رسالة الامام الكاظم(ع) في العقل
قبل الحديث عن رسالة الإمام موسى (عليه السلام) في العقل التي تعد ثروة فكرية عظيمة، لابدّ لنا من الحديث عن منهج أهل البيت (عليهم السلام) في العقل.
لأهل البيت (عليهم السلام) منهج علمي خاص لا يحيدون عنه، به يفسرون الأمور الدينية، وبه يقيسون المبادئ والآراء والمعتقدات والفلسفات وهو العقل السليم.
بالعقل السليم يستدل على غيره ولا يستدل بغيره عليه. ولأهل البيت كلام كثير بهذا الموضوع ذكره الكليني في أول أصول الكافي منه: (إن الله جعل العقل دليلاً على معرفته.. ومن كان عاقلاً كان له دين... أعلم الناس بأمر الله أحسنهم عقلاً... العقل دليل المؤمن).
وجاء في نهج البلاغة لأمير المؤمنين: (أغنى الغنى العقل).
معنى هذا أن العقل هو المبدأ الأول لكل حجة ودليل، واليه تنتهي طرق العلم والمعرفة بكل شيء وكل حكم.
والعقل هو القوة المبدعة التي منحها الله عزّ وجلّ إلى الإنسان وميّزه به على الحيوان الأبكم، وشرّفه على بقية الموجودات، واستطاع به أن يستخدم الكائنات، ويكشف أسرارها، وبالعقل جعله خليفة في الأرض، ينظّم الحياة عليها ويعمرها.
وقد انتهى الإنسان بفضل عقله إلى غزو الفضاء والكواكب، وانطلق انطلاقة رائعة إلى اكتشافات مذهلة، وسيصل في مستقبله القريب أو البعيد إلى ما هو أعمق وأشمل من ذلك.
إن كل حكم سواء أكان مصدره الوحي أم الحس والتجربة دليله العقل حيث لا وزن للسمع والبصر بلا عقل، ولا سبيل إلى العلم بمصدر الوحي إلا العقل ودلالته. وبصورة أوضح نحن نأخذ بحكم الوحي والشرع بأمر من العقل. أما حكم العقل فنأخذه ونعمل به، وإن لم ينص عليه الوحي والشرع، والخلاصة أن أبعد الناس عن الدين من يظن أن الدين بعيد عن العقل. وإن ما يقصد إليه هو العقل السليم.
*******
معنى العقل السليم
العاقل في اصطلاح القرآن الكريم وعند الناس هو الذي يضع الشيء في مكانه ويملك إرادة قوية فيحبس نفسه عما يشين بها ولا يستجيب لهواها إن يكُ مخالفاً للعقل وحكمه.
قال تعالى: «وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ...»(1) وقال عزّ وجلّ: «يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ...» (2).
وقال سبحانه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا» (3).
وقال سبحانه وتعالى: «وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى» (4).
يتضح من هذه الآيات الكريمات أن العاقل هو الذي ينقاد إلى حكم العقل، ويؤثره على هواه. وعليه يكون المراد بالعقل السليم: الإدراك النابع من العقل بالذات، العقل المستنير بالمعرفة والحق والإيمان، وليس من الجهل والتعصب والأهواء الشخصية!!
وما نراه أن الرجل الواقعي الواعي لا يجزم بالفكرة الخاطفة العابرة، ولا ينطلق مع رغبته وإرادته قبل أن يتدبر ويتأمل، بل يتريّث ويملك نفسه ويبحث، حتى يهتدي إلى الرأي الناضج الأصيل. على العكس من الرجل العاطفي الذي يبتّ في الأمور برغبته وهواه قبل أن يفكر ملياً، وبتعبير أدق: يصدّق قبل أن يتصوّر.
وسئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن العقل فقال: (ما عبد به الرحمن، واكتسب به الجنان.
قيل له: فالذي كان في معاوية؟
فقال: تلك الشيطنة وهي شبيهة بالعقل، وليست بالعقل).
ويعني بقوله (عليه السلام) أن العقل لا يقود إلى الحرام كما يفعل الشيطان. والله سبحانه وتعالى بشّر أهل العقل والفهم في كتابه حيث قال: «وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ». (5).
هذه الآية تعد من أوضح الآيات التي جاءت في العقول السليمة. والإمام (عليه السلام) استدل بهذه الآية الكريمة على تقديم أهل العقول السليمة على غيرهم لأن الله قد بشّرهم بالهداية والنجاح، وقد تضمنت الآية التي استشهد بها (عليه السلام) جملة من الفوائد منها:
1ـ وجوب الاستدلال:
إذا وقف الإنسان على جملة من الأمور فيها الصحيح والفاسد، وكان في الصحيح هدايته وفي السقيم غوايته فإنّه يتحتم عليه أن يميز بينهما ليعرف الصحيح منها فيتبعه، والسقيم فيبتعد عنه، ومن الطبيعي أن ذلك لا يحصل إلا بإقامة الدليل والحجة، وبهذا يستدل على وجوب النظر والاستدلال في مثل ذلك.
2ـ حدوث الهداية:
كما دلّت الآية على الهداية، فمن المعلوم أن كل عارض لابدّ له من موجد كما لابدّ له من قابل، أما الموجد للهداية فهو الله تعالى ولذلك نسبها إليه بقوله: «أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ»، وأما القابلون لها كلهم أهل العقول المستقيمة وإلى ذلك أشار بقوله سبحانه: «وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ».
ومن المعلوم أن الإنسان يقبل الهداية من جهة عقله لا من جهة جسمه وأعضائه، فلو لم يكن كامل العقل لامتنع عليه حصول المعرفة والفهم كما هو ظاهر.
إنّ من غرر أحاديث الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام) في مجال العقل كمصدر معرفي أساس هو وصيّته الثمينة لهشام بن الحكم والتي سُمّيت برسالة العقل عند الإمام (عليه السلام)، وإليك نصّ الرسالة:
إن الله تبارك وتعالى بشّر أهل العقل والفهم في كتابه العزيز فقال سبحانه: «فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ» (6).
استدل (عليه السلام) بهذه الآية لترغيب الناس على اتباع القول الحسن، وهذه الفئة من الناس يبشرهم الله انهم على هداية منه وهم أصحاب العقول الراجحة، يميزون بنور عقولهم بين الكلام الخبيث فيتجنبونه والكلام الحسن فيتبعونه.
ثم تابع (عليه السلام) القول لهشام: (يا هشام، قد وعظ أهل العقل ورغبهم في الآخرة).
فقال عزّ وجلّ: «وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ» (7).
وهنا أيضاً يرغّب الله تعالى عباده العقلاء في دار الخلود والنعيم، ويذم دار الدنيا لأنّها محصورة على الأكثر في اللهو واللعب، فالعقلاء يزهدون فيها، ويجتنبون شرّها وحرامها، ويعملون للدار الباقية التي أعدت للمتقين، والعباد الصالحين.
يا هشام: ثم خوف الذين لا يعقلون عذابه فقال عزّ وجلّ: «ثُمَّ دَمَّرْنَا الآَخَرِينَ، وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَليْهِمْ مُصْبِحِينَ، وَبِاللَّيلِ أَفلاَ تَعْقِلونَ» (8) استدل (عليه السلام) بهذه الآية وما شابهها على تدميره تعالى للذين لا يعقلون من الأمم السالفة التي كفرت بالله وقد نزلت في قوم لوط حينما جحدوا الله وكفروا بآياته، فأنزل تعالى بهم عقابه، وجعل موطنهم قبيح المنظر منتناً يمر بها المارون ليلاً نهاراً ساخرين من أهلها حيث جعلهم عبرة للذين يعقلون، وقد حذّرهم من مخالفة المرسلين، الصالحين، فإن عاقبة المخالفة والعصيان الدمار والهلاك.
ثم بين أن العقل مع العلم فقال سبحانه: «وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَ الْعَالِمُونَ» (9).
استدل (عليه السلام) بالآية الكريمة على ملازمة العقل للعلم فإن العقل بجميع مراتبه لا يفترق عن العلم فكلاهما صنوان متلازمان.
قال المفسرون عن سبب نزول هذه الآية: إن الكافرين انتقدوا ضرب الأمثال بالحشرات والهوام كالذباب والبعوض والعنكبوت...
وفي نظرهم أن الأمثال يجب أن تضرب بغير ذلك من الأمور الهامة وفي نظرنا أن منطقهم هذا هزيل للغاية لأن التشبيه إنما يكون بليغاً فيما إذا كان مؤثراً في النفس.
ثم ذم الذين لا يعقلون في فصل آخر لأن معرفة حقيقة الاشياء لا يميزها إلا العالمون الذين حصل لهم العلم والمعرفة «وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَ الْعَالِمُونَ».
يا هشام: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ» (10).
وقال سبحانه: «وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ» (11).
