عاش الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) في عصر طغى فيه الظلم والفساد والجهل والانحراف، حيث أطبقت السلطة الأموية الطاغية قبضتها على أمور المسلمين وتولى حكمهم أقسى وأبشع من عرفهم التأريخ من الحكام والولاة الذين بلغوا الغاية القصوى من الظلم والجور والتدني والإنحطاط الخلقي، فانعكست هذه السيرة على الكثير من الناس مما أدى إلى ابتعادهم عن مفاهيم الإسلام وآدابه وأخلاقه وتشريعاته.
في ذلك الجو الذي ساده الظلم والظلام والقتل والرعب والإرهاب كانت إشراقات الإمام زين العابدين تتدفق في نفوس المظلومين والمحرومين وتفعم قلوبهم بالعطف والرحمة، حيث قام (عليه السلام) بدوره الإصلاحي في المجتمع وبثّ علومه ومعارفه لهدي الناس، ومدّ الأمة بتعاليمه التربوية والروحية، ــ وهذا هو دأب الائمة الطاهرين في كل زمان ومكان ــ فراح (عليه السلام) ينشر رسالة الإسلام ويدعو الناس إلى الرجوع إلى دينهم وكتاب ربهم وسيرة نبيهم (صلى الله عليه وآله) وإحقاق الحق وإقامة العدل وإنصاف المحرومين والمعذبين والمستضعفين.
واجه الإمام زين العابدين تلك الانحرافات بنشر المبادئ الإسلامية وبيان المفاهيم والأحكام الدينية، فواجه الجهل بالوعي، والإنحراف بالإرشاد والتوجيه، ولفت الأنظار إلى ما يجب أن يتوفر في الحكام ومالهم وما عليهم من حقوق وواجبات وبما يضمن للدولة حقها وللناس كرامتهم وحقهم في الحياة وذلك بأسلوب الحوار مع الله ومناجاته وتمجيده في ستين دعاء جمعت في كتاب سُمِّيَ بـ (الصحيفة السجادية) وهي قمة في التضرّع إلى الله واستعطافه، ومن أفضل ما يناجي بها الإنسان ربه ويدعوه.
وقد سميت هذه الصحيفة لعظمتها وبلاغتها وروحيتها بـ (أخت القرآن), و(زبور آل محمد), و(إنجيل أهل البيت). كما احتوت على علوم مهمة في شتى المجالات، ولأهمية هذا السفر الخالد والأثر العظيم في تراثنا الديني والإنساني فقد وُضِعت له شروح كثيرة وتُرجم إلى عدة لغات وحاز على اهتمام العلماء منذ أن أشرق نوره إلى الآن.
ذكر السيد مهدي البيشوائي (1): (إن السيد المرجع الديني الراحل المرحوم آية الله العظمى النجفي المرعشي (قدس سره) أرسل عام (1353هـ) نسخة من الصحيفة السجادية إلى العلامة المعاصر مؤلف تفسير طنطاوي (الجواهر) ــ مفتي الإسكندرية ــ فكتب إليه بعد أن شكره على هذه الهدية القيمة:
(ولسوء حظنا هو أننا لم نحصل على هذا العمل القيم والخالد الذي هو تراث النبوة, وكنت كلما أنظر فيها أراها فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق). (2)
رسالة الحقوق
لقد قام الإمام بتسخير علومه وإمكانياته في سبيل إيقاظ الناس من جهالتهم وتنبيههم من غفلتهم وابتعادهم عن الإسلام الحقيقي الذي جاء به النبي محمد، وجهد على دعوتهم إلى الرجوع إلى مبادئ ونهج الرسول بعد أن سعى الأمويون وأعوانهم إلى إماتة صوت الوحي في الأمة وحرصوا أشد الحرص على إبعاد الناس عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، ومن أجل ذلك فقد جاء رد الإمام على تحريف الأمويين لسنة الرسول واتباعهم لأهوائهم وشهواتهم بوضع رسالة الحقوق وهي تتضمن جميع ما يجب على الناس وما يجب لهم من الحقوق والواجبات حيث جمعها (عليه السلام) في أكثر من خمسين وظيفة مثلت أسس وقوانين تضمن للإنسان حقوقه وحريته وكرامته وفيها جميع ما ينظم العلاقات الاجتماعية ويتكفل بتوفر عوامل السعادة والاستقرار. يقول السيد حسن الأمين: (رسالة الحقوق من الأعمال الفكرية السامية في الإسلام تحتوي على توجيهات وتعليمات وقواعد في السلوك العام والخاص من أدق ما يعرفه الفكر الإنساني). (3)
السند الوضيء
مما لا شك فيه أن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) قد توارثوا علومهم الربانية التي لم يختص بها أحد سواهم فهم (الراسخون في العلم)، وهم هداة الأمة ونجوم الهداية وسفن النجاة كما جاء في كثير من الأحاديث الشريفة، وقد تناقل هذا الأثر الخالد والسفر العظيم ــ الصحيفة السجادية ــ الأئمة الطاهرون ورووه إلى أصحابهم وشيعتهم حيث ينتهي سند الصحيفة السجادية إلى الإمام محمد الباقر وأخيه زيد بن علي الشهيد (عليهما السلام) وهذا السند هو متواتر تناقله العلماء جيلا بعد جيل، وإضافة إلى هذا السند المتواتر فإن بلاغتها وفصاحتها تشير إلى أنها من التراث النبوي والإرث السماوي وهي كما وصفها طنطاوي بأنها (فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق) وما هي إلا من كنوز أمراء الكلام كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (وَإِنَّا لاَ مَرَاءُ الْكَلاَمِ، وَفِينَا تَنَشَّبَتْ عُرُوقُهُ، وَعَلَيْنَا تَهَدَّلَتْ غُصوُنُهُ).
