الإمام الباقر (ع) .. قنديل السماء
قام الإمام محمد الباقر بدور عظيم في نشر العلوم والمعارف الإسلامية ومبادئ أهل البيت (ع) وتربية العلماء ورفدهم رغم الظروف العصيبة التي مرّ بها والضغوط السياسية التي تعرض لها من قبل الحكام الأمويين وخاصة في عهد هشام بن عبد الملك الذي ضيّق عليه. فقد قاد (ع) نهضة علمية واسعة لم تشهد لها الأمة الإسلامية مثيلا وأسس مدرسة علمية بلغ أوج نشاطها العلمي في عهد ابنه الإمام الصادق (ع).
وقد تزعم (ع) شتى مجالات العلوم ?الفقه والحديث والكلام والتفسير وغيرها من العلوم وتخرّج على يديه كبار علماء الإسلام من مختلف البلاد حتى كان العلماء يقصدونه من البلاد البعيدة للتزود من علومه فإضافة إلى علماء الحجاز والعراق فقد كان كبار علماء خراسان يلتفّون حوله حلقات يسألونه عمّا أشكل عليهم. (1)
الإمام الباقر في سجل التأريخ
شهد بعلمه القريب والبعيد واتفق علماء المذاهب الإسلامية على تزعمه لكافة العلوم يقول ابن حجر العسقلاني: أبو جعفر محمد الباقر عليه السلام، سمّي بذلك من بقر الأرض أي شقّها، وأثار مخبآتها ومكامنها، فلذلك هو أظهر من مخبآت كنوز المعارف، وحقائق الأحكام والحكم واللطائف ما لا يخفى إلا على منطمس البصيرة، أو فاسد الطوية والسريرة، ومن ثمّ قيل فيه هو باقر العلم وجامعه، وشاهر علَمه ورافعه ... عمرت أوقاته بطاعة الله، وله من الرسوم في مقامات العارفين ما تكلّ عنه ألسنة الواصفين، وله كلمات كثيرة في السلوك والمعارف لا تحتملها هذه العجالة ...
ويقول عبد الله بن عطاء المكي ما رأيت العلماء عند أحد أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام لتواضعهم له ولقد رأيت الحكم بن عتيبة ــ مع جلالته في القوم ــ بين يديه كأنه صبي بين يدي معلمه ....
ويقول الذهبي: كان الباقر أحد من جمع بين العلم والعمل والسؤود والشرف والثقة والرزانة، وكان أهلاً للخلافة.
ويقول عنه الأبرش الكلبي: إن هذا أعلم أهل الأرض بما في السماء والأرض
وقال له قتادة بن دعامة البصري: لقد جلست بين يدي الفقهاء وقدام ابن عباس فما اضطرب قلبي قدام أحد منهم ما اضطرب قدامك
وقال له عبد الله بن معمر الليثي: ما أحسب صدوركم إلا منابت أشجار العلم فصار لكم ثمره وللناس ورقه
وقال شمس الدين محمد بن طولون: كان الباقر عالماً، سيداً كبيراً، وإنما قيل له الباقر لأنه تبقّر في العلم، أي توسّع، والتبقير التوسيع، وفيه يقول الشاعر :
يا باقر العلم لأهل التقى *** وخير من لبّى على الأجبُل
وقال محمد بن طلحة الشافعي: هو باقر العلم وجامعه وشاهر علمه ورافعه، ومنمّق درّه وواضعه. صفا قلبه، وزكا علمه، وطهرت نفسه، وشرفت أخلاقه، وعمرت بطاعة الله أوقاته، ورسخت في مقام التقوى قدمه، وظهرت عليه سمات الازدلاف، وطهارة الاجتباء
وقال ابن أبي الحديد: كان محمد بن علي بن الحسين سيد فقهاء الحجاز، ومنه ومن ابنه جعفر تعلّم الناس الفقه.
وقال أبو نعيم الإصبهاني: الحاضر الذاكر، الخاشع الصابر، أبو جعفر، محمد بن علي الباقر، كان من سلالة النبوة، ومن جمع حسب الدين والابوة، تكلم في العوارض والخطرات، وسفح الدموع والعبرات، ونهى عن المراء والخصومات
وقال أحمد بن يوسف الدمشقي القرماني: منبع الفضائل والمفاخر، الإمام محمد بن علي الباقر، وإنما سمي بالباقر لأنه بقر العلم، وقد قيل: لقب بالباقر لما روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنّه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا جابر يوشك أن تلحق بولد من ولد الحسين، اسمه كاسمي يبقر العلم بقراً، أي يفجره تفجيراً، فإذا رأيته فاقرأه مني السلام. وكان خليفة أبيه من بين إخوته، ووصيه والقائم بالإمامة من بعده
وقال علي بن محمد بن أحمد المالكي ـ المعروف بابن الصباغ ـ : وكان محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام) مع ما هو عليه من العلم والفضل والسؤدد والرياسة والامامة، ظاهر الجود في الخاصة والعامة، ومشهور الكرم في الكافة، معروفاً بالفضل والاحسان مع كثرة عياله وتوسط حاله .