ثم تابع في سرد الآيات الشبيهة بهذه وكلها تذم الذين لا يعقلون (12) استدل الإمام (عليه السلام) بهذه الآيات الكريمة على ذم من لا يعقل، ففي الآية الأولى من هذا الفصل يقول الطبرسي:
لقد اتبع القوم أسلافهم ومشايخهم في الأمور الدينية من غير بصيرة ولا دليل، والذي حفزهم إلى اتباعهم الجهل والتعصب والغباوة وهذه الآية حسب رأي المفسرين نزلت في اليهود حينما دعاهم الرسول الأكرم إلى الإسلام فرفضوا ذلك، وقالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا فانهم كانوا خيراً منا (13). ولو كانت لهم عقول سليمة، وأفكار ناضجة لفقهوا أن التقليد في العقائد لا يقرّه العقل السليم، لأن العقيدة لا تؤخذ إلا من الدليل العلمي الصحيح، وهي أساس ثابت لحياة الإنسان وسلوكه. إذ ما من عاقل إلا وهو عرضة للخطأ في فكره، ولا ثقة في الدين إلا بما أنزل الله، ولا معصوم إلا من عصم الله، فكيف يرغب العاقل عما أنزل الله في اتباع الآباء مع دعواه الإيمان بالتنزيل؟؟!
والآية الثانية متممة للآية الأولى: فإنّه تعالى لما وصف حالة الكفّار في إصرارهم على التقليد الأعمى عند دعوتهم إلى الإسلام، ضرب لهم مثلاً للسامعين عن حالم بأنهم كالأنعام والبهائم التي لا تعي دعاء الداعي لها سوى سماع الصوت منه دون أن تفهم المعنى، فكذلك حال هؤلاء لا يتأملون دعة الحق ولا يعونها، فهم بمنزلة الجاهلين لا يعقلون، وهذا أعظم قدح وذم للذين لا يعقلون. لأن الإنسان إذا اتهم بعقله فقد دنياه وآخرته.
وفي الآية الثالثة: وصف سبحانه منتهى القسوة وجمود الطبع وخمول الذهن لبعض الكفار فهم يستمعون ما يتلى عليهم من الآيات والأدلة على صحة دعوة النبي (صلّى الله عليه وآله) ولكنهم صم بكم لا يسمعون ولا يفقهون، وبذلك لا جدوى ولا فائدة في دعوتهم إلى اعتناق هذا الدين؛ لقد بلغوا الحد الأقصى في أمراضهم العقلية والنفسية، ولا يجدي معهم أي نصح أو إرشاد أو علاج.
وسنكتفي بهذا القدر من الآيات التي استدل بها (عليه السلام) على ذم من لا يعقل من الناس. والآن إلى فصل آخر من كلامه، قال (عليه السلام): (يا هشام: لقد ذم الله الكثرة فقال: «وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَ يَخْرُصُونَ»(14).
وقال سبحانه أيضاً: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ» (15).
استدل (عليه السلام) بهاتين الآيتين على ذم أكثر الناس لأنهم قد حجبوا عن نفوسهم الحق، وتوغلوا في الباطل، وغرقوا في الشهوات، إلا من رحمه الله منهم.
ففي الآية الأولى: خاطب تعالى نبيه (صلّى الله عليه وآله) وأراد به غيره، فإنه لو أطاع الجمهور من الناس وسار وفق أهواءهم وميولهم لأضلوه عن دين الله وصرفوه عن الحق.
وفي الآية الثانية: دلت على أن أكثر الناس يقولون ما لا يعلمون، وأنهم لا يؤمنون بالله في قلوبهم، بل إنما يجري على ألسنتهم دون أن ينفذ إلى أعماق قلوبهم (16).
ثم مدح القلّة فقال:
يا هشام: قال تعالى: «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ» (17).
وقال: «وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَ قَلِيلٌ» (18).
وقال: «وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ» (19).
وقال: «وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ» (20).
استدل (عليه السلام) من خلال هذه الآيات الكريمة على مدح قلة المؤمنين، وندرة وجودهم، كما صرحت الأحاديث النبوية والأخبار الواردة عن أهل البيت بذلك، فقد قال الإمام الصادق (عليه السلام): (المؤمنة أعز من المؤمن، والمؤمن أعز من الكبريت الأحمر فمن رأى منكم الكبريت الأحمر؟)
والسبب في ندرة هذه الفئة من المؤمنين الصالحين يعود إلى أن الإيمان الحقيقي بالله يعد من أعظم مراتب الكمال التي يصل إليها الإنسان.
لكن الوصول إلى هذا الإيمان يصطدم بموانع كثيرة تحول دون الوصول إليه مثل: التربية البيتية السيئة حيث يعتاد الفرد على الغش والخداع والكذب منذ الطفولة الأولى.
إن التفاحة الفاسدة تفسد التفاح السليم، والرفيق المنحط أخلاقياً وسلوكياً يفسد غيره من الرفاق الصالحين، لأن الانزلاق نحو الرذائل أسهل من الصعود نحو الفضائل، والمثل العليا وهناك حواجز كثيرة تؤدّي إلى حجب الإنسان عن خالقه، وتماديه في الإثم والموبقات.
«وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ» تعني صرف العبد جميع ما أنعم الله عليه فيما خلق لأجله. وهذه أعظم مرتبة لا تصدر إلا ممن عرف الله واعتقد بأن جميع الخيرات والنعم صادرة منه سبحانه وتعالى. فيعمل بكل طاقته على تحصيل الخير وردع نفسه عن الحرام وحينئذ يكون من الشاكرين، والشكر لله بهذا المعنى من المقامات العالية التي لا يتصف بها إلا القليل من عباد الله.
وننتقل إلى فصل آخر من كلامه (عليه السلام) مخاطباً هشام.
يا هشام: ثم ذكر أولي الألباب بأحسن الذكر وأفضل الصفات فقال: «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَ أُولُوا الألْبَابِ» (21).
وقال: «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَ أُولُوا الألْبَابِ» (22).
وقال تعالى: «أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الألْبَابِ» (23).
استدل (عليه السلام) بهذه الآيات الكريمة على مدح العقلاء المتفوّقين على غيرهم، فقد مدحهم تبارك وتعالى بأحسن الصفات، وأضفى عليهم النعوت السامية.
ففي الآية الأولى: منح بعض عباده (الحكمة) وهي من أعظم المواهب، ومن أجل الصفات، فقد قيل في تعريفها، إنها العلم الذي تعظم منفعته وتجل فائدته. ثم وصف تعالى من مُنِحَ بها بأنه أوتي خيراً كثيراً ولا يعلم معنى الحكمة ولا يفهم القرآن الكريم إلا أولوا الألباب.
وفي الآية الثانية: وصف تعالى عباده الكاملين في عقولهم بثلاثة أوصاف:
1ـ الرسوخ في العلم.
2ـ الإيمان بالله.
3ـ العرفان بأن الكل من عند الله (24).
ثم بين سبحانه: إن المتصفين بهذه النعوت العظيمة هم العقلاء الكاملون الذين هم ذووا الألباب.
وفي الآية الثالثة: دلالة على التفاوت بين من يسهر ليله في طاعة الله وبين غيره الذي يقضي أوقاته بالملاهي والملذّات، وهو معرض عن ذكر الله، فكيف يكونان متساويين. هذا غير معقول!
وقال (عليه السلام): يا هشام، إن الله تعالى يقول في كتابه العزيز: «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ» (25) يعني العقل.
وقال تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ» (26) يعني الفهم والعقل، وضّح (عليه السلام) أن المراد بالقلب ليس العضو الخاص الموجود عند الإنسان وعند الحيوان، بل المراد منه هو العقل الذي يدرك المعاني الكلية والجزئية ليتوصل إلى معرفة حقائق الأشياء وهو بذلك يمثل الكيان المعنوي للإنسان.
وفي الآية الثانية: يشير (عليه السلام) إلى نعمة الله تعالى على لقمان، فقد منّ عليه بالحكمة، وهي من أفضل النعم وأجلها. ثم أخذ (عليه السلام) يتلو على هشام بعض حكم لقمان ونصائحه لولده فقال:
(يا هشام: إن لقمان قال لابنه: تواضع للحق تكن أعقل الناس.
يا بني: إن الدنيا بحر عميق قد غرق فيها عالم كثير، فلتكن سفينتك فيها تقوى الله، وحشوها الإيمان، وشراعها التوكّل، وقيّمها العقل، ودليلها العِلم، وسكّانها الصبر).
لقد ركز لقمان الحكيم في وصيّته لولده بالتواضع للحق، فلا يرى الإنسان لنفسه وجوداً إلا بالحق ولا قوّة له ولا لغيره إلا بالله.
والتواضع من افضل الصفات. وقد ورد عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: (من تكبر وضعه الله، ومن تواضع لله رفعه الله).
وورد عنه (صلّى الله عليه وآله) في تعديد أقوام ذمهم: (ورجل ينازع الله رداءَه، فإن رداءه الكبرياء وإزاره العظمة) (27).