يقول السيد محسن الأمين العاملي في كتابه (الصحيفة الخامسة السجادية): (وبلاغة ألفاظها ــ أي الصحيفة السجادية ــ وفصاحتها التي لا تُبارى وعلوّ مضامينها وما فيها من أنواع التذلل لله تعالى والثناء عليه والأساليب العجيبة في طلب عفوه وكرمه والتوسّل إليه أقوى شاهد على صحة نسبتها، وإن هذا الدر من ذلك البحر، وهذا الجوهر من ذلك المعدن، وهذا الثمر من ذلك الشجر، مضافاً إلى اشتهارها شهرة لا تقبل الريب، وتعدد أسانيدها المتاصلة إلى منشئها صلوات الله عليه وعلى آبائه وأبنائه الطاهرين، فقد رواها الثقات بأسانيدهم المتعددة المتصلة إلى زين العابدين (عليه السلام) وقد كانت منها نسخة عند زيد الشهيد ثم انتقلت إلى أولاده، وإلى أولاد عبد الله بن الحسن المثنى، كما هو مذكور في أولها، مضافا إلى ما كان عند الإمام الباقر (عليه السلام) من نسختها، وقد اعتنى بها عامة الناس فضلاً عن العلماء اعتناء بروايتها وضبط ألفاظها ونسخها، وواظبوا على الدعاء بأدعيتها في الليل والنهار والعشي والإبكار).
شروح الصحيفة السجادية
لم تقتصر مضامين هذه الصحيفة الشريفة على الأدعية والتضرّع إلى الله، بل إنها احتوت على علوم ومعارف وآداب وقضايا أخلاقية ودينية وعلمية واجتماعية وسياسية كان المجتمع بأمس الحاجة إليها في تلك الفترة التي طغت عليها أجواء التفسخ والانحلال والانحطاط والظلم والاستبداد الأموي، فكانت الحاجة إلى مثل هذه الصحيفة ملحة في ذلك الوقت فالهدف الرسالي الذي سعى الإمام إلى تحقيقه هو تضمين المبادئ الإسلامية والأخلاق وآداب ومفاهيم القرآن الكريم في الدعاء وزرع الوعي والمعارف والعلوم داخل إطار الأدعية والمناجاة.
ولأهمية هذه المقاصد الشريفة التي وضعها الإمام داخل الصحيفة فقد حظيت باهتمام بالغ من قبل العلماء والمفكرين في جميع مراحل التأريخ ووضعت لها شروح كثيرة باللغتين العربية والفارسية وترجمت إلى لغات مختلفة، وقد عد العلامة أغا بزرك الطهراني لهذه الصحيفة من الشروح أكثر من مائة وخمسين شرحاً إضافة إلى الترجمات (4) ومن أبرز هذه الشروح:
1 ــ رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين (عليه السلام): وهو من أوسع شروح الصحيفة السجادية، وأشهرها وهو من تأليف السيد علي صدر الدين الحسني الحسيني الشيرازي (ت1220 هـ) المعروف بالسيد علي خان المدني وابن معصوم (المدني)، وقد سمّى السيد حسن الأمين هذا الشرح بـ (حدائق المقربين) وقال عنه إنه (أحسن الشروح).
2 ــ رياض العارفين: للعلامة الشيخ محمد الملقب بـ شاه محمد الاصطهباناتي الشيرازي.
3 ــ في ظلال الصحيفة السجادية: للعلامة الشيخ محمد جواد مغنية
4 ــ حدائق الصالحين: للشيخ البهائي
5 ــ نور الأنوار: للسيد نعمة الله الجزائري وله شرح آخر عليها أكبر وأوسع من هذا الشرح.
كما شرحها أيضا من العلماء في مختلف العصور:
1 ــ الشيخ حسن بن عباس بن محمد علي بن محمد البلاغي الربعي النجفي في مجلدين.