وقال ابن خلّكان: كان الباقر عالماً سيداً كبيراً
كما وشهد له (ع) حتى أعداؤه من ولاة الأمويين وأتباعهم بعلمه وفضله وصفاته العظيمة التي لم تتوفر في شخص غيره فعندما كتب عبد الملك بن مروان إلى والي المدينة أن يبعث إليه الإمام الباقر (ع) مقيدا كتب إليه الوالي يقول:
ليس كتابي هذا خلافا عليك ولا ردا لأمرك ولكن رأيت أن أراجعك في الكتاب نصيحة لك وشفقة عليك. إن الرجل الذي أردته ليس اليوم على وجه الأرض أعف منه ولا أزهد ولا أورع منه, وإنه من أعلم الناس, وأرق الناس, وأشد الناس اجتهادا وعبادة, وكرهت لك التعرض له فـ (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)
مناظرات الإمام الباقر (ع)
ناظر الإمام الباقر (ع) أصحاب الأديان والمذاهب والفرق المنحرفة فأفحمهم بعلمه وفاقهم بحججه وبراهينه ومن الذين ناظرهم أسقف النصارى الذي كان أعلمهم على الإطلاق وكان يخرج كل سنة فيسأله الناس وقيل أنه أدرك أصحاب الحواريين من أصحاب عيسى وكان الإمام في ذلك الوقت في الشام مع ابنه الإمام الصادق (عليهما السلام) وقد استدعاهما هشام بن عبد الملك الذي حاول أن ينتقص من الإمام باختباره في الرمي في القصة المشهورة فباء بالفشل الذريع بعد أن رأى من الإمام ما لم يجده في أمهر الرماة ولم يكن بلاط هشام بالبلاط العلمي أو الفكري ولم تكن فيه خصلة تمت إلى العلم فقد وُصِف بأنه كان حقوداً على ذوي الأحساب العريقة ومبغضاً لكل شريف بخيلاً ظلوماً شديد القسوة وقد امتلأ بلاطه بالشعراء والمتملقين ليسد بألسنتهم نقصه وخبث عنصره لذلك أراد الحط من منزلة الإمام الباقر باختباره بالرماية ورغم ذلك فقد رد الإمام كيده إلى نحره فرمى الإمام تسعة أسهم شق بعضها في داخل بعض فأثار إعجاب ودهشة الحاضرين كما أثار حفيظة هشام فأمر برده إلى المدينة ولما خرج الإمام من عنده رأى الناس وهم مجتمعون فسأل عن سبب اجتماعهم فقيل له هؤلاء القسيسون والرهبان وهذا عالم لهم يقعد إليهم في كل سنة يوما واحدا يستفتونه فيفتيهم فتنكر الإمام ودخل بينهم وكان هشام قد أرسل بعض الجواسيس لمراقبة الإمام حال خروجه فأخبروه بذلك فأمر بعض أتباعه بحضور المجلس ليرى ما يصنع الإمام
ولم يطل الجلوس حتى جاء الأسقف الكبير وكان رجلا طاعنا في السن سقطت حاجباه على عينيه، وقد شدهما وجلس في صدر المجلس وهو يتمعن في وجوه الحاضرين فلفت انتباهه وجود الإمام ولعله رأى فيه هيأة المسلمين فبادره بالسؤال:
ــ أمنا أم من المسلمين
فقال الإمام: من المسلمين
وكان هذا الأسقف هو أعلم علماء النصارى في وقته وربما لم يجد قبل هذا الوقت من يجلس في مجلسه من غير المسلمين فظن أن وجود واحد منهم هي فرصة للإيقاع به ليتحدث الناس عن انتصاره ولكن ظنه كان في غير محله ولنترك الحديث عن هذه المناظرة للإمام الباقر (ع) كما رواها أبو بصير عنه (ع):
قال أبو بصير: قال أبو جعفر (ع): مررت بالشام ، وأنا متوجه إلى بعض خلفاء بني اُمية فاذا قوم يمرون، قلت: أين تريدون ؟ قالوا: إلى عالم لم نر مثله، يخبرنا بمصلحة شأننا، فقال (ع) : فتبعتهم حتى دخلوا بهواً عظيماً فيه خلق كثير، فلم ألبث أن خرج شيخ كبير متوكئ على رجلين، قد سقطت حاجباه على عينيه، وقد شدهما فلما استقرّ به المجلس نظر اليّ وقال: منا أنت أم من الاُمة المرحومة ؟
قلت: من الاُمة المرحومة. فقال: أمن علمائها أو من جهّالها ؟
قلت: لست من جهّالها. فقال: أنتم الذين تزعمون أنكم تذهبون الى الجنة فتأكلون وتشربون ولا تُحْدِثون ؟!!