فالمراد بذلك أن الكبرياء والعظمة من صفات الله جلّ جلاله، لا يجوز لأحد من عباده أن يتصف بهما.
فالإنسان كلما تواضع كلما تجرد عن الأنانية، ومحا عن نفسه التكبر، زاده الله شرفاً وفضلاً.
ثم شبه لقمان الحكيم الدنيا بالبحر ووجه الشبه في ذلك: تغير الدنيا وتغير أشكالها وصورها في كل لحظة، فالكائنات التي فيها كالأمواج في البحر معرضة للزوال والفناء.
ويحتمل وجه آخر للشبه أن الدنيا كالبحر الذي يعبر عليه الناس، فالدنيا يعبر عليها الناس إلى دار الآخرة وتكون النفوس فيها كالمسافرين، والأبدان كالسفن والبواخر تنقلهم من دار الدنيا إلى دار الخلود. وقد غرق كثير من الناس في هذه الدنيا، وسبب غرقهم يعود لتهالكهم على الشهوات.
ولما كانت الدنيا بحراً توجب الغرق والهلاك، فلا نجاة منها إلا بسبيل واحد: ألا وهو الصلاح والتقوى؛ ويكون شراعها التوكل على الله والاعتماد عليه في جميع الأمور. كما أنه لابدّ من عقل يكون قيّماً لتلك السفينة ورباناً لها، والعقل نور دليله العلم والمعرفة فإن نسبته إليه كنسبة الرؤية من البصر؛ ومع هذه الخصال كلها لابدّ من الصبر فإن ارتقاء الإنسان وقربه من ربّه لا يحصل إلا بمجاهدات قويّة للنفس. وللنتقل إلى مشهد آخر من كلامه (عليه السلام):
يا هشام: ما بعث الله أنبياءه رسوله إلى عباده إلا ليعقلوا عن الله، فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة، وأعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلاً، وأكملهم عقلاً أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة.
ينظر من كلامه (عليه السلام) التأكيد على شرف الأنبياء العظيم وفضلهم الكبير بكمال عقولهم. ولا ريب أن وفور العقل من أفضل ما يمنح به الإنسان، إذ به يتوصّل إلى سعادة الدنيا، والفوز في دار الآخرة.
والعقل حسنة كبرى من حسنات الله تبارك وتعالى، ونعمة جُلّى لا تحصى فضائلها.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض حكمه: (أغنى الغنى العقل).
ثم تابع (عليه السلام) قائلاً لهشام:
يا هشام: لو كان في يدك جوزة وقال الناس في يدك لؤلؤة ما كان ينفعك وأنت تعلم أنها جوزة، ولو كان في يدك لؤلؤة، وقال الناس إنها جوزة ما ضرّك وأن تعلم أنها لؤلؤة.
كل ذلك يعود إلى قوة العقل وحسن التمييز، فالعاقل هو الذي يعتمد على نفسه ما دام متأكّداً ممّا هو عليه، ولا يعير بالاً للآخرين من الناس الجاهلين الذين يقولون ما يحلو لهم دون رويّة أو تعقّل ما ينفع العقل إذا خدع الإنسان نفسه؟!
وقال (عليه السلام):
يا هشام: إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة، وحجة فاطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة (عليه السلام). وأما الباطنة فالعقول. ثم تابع (عليه السلام):
يا هشام: إن العاقل الذي لا يشغل الحلال شكره، ولا يغلب الحرام صبره.
ذكر (عليه السلام) في الفقرات الأخيرة من كلامه إلى بعض أحوال العقلاء من أنهم لا تمنعهم كثرة نعم الله عليهم من شكره تعالى، كما لا تزيل صبرهم النوائب والكوارث. ثم قال (عليه السلام):
يا هشام: من سلط ثلاثاً على ثلاث فكأنما أعلن هواه على هدم عقله: من أظلم نور فكره بطول أمله، ومحا طرائف حكمته بفضول كلامه، وأطفأ نور عبرته بشهوات نفسه، فكأنما أعان هواه على هدم عقله، ومن هدم عقله أفسد عليه دينه ودنياه.
ذكر (عليه السلام) في كلامه هذا أن في الإنسان قوتين متباينتين، وهما: العقل والهوى، ولكل واحدة منهما صفات ثلاث تضاد الصفات الأخرى فصفات العقل: التفكر، والحكمة، والاعتبار.
وصفات الهوى: طول الأمل، وفضول الكلام، والإنغماس في الشهوات. فطول الأمل في الدنيا يمنع من التفكر في أمور الآخرة، ويبدد نور الفكر بالظلمة، ويحجبه عن الانطلاق في ميادين الخير.
وفضول الكلام يمحي طرائف الحكمة من النفس.
أمّا الانغماس في الشهوات فإنّه يعمي القلب، ويذهب بنور الإيمان، ويطفئ نور الاستبصار والاعتبار من النفس، فمن سلّط هذه الخصال العاطلة على نفسه، فقد أعان على هدم عقله، ومن هدم عقله فقد أفسد دينه ودنياه.
وقال (عليه السلام): (نُسِبَ الحق لطاعة الله، ولا نجاة إلا بالطاعة، والطاعة بالعلم، والعلم بالتعلم، والتعلم بالعقل يعتقد (28)، ولا علم إلا من عالم رباني، ومعرفة العلم بالعقل).
وهو يعني (عليه السلام) أن المعارف جميعها لا تحصل إلا بالعلم، والعلم لا يحصل إلا بالتعلم، والتعلّم لا يحصل إلا بالعقل. فمن عقل علم، ومن علم عاش سعيداً مأنوساً في الدنيا، وغانماً كريماً في الآخرة.
وقال (عليه السلام): يا هشام قليل العمل من العالم مقبول مضاعف، وكثير العمل من أهل الهوى والجهل مردود.
فهو يعني (عليه السلام) أن قليل العمل من العالم مقبول والسبب في ذلك يعود: بأن العلم يطهّر النفوس، ويصفّي القلوب، ويوصل إلى معرفة الله عزّ وجلّ وفضيلة كل عمل إنما هي بقدر تأثيرها في صفاء القلب، وإزالة الحجب عن النفس، والظلمة عن الروح. وهي تختلف بحسب الأفراد، فربّ إنسان يكفيه قليل العمل في صفاء نفسه نظراً لِلَطَافَة طبعه، ورقة حجابه، ورب إنسان لا يؤثر العمل الطيّب الذي يصدر منه في صفاء ذاته، نظراً لكثافة طبعه، وكثرة الحجب على نفسه.
وقال (عليه السلام):
يا هشام: إن العقلاء زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة، أنّهم علموا أن الدنيا طالبة مطلوبة، والآخرة طالبة ومطلوبة.
فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي منها رزقه، ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة فيأتيه الموت فيفسد عليه دنياه وآخرته.
ذلك أن الأعمار بيد الله سبحانه، وساعة كل إنسان مجهولة، وقد تكون قريبة، فمن لم يحضر نفسه لها فقد يخسر ولا مجال عنده للتعويض. وقال (عليه السلام):
يا هشام: إن الله حكى عن قوم صالحين أنهم قالوا: «رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ» (29).
لقد قالوا هذا القول حين علموا أن القلوب تزيغ وتعود إلى عماها، وإنه لم يخف الله من لم يعقل عن الله، ومن لم يعقل عن الله لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة يبصرها ويجد حقيقتها في قلبه، ولا يكون أحد كذلك إلا من كان قوله لفعله مصدّقاً، وسرّه لعلانيته موافقاً، لأن الله تبارك اسمه لم يدل على الباطن الخفي من العقل إلا بظاهر منه، وناطق عليه.
لقد أشار الإمام (عليه السلام) بكلامه هذا إلى أن المؤمن إذا لم يكن قلبه مستضيئاً بهدى الله، فإنّه لا يكون آمناً من الزيغ، كما لا يكون آمناً من الارتداد بعد الدخول في حظيرة الإسلام، والقرآن الكريم أشار إلى هذه الظاهرة.
قال تعالى: «... رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمونَ» (30).
ولذلك يدأب الصالحون بالسؤال من الله في أن لا يزيغ قلوبهم حتى لا يضلوا عن دينه، لأنّ النفوس البشرية بحسب طبيعتها ونشأتها إذا لم يساعدها التوفيق لا تنجو من وساوس الشيطان وغوايته، وهنا يذكر (عليه السلام) هشاماً بقول لأمير المؤمنين (عليه السلام):
يا هشام: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: ما عُبد الله بشيء افضل من العقل، وما تم عقل امرئ حتى يكون فيه خصال شتى: الكفر والشر منه مأمونان، والرشد والخير منه مأمولان، وفضل ماله مبذول، وفضل قوله مكفوف، ونصيبه من الدنيا القوت، لا يشبع من العلم دهره، الذل أحب إليه مع الله من العز مع غيره، والتواضع أحب إليه من الشرف، يستكثر قليل المعروف من غيره، ويستقل كثير المعروف من نفسه، ويرى الناس كلهم خيراً منه، وإنه شرهم في نفسه، وهو تمام الأمر.
