كلما اشتدت الفتن والمحن على الانسان، زادت قيمة الامتحان الإلهي، وأي امتحان في الحياة يكون بمستوى القضية التي يعيشها هذا الانسان، كما هو الحال في مسيرة التعليم، فالامتحان الصعب والمصيري، يكون للمادة الصعبة والثقيلة، لذا يستدعي الأمر الاستعداد الذهني والنفسي، حتى يكون الخروج من قاعة الامتحان بمكسب كبير بعيداً عن الفشل. وقد حثّت السنة الشريفة بروايات وأحاديث لا تُعد في ضرورة استثمار مناسبات معينة في مدار السنة، ليختبر الانسان نفسه، ويجري عملية جرد حسابية، وما اذا كان قد خسر أو ربح خلال الفترة الماضية، ومن هذه المناسبات العظيمة، شهر شعبان المعظم، الذي يعد مع شهري رجب الأصب وشهر رمضان المبارك، من الأشهر المخصوصة بالأعمال العبادية ذات المعارف الإلهية العميقة.ولنا خير أسوة وقدوة في هذا المجال، في أمير المؤمنين، وسيد المتقين، علي بن ابي طالب، عليه السلام، الذي جاء في رواية ينقلها صاحب مفاتيح الجنان. ونحن بدورنا نوردها دون تصرف، تعميماً للفائدة. لَقَدْ مَرَّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، عليه السلام، عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَخْلَاطِ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ فِيهِمْ مُهَاجِرِيٌّ وَ لَا أَنْصَارِيٌّ وَ هُمْ قُعُودٌ فِي بَعْضِ الْمَسَاجِدِ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ، وَ إِذَا هُمْ يَخُوضُونَ فِي أَمْرِ الْقَدَرِ وَ غَيْرِهِ مِمَّا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ قَدِ ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمْ وَ اشْتَدَّ فِيهِ مَحْكَمَتُهُمْ وَ جِدَالُهُمْ فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ وَ سَلَّمَ فَرَدُّوا عَلَيْهِ وَ أَوْسَعُوا لَهُ وَ قَامُوا إِلَيْهِ يَسْأَلُونَهُ الْقُعُودَ إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَحْفِلْ بِهِمْ، ثُمَّ قَامَ لَهُمْ وَ نَادَاهُمْ:
«يَا مَعَاشِرَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِيمَا لَا يَعْنِيهِمْ وَ لَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ...! أَ لَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ لِلَّهِ عِبَاداً قَدْ أَسْكَتَهُمْ خَشْيَتُهُ مِنْ غَيْرِ عِيٍّ وَ لَا بَكَمٍ وَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْفُصَحَاءُ الْعُقَلَاءُ الْبَالِغُونَ الْعَالِمُونَ بِاللَّهِ وَ أَيَّامِهِ؟ وَ لَكِنَّهُمْ إِذَا ذَكَرُوا عَظَمَةَ اللَّهِ انْكَسَرَتْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ انْقَطَعَتْ أَفْئِدَتُهُمْ وَ طَاشَتْ عُقُولُهُمْ وَ هَامَتْ حُلُومُهُمْ إِعْزَازاً لِلَّهِ وَ إِعْظَاماً وَ إِجْلَالًا لَهُ، فَإِذَا أَفَاقُوا مِنْ ذَلِكَ اسْتَبَقُوا إِلَى اللَّهِ بِالْأَعْمَالِ الزَّاكِيَةِ، يَعُدُّونَ أَنْفُسَهُمْ مَعَ الظَّالِمِينَ وَ الْخَاطِئِينَ وَ إِنَّهُمْ بُرَآءُ مِنَ الْمُقَصِّرِينَ وَ الْمُفَرِّطِينَ أَلَا إِنَّهُمْ لَا يَرْضَوْنَ لِلَّهِ بِالْقَلِيلِ وَ لَا يَسْتَكْثِرُونَ لِلَّهِ الْكَثِيرَ وَ لَا يُدِلُّونَ عَلَيْهِ بِالْأَعْمَالِ فَهُمْ فِيمَا رَأَيْتَهُمْ مُهَيَّمُونَ مُرَوَّعُونَ خَائِفُونَ مُشْفِقُونَ وَجِلُونَ.فَأَيْنَ أَنْتُمْ مِنْهُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُبْتَدِعِينَ أَ لَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِالْقَدَرِ أَسْكَتُهُمْ مِنْهُ وَ أَنَّ أَجْهَلَ النَّاسِ بِالْقَدَرِ أَنْطَقُهُمْ فِيهِ يَا مَعْشَرَ الْمُبْتَدِعِينَ.هَذَا يَوْمُ غُرَّةِ شَعْبَانَ الْكَرِيمِ سَمَّاهُ رَبُّنَا شَعْبَانَ، لِتَشَعُّبِ الْخَيْرَاتِ فِيهِ، قَدْ فَتَحَ رَبُّكُمْ فِيهِ أَبْوَابَ جِنَانِهِ وَ عَرَضَ عَلَيْكُمْ قُصُورَهَا وَ خَيْرَاتِهَا بِأَرْخَصِ الْأَثْمَانِ وَ أَسْهَلِ الْأُمُورِ، فَأَبَيْتُمُوهَا، وَ عَرَضَ لَكُمْ إِبْلِيسُ اللَّعِينُ تَشَعُّبَ شُرُورِهِ وَ بَلَايَاهُ، فَأَنْتُمْ دَائِباً تَنْهَمِكُونَ فِي الْغَيِّ وَ الطُّغْيَانِ، تَتَمَسَّكُونَ بِشُعَبِ إِبْلِيسَ وَ تَحِيدُونَ عَنْ شُعَبِ الْخَيْرِ الْمَفْتُوحِ لَكُمْ أَبْوَابُهُ. هَذَا غُرَّةُ شَعْبَانَ وَ شُعَبُ خَيْرَاتِهِ الصَّلَاةُ وَ الصَّوْمُ وَ الزَّكَاةُ وَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَ الْقَرَابَاتِ وَ الْجِيرَانِ وَ إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ وَ الصَّدَقَةُ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَ الْمَسَاكِينِ.
تَتَكَلَّفُونَ مَا قَدْ وُضِعَ عَنْكُمْ وَ مَا قَدْ نُهِيتُمْ عَنِ الْخَوْضِ فِيهِ مِنْ كَشْفِ سَرَائِرِ اللَّهِ الَّتِي مَنْ فَتَّشَ عَنْهَا كَانَ مِنَ الْهَالِكِينَ أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ وَقَفْتُمْ عَلَى مَا قَدْ أَعَدَّ رَبُّنَا عَزَّ وَ جَلَّ لِلْمُطِيعِينَ مِنْ عِبَادِهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ لَقَصَرْتُمْ عَمَّا أَنْتُمْ فِيهِ وَ شَرَعْتُمْ فِيمَا أُمِرْتُمْ بِهِ».
كتبه: كريم الموسوي
تعليق