2 ــ الشيخ محمد حسن الدكسن
3 ــ محمّد بن الحسين العاملي
4 ــ محمد باقر المجلسي
5 ــ العلامة أغا بزرك الطهراني
6 ــ السيد محمد الحسيني الشيرازي
7 ــ الحر العاملي
8 ــ محمد باقر الداماد
9 ــ علي نقي فيض الإسلام
10 ــ صدر الدين بلاغي
11 ــ عبد المجيد آيتي
12 ــ جواد فاضل
13 ــ ميرزا أبو الحسن شعراني
14 ــ محمد جعفر إمامي
15 ــ السيد محمد حسين الجلالي
16 ــ الميرزا إبراهيم محمد علي السبزواري
17 ــ الميرزا إبراهيم بن مير محمد معصوم بن مير فصيح بن مير الحسين التبريزي القزويني
18 ــ الشيخ الكفعمي تقي الدين إبراهيم بن علي بن الحسن بن محمد بن صالح ابن إسماعيل صاحب (المصباح)،
19 ــ المولى شريف أبي الحسن بن محمد طاهر بن عبد الله الحميد الفتوني العاملي
20 ــ السيد الميرزا محمد باقر الحسين
21 ــ السيد جمال الدين الكوكباني اليماني
22 ــ حبيب الله بن علي مدد الكاشاني
23 ــ الميرزا حسن بن المولى عبد الرزاق اللاهيجي
24 ــ تاج الدين حسن بن محمد الأصفهاني
25 ــ الآغا حسين الخوانساري
26 ــ الحسين بن المولى حسن الجيلاني الأصفهاني
27 ــ السيد حسين بن الحسن بن أبي جعفر محمد الموسوي الكركي.
28 ــ الشيخ عز الدين الحسين بن عبد الصمد الحارثي العاملي والد الشيخ البهائي
29 ــ فخر الدين الطريحي
30 ــ خليل بن الغازي القزويني
31 ــ السيد محمد رضا الأعرجي
32 ــ السيد رضا علي الطالقاني
33 ــ محمد سليم الرازي
34 ــ محمد صالح بن محمد باقر الروغني
35 ــ السيد صدر الدين بن المير محمد صالح الطباطبائي جد السادة المدرسين.
36 ــ المفتي مير عباس اللكنهوري.
37 ــ جمال السالكين عبد الباقر الخطاط التبريزي
38 ــ عبد الغفار الرشتي من علماء الدولة الصفوية
39 ــ أبو الحسن عبد الله بن أبي القاسم، المعروف بـ (ابن مفتاح) الزيدي اليماني.
40 ــ عبد الله أفندي الأصبهاني صاحب كتاب (رياض العلماء).
41 ــ محمد طاهر بن الحسين الشيرازي
42 ــ السيد شرف الدين علي بن حجة الله الشولستاني الحسيني الطباطبائي.
43 ــ نور الدين أبي الحسن بن عبد العال الكركي.
44 ــ أبو الحسن علي بن الحسن الزواري.
45 ــ الشيخ علي بن الشيخ زين العابدين من أحفاد الشهيد الثاني.
46 ــ الشيخ علي بن الشيخ أبي جعفر وهو أيضا من أحفاد الشهيد الثاني زين الدين.
47 ــ محمد علي بن نصير الجهاردهي الرشتي النجفي.
48 ــ الشيخ محمد علي بن الحاج سليمان الجشي البحراني الخطي.
49 ــ فتح الله الخطاط.
50 ــ السيد محسن بن قاسم بن إسحاق الصنعاني.
51 ــ السيد محسن بن أحمد الشامي الحسيني اليماني الزيدي.
52 ــ محمد بن محمد رضا المشهدي.
53 ــ السيد أفصح الدين محمد الشيرازي مؤلف (المواهب الإلهية) في شرح نهج البلاغة.
54 ــ الشيخ أبي جعفر محمد بن جمال الدين أبي منصور الحسن ابن الشهيد الثاني.
55 ــ محمد بن الحسين بن عبد الصمد الحارثي العاملي.
56 ــ قطب الدين محمد بن علي اللاهيجي.
57 ــ السيد محمد بن حيدر الحسيني الطباطبائي.
58 ــ المحدث الشيخ محمد بن الشاه مرتضى الكاشاني المعروف بالمولى محسن الفيض.
59 ــ الشيخ أبي جعفر محمد بن منصور بن أحمد بن الشهيد الثاني.
60 ــ الفاضل هادي بن المولى محمد صالح بن أحمد المازندراني.
61 ــ الشيخ يعقوب بن إبراهيم البختياري الحوزي و.....غيرهم
وهناك شروح أخرى مجهولة المؤلف وجدت عند بعض العلماء ذكرها الشيخ أغا بزرك الطهراني، وأغلب هذه الشروح هي مترجمة إلى الفارسية، كما ترجمت إلى عدة لغات عالمية منها الأوردو ترجمها السيّد محمّد هارون الهندي الحسيني الزنگي پوري وسمّاها (السيف اليماني)، كما ترجمها إلى الانكليزية البورفسور (وليام چيتيك) اُستاد جامعة ولاية نيويورك ـ أمريكا، وترجمها الشيخ (هارون بينكيلي) إلى اللغة السواحيلية في تنزانيا.
محمد طاهر الصفار
.................................................. .............
1 ــ سيرة الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) ــ ص 240
2 ــ شرح الصحيفة السجادية ترجمة السيد صدر الدين الصدر البلاغي ص 37
3 ــ دائرة المعارف الإسلامية الشيعية ج 2 ص 36
4 ــ الذريعة إلى تصانيف الشيعة ص 37