وهنا نراه يستدل بكلام جده (عليه السلام) الذي تعرض فيه لصفات العقلاء ثم تابع قائلاً (عليه السلام):
يا هشام: من صدق لسانه زكى عمله، ومن حسنت نيّته زيد في رزقه ومن حسن برّه بإخوانه وأهله مدّ في عمره.
يا هشام: لا تمنحوا الجهال الحكمة فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها لتظلموهم.
فما أحرانا نحن اليوم لنأخذ بكل أقواله (عليه السلام) وبخاصة بهذه الحكمة بالذات حيث نرى الحكمة مظلومة وأهلها مظلومين؟!
يا هشام: لا دين لمن لا مروءة (31) له، ولا مروءة لمن لا عقل له، وإن أعظم الناس قدراً الذين لا يرى الدنيا لنفسه خطراً، أما أن أبدانكم ليس لها ثمن إلا الجنة، فلا تبيعوها بغيرها.
والمعنى: يجب أن تصرف الطاقات البشرية في طاعة الله تعالى ليحصل الإنسان على الثمن هو الجنّة.
وقال (عليه السلام): أما إن أبدانكم ليس لها ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها بغيرها ونقل صاحب الوافي عن أستاذه إيضاحاً لمقالة الإمام ما نصه:
إن الأبدان في التناقص يوماً فيوماً وذلك لتوجه النفس منها إلى عالم آخر فإن كانت النفس سعيدة كانت غاية سعيه في هذه الدنيا وانقطاع حياته البدنية إلى الله سبحانه وإلى نعيم الجنان، لكونه على منهج الهداية والاستقامة، فكأنه باع بدنه بثمن الجنة معاملة مع الله تعالى، ولهذا خلقه الله عزّ وجلّ.
وإن كانت شقيّة كانت غاية سعيه وانقطاع أجله وعمره إلى مقارنة الشيطان وعذاب النيران، لكونه على طريق الضلالة، فكأنّه باع بدنه بثمن الشهوات الفانية، واللذات الحيوانية التي ستصير نيراناً محرقة، وهي اليوم كامنة مستورة عن حواس أهل الدنيا، وستبرز يوم القيامة «وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى» معاملة مع الشيطان «وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ».
وننتقل الآن إلى فصل آخر يتحدث فيه عن حزم العاقل واحتياطه في أقواله.
قال (عليه السلام): يا هشام إن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يقول: إن من علامة العاقل أن يكون فيه ثلاثة خصال: يجيب إذا سئل، وينطق إذا عجز القوم عن الكلام، ويشير بالرأي الذي يكون فيه صلاح أهله، فمن لم يكن فيه من هذه الخصال الثلاث شيءٌ فهو أحمق.
وقال الحسن بن علي (عليهما السلام): إذا طلبتم الحوائج فاطلبوها من أهلها.
فقيل له: يا بن رسول الله ومن أهلها؟
الذين خصهم الله في كتابه وذكـرهم، فقال: «أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مـِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولو الألْبابِ» (32) قال: أولوا العقول.
وقال علي زين العابدين (عليه السلام): مجالسة الصالحين داعية إلى الصلاح، وآداب العلماء زيادة في العقل، وطاعة ولاة العدل تمام العز، واستثمار المال تمام المروءة، وإرشاد المستشير قضاء النعمة، وكف الأذى من كمال العقل، وفيه راحة البدن عاجلاً وآجلاً. ثم زاد (عليه السلام):
يا هشام: إن العاقل لا يحدّث من يخاف تكذيبه، ولا يسأل من يخاف منعه، ولا يَعِدُ ما لا يقدر عليه، ولا يرجو ما يعنف برجائه، ولا يقدم على ما يخاف فوته بالعجز عنه.
أراد بهذه الفقرات إلى حزم العاقل في تحفظه على أقواله وشرفه ومنزلته وتوقفه من الإقدام على ما لا يثق بحصوله.
وقال (عليه السلام):
يا هشام: الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار.
ثم انتقل (عليه السلام) إلى فصل آخر يركز فيه على اقتران القول بالعمل.
قال (عليه السلام): طوبى للعلماء بالفعل، وويل للعلماء بالقول. يا عبيد السوء اتخذوا مساجد ربكم سجوناً لأجسادكم وجباهكم. واجعلوا قلوبكم بيوتاً للتقوى. ولا تجعلوا قلوبكم مأوى للشهوات، وإن أجزعكم عند البلاء لأشدكم حباً للدنيا، وإن أصبركم على البلاء لأزهدكم في الدنيا.
يا عبيد السوء لا تكونوا شبيهاً بالحداء الخاطفة، ولا بالثعالب الخادعة ولا الذئاب الغادرة ولا بالأسد العاتية كما تفعل بالفراس. كذلك تفعلون بالناس، فريقاً تخطفون، وفريقاً تغدرون بهم.
وبحق أقول لكم: لا يغني عن الجسد أن يكون ظاهره صحيحاً وباطنه فاسداً كذلك لا تغني أجسادكم التي قد أعجبتكم وقد فسدت قلوبكم وما يغني عنكم أن تنقوا جلودكم وقلوبكم دنسة.
لا تكونوا كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيب ويمسك النخالة. كذلك أنتم تخرجون الحكمة من أفواهكم ويبقى الغل في صدوركم.
يا عبيد الدنيا إنما مثلكم مثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه.
يا بني إسرائيل زاحموا العلماء في مجالسهم ولو جُثواً على الركب، فإن الله يحي القلوب الميتة بنور الحكمة كما يحي الأرض الميتة بوابل المطر (33).
وهذه بعض الوصايا التي زادها الحسن بن علي الحراني فقال: يا هشام أصلح يومك الذي هو أمامك، فانظر أي يوم هو، وأعد له الجواب، فإنك موقوف ومسؤول. وخذ موعظتك من الدهر وأهله، وانظر في تصرف الدهر وأحواله، فإن ما هو آتٍ من الدنيا كما ولّى منها، فاعتبر بها، وقال علي بن الحسين (عليه السلام): (إن جميع ما طلعت عليه الشمس في مشارق الأرض ومغاربها بحرها وبرها، وسهلها وجبلها عند ولي من أولياء الله وأهل المعرفة بحق الله كفئ الظلال).
ثم قال (عليه السلام): (حر يدع هذه اللماظة (الدنيا) لأهلها فليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها بغيرها، فإنه من رضي من الله بالدنيا فقد رضي بالخسيس).
يا هشام: إن كل الناس يبصرون النجوم ولكن لا يهتدي بها إلا من يعرف مجاريها ومنازلها، وكذلك (انتم تدرسون) الحكمة، لا يهتدي بها منكم إلا من عمل بها.
وهنا كأنه (عليه السلام) يذكّر أهل العقول النيّرة أن يقولوا ويدرسوا ويفهموا ثم عليهم أن يقرنوا العلم بالعمل.
أما الذين يرون ببصرهم ويقفلون بصيرتهم فهم ضالون في حياتهم وضالون في آخرتهم، يخرصون ولا يعرفون، ويغدرون ولا يعرفون...
قال أحد الحكماء مركزاً على المعرفة المقرونة بالعمل: عندما تقترن المعرفة بالعمل يرزقان صبياً يسميانه الصدق.
وعندما تقترن المعرفة بالعمل ينجبان بنتاً يسميانها الوفاء. ويلعب الجميع لعبة أظنها الحرية. وقال (عليه السلام):
يا هشام: مكتوب في الإنجيل: طوبى للمتراحمين، أولئك هم المرحومون يوم القيامة. طوبى للمطهّرة قلوبهم، أولئك هم المتقون يوم القيامة. طوبى للمتواضعين في الدنيا، أولئك يرتقون منابر الملك يوم القيامة.
السلام عليك يا سيدي عيسى، السلام عليك يا رسول الله لو جئت في هذه الأيام لرأيت العجب العجابا!! فالكثير الكثير من أمتك قد نسوا أو تناسوا هذه التعاليم العظيمة التي تبنى عليها المجتمعات العظيمة،والقليل القليل من أمتك من تمسكوا برسالتك واهتدوا بهديك وساهموا في بناء مجتمع سليم، لكنهم كمن ينفخ في رماد!!
ثم قال (عليه السلام) منوهاً بقيمة الكلام وأنواع المتكلمين.
يا هشام: المتكمون ثلاثة: فرابح، وسالم، وشاجب (34).
