليفة وان الامام عنده بيوت وأموال وانه على صلة بعوائل الثوار العلويين.
لقد أرادت السلطات العباسية من خلال جمع هذه التقارير والوشايات واشتمالها على جملة المعاني السابقة والتي من خلالها يمكن ان تشكل إدانة قوية للامام (ع) وتعطي مسوغا لهم للإقدام على اعتقال الامام (ع) إضافة الى عملية خداع لبعض قطاعات الامة لتهدئة الرأي العام.
لقد كان الرأي العام في مدينة رسول الله (ع) تحت تأثير سليل الدوحة النبوية موسى بن جعفر (ع) بتدينه وخلقه وعلمه ونسبه (ع) بالشكل الذي اضطرت فيه السلطة العباسية في اللجوء الى المكر والخديعة عند اعتقال الامام (ع) خوفا من ردود الأفعال غير المحسوبة ومن جملة الاحتياطات والاجرائات الاحترازية التي اتخذت, إنهم سيروا هودجين احدهما حقيقي والأخر وهمي وذلك لتشتيت أراء العامة في الجهة التي ذهب إليها الامام للحيلولة دون بلورة رأي واحد بين صفوف الناس مقابل اعتقال الامام (ع)، ففي كتاب البحار ج48 ص 221 عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي قال: سمعت أبي يقول: لما قبض الرشيد على موسى بن جعفر (ع) وهو عند رأس النبي (ص) قائماً يصلي فقطع عليه صلاته وحُمل وهو يبكي ويقول إليك أشكو يا رسول الله ما ألقى، وأقبل الناس من كل جانب يبكون ويضجون فلما حُمل الى بين يدي الرشيد شتمه وجفاه، فلما جنَّ عليه الليل أمر ببيتين (أي هودجين ) فهُيئا له فحمل موسى بن جعفر (ع) الى إحداهما في خفاء ودفعه الى حسان السَّروي وأمره ان يصير به الى البصرة فيسلمه الى عيسى بن جعفر بن أبي جعفر المنصور، وهو أميرها، ووجه قبة أخرى علانية الى نهارا الى الكوفة معها جماعة ليعمي على الناس أمر موسى بن جعفر (ع).
يتجلى لنا من خلال الرواية السابقة مدى تأثير الامام (ع) على جماهير المدينة عندما رأوه في تلك الحالة فضجوا بالبكاء، وكيف أن جلاوزة هارون سيروا موكب الامام ليلا وخدعوا الناس في الموكب العلني في الصباح التالي، فان ذلك يكشف بلا ريب عن أهمية الدور الذي كان يلعبه الامام (ع) ومكانته في نفوس المسلمين.
و بعد مدة قليلة اسقط بيد ابن عم الخليفة عيسى بن جعفر فبعث لهارون يقول له: إني لا أتحمل بعد هذا اليوم أن يبقى موسى بن جعفر (ع) عندي في السجن لان وجوده في السجن مشكلة ولم استطع أن اثبت عليه أي شيء سيئ, فعليه إما ان تأخذه من السجن او تطلق سراحه.
وليس من المستغرب أن يقول سجان الامام (ع) بجرئة مثل هذه الكلمة عند هارون الرشيد لان عيسى هو ابن جعفر ابن المنصور أخو زوجته الست زبيدة، هو عنصر كبير في الجهاز الحاكم فقال له أما أن تستلم موسى بن جعفر فانا لا أتحمل هذا، فقضيته قضية شائكة صعبة. بناء على ذلك سلموه الى الفضل ابن الربيع، نفس القصة تكررت و ضرب وأُهين الفضل بن الربيع لأنه تساهل مع الإمام موسى بن جعفر (ع)، و طيلة هذه الفترة كانت الاتصالات بين الإمام و شيعته مستمرة، بطريقة او بأخرى.
التصفية الجسدية للإمام وردة الفعل الشعبي
ثم سجن عن السندي بن شاهك وكان هذا السجن طامورة رهيبة لا يُعرف فيها الليل من النهار و الإمام مكبل بالأغلال لا يستطيع الحركة، أضف الى ذلك الأساليب التي مورست مع الإمام، جيء بجارية للإمام وهو بهذا الوضع، والمعنى واضح من ذلك، بالإضافة الى التجسس وتفتضح معاني أخرى، لكن الجارية خرجت و هي ولية من أولياء الله، في هذه الظروف الإرهابية استطاع الإمام أن يتصل بالشيعة و استطاع الشيعة أن يتصلوا بالإمام بطريقة أو بأخرى، صدر الأمر إذن أن يقتل الإمام، لا يوجد حل آخر، قتل الإمام، شهادة الإمام نموذج نمر عليه دائما مرورا سريعا و لكن شهادة الإمام (ع) تحمل عدة معاني نشير الى ما يلي منها:
المعنى الأول
هو عجز الدولة، شهادة الامام هو كشهادة بقية العلماء المجاهدين الذين الآن نحن عاصرناهم و شاهدنا وضعهم، لم تستطع السلطة تحمل تحركهم فكان لا بد من قتلهم، مع أن عملية القتل تؤثر على قرار السلطة إلا أن هذا قرار يجب أن تتخذه، لان هذا إذا استمر، فالمعادلة لا تكون لصالحها، ان عجز الدولة عن إيقاف الامام موسى بن جعفر و اتصاله بقواعده الشعبية كان هو السبب الأساسي في أمر القتل.
