من تعاليم الإمام الصادق (عليه السلام) لتلاميذه
قال عمرو بن أبي المقدام: قال لي أبو عبد الله (عليه السّلام) في أوّل مرّة دخلت عليه: "تعلّموا الصدق قبل الحديث".
أقول: ما أثمنها نصيحة! ومازال يوصي كلّ من دخل عليه من أوليائه بالصّدق وأداء الأمانة، ولا بدع، فإن بهما سعادة المرء في هذه الحياة، ووفرة المال والجاه، والطمأنينة إليه، والرضى به للحكومة بين الناس.
وأما إرشاده إلى طلب العلم، فما أكثر قوله فيه! فتارةً يقول (عليه السّلام): "لست أحبّ أن أرى الشابّ منكم إِلا غادياً في حالين؛ إِمّا عالماً أو متعلّماً، فإن لم يفعل فرط، وإِن فرط ضيّع، وإِن ضيّع أثم".
وأخرى يقول: "أطلبوا العلم وتزيّنوا معه بالحلم والوقار". وما اقتصر على حثّهم على طلب العلم، بل حثّهم على ما يزدان به من الحلم والوقار، بل والتواضع، كما في قوله (عليه السّلام): "وتواضعوا لمن تعلّمونه العلم، وتواضعوا لمن طلبتم منه العلم، ولا تكونوا علماء جبّارين، فيذهب باطلكم بحقّكم".
أقول: ما أدقّها نصيحة، وأسماه تعليماً! فإنّ العلم لا ينفع صاحبه ولا الناس ما لم يكن مقروناً بالتواضع، سواء كان المتحلّي به معلّماً أو متعلّماً، وأنّ الناس لتنفر من ذي الكبرياء، فيكون الجبروت ذاهباً بما عنده من حقّ.
ويقول (عليه السّلام) في إِرشاده لطالب العلم: "ولا تطلب العلم لثلاث: لترائي به، ولا لتباهي به، ولا لتماري به، ولا تدعه لثلاث: رغبةً في الجهل وزهادةً في العلم، واستحياءً من الناس، والعلم المصون كالسّراج المطبق عليه".
أقول: إِنّ الصادق (عليه السّلام) يريد أن يكون طلب العلم للعلم ولنفع الأمّة، فلو طلبه المرء للرياء أو المباهاة أو المجادلة، لما انتفع ونفع، بل لتضرّر وأضرّ، كما أن تركه للرغبة في الجهل والزهد في العلم كاشف عن الحمق، ولا خير في حياء يقيمك على الرذيلة ويبعد عنك الفضيلة، ولا يكون انتفاع الناس بالعلم إِلّا بنشره، وما فائدة السِّراج إذا أطبق عليه.
ولنفاسة العلم، حضّ على طلبه وإِن كلّف غالياً، فقال: "اطلبوا العلم ولو بخوض المهج وشقّ اللّجج".
ولمّا كان للعلم أوعية ومعادن، نهاهم عن أخذ العلم من غير أهله، فقال (عليه السلام): "اطلبوا العلم من معدن العلم، وإِيّاكم والولايج، فهم الصادّون عن الله".
أقول: إِنّنا لنجد عياناً أن المتعلّم يتغذّى بروح معلّمه، ويتشبّع بتعاليمه، فالتلميذ إلى الضلالة أدنى إِن كان المعلّم ضالاً، وإلى الهداية أقرب إِن كان هادياً، لأنّ غريزة المحاكاة تقوى عند التلميذ بالقياس إلى معلّمه.
وما حثّ على طلب العلم فحسب، بل أراد منهم إذا تعلّموه أن يعملوا به، فقال (عليه السّلام): "تعلّموا العلم ما شئتم أن تعلموا، فلن ينفعكم الله بالعلم حتّى تعملوا به، لأنّ العلماء همّتهم الرعاية، والسفهاء همّتهم الرواية". وقال: "العلم الّذي لا يعمل به، كالكنز الذي لا ينفق منه، أتعب نفسه في جمعه، ولم يصل إلى نفعه". وقال: "مثل الذي يعلم الخير ولا يعمل به، مثل السِّراج يضيء للناس ويحرق نفسه". وقال: "إنّ العالم اذا لم يعمل بعلمه، زلّت موعظته عن القلوب، كما يزلّ المطر عن الصّفا".
وقد دلّهم على ما يحفظون به ما يتعلّمونه، فقال (عليه السّلام): "اكتبوا، فإنّكم لا تحفظون حتّى تكتبوا".
إنّه (عليه السّلام) ما أراد فضيلة العلم لأهل زمانه فحسب، بل أرادها لكلّ جيل وعصر، كما أنه ما أوصاهم بالتعلّم إلا لأن يجمعوا كلّ فضيلة معه، كما ستعرفه من وصاياه، وكما تعرفه من قوله (عليه السّلام): "فإنَّ الرَّجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق الحديث، وأدَّى الأمانة، وحسن خلقه مع الناس، قيل هذا جعفريّ، ويسرّني ذلك، ويدخل عليّ منه السرور، وإن كان على غير ذلك، دخل عليّ بلاؤه وعاره، وقيل هذا أدب جعفر".
إنّ الصّادق وآباءه من قبل، وأبناءه من بعد، جاهدوا في حسن تربية الأمّة وتوجيههم إلى الفضائل، وردعهم عن الرذائل بشتّى الوسائل، ولكن ما حيلتهم إذا كان الناس يأبون أن يسيروا بنهج الحقّ، وأن يتنكَّبوا عن جادة الباطل.
وما حضَّ على طلب العلم إلا وحضّ على العناية بشأن العلماء والعطف عليهم، فقال (عليه السّلام): "إِني لأرحم ثلاثة، وحقّ لهم أن يُرحَموا: عزيز أصابته ذلّة، وغنيّ أصابته حاجة، وعالم يستخفّ به أهله والجهلة".
وقال (عليه السّلام): "ثلاثة يشكون إلى الله عزَّ وجلّ: مسجد خراب لا يصلّي به أهله، وعالم بين جهّال، ومصحف معلّق قد وقع عليه غبار لا يقرأ فيه".
وقال إسحاق بن عمّار الصيرفي: قلت للصّادق (عليه السّلام): من قام من مجلسه تعظيماً لرجل؟ قال (عليه السّلام): "مكروه، إلا لرجل في الدين".
وقال (عليه السّلام): "من أكرم فقيهاً مسلماً، لقي الله يوم القيامة وهو عنه راض، ومن أهان فقيهاً مسلماً، لقي الله يوم القيامة وهو عليه غضبان".
وما أكثر ما جاء عنه (عليه السّلام) في رعاية أهل العلم وتقديرهم، وإكرام العلماء وتوقيرهم! وهكذا، كان مجاهداً في تثقيف أتباعه وتهذيبهم وتعليمهم الأخلاق الفاضلة.
من كتاب "الإمام جعفر الصَّادق (عليه السلام)"، العلّامة الشّيخ محمد رضا المظفّر
تعليق