فأما الرابح فالذاكر لله، وأما السالم فالساكت، وأما الشاجب فالذي يخوض في الباطل، إن الله حرم الجنة على كل فاحش بذئ الكلام قليل الحياء لا يبالي ما قال ولا ما قيل فيه، وكان أبو ذر رضوان الله عليه يقول: (يا مبتغي العلم إن هذا اللسان مفتاح خير ومفتاح شر، فاختم على فيك كما تختم على ذهبك وورقك).
وكما حرمت الجنة على الشاجب وفتحت أبوابها للرابح الكثير الحياء لذلك قال (عليه السلام): (الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار).
ثم قال (عليه السلام) واصفاً الدنيا على لسان السيد المسيح:
يا هشام: تمثّلت الدنيا للمسيح (عليه السلام) في صورة امرأة زرقاء فقال لها: كم تزوّجت؟
فقالت: كثيراً.
قال: فكلاًّ طلقك؟
فقالت: بل كلاّ قتلت.
قال المسيح فويح لأزواجك الباقين كيف لا يعتبرون بالماضين!!
لا ريب إن أصحاب البصائر والعقول النيّرة يدرسون الماضي ويتأملون في مجرى أحداثه، ويقدرون نتائجه فيقيسون الحاضر على ضوء الماضي فيتعظون ويعتبرون.
ثم أردف في نصائحه لهشام في أنواع البشر، وأيّهم أنفع وأصلح.
قال (عليه السلام): (يا هشام: لا خير في العيش إلا لرجلين: لمستمع واع، وعالم ناطق) .
العالم عليه أن يبوح بما يختزن في صدره من علوم ومعارف ليفيد به سائر الناس، فيكون بذلك كالنهر المتدفق يسقي عن جانبيه الحقولا.
والمستمع عليه أن يعقل ما يلقى إليه، فيخزن في ذاكرته كل ما سمعه من العالم، ليكون له زاد خير يفيده عند الحاجة، لأن غذاء العقل أهم بكثير من غذاء الجسد. وفن الاستماع لا يقلّ أهمية عن فنّ القول.
ثم وصف (عليه السلام) نوع العلماء الذين يؤخذ منهم ويستمع إليهم. فقال (عليه السلام):
يا هشام: أوحى الله تعالى إلى داوود (عليه السلام) قل لعبادي: لا يجعلوا بيني وبينهم عالماً مفتوناً بالدنيا فيصدّهم عن ذكري، وعن طريق محبّتي ومناجاتي. أولئك قطّاع الطريق من عبادي، إن أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة محبّتي ومناجاتي من قلوبهم.
ثم حذّر (عليه السلام) من التكبّر فقال:
يا هشام: إيّاك والكبر على أوليائي، والاستطالة بعلمك فيمقتك الله فلا تنفعك بعد مقته دنياك ولا آخرتك، وكن في الدنيا كساكن دار ليست له إنما ينتظر الرحيل.
ثم مدح (عليه السلام) المتواضع وذمّ المتكبّر فقال:
يا هشام: إن الزرع ينبت في السهل ولا ينبت في الصفا (35) فكذلك الحكمة تعمر في قلب المتواضع ولا تعمر في قلب المتكبّر الجبّار، لأنّ الله تعالى جعل التواضع آلة العقل، وجعل التكبّر آلة الجهل، ألم تعلم أن من شمخ إلى السقف برأسه شجبه، ومن خفض رأسه استظل تحته وأكنّه، وكذلك من لم يتواضع لله خفضه الله، ومن تواضع لله رفعه.
ثم استرسل (عليه السلام) في حديثه فقال: (وأحذر ردّ المتكبرين، فإن العلم يُذل على أن يملي على من لا يفيق).
فقال هشام: فإن لم أجد من يعقل السؤال عنها؟
فقال (عليه السلام): فاغتنم جهله عن السؤال حتى تسلم من فتنة القول وعظيم فتنة الرد، واعلم أن الله لم يرفع المتواضعين بقدر تواضعهم ولكن رفعهم بقدر عظمته ومجده. ولم يؤمن الخائفين بقدر خوفهم ولكن آمنهم بقدر كرمه وجوده؛ ولم يفرح المحزونين بقدر حزنهم ولكن بقدر رأفته ورحمته، فما ظنّك بالرؤوف الرحيم الذي يتودد إلى من يؤذيه بأوليائه، فكيف بمن يؤذي فيه؟ وما ظنّك بالتوّاب الرحيم الذي يتوب على من يعاديه، فكيف بمن يترضّاه، ويختار عداوة الخلق فيه.
يا هشام: من أكرمه الله بثلاث فقد لطف له؛ عقل يكفيه مؤونة هواه، وعلم يكفيه مؤونة جهله، وغنى يكفيه مخافة الفقر.
ثم زاد تحذيراً جديداً عاماً للدنيا وأهلها.
فقال (عليه السلام): (يا هشام أحذر هذه الدنيا وأحذر أهلها، فإن الناس فيها على أربعة اصناف:
- رجل متردي معانق هواه، ومتعلم مقري كلما ازداد علماً ازداد كبراً، يستعلي بقراءته وعلمه على من هو دونه.
ـ وعابد جاهل يستصغر من هو دونه في عبادته، يحب أن يعظَّم ويوقَّر.
ـ وذي بصيرة عالم عارف بطريق الحق، يحب القيام به ولكنه عاجز أو مغلوب فلا يقدر على القيام بما يعرفه، فهو محزون مغموم بذلك وهو أمثل أهل زمانه وأوجههم عقلاً (36).
الحقيقة إننا استرسلنا في هذه الوصية القيمة والخالدة لأنها بحر زاخر، كلّما غصنا فيه كلما ازددنا متعة وفائدة. فهي من إمام معصوم ورث علم الأوصياء عن الأنبياء، علماً شاملاً كاملاً للدين والدنيا وللناس كافة. لقد حوت هذه الوصية الذهبية جميع أصول الفضائل: في الآداب والأخلاق وقواعد السلوك والمناهج العامة لما يصلح للحياة الفردية والاجتماعية السليمة من كل غرض أو هوى، ذلك أن الشريعة الإسلامية هي أحكام إلهية وما على الحاكم إلا تطبيق هذه الأحكام معتمداً على عقله المستنير وضميره الحيّ المستقيم.
*******
(1) المؤمنون(23): الآية 71.
(2) ص(38): الآية 51.
(3) النساء(4): الآية 135.
(4) النازعات(79): الآيتان 40-41.
(5) الزمر (39): الآيتان 17-18.
(6) سورة الزمر: الآية 18.
(7) سورة الأنعام: الآية 32.
(8) سورة الصافات: الآيات 136-138.
(9) سورة العنكبوت: الآية 43.
(10) سورة البقرة: الآية 170.
(11) سورة البقرة: الآية 171.
(12) راجع سورة يونس: الآية 42 والفرقان، الآية 44 والحشر، الآية 13 والبقرة، الآية 44.
(13) التباين في تفسير القرآن، ج1، ص188.
(14) سورة الأنعام: الآية 116.
(15) سورة لقمان: الآية 25.
(16) راجع روح المعاني، ج6، ص423.
(17) سورة سبأ: الآية 13.
(18) سورة هود: الآية 40.
(19) سورة الأنعام: الآية 37.
(20) سورة المائدة: الآية 103.
(21) سورة البقرة: الآية 269.
(22) سورة آل عمران: الآية 7.
(23) سورة الزمر: الآية 9.
(24) يعني المحكم والمتشابه من الآيات.
(25) سورة ق: الآية 37.
(26) سورة لقمان: الآية 12.
(27) المجازات النبوية للشريف الرضي، ص440، وبذلك تكون العظمة والكبرياء هما الكرامة التي يلقيها الله سبحانه على رسله القائمين بالقسط فيعظمون بها في العيون ويجلَّون في القلوب.
(28) يعتقد أي يشتد ويستحكم.
(29) سورة آل عمران: الآية 8.
(30) سورة التوبة: الآية 93.
(31) كلمة مروءة غير موجودة إلا في اللغة العربية وتعني: آداب نفسانية تحمل مراعاتها الإنسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق، وجميل العادات أو هي: كمال الرجولية. المعجم الوسيط، ج2.
(32) سورة الرعد: الآية 19.
(33) راجع أصول الكافي، ج1، ص13-20. انتهت هذه الرسالة على رواية الشيخ الكليني وقد ذكر زيادة عليها الحسن بن علي الحراني في كتابه تحف العقول وسوف نقتطف منها بعض دررها التي أهملها الكليني.
(34) الشاجب: كثير الكلام والهذيان.
(35) الصفا: الحجر الصلد.
(36) تحف العقول، ص390-400.
قبل الحديث عن رسالة الإمام موسى (عليه السلام) في العقل التي تعد ثروة فكرية عظيمة، لابدّ لنا من الحديث عن منهج أهل البيت (عليهم السلام) في العقل.
لأهل البيت (عليهم السلام) منهج علمي خاص لا يحيدون عنه، به يفسرون الأمور الدينية، وبه يقيسون المبادئ والآراء والمعتقدات والفلسفات وهو العقل السليم.
