عندما نزلت الرسالات السماوية على البشر، وقفت التقاليد الاجتماعية والتصورات البشرية في مقدمة المعارضين والمنكرين على الرسل والانبياء ما يبشرون به من قيم وتعاليم سماوية، ولعل تجربة بني اسرائيل تكون الرائدة في هذا المشوار، حيث أخذت حيزاً واسعاً في القرآن الكريم، وفي عدة سور كريمة، وهي تتحدث عن محاولات التنصّل عن القبول بما هو أحق وأكثر التصاقاً بالفطرة الانسانية، ومن أبرز الذرائع لذلك؛ استفهامهم عما كان عليه آباؤهم من قبل، الذين أسسوا لهم المذاهب والعقائد،0قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ)، (سورة هود، الآية:87)، فيما كان الانبياء والمرسلين يسعون جاهدين لإثبات حقيقة البعد الانساني فيما هم يبشرون به، وأن ليس لهم أية مصلحة في الامر، فهم يهدون الناس الحرية، والعدل، والرفاه الاجتماعي، وتحكيم القيم الاخلاقية والانسانية التي تفتح ابواب السعادة للجميع.
وليس فقط القرآن الكريم، بل وجميع النصوص الدينية الاخرى تشير الى حقيقة المواجهة القائمة بين الثنائي؛ الخير والشر، و بين الحق والباطل، والانسان في هذا المضمار يخوض التحدي للتسامي والتكامل، ولو كان الدين من صنع المجتمعات البشرية، وأن الالتزامات الدينية والاحكام من الموروث الشعبي، او من التقاليد الاجتماعية، لما كان التاريخ يسجل إزهاق أرواح المئات من الانبياء والصالحين بطرق بشعة، ليس فقط على يد الحكام، بل من قبل افراد المجتمع ايضاً.
نعم؛ كانت ثمة تقاليد وأعراف اجتماعية في الجزيرة العربية، حظيت بالتقويم على يد النبي الأكرم، محمد، صلى الله عليه وآله، الذي "تمم مكارم الأخلاق"، بيد انه ألغى الكثير الضار منها، واستبدلها بالقيم الثابتة التي لا تقبل التغيير او التحوير، مثل الصدق والامانة والصبر والاحسان والعفو وغيرها.
أفول الدين أم فشل تجارب الحكم الديني؟
ربما يكون الاستفهام الحائر لدى العلماء والمفكرين طيلة سنوات مديدة عن العلاقة بين الدين والحكم، وهل كان الانبياء والمرسلين، وايضاً الأئمة المعصومين، قادة سياسيين في أقوامهم؟ بل ماذا كان يمنعهم من أن يكونوا جميعاً مثل يوسف، وسليمان، وداوود، وايضاً؛ نبي الاسلام؛ محمد، صلى الله عليه وآله؟
الفلاسفة والمفكرون الغربيين في عصر النهضة حسموا أمرهم بعقد العلاقة الوثيقة بين الحكم والعلم، وإبعاد الدين عن المثلث الحضاري، مستدلين بتجربتهم الفاشلة مع الكنيسة وما أرتكبته من أخطاء فاحشة بفرضها قانون "التأليه" على الناس، و تنصيب نفسها وكيلة للرب – حاشاه-على الارض، لابد من ان تطاع بلا نقاش، ولا تعارض بشيء مهما كان، فكانت ردة الفعل عنيفة وشديدة، بدأت بالتنظير ثم الانقلاب الكامل على حكم الكنيسة، وإبعادها عن مصدر قوتها وهي؛ البلاط الملكي، وفيما بعد حصرها في بقعتها الجغرافية الضيقة لغرض العبادة في اوقات محددة، ليس هذا وحسب؛ بل حصل انقلاب موازٍ آخر في القيم والمبادئ لدى الناس، فاستبدلوا القيم الدينية بافكار ونظريات بشرية، كما حصل في المبادئ التي بشرت بها الثورة الفرنسية وفي مقدمتها؛ الليبرالية، من قبيل الحرية الفردية والحريات الجماعية، ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم، نلاحظ التحول في التقاليد والسلوك والاخلاق في المجتمعات الغربية، منبعث من التطور الاقتصادي والسياسي المتسارع. ومن ابرز هذه التحولات ما يتعلق بالمرأة والمسائل المتعلقة بها، مثل؛ الحِشمة والعمل خارج المنزل، والانجاب، وإطلاق العنان لمعاشرة الرجال، فعندما اكتسحت الماكنة حياة المجتمعات الغربية، وجرفت معها المرأة –الانثى بشكل عام- ودعتها الى التحلل الكامل من كل القيود، فانها لم تصطدم بقيم دينية، وإنما بتقاليد اجتماعية، ففي الوقت الذي كانت الأسرة البريطانية –مثلاً- في القرن التاسع عشر، لا يقل عدد الاولاد فيها عن ثمانية او تسعة، فان العدد تراجع الى واحد او اثنين على الاكثر اواسط القرن العشرين، واذا كانت الفتاة او الأبن الشاب يعيشون في احضان الأسرة وبين الأبوين حتى يحين وقت زواجهم، فان القرن العشرين اليوم بامكان الفتاة او الاولاد من العيش بمفردهم خارج البيت، بذريعة بلوغهم سن الثامنة عشر من العمر، ولا مجال للحديث عن العواقب او النتائج، على انه لا يجوز اصدار احكام مسبقة على الاعمال إلا من خلال التجربة الحسيّة لاكتشاف الصحيح من الخطأ –حسب تصوراتهم-!
