نهج أهل البيت (عليهم السلام) في إعانة المحرومين
يؤكد القرآن الكريم في مجموعة من آياته على نهج التكافل المادي مع المحرومين وأصحاب العوز.. ففي قوله تعالى: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)[1] نلاحظ موقف التمجيد بالتكافل المادي معهم، وفي قوله تعالى: (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ)[2] نجد دعوة للتكافل الأدبي مع السائل خاصة، ويستلزم ذلك الدعوة لاحترامه وصون كرامته.
وجاء في تفسير الإمام الصادق (عليه السلام) لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)، «المحروم: المحارف الذي قد حرم كدّ يده في الشراء والبيع». وعن الصادقين (عليهما السلام): «المحروم الرّجل الذي ليس بعقله بأس، ولم يبسط له في الرزق، وهو محارف»[3].وعلى كل حال فإن مبدأ التكافل يستدعي التضامن مع هؤلاء، وخاصة السائل الذي يكشف لك عن أمارات وعلائم عوزه من خلال سؤاله، والتعاليم السماوية عموماً تحث على إكرام السائل، ففيما اُوحي إلى موسى (عليه السلام): «اكرم السائل إذا أتاك بردّ جميل أو إعطاء يسير»[4].وعن زين العابدين (عليه السلام): «حقّ السائل إعطاؤه على قدر حاجته»[5].وترتقي مدرسة أهل البيت: في مجال التكافل إلى مستوى إنساني رفيع، بكفالتها للسائلين من أهل الأديان الأخرى.
فقد مرّ شيخ مكفوف كبير يسأل، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «ما هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين نصرانيّ، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): استعملتموه حتّى إذا كبر وعجز منعتموه؟! أنفقوا عليه من بيت المال»[6].فالإسلام لا يأمر بقطع خيوط التواصل مع أهل الأديان، ويأمر بالتكافل معهم في الظروف الصعبة، إذ يتسامى فوق الفوارق والخلافات الدينية، ويرفع قوس بصره إلى مستوى الإنسانية.عن مصادف، قال: كنت مع أبي عبدالله (عليه السلام) بين مكّة والمدينة، فمررنا على رجل في أصل شجرة وقد ألقى بنفسه، فقال (عليه السلام): «مل بنا إلى هذا الرَّجل، فإنّي أخاف أن يكون قد أصابه عطش، فملنا فإذا رجل نصراني من القراسين طويل الشعر، فسأله: أعطشان أنت؟ فقال: نعم، فقال لي: انزل يا مصادف فاسقه، فنزلت وسقيته، ثمّ ركبت وسرنا، فقلت: هذا نصرانيّ، فتتصدّق على نصرانيّ؟! فقال: نعم إذا كانوا في مثل هذه الحال»[7]. فهذا الرجل ـ أي مصادف ـ يستغرب من إقدام الأئمة: على التكافل مع أهل الكتاب. وفاته أن الأئمة ينطلقون من رؤى إنسانية واسعة الأفق تلتقي مع مبادئ الإسلام الداعية إلى التراحم والتعاطف مع كل الناس، بل وتتّسع لتشمل العطف على الحيوان وعلى كلّ ذي روح.عن نجيح، قال: رأيت الحسن بن علي (عليهما السلام) يأكل وبين يديه كلب، كلّما أكل لقمة طرح للكلب مثلها! فقلت له: يا بن رسول الله ألا أرجم هذا الكلب عن طعامك؟ قال: «دعه، إنّي لأستحيي من الله تعالى أن يكون ذو روح ينظر في وجهي وانا آكل ثمّ لا أطعمه»[8].