بالعقل السليم يستدل على غيره ولا يستدل بغيره عليه. ولأهل البيت كلام كثير بهذا الموضوع ذكره الكليني في أول أصول الكافي منه: (إن الله جعل العقل دليلاً على معرفته.. ومن كان عاقلاً كان له دين... أعلم الناس بأمر الله أحسنهم عقلاً... العقل دليل المؤمن).
وجاء في نهج البلاغة لأمير المؤمنين: (أغنى الغنى العقل).
معنى هذا أن العقل هو المبدأ الأول لكل حجة ودليل، واليه تنتهي طرق العلم والمعرفة بكل شيء وكل حكم.
والعقل هو القوة المبدعة التي منحها الله عزّ وجلّ إلى الإنسان وميّزه به على الحيوان الأبكم، وشرّفه على بقية الموجودات، واستطاع به أن يستخدم الكائنات، ويكشف أسرارها، وبالعقل جعله خليفة في الأرض، ينظّم الحياة عليها ويعمرها.
وقد انتهى الإنسان بفضل عقله إلى غزو الفضاء والكواكب، وانطلق انطلاقة رائعة إلى اكتشافات مذهلة، وسيصل في مستقبله القريب أو البعيد إلى ما هو أعمق وأشمل من ذلك.
إن كل حكم سواء أكان مصدره الوحي أم الحس والتجربة دليله العقل حيث لا وزن للسمع والبصر بلا عقل، ولا سبيل إلى العلم بمصدر الوحي إلا العقل ودلالته. وبصورة أوضح نحن نأخذ بحكم الوحي والشرع بأمر من العقل. أما حكم العقل فنأخذه ونعمل به، وإن لم ينص عليه الوحي والشرع، والخلاصة أن أبعد الناس عن الدين من يظن أن الدين بعيد عن العقل. وإن ما يقصد إليه هو العقل السليم.
*******
معنى العقل السليم
العاقل في اصطلاح القرآن الكريم وعند الناس هو الذي يضع الشيء في مكانه ويملك إرادة قوية فيحبس نفسه عما يشين بها ولا يستجيب لهواها إن يكُ مخالفاً للعقل وحكمه.
قال تعالى: «وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ...»(1) وقال عزّ وجلّ: «يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ...» (2).
وقال سبحانه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا» (3).
وقال سبحانه وتعالى: «وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى» (4).
يتضح من هذه الآيات الكريمات أن العاقل هو الذي ينقاد إلى حكم العقل، ويؤثره على هواه. وعليه يكون المراد بالعقل السليم: الإدراك النابع من العقل بالذات، العقل المستنير بالمعرفة والحق والإيمان، وليس من الجهل والتعصب والأهواء الشخصية!!
وما نراه أن الرجل الواقعي الواعي لا يجزم بالفكرة الخاطفة العابرة، ولا ينطلق مع رغبته وإرادته قبل أن يتدبر ويتأمل، بل يتريّث ويملك نفسه ويبحث، حتى يهتدي إلى الرأي الناضج الأصيل. على العكس من الرجل العاطفي الذي يبتّ في الأمور برغبته وهواه قبل أن يفكر ملياً، وبتعبير أدق: يصدّق قبل أن يتصوّر.
وسئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن العقل فقال: (ما عبد به الرحمن، واكتسب به الجنان.
قيل له: فالذي كان في معاوية؟
فقال: تلك الشيطنة وهي شبيهة بالعقل، وليست بالعقل).
ويعني بقوله (عليه السلام) أن العقل لا يقود إلى الحرام كما يفعل الشيطان. والله سبحانه وتعالى بشّر أهل العقل والفهم في كتابه حيث قال: «وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ». (5).
هذه الآية تعد من أوضح الآيات التي جاءت في العقول السليمة. والإمام (عليه السلام) استدل بهذه الآية الكريمة على تقديم أهل العقول السليمة على غيرهم لأن الله قد بشّرهم بالهداية والنجاح، وقد تضمنت الآية التي استشهد بها (عليه السلام) جملة من الفوائد منها:
1ـ وجوب الاستدلال:
إذا وقف الإنسان على جملة من الأمور فيها الصحيح والفاسد، وكان في الصحيح هدايته وفي السقيم غوايته فإنّه يتحتم عليه أن يميز بينهما ليعرف الصحيح منها فيتبعه، والسقيم فيبتعد عنه، ومن الطبيعي أن ذلك لا يحصل إلا بإقامة الدليل والحجة، وبهذا يستدل على وجوب النظر والاستدلال في مثل ذلك.
2ـ حدوث الهداية:
كما دلّت الآية على الهداية، فمن المعلوم أن كل عارض لابدّ له من موجد كما لابدّ له من قابل، أما الموجد للهداية فهو الله تعالى ولذلك نسبها إليه بقوله: «أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ»، وأما القابلون لها كلهم أهل العقول المستقيمة وإلى ذلك أشار بقوله سبحانه: «وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ».
ومن المعلوم أن الإنسان يقبل الهداية من جهة عقله لا من جهة جسمه وأعضائه، فلو لم يكن كامل العقل لامتنع عليه حصول المعرفة والفهم كما هو ظاهر.
إنّ من غرر أحاديث الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام) في مجال العقل كمصدر معرفي أساس هو وصيّته الثمينة لهشام بن الحكم والتي سُمّيت برسالة العقل عند الإمام (عليه السلام)، وإليك نصّ الرسالة:
إن الله تبارك وتعالى بشّر أهل العقل والفهم في كتابه العزيز فقال سبحانه: «فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ» (6).
استدل (عليه السلام) بهذه الآية لترغيب الناس على اتباع القول الحسن، وهذه الفئة من الناس يبشرهم الله انهم على هداية منه وهم أصحاب العقول الراجحة، يميزون بنور عقولهم بين الكلام الخبيث فيتجنبونه والكلام الحسن فيتبعونه.
ثم تابع (عليه السلام) القول لهشام: (يا هشام، قد وعظ أهل العقل ورغبهم في الآخرة).
فقال عزّ وجلّ: «وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ» (7).
وهنا أيضاً يرغّب الله تعالى عباده العقلاء في دار الخلود والنعيم، ويذم دار الدنيا لأنّها محصورة على الأكثر في اللهو واللعب، فالعقلاء يزهدون فيها، ويجتنبون شرّها وحرامها، ويعملون للدار الباقية التي أعدت للمتقين، والعباد الصالحين.
يا هشام: ثم خوف الذين لا يعقلون عذابه فقال عزّ وجلّ: «ثُمَّ دَمَّرْنَا الآَخَرِينَ، وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَليْهِمْ مُصْبِحِينَ، وَبِاللَّيلِ أَفلاَ تَعْقِلونَ» (8) استدل (عليه السلام) بهذه الآية وما شابهها على تدميره تعالى للذين لا يعقلون من الأمم السالفة التي كفرت بالله وقد نزلت في قوم لوط حينما جحدوا الله وكفروا بآياته، فأنزل تعالى بهم عقابه، وجعل موطنهم قبيح المنظر منتناً يمر بها المارون ليلاً نهاراً ساخرين من أهلها حيث جعلهم عبرة للذين يعقلون، وقد حذّرهم من مخالفة المرسلين، الصالحين، فإن عاقبة المخالفة والعصيان الدمار والهلاك.
ثم بين أن العقل مع العلم فقال سبحانه: «وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَ الْعَالِمُونَ» (9).
استدل (عليه السلام) بالآية الكريمة على ملازمة العقل للعلم فإن العقل بجميع مراتبه لا يفترق عن العلم فكلاهما صنوان متلازمان.
قال المفسرون عن سبب نزول هذه الآية: إن الكافرين انتقدوا ضرب الأمثال بالحشرات والهوام كالذباب والبعوض والعنكبوت...
وفي نظرهم أن الأمثال يجب أن تضرب بغير ذلك من الأمور الهامة وفي نظرنا أن منطقهم هذا هزيل للغاية لأن التشبيه إنما يكون بليغاً فيما إذا كان مؤثراً في النفس.
ثم ذم الذين لا يعقلون في فصل آخر لأن معرفة حقيقة الاشياء لا يميزها إلا العالمون الذين حصل لهم العلم والمعرفة «وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَ الْعَالِمُونَ».
يا هشام: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ» (10).
وقال سبحانه: «وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ» (11).
