التفكير خارج الخوف داخل الامل
ميثم العتابي
وصف الإنسان العربي على مدى عقود كثيرة على إنه قابع وخانع بالشكل السلبي أو القمعي الذي يمارسه الاختزال السلطوي، أو منظومة جاز لنا ان نسميها بـ (منظومة تسيير الأعمال)، فهي التي تفكر وتقرر بدلا عنه، وإذ ما كانت الحال هذه فما حاجته للتفكير والتأمل والإبداع، خاصة إذ كان هنالك من يكتب ويبدع ويفكر دونه، شريطة ان يحتفظ برأسه فوق كتفيه، لذا عزف عن مواصلة النتاج الإبداعي ورفد الساحة الإنسانية بكل ما من شأنه ان تكون لبنة بناء له ولمجتمعه ولأجيال تتعاقب بعده.
من جانب آخر تناسل وتكاثر النكسات، ساعد وإلى حد كبير في تعميق الهوة والشعور بالإحباط واليأس خاصة فيما يسمى بالقضايا المصيرية للأمة والتي منيت بفشل ذريع، فلا فلسطين رجعت للعرب ولا وحدة عربية تحققت ولاشيء من هذا القبيل. حيث ربطت السلطة هذه الأحداث بالفكر الجمعي العربي وجعلت العمل عليه هو مجاز للحياة الواقعية اليومية وخلافه لايستحق ان تكون هناك مواصلة فعلية، فكان هذا الإحباط من شأنه ان يضع اللمسات الأخيرة في لوحة هذا التراجع المخيف إلى الداخل والانحسار الكلي والأخير.
وعلى هذا التصور جمد الفرد العربي نفسه داخل ذاته مكيفا ومكتفيا بدور السابقين له أمثال أبن سينا والرازي وابن حيان وابن رشد والمتنبي وغيرهم كثير، وهذا التجميد الخوفي هو طائلة ونتاج الاختزال الفكري أولا، كربط المصير الفردي بالجمعي وتهميش الفردنة والخصوصية تحت الشعارات السياسية التي لم تأتي أوكلها ولو بعد حين، ومنع أو قمع التفكير خارج الذات ثانيا.
لذا كان في كلا الحالتين منع قسري جبري لا اختياري، فهو بمعنى خارجي، رغم مساعدة وعي المتلقي في تنامي حالة الإنغلاق على الذات ليكون مبتعدا عن الإبداع وعن الحقيقة الواقعية التي تكمن خارج حدود هذه الذات، وعدَّ بعضهم هذا الانحسار والتراجع عن ممارسة الدور الحقيقي هو نرجسية المثقف العربي التي يمارس فيها طقوسه في برجه العاجي. بيد إنها وان صدقت أحيانا، لكن هنالك عوامل أوسع من هذه التسمية أو حصرها بانزواء المثقف على ذاته، وهو بالتالي لا يتحكم بأدواتها بل إنها واقعة خارج حدود سيطرته، إنها ترسيخ لمفاهيم الإنغلاق الكلي والتقوقع على (الأنا) ليكون الخروج إلى الشمس الحياتية عملية شبه مستحيلة إن لم تكن كذلك أصلا.
فالمنظومة القمعية التي وضعها النظام العربي طيلة قرون لا عقود، من شأنها ان تبعد المرء عن الجهر بالتفكير، فأصبح ذلك تقليد ومنهجية في التعامل مع القرار الفكري، وفي الشق الآخر معرفة بواطن التفكير لقمعها والقضاء عليها نهائيا. فالتفكير آفة تهدد العروش، لأنه خطوة نحو التجدد والتحرر والبناء والتغيير، وكل تغيير من شأنه ان يأتي بجديد، ويبدو ان كلمة جديد هذه وحدها تكفي لتسبب لهم صداع طويل.
بدائل التصحر الفكري: الخروج من التيه
يتطلب خروج الإنسان من التيه الداخلي المختمر في نفسه إلى النور، خاصة ذلك المتغلغل على مدى أجيال متوارثة ومتعاقبة، عوامل استثنائية:
1) قول الحقيقة المطلقة بكل جوانبها ومحتوياتها، والمجازفة بقولها، كما فعل جاليلو حين أثبت أن الأرض كروية داخل المجمع الكنائسي آنذاك.
2) اعتبار التفكير الفردي هو أساس الحياة في العملية الإنتاجية الإبداعية، فنحن نلتقي في التكوين الجمعي باعتبارات مهمة منها ان الإنسان كائن يستأنس بوجود غيره، وانه اجتماعي، لكن على هذا ان لا يصهر أو يستلب الهوية الفردية، وان يكون لكل منا تفكيره الخاص وقراره المنفرد فيما يخص النتاج والتفكير والإبداع.
3) الاستناد إلى الحقائق العلمية الدامغة، والتفكير المنطقي وفق الاصول الاكاديمية الدراسية منها أو غيرذلك، ولا بأس لو مازجه الحلمي أو الإيقاع الإيهامي الإستباقي لبعض الإنجازات الإبداعية.
4) عامل الإصرار سواء نجح هذا العمل أو لا. والإصرار عنصر من شأنه ان يثمر كل نجاح فيما بعد. فالاصرار مواصلة والمواصلة من شأنها تذليل كل الاخطاء الناجمة من التجربة الأولى والاستفادة منها في باقي التجارب التالية.
5) الشعور التام بالمسؤولية إتجاه الإنسانية ككل، بغض النظر عن ماهيتها السياسية الآيدلوجية، أو الدينية المتطرفة، أو العصبية القبلية، ومحاولة الرقي بها ودفع عجلتها كما فعل السابقون من العلماء والمبدعين والمفكرين.
من خلال هذه الاستنتاجات يمكن للمرء ان يدفع عجلة البناء التقدمي الحضاري، غير متناسيا لمسألة مهمة جدا وهي الحضور الفردي في الامتياز الشخصي، فهنا لا نبحث عن مثالية محضة، بل العكس إنها وصولا إلى تحقيق رغبات الذات، ولكن بكسر الطوق والخروج إلى النور.
وبعد زوال كابوس الهيمنة من على مساحة الجسد العراقي العربي، الذي قد يكون مقدمة لزوال بعض الأنظمة العربية المتسلطة، أو على أقل تقدير تهديدا لعروشها، بات من الملح والمهم خروجنا إلى السطح، والاتجاه إلى تعميق الرؤيا في الخلق، والعبور من الرقعة الهامشية أو تفكير العلبة المغلقة التي وضعنا فيها قسرا، إلى التصدي لخلق المساحة الخاصة بالتفكير والإبداع وصنع حالة شبه متوازية عالميا، حتى يتسنى لمن يأتوا بعدنا التفكير والنهوض برؤى أو لنقل يفهمون الواقع كما هو لا كما يصاغ ويساق إليهم.
تعليق