وضمن هذا الباب تؤكد تعاليم مدرسة أهل البيت: على استحباب قناعة السائل ودعائه لمن أعطاه، وزيادة إكرام السائل القانع الشاكر، فبإسناد ينتهي إلى مسمع بن عبد الملك قال: كنّا عند أبي عبدالله (عليه السلام) بمنى وبين يدينا عنب نأكله، فجاء سائل فسأله، فأمر له بعنقود فأعطاه، فقال السائل: لا حاجة لي في هذا، إن كان درهم، فقال (عليه السلام): «يسع الله لك ولم يعطه شيئاً. فذهب ثمّ رجع فقال: ردّوا العنقود، فقال (عليه السلام): يسع الله لك ولم يعطه شيئاً، ثمّ جاء سائل آخر فأخذ أبو عبدالله (عليه السلام) ثلاث حبّات عنب فناولها إيّاه، فأخذ السائل من يده، ثم قال: الحمد لله رب العالمين الذي رزقني. فقال أبو عبدالله (عليه السلام): مكانك فحثا مِلءَ كفّيه عنباً فناولها إيّاه، فأخذها السّائل من يده ثمَّ قال: الحمد لله ربّ العالمين، فقال أبو عبدالله (عليه السلام): مكانك يا غلام، أي شيء معك من الدّراهم؟ فإذا معه نحو من عشرين درهماً فيما حزرناه أو نحوها، فناولها إيّاه فأخذها ثم قال: الحمد لله هذا منك وحدك لا شريك لك. فقال أبو عبدالله (عليه السلام): مكانك، فخلع قميصاً كان عليه، فقال: إلبس هذا، فلبس ثمّ قال: الحمد لله الذي كساني وسترني يا أبا عبدالله، أو قال: جزاك الله خيراً، لم يدع لأبي عبدالله (عليه السلام) إلا بذا، ثمّ انصرف فذهب، قال: فظننا أنّه لو لم يدع له لم يزل يعطيه لأنّه كلّما كان يعطيه حمد الله [على ما] أعطاه»[9].
هكذا كان نهج آل البيت: مع السائل ضمن دائرة التكافل، وهكذا كان أدبهم الرَّفيع في العطاء معهم. فهو يريد من السائل أن لا يغفل عن الله تعالى الذي هو مصدر الرّزق والعطاء، وأن يدرك بأن الإنسان المنفق، وأن سمت مكانته وعلا شأنه ليس إلاّ مجرّد وسيلة للفيوضات الإلظ°هية.
المصدر: التكافل الاجتماعي في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)
[1] سورة المعارج: 70 / 24 ـ 25. [2] سورة الضحى: 93 / 10. [3] الكافي 3: 500 / 12 باب فرض الزكاة وما يجب في المال من الحقوق، من كتاب الزكاة. [4] تحف العقول: 492. [5] الخصال / الشيخ الصدوق: 570. [6] وسائل الشيعة 15: 66 / 19996 باب أنّ نفقة النصراني إذا كبر وعجز عن الكسب من بيت المال، من كتاب الجهاد. [7] الكافي 4: 57 / 4. [8] مستدرك الوسائل 7: 192 / 8005. [9] الكافي 4: 49 / 12 باب النوادر من كتاب الزكاة.
يؤكد القرآن الكريم في مجموعة من آياته على نهج التكافل المادي مع المحرومين وأصحاب العوز.. ففي قوله تعالى: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)[1] نلاحظ موقف التمجيد بالتكافل المادي معهم، وفي قوله تعالى: (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ)[2] نجد دعوة للتكافل الأدبي مع السائل خاصة، ويستلزم ذلك الدعوة لاحترامه وصون كرامته.
وجاء في تفسير الإمام الصادق (عليه السلام) لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)، «المحروم: المحارف الذي قد حرم كدّ يده في الشراء والبيع». وعن الصادقين (عليهما السلام): «المحروم الرّجل الذي ليس بعقله بأس، ولم يبسط له في الرزق، وهو محارف»[3].وعلى كل حال فإن مبدأ التكافل يستدعي التضامن مع هؤلاء، وخاصة السائل الذي يكشف لك عن أمارات وعلائم عوزه من خلال سؤاله، والتعاليم السماوية عموماً تحث على إكرام السائل، ففيما اُوحي إلى موسى (عليه السلام): «اكرم السائل إذا أتاك بردّ جميل أو إعطاء يسير»[4].وعن زين العابدين (عليه السلام): «حقّ السائل إعطاؤه على قدر حاجته»[5].وترتقي مدرسة أهل البيت: في مجال التكافل إلى مستوى إنساني رفيع، بكفالتها للسائلين من أهل الأديان الأخرى.