ثم تابع في سرد الآيات الشبيهة بهذه وكلها تذم الذين لا يعقلون (12) استدل الإمام (عليه السلام) بهذه الآيات الكريمة على ذم من لا يعقل، ففي الآية الأولى من هذا الفصل يقول الطبرسي:
لقد اتبع القوم أسلافهم ومشايخهم في الأمور الدينية من غير بصيرة ولا دليل، والذي حفزهم إلى اتباعهم الجهل والتعصب والغباوة وهذه الآية حسب رأي المفسرين نزلت في اليهود حينما دعاهم الرسول الأكرم إلى الإسلام فرفضوا ذلك، وقالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا فانهم كانوا خيراً منا (13). ولو كانت لهم عقول سليمة، وأفكار ناضجة لفقهوا أن التقليد في العقائد لا يقرّه العقل السليم، لأن العقيدة لا تؤخذ إلا من الدليل العلمي الصحيح، وهي أساس ثابت لحياة الإنسان وسلوكه. إذ ما من عاقل إلا وهو عرضة للخطأ في فكره، ولا ثقة في الدين إلا بما أنزل الله، ولا معصوم إلا من عصم الله، فكيف يرغب العاقل عما أنزل الله في اتباع الآباء مع دعواه الإيمان بالتنزيل؟؟!
والآية الثانية متممة للآية الأولى: فإنّه تعالى لما وصف حالة الكفّار في إصرارهم على التقليد الأعمى عند دعوتهم إلى الإسلام، ضرب لهم مثلاً للسامعين عن حالم بأنهم كالأنعام والبهائم التي لا تعي دعاء الداعي لها سوى سماع الصوت منه دون أن تفهم المعنى، فكذلك حال هؤلاء لا يتأملون دعة الحق ولا يعونها، فهم بمنزلة الجاهلين لا يعقلون، وهذا أعظم قدح وذم للذين لا يعقلون. لأن الإنسان إذا اتهم بعقله فقد دنياه وآخرته.
وفي الآية الثالثة: وصف سبحانه منتهى القسوة وجمود الطبع وخمول الذهن لبعض الكفار فهم يستمعون ما يتلى عليهم من الآيات والأدلة على صحة دعوة النبي (صلّى الله عليه وآله) ولكنهم صم بكم لا يسمعون ولا يفقهون، وبذلك لا جدوى ولا فائدة في دعوتهم إلى اعتناق هذا الدين؛ لقد بلغوا الحد الأقصى في أمراضهم العقلية والنفسية، ولا يجدي معهم أي نصح أو إرشاد أو علاج.
وسنكتفي بهذا القدر من الآيات التي استدل بها (عليه السلام) على ذم من لا يعقل من الناس. والآن إلى فصل آخر من كلامه، قال (عليه السلام): (يا هشام: لقد ذم الله الكثرة فقال: «وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَ يَخْرُصُونَ»(14).
وقال سبحانه أيضاً: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ» (15).
استدل (عليه السلام) بهاتين الآيتين على ذم أكثر الناس لأنهم قد حجبوا عن نفوسهم الحق، وتوغلوا في الباطل، وغرقوا في الشهوات، إلا من رحمه الله منهم.
ففي الآية الأولى: خاطب تعالى نبيه (صلّى الله عليه وآله) وأراد به غيره، فإنه لو أطاع الجمهور من الناس وسار وفق أهواءهم وميولهم لأضلوه عن دين الله وصرفوه عن الحق.
وفي الآية الثانية: دلت على أن أكثر الناس يقولون ما لا يعلمون، وأنهم لا يؤمنون بالله في قلوبهم، بل إنما يجري على ألسنتهم دون أن ينفذ إلى أعماق قلوبهم (16).
ثم مدح القلّة فقال:
يا هشام: قال تعالى: «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ» (17).
وقال: «وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَ قَلِيلٌ» (18).
وقال: «وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ» (19).
وقال: «وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ» (20).
استدل (عليه السلام) من خلال هذه الآيات الكريمة على مدح قلة المؤمنين، وندرة وجودهم، كما صرحت الأحاديث النبوية والأخبار الواردة عن أهل البيت بذلك، فقد قال الإمام الصادق (عليه السلام): (المؤمنة أعز من المؤمن، والمؤمن أعز من الكبريت الأحمر فمن رأى منكم الكبريت الأحمر؟)
والسبب في ندرة هذه الفئة من المؤمنين الصالحين يعود إلى أن الإيمان الحقيقي بالله يعد من أعظم مراتب الكمال التي يصل إليها الإنسان.
لكن الوصول إلى هذا الإيمان يصطدم بموانع كثيرة تحول دون الوصول إليه مثل: التربية البيتية السيئة حيث يعتاد الفرد على الغش والخداع والكذب منذ الطفولة الأولى.
إن التفاحة الفاسدة تفسد التفاح السليم، والرفيق المنحط أخلاقياً وسلوكياً يفسد غيره من الرفاق الصالحين، لأن الانزلاق نحو الرذائل أسهل من الصعود نحو الفضائل، والمثل العليا وهناك حواجز كثيرة تؤدّي إلى حجب الإنسان عن خالقه، وتماديه في الإثم والموبقات.
«وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ» تعني صرف العبد جميع ما أنعم الله عليه فيما خلق لأجله. وهذه أعظم مرتبة لا تصدر إلا ممن عرف الله واعتقد بأن جميع الخيرات والنعم صادرة منه سبحانه وتعالى. فيعمل بكل طاقته على تحصيل الخير وردع نفسه عن الحرام وحينئذ يكون من الشاكرين، والشكر لله بهذا المعنى من المقامات العالية التي لا يتصف بها إلا القليل من عباد الله.
وننتقل إلى فصل آخر من كلامه (عليه السلام) مخاطباً هشام.
يا هشام: ثم ذكر أولي الألباب بأحسن الذكر وأفضل الصفات فقال: «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَ أُولُوا الألْبَابِ» (21).
وقال: «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَ أُولُوا الألْبَابِ» (22).
وقال تعالى: «أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الألْبَابِ» (23).
استدل (عليه السلام) بهذه الآيات الكريمة على مدح العقلاء المتفوّقين على غيرهم، فقد مدحهم تبارك وتعالى بأحسن الصفات، وأضفى عليهم النعوت السامية.
ففي الآية الأولى: منح بعض عباده (الحكمة) وهي من أعظم المواهب، ومن أجل الصفات، فقد قيل في تعريفها، إنها العلم الذي تعظم منفعته وتجل فائدته. ثم وصف تعالى من مُنِحَ بها بأنه أوتي خيراً كثيراً ولا يعلم معنى الحكمة ولا يفهم القرآن الكريم إلا أولوا الألباب.
وفي الآية الثانية: وصف تعالى عباده الكاملين في عقولهم بثلاثة أوصاف:
1ـ الرسوخ في العلم.
2ـ الإيمان بالله.
3ـ العرفان بأن الكل من عند الله (24).
ثم بين سبحانه: إن المتصفين بهذه النعوت العظيمة هم العقلاء الكاملون الذين هم ذووا الألباب.
وفي الآية الثالثة: دلالة على التفاوت بين من يسهر ليله في طاعة الله وبين غيره الذي يقضي أوقاته بالملاهي والملذّات، وهو معرض عن ذكر الله، فكيف يكونان متساويين. هذا غير معقول!
وقال (عليه السلام): يا هشام، إن الله تعالى يقول في كتابه العزيز: «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ» (25) يعني العقل.
وقال تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ» (26) يعني الفهم والعقل، وضّح (عليه السلام) أن المراد بالقلب ليس العضو الخاص الموجود عند الإنسان وعند الحيوان، بل المراد منه هو العقل الذي يدرك المعاني الكلية والجزئية ليتوصل إلى معرفة حقائق الأشياء وهو بذلك يمثل الكيان المعنوي للإنسان.
وفي الآية الثانية: يشير (عليه السلام) إلى نعمة الله تعالى على لقمان، فقد منّ عليه بالحكمة، وهي من أفضل النعم وأجلها. ثم أخذ (عليه السلام) يتلو على هشام بعض حكم لقمان ونصائحه لولده فقال:
(يا هشام: إن لقمان قال لابنه: تواضع للحق تكن أعقل الناس.
يا بني: إن الدنيا بحر عميق قد غرق فيها عالم كثير، فلتكن سفينتك فيها تقوى الله، وحشوها الإيمان، وشراعها التوكّل، وقيّمها العقل، ودليلها العِلم، وسكّانها الصبر).
لقد ركز لقمان الحكيم في وصيّته لولده بالتواضع للحق، فلا يرى الإنسان لنفسه وجوداً إلا بالحق ولا قوّة له ولا لغيره إلا بالله.
والتواضع من افضل الصفات. وقد ورد عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: (من تكبر وضعه الله، ومن تواضع لله رفعه الله).
وورد عنه (صلّى الله عليه وآله) في تعديد أقوام ذمهم: (ورجل ينازع الله رداءَه، فإن رداءه الكبرياء وإزاره العظمة) (27).
فالمراد بذلك أن الكبرياء والعظمة من صفات الله جلّ جلاله، لا يجوز لأحد من عباده أن يتصف بهما.
فالإنسان كلما تواضع كلما تجرد عن الأنانية، ومحا عن نفسه التكبر، زاده الله شرفاً وفضلاً.
