بسم الله الرحمن الرحيم
في الحقيقة هناك عدة طرق وعوامل ينبغي للمؤمن أن يتبعها ويسلكها ليحقق التزكية،ولا بأس أن نبدأ بـ (النية):
قد يتبادر إلى ذهن القارئ أن عنوان (النية) سهل ولا يستحق البحث، باعتباره أمرا ارتكازيا في وجداننا.
وهذا الأمر وإن كان فيه جانب صحيح، ولكن بما أن النية تدخل في مواضيع عديدة وكثيرة ومهمة في حياتنا، بحيث يتوقف عليها اتجاه العمل بين طرفي التناقض، وبذلك لن يكون بحث النية والنية نفسها خاليا من التعقيد كما سيتضح ذلك في مطاوي هذه المقالة.
والنية لغةً: هي القصد والعزم على الفعل. اسم من نويت نية ونواة أي: قصدت وعزمت. ثم خُصّت بغالب الاستعمال بعزم القلب على أمر من الأمور[1] وعن المحقق الطوسي(قدس سره) النية هي القصد إلى الفعل، وهي واسطة بين العلم والعمل.
وعليه، أن النية والإرادة أو القصد والعزم عبارات متعددة لمعنى واحد، كما ان أصلها في القلب، ولا تتعدى للكلام والتلفظ باللسان، وبذلك يعلم: أن ما يُتلفظ به بعنوان نية كما يفعل بعض المؤمنين عندما ينوون لصلاة معينة محل إشكال كما يظهر من عبارات بعض الفقهاء[2]، باعتبار التلفظ أداة جارحة خارجية والنية أمر جانحي قلبي. فعند التلفظ بها لا تكون نية بالمعنى المصطلح.
أما في الاصطلاح، فيُضاف إلى ما سبق قيد الخلوص بالعمل لله، بمعنى أن يكون الداعي والمسبب لحركته وعزيمته هو أمر الله سبحانه وتعالى سواء أكان واجبا ام مندوبا.
إذاً، النية المبحوث عنها في مقامنا ما اجتمع فيها أمران:
أ ـ القصد على الفعل ب ـ اختصاص العمل لله تعالى
- موقع النية من العمل
إلى هنا تبين أن النية أساس العمل وجذره، وتكتسب أهمية كبيرة باعتبار أن قبول العمل مرتهن بها، في بعض الأحاديث أن المحورية للثواب والجزاء للنية ولا قيمة للعمل من حيث كبره وحجمه الا بما يتناسب مع النية، ففي الحديث المشهور: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله أغزى عليا في سرية وأمر المسلمين أن ينتدبوا معه في سريته، فقال رجل من الأنصار لأخ له: اغز بنا في سرية علي لعلنا نصيب خادما أو دابة أو شيئا نتبلغ به، فبلغ النبي صلى الله عليه وآله قوله، فقال صلى الله عليه وآله: إنما الأعمال بالنيات و لكل امرئٍ ما نوى، فمن غزا ابتغاء ما عند الله عز وجل فقد وقع أجره على الله عز وجل، ومن غزا يريد عرض الدنيا أو نوى عقالا لم يكن له إلا ما نوى)[3].
فواضح من هذا الحديث الشريف وغيرها من الأحاديث الكثيرة حول محورية النية في العمل، فربما عمل قليل فيه إخلاص شديد يعد أضخم الأعمال على الإطلاق بلا نية مخلصة، فالحذر الحذر في التعامل مع هذا الأمر المهم.
- النية أفضل من العمل
بل بعض الروايات الصريحة تبين أن النية أفضل من العمل، ففي الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (النية أفضل من العمل إلا وان النية هي العمل)[4] كما روي عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (نية المؤمن خير من عمله)[5] وغيرها روايات كثيرة تشير إلى هذا المضمون.
ولعل السبب وراء أهمية العمل يرجع إلى النقاط التالية:
1. ورود بعض الروايات التي تشير إلى أن مجرد النية الصادقة لعمل ما والتقرب لله عز وجل وابتغاء مرضاته يكسب الأجر والثواب حتى لو لم يقم بذلك العمل.
روي عن الرسول(ص) لما خرج في غزوة تبوك قال: ((أن بالمدينة أقواما ما قطعنا واديا ولا وطئنا موطئا يغيظ الكفار ولا أنفقنا نفقة ولا أهابتنا مخمصة إلا شاركونا في ذلك وهم في المدينة. قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله وليسوا معنا؟ فقال: حسبهم العذر فشركونا بحسن النية)) [6].