فقد مرّ شيخ مكفوف كبير يسأل، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «ما هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين نصرانيّ، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): استعملتموه حتّى إذا كبر وعجز منعتموه؟! أنفقوا عليه من بيت المال»[6].فالإسلام لا يأمر بقطع خيوط التواصل مع أهل الأديان، ويأمر بالتكافل معهم في الظروف الصعبة، إذ يتسامى فوق الفوارق والخلافات الدينية، ويرفع قوس بصره إلى مستوى الإنسانية.عن مصادف، قال: كنت مع أبي عبدالله (عليه السلام) بين مكّة والمدينة، فمررنا على رجل في أصل شجرة وقد ألقى بنفسه، فقال (عليه السلام): «مل بنا إلى هذا الرَّجل، فإنّي أخاف أن يكون قد أصابه عطش، فملنا فإذا رجل نصراني من القراسين طويل الشعر، فسأله: أعطشان أنت؟ فقال: نعم، فقال لي: انزل يا مصادف فاسقه، فنزلت وسقيته، ثمّ ركبت وسرنا، فقلت: هذا نصرانيّ، فتتصدّق على نصرانيّ؟! فقال: نعم إذا كانوا في مثل هذه الحال»[7]. فهذا الرجل ـ أي مصادف ـ يستغرب من إقدام الأئمة: على التكافل مع أهل الكتاب. وفاته أن الأئمة ينطلقون من رؤى إنسانية واسعة الأفق تلتقي مع مبادئ الإسلام الداعية إلى التراحم والتعاطف مع كل الناس، بل وتتّسع لتشمل العطف على الحيوان وعلى كلّ ذي روح.عن نجيح، قال: رأيت الحسن بن علي (عليهما السلام) يأكل وبين يديه كلب، كلّما أكل لقمة طرح للكلب مثلها! فقلت له: يا بن رسول الله ألا أرجم هذا الكلب عن طعامك؟ قال: «دعه، إنّي لأستحيي من الله تعالى أن يكون ذو روح ينظر في وجهي وانا آكل ثمّ لا أطعمه»[8].وضمن هذا الباب تؤكد تعاليم مدرسة أهل البيت: على استحباب قناعة السائل ودعائه لمن أعطاه، وزيادة إكرام السائل القانع الشاكر، فبإسناد ينتهي إلى مسمع بن عبد الملك قال: كنّا عند أبي عبدالله (عليه السلام) بمنى وبين يدينا عنب نأكله، فجاء سائل فسأله، فأمر له بعنقود فأعطاه، فقال السائل: لا حاجة لي في هذا، إن كان درهم، فقال (عليه السلام): «يسع الله لك ولم يعطه شيئاً. فذهب ثمّ رجع فقال: ردّوا العنقود، فقال (عليه السلام): يسع الله لك ولم يعطه شيئاً، ثمّ جاء سائل آخر فأخذ أبو عبدالله (عليه السلام) ثلاث حبّات عنب فناولها إيّاه، فأخذ السائل من يده، ثم قال: الحمد لله رب العالمين الذي رزقني. فقال أبو عبدالله (عليه السلام): مكانك فحثا مِلءَ كفّيه عنباً فناولها إيّاه، فأخذها السّائل من يده ثمَّ قال: الحمد لله ربّ العالمين، فقال أبو عبدالله (عليه السلام): مكانك يا غلام، أي شيء معك من الدّراهم؟ فإذا معه نحو من عشرين درهماً فيما حزرناه أو نحوها، فناولها إيّاه فأخذها ثم قال: الحمد لله هذا منك وحدك لا شريك لك. فقال أبو عبدالله (عليه السلام): مكانك، فخلع قميصاً كان عليه، فقال: إلبس هذا، فلبس ثمّ قال: الحمد لله الذي كساني وسترني يا أبا عبدالله، أو قال: جزاك الله خيراً، لم يدع لأبي عبدالله (عليه السلام) إلا بذا، ثمّ انصرف فذهب، قال: فظننا أنّه لو لم يدع له لم يزل يعطيه لأنّه كلّما كان يعطيه حمد الله [على ما] أعطاه»[9].
هكذا كان نهج آل البيت: مع السائل ضمن دائرة التكافل، وهكذا كان أدبهم الرَّفيع في العطاء معهم. فهو يريد من السائل أن لا يغفل عن الله تعالى الذي هو مصدر الرّزق والعطاء، وأن يدرك بأن الإنسان المنفق، وأن سمت مكانته وعلا شأنه ليس إلاّ مجرّد وسيلة للفيوضات الإلظ°هية.
المصدر: التكافل الاجتماعي في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)
تعليق