قلت: نعم. فقال: هات على هذا برهاناً.
فقلت: نعم، الجنين يأكل في بطن اُمه من طعامها، ويشرب من شرابها، ولا يُحْدِث. فقال: ألست زعمت أنك لست من علمائها؟
قلت: لست من جهّالها. فقال: أخبرني عن ساعة ليست من النهار، ولا من الليل ؟
فقلت: هذه ساعة من طلوع الشمس، لا نعدها من ليلنا، ولا من نهارنا وفيها تفيق المرضى.
ودهش القسيس لهذه الإجابات التي لم يكن يتوقعها من واحد من المسلمين فقال للإمام: ألست زعمت أنك لست من علمائها؟!
فقلت: إنما قلت: لست من جهّالها. فقال : والله لأسألنك عن مسألة ترتطم فيها.
فقلت: هات ما عندك. فقال: أخبرني عن رجلين ولدا في ساعدة واحدة، وماتا في ساعة واحدة ؟ عاش أحدهما مائة وخمسين سنة، وعاش الآخر خمسين سنة ؟
فقلت: ذاك عزير وعزرة، ولدا في يوم واحد، ولما بلغا مبلغ الرجال مرّ عزير على حماره بقرية وهي خاوية على عروشها ، فقال: أنّى يحيي الله هذه بعد موتها، وكان الله قد اصطفاه وهداه، فلمّا قال ذلك غضب الله عليه وأماته مائة عام ثم بعثه، فقيل له: كم لبثت؟ قال: يوماً أو بعض يوم. وعاش الآخر مائة وخمسين عاماً، وقبضه الله وأخاه في يوم واحد.
وهنا اصفر وجه القسيس وصاح بأصحابه بغضب: والله لا اُكلّمكم ، ولا ترون لي وجهاً اثني عشر شهراً
وكان يظن أنهم تعمّدوا إدخال الإمام عليه لإفحامه وفضحه
دناءة هشام
وزادت هذه المناظرة من حقد هشام على الإمام الباقر فقد انتشر خبرها في الشام وأصبح الناس يتحدثون بها وبدلا من أن يفخر هشام بما حققه الإمام من نصر للإسلام فقد كتب إلى عامله على مدين كتابا يقول فيه: إن ابني أبي تراب محمد وجعفر وردا علي ولما صرفتهما إلى المدينة مالا إلى القسيسين والرهبان وأظهرا لهما دينهما ومرقا من الإسلام إلى الكفر وتقربا إليهم بالنصرانية فكرهت أن أنكل بهما لقرابتهما فإذا قرأت كتابي هذا ووصلا إليكم فناد في الناس برئت الذمة منهما
لقد بلغت الدناءة بهشام أن يتهم قادة الإسلام بالخروج من الإسلام ولم يكتف بذلك بل أوعز إلى الولاة على البلاد التي يمر بها الإمام بأن يغلقوا الأسواق الواقعة في الطريق بوجهه وأن لا تبيع له أية بضاعة لكي يموت الإمام جوعا وعطشا
وفي الطريق أصاب قافلة الإمام الجوع والعطش وأضناها التعب فمرت على مدينة فسارع أهلها لإغلاق حوانيتهم، فصعد الإمام على مرتفع وصاح:
(يا أهل المدينة الظالم أهلها أنا بقية الله، يقول الله تعالى: (بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ).
وكان في تلك المدينة رجل كبير السن من وجهائها فقال لأهل مدينته لما سمع كلام الإمام:
(يا قوم هذه والله دعوة شعيب ، والله لئن لن تخرجوا الى هذا الرجل بالأسواق لتؤخذنّ من فوقكم، ومن تحت أرجلكم فصدّقوني هذه المرة، وأطيعوني، وكذبوني فيما تستأنفون فاني ناصح لكم...).
فسمع أهل المدينة كلامه واستجابوا لطلبه ففتحوا حوانيتهم واشترى الإمام ما يريده من الطعام وباء هشام بالفشل الذريع والخزي والعار
محمد طاهر الصفار
تعليق