هذه التجربة لا يمكن ان نرى لها أثراً في "التجربة الاسلامية"، لان القيم الدينية وصلت الى الناس قبل ان تصلهم يد الحاكم وصولجانه، فقد كان الاسلام بالنسبة لسكان الجزيرة العربية، ومن ثمّ الشعوب الاخرى، تجربة انسانية قبل ان يكون تجربة سياسية، فقد وجدوه منهجاً متكاملاً لحياة سعيدة، مما كان يدفعهم للدخول في دين الله أفواجاً، دون الشعور بأي استفزاز او ضغوط نفسية، وهذا ما كنا نلمس بوادره منذ عهد النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، وقد حرص أهل البيت، عليهم السلام، وفي طليعتهم؛ أمير المؤمنين، عليه السلام، على تكريس هذا المبدأ في النفوس، لتكون القاعدة الاساس التي ينطلق من الاسلام الى الآفاق ويبقى حيّا نابضاً طول الزمن، وما التضحيات الجسام التي قدموها، عليهم السلام، إلا من اجل تحقيق هذا الهدف الحضاري العظيم، لتبقى تعاليم الاسلام وقيمه ومبادئه بعيدة عن مساوئ الحكام الأمويين والعباسيين وسائر الانظمة السياسية التي تعاقبت على الامة وحتى اليوم، ولعل القول: "أن أكون لكم وزير خير لكم من أن أكون أمير" يكون درساً بليغاً من أمير المؤمنين، عليه السلام، على أن الاسلام قبل ان يكون طريقاً الى الحكم والسلطة، فهو منهج للحياة.
لماذا تهميش التجربة الانسانية وتغليب التجربة السياسية؟
منذ الايام الاولى لوصول الدين الى الحكم، وظهور حاكم ديني او "حكومة اسلامية"، تم تهميش التجربة الانسانية وتغليب التجربة السياسية، ثم التنظير لمسألة الحاكم، وأن يكون فقيهاً، ثم في أي مرتبة من الفقاهة يكون؟! كما تم استبدال الفكر الديني واسهاماته الثقافية، بفكر سياسي دفع البعض لعدّه نوعاً من "التطور في الفكر السياسي الشيعي"، والحديث عن عودة الدين الى الحكم وهو يبشر بالديمقراطية والحرية وحقوق الانسان وغيرها من المبادئ التي غيبتها الديكتاتورية طويلاً.
ولمن يراجع تجربة الفكر الديني، وتحديداً في ايران الشاه، وعراق البعث، في ستينات القرن الماضي، يجد حجم الانجاز في صياغة المفاهيم والقيم، وايجاد المصاديق العملية على ارض الواقع، فيما يتعلق بمسائل حيوية مثل؛ مقاصد العلم والمعرفة، وسبل النهوض والتغيير، ومسائل اجتماعية في مقدمتها؛ المرأة، الى جانب قضايا هامة تتعلق بكيفية قراءة التاريخ والاجتماع والسياسة والاقتصاد وفق رؤية حضارية متصلة مباشرة بمصادر الإلهام من الكتاب المجيد وسيرة المعصومين، عليهم السلام، وقد هبّ لهذه المعركة التاريخية الفاصلة، ثلّة من خيرة العلماء والمفكرين والادباء والخطباء لينشروا الوعي والثقافة بين اواسط المجتمع، ويجعلوا الاخلاق والآداب والقيم الدينية ضمن منهج حياة الناس، رغم التوجيه الايديولوجي المسيّس من قبل مؤسسات الحكم.
ان الجهود التي نهض بها مفكروا تلك الحقبة من الزمن، جديرةٌ لأن تكتب سيرتها بماء من الذهب، حيث كان المحاضرات السرية منها والعلنية، ونشر الكتب والكراسات والمجلات، وتأسيس المكتبات والهيئات وسائر المؤسسات الثقافية وحتى الخيرية، تتم في أقسى الظروف واكثرها تعقيداً، فلم ينل هؤلاء لقاء جهودهم، سوى الحرب الشعواء، بالتشكيك، والتخوين، والتسخيف، ثم التهجير أو الاعتقال والتعذيب وحتى التصفية الجسدية باساليب مختلفة، كل ذلك؛ بسبب الخشية البالغة من تنامي المشاعر الانسانية والبحث عن حاجاتها ومتطلباتها في الحرية والعدالة والكرامة، وليبقى الناس مجرد دُمى يحركها الحزب الحاكم او الملك الحاكم.
ولا أجدني بحاجة الى ذكر اسماء هؤلاء، لان كتبهم وآثارهم ما تزال ماثلة للعيان يبحث عنها الجيل الجديد مهما عصفت به الحداثة الفكرية، وثورة المعلومات، فهو يجد في هذا التراث ما يضيئ فكره ويساعده على صياغة المنهج الصحيح لحياته بعد ان تراكمت عليه أتربة السياسة واسقاطاتها السلبية.
وبعد كل هذا؛ هل يصحّ القول: أن الحجاب هو تقليد اجتماعي؟ او أن زيارة المراقد المشرفة، واستلهام الدروس والعبر من الأئمة المعصومين، عليهم السلام، يعد من الموروثات الشعبية القابلة للتطوير والتغيير؟ وهكذا سائر القيم الدينية والاخلاقية التي تنظم حياة الناس منذ وجود النبي الأكرم وأمير المؤمنين، صلوات الله عليهم، على قيد الحياة بين افراد الامة، وحتى يومنا هذا والى يوم القيامة.
ثم هل يصحّ إطلاق مفردة "المدّ" على هذه القيم لنفترض لها عمراً محدداً، ثم دمجها مع سائر الامور القابلة للتغيير والتطوير في الحياة وفق تطور الحركة الفكرية للانسان؟
كتبه - محمد علي جواد تقي
تعليق