2. بإمكان النية أن تحقّر أعظم الأعمال وتنزله إلى الحضيض، كالذي يقاتل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأجل المغنم، كما روي عنه، أو ترفع عملاً إلى أعلى الدرجات السامية عند الله مع انه من الناحية الخارجية قد يعد عملا قليلا، وهناك عشرات الأمثلة على ذلك كالثواب المترتب على البكاء ولو بقطرة أو بمقدار جناح بعوضة من الدمع.
3. من كانت نيته صادقة وقلبه خالي من الشك والشرك خالصا لله تعالى كان من الذين يتصفون بالقلب السليم[7]. ومثل هذا القلب هو النافع يوم القيامة،
حيث قال الله تعالى: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[8]
والباحث يجد هناك كثيرا من الإشراقات والإضاءات التي تبين كيف فضّلت النية على العمل.
- محل النية
كما ينبغي أن نحرز وجود النية وصفتها قبل العمل وليس نعمل ثم ننوي، لان النية بعد العمل لا تقلبه حسنا، كما صرح بذلك بعض الفقهاء.
وسيرة السلف الصالح زاخرة في حرصهم على وجود نية صحيحة حتى في أكلهم وشربهم ونومهم وغيرها من دقائق وخصوصيات حياتهم.
وينقل عن أحد السيدين(الرضي أو المرتضى) في قصة: أن أعماله كلها كانت مستحبة، فسئل كيف ذلك وهناك أمور مباحة مثل: الأكل، والنوم، المشي، و...فمن أين أتى لها الاستحباب؟
فقال: نويت بها التقرب إلى الله تعالى فصارت مستحبة.
انظر كيف يتعامل العلماء مع هذا الأمر الحساس، فبمجرد طرو النية على أعمال قد تعتبر ضرورية ولا يستطيع الإنسان أن يستغني عنها، يقلبها من مباحة إلى مستحبة، ولعل هذا مستفاد من قول أمير المؤمنين عليه السلام في الدعاء الذي علمه لكميل..أسألك بحقك وقدسك وأعظم صفاتك وأسمائك، أن تجعل أوقاتي في الليل والنهار بذكرك معمورة، وبخدمتك موصولة، وأعمالي عندك مقبولة، حتى تكون أعمالي وأورادي كلها وردا واحدا، وحالي في خدمتك سرمدا..)
نعم، ببركة النية تكون حياتنا كلها وبأدق تفاصيلها عبارة عن عبادة مستمرة تزيد في رصيد أجرنا وثوابنا.
ففي كل شؤون حياتنا في عملنا حتى لو نأخذ عليه أجرا ماليا وفي حركتنا وفي درسنا وخروجنا وحديثنا وسكوتنا ينبغي أن نحرز هذا الهامش في قلوبنا وهو هامش التقرب إلى الله تعالى.
فالنية بمثابة الروح لتجسد أعمالنا، ولا خير من جسد بلا روح. وبذلك نعرف الخطوة الأولى لتزكية النفس وتطهيرها من الدنس.
وفي الحقيقة في بحث النية توجد مطالب كثيرة جدا يصعب استيعابها وبيانها بالشكل الذي تستحقه بهذه الرسائل المختصرة، وألّفت بذلك كتبا خاصة، فمن أراد التزود فعليه بها.
نسأل الله تعالى أن نكون من الذين يحسنون في نياتهم فنكون من المؤمنين الموعودين بالجنات والرضوان الأكبر.
{وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[9].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـ
[1] - مجمع البحرين4 :397، باب النون
[2] - مستمسك العروة8، كتاب الصوم، فصل في النية
[3] - بحار الانوار67: 212،باب 35، النية وشرائطها.... ح38. عن أمالي الطوسي.
[4] - الكافي2: 16 ، باب الإخلاص، ح4
[5] - بحار الانوار67: 212،باب 35، النية وشرائطها.... ح36.
[6] - جامع السعادات3 :89، تحت عنوان: النية روح الأعمال الجزاء بحسبها.
[7] - الكافي2 : 16 ، باب الإخلاص، ح5
[8] - سورة الشعراء:88-89
[9] - سورة التوبة: 72.
تعليق