المعنى الثاني
الذي أحب أن أشير أليه هو انه حينما قتل هذا الإنسان و انتم تعرفون العملية المؤلمة التي مارستها السلطة و العملية الانتقامية، اذ أخذت الجنازة جنازة هذا العبد الصالح المكبل بالحديد واخذوا ينادون عليه إمام الرافضة، نوع من التوهين والازدراء ونوع من الاعتداء الذي لا يراعي حرمته كميت عادي حتى لو كان من غير المسلمين فضلا عن أن يكونوا من المسلمين و يكون من ذرية رسول الله او أن يكون سيد ذرية رسول الله في زمانه.
حادثة معينة تكشف لنا عن وجود نوع من التعاطف داخل البيت العباسي مع الأئمة و خط الامام هذا الوضع، أنا لا أريد آن أقول انه كان وضعا قويا لصالح حركة الامام, الا أني أريد أن أقول أن ثمة تعاطف كان موجودا وهذا قد يكون احد الثغرات في الجهاز العباسي في مقارعة خط الأئمة لذلك رأينا سليمان العباسي حينما أوصل له بعض الناس بطريقة خاصة أن هذا موسى ابن جعفرامر بتشييعه وتبدل شعار هذا أمام الرافضة هذا الذي تزعم الرافضة بأنه لا يموت الى شعار هذه الجنازة الطيب ابن الطيبين أصبح هناك تغير في الشعارات و تغير الشعارات يعكس حقائق كبيرة في صراع سياسي.
المعنى الثالث
من الصعب ان يحدث تغير بالشعارات بطريقة عشوائية. ومن هنا, فثمة سؤال يطرح نفسه ويتعلق بنا نحن في بعض الأحيان. انه مجرد ان أعلن الإذن بالتشييع خرجت جماهير بمئات الآلاف لتشييع الإمام, أين كان هؤلاء الناس؟!
حقيقة هذا السؤال يطرح نفسه و يحتاج الى المزيد من التفكير و إلقاء الضوء، هل أنهم كانوا يعلمون أن هناك تخطيط من هذا القبيل سيكون فانتظروا لحين تنفيذ العملية؟ أو سؤال غيره، هل انه كان الخوف و قاعدة قلوبنا معك وسيوفنا عليك هي التي كانت تتحكم بالساحة يومذاك؟!
هذه الحالة تحتاج ان تدرس دراسة تحقيق وتمحيص جديين. لان الجواب أن كان بذلك النحو أي نحو التخطيط, فهو ما ينبغي ان نتمسك به ونحرص على ان تكون حركاتنا بهذا الشكل الواعي الرشيد. إما إذا كانت الحقيقة هي ان الوضع كان حسب الاحتمال الثاني فينبغي ان نفكر بطبيعة هذا الخلل المتكرر في البناء الشيعي لما تكون العواطف متقدة باتجاه القيادة الصحيحة و لكنها غير مفعّلة.
وأنا لست في صدد ترجيح احد الاحتمالين ألان وإنما اتحدث وفق طريقة المنهج العلمي في ذكر الاحتمالات. ولكن الافتراض الأولي عندي هو ان الحالة يومذاك هي مزيج من الاحتماليين لاختلاف مديات الفهم ودرجة الانتماء عند القطاعات المختلفة.
استمرار الخط
أخر شيء أريد ان اذكره في حديثي هذا هو ان عملية الولاء لهذا الخط لم تنتكس بوفاة الامام الكاظم. فما هو الدليل؟
الدليل هو انه السلطة العباسية بعد تلك الصراعات الكبيرة التي حدثت بين الأمين و المأمون و إطراف أخرى من البيت العباسي حينما لجا المأمون الى إجبار الامام علي ابن موسى الرضا (عليه السلام) للقبول بولاية العهد فهذا ان دل على شيء فإنما يدل على انه يريد ان يحيّد قطاعا كبيرا من الأمة الصالحة.
وعليه فإن استمرار علي بن موسى الرضا (عليه السلام ) بهذا الموضع القيادي الكبير هو تأكيد على نجاح حركة الامام موسى ابن جعفر (عليه السلام ) وقد استمرت بعد علي ابن موسى الرضا حركة الامام موسى ابن جعفر و شيعته و أبنائه، و استمرت تؤسس هنا وهناك.
وختاما, نسال الله ان يمكّن هذا الخط الكبير من ان يرث العالم فيقيم الحق و يقضي على الباطل و يملا الارض عدلا بعدما ملئت جورا على يد حفيد الامام الكاظم الأكبر أمامنا المهدي أرواحنا له الفداء
تعليق