ثم شبه لقمان الحكيم الدنيا بالبحر ووجه الشبه في ذلك: تغير الدنيا وتغير أشكالها وصورها في كل لحظة، فالكائنات التي فيها كالأمواج في البحر معرضة للزوال والفناء.
ويحتمل وجه آخر للشبه أن الدنيا كالبحر الذي يعبر عليه الناس، فالدنيا يعبر عليها الناس إلى دار الآخرة وتكون النفوس فيها كالمسافرين، والأبدان كالسفن والبواخر تنقلهم من دار الدنيا إلى دار الخلود. وقد غرق كثير من الناس في هذه الدنيا، وسبب غرقهم يعود لتهالكهم على الشهوات.
ولما كانت الدنيا بحراً توجب الغرق والهلاك، فلا نجاة منها إلا بسبيل واحد: ألا وهو الصلاح والتقوى؛ ويكون شراعها التوكل على الله والاعتماد عليه في جميع الأمور. كما أنه لابدّ من عقل يكون قيّماً لتلك السفينة ورباناً لها، والعقل نور دليله العلم والمعرفة فإن نسبته إليه كنسبة الرؤية من البصر؛ ومع هذه الخصال كلها لابدّ من الصبر فإن ارتقاء الإنسان وقربه من ربّه لا يحصل إلا بمجاهدات قويّة للنفس. وللنتقل إلى مشهد آخر من كلامه (عليه السلام):
يا هشام: ما بعث الله أنبياءه رسوله إلى عباده إلا ليعقلوا عن الله، فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة، وأعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلاً، وأكملهم عقلاً أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة.
ينظر من كلامه (عليه السلام) التأكيد على شرف الأنبياء العظيم وفضلهم الكبير بكمال عقولهم. ولا ريب أن وفور العقل من أفضل ما يمنح به الإنسان، إذ به يتوصّل إلى سعادة الدنيا، والفوز في دار الآخرة.
والعقل حسنة كبرى من حسنات الله تبارك وتعالى، ونعمة جُلّى لا تحصى فضائلها.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض حكمه: (أغنى الغنى العقل).
ثم تابع (عليه السلام) قائلاً لهشام:
يا هشام: لو كان في يدك جوزة وقال الناس في يدك لؤلؤة ما كان ينفعك وأنت تعلم أنها جوزة، ولو كان في يدك لؤلؤة، وقال الناس إنها جوزة ما ضرّك وأن تعلم أنها لؤلؤة.
كل ذلك يعود إلى قوة العقل وحسن التمييز، فالعاقل هو الذي يعتمد على نفسه ما دام متأكّداً ممّا هو عليه، ولا يعير بالاً للآخرين من الناس الجاهلين الذين يقولون ما يحلو لهم دون رويّة أو تعقّل ما ينفع العقل إذا خدع الإنسان نفسه؟!
وقال (عليه السلام):
يا هشام: إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة، وحجة فاطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة (عليه السلام). وأما الباطنة فالعقول. ثم تابع (عليه السلام):
يا هشام: إن العاقل الذي لا يشغل الحلال شكره، ولا يغلب الحرام صبره.
ذكر (عليه السلام) في الفقرات الأخيرة من كلامه إلى بعض أحوال العقلاء من أنهم لا تمنعهم كثرة نعم الله عليهم من شكره تعالى، كما لا تزيل صبرهم النوائب والكوارث. ثم قال (عليه السلام):
يا هشام: من سلط ثلاثاً على ثلاث فكأنما أعلن هواه على هدم عقله: من أظلم نور فكره بطول أمله، ومحا طرائف حكمته بفضول كلامه، وأطفأ نور عبرته بشهوات نفسه، فكأنما أعان هواه على هدم عقله، ومن هدم عقله أفسد عليه دينه ودنياه.
ذكر (عليه السلام) في كلامه هذا أن في الإنسان قوتين متباينتين، وهما: العقل والهوى، ولكل واحدة منهما صفات ثلاث تضاد الصفات الأخرى فصفات العقل: التفكر، والحكمة، والاعتبار.
وصفات الهوى: طول الأمل، وفضول الكلام، والإنغماس في الشهوات. فطول الأمل في الدنيا يمنع من التفكر في أمور الآخرة، ويبدد نور الفكر بالظلمة، ويحجبه عن الانطلاق في ميادين الخير.
وفضول الكلام يمحي طرائف الحكمة من النفس.
أمّا الانغماس في الشهوات فإنّه يعمي القلب، ويذهب بنور الإيمان، ويطفئ نور الاستبصار والاعتبار من النفس، فمن سلّط هذه الخصال العاطلة على نفسه، فقد أعان على هدم عقله، ومن هدم عقله فقد أفسد دينه ودنياه.
وقال (عليه السلام): (نُسِبَ الحق لطاعة الله، ولا نجاة إلا بالطاعة، والطاعة بالعلم، والعلم بالتعلم، والتعلم بالعقل يعتقد (28)، ولا علم إلا من عالم رباني، ومعرفة العلم بالعقل).
وهو يعني (عليه السلام) أن المعارف جميعها لا تحصل إلا بالعلم، والعلم لا يحصل إلا بالتعلم، والتعلّم لا يحصل إلا بالعقل. فمن عقل علم، ومن علم عاش سعيداً مأنوساً في الدنيا، وغانماً كريماً في الآخرة.
وقال (عليه السلام): يا هشام قليل العمل من العالم مقبول مضاعف، وكثير العمل من أهل الهوى والجهل مردود.
فهو يعني (عليه السلام) أن قليل العمل من العالم مقبول والسبب في ذلك يعود: بأن العلم يطهّر النفوس، ويصفّي القلوب، ويوصل إلى معرفة الله عزّ وجلّ وفضيلة كل عمل إنما هي بقدر تأثيرها في صفاء القلب، وإزالة الحجب عن النفس، والظلمة عن الروح. وهي تختلف بحسب الأفراد، فربّ إنسان يكفيه قليل العمل في صفاء نفسه نظراً لِلَطَافَة طبعه، ورقة حجابه، ورب إنسان لا يؤثر العمل الطيّب الذي يصدر منه في صفاء ذاته، نظراً لكثافة طبعه، وكثرة الحجب على نفسه.
وقال (عليه السلام):
يا هشام: إن العقلاء زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة، أنّهم علموا أن الدنيا طالبة مطلوبة، والآخرة طالبة ومطلوبة.
فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي منها رزقه، ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة فيأتيه الموت فيفسد عليه دنياه وآخرته.
ذلك أن الأعمار بيد الله سبحانه، وساعة كل إنسان مجهولة، وقد تكون قريبة، فمن لم يحضر نفسه لها فقد يخسر ولا مجال عنده للتعويض. وقال (عليه السلام):
يا هشام: إن الله حكى عن قوم صالحين أنهم قالوا: «رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ» (29).
لقد قالوا هذا القول حين علموا أن القلوب تزيغ وتعود إلى عماها، وإنه لم يخف الله من لم يعقل عن الله، ومن لم يعقل عن الله لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة يبصرها ويجد حقيقتها في قلبه، ولا يكون أحد كذلك إلا من كان قوله لفعله مصدّقاً، وسرّه لعلانيته موافقاً، لأن الله تبارك اسمه لم يدل على الباطن الخفي من العقل إلا بظاهر منه، وناطق عليه.
لقد أشار الإمام (عليه السلام) بكلامه هذا إلى أن المؤمن إذا لم يكن قلبه مستضيئاً بهدى الله، فإنّه لا يكون آمناً من الزيغ، كما لا يكون آمناً من الارتداد بعد الدخول في حظيرة الإسلام، والقرآن الكريم أشار إلى هذه الظاهرة.
قال تعالى: «... رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمونَ» (30).
ولذلك يدأب الصالحون بالسؤال من الله في أن لا يزيغ قلوبهم حتى لا يضلوا عن دينه، لأنّ النفوس البشرية بحسب طبيعتها ونشأتها إذا لم يساعدها التوفيق لا تنجو من وساوس الشيطان وغوايته، وهنا يذكر (عليه السلام) هشاماً بقول لأمير المؤمنين (عليه السلام):
يا هشام: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: ما عُبد الله بشيء افضل من العقل، وما تم عقل امرئ حتى يكون فيه خصال شتى: الكفر والشر منه مأمونان، والرشد والخير منه مأمولان، وفضل ماله مبذول، وفضل قوله مكفوف، ونصيبه من الدنيا القوت، لا يشبع من العلم دهره، الذل أحب إليه مع الله من العز مع غيره، والتواضع أحب إليه من الشرف، يستكثر قليل المعروف من غيره، ويستقل كثير المعروف من نفسه، ويرى الناس كلهم خيراً منه، وإنه شرهم في نفسه، وهو تمام الأمر.
وهنا نراه يستدل بكلام جده (عليه السلام) الذي تعرض فيه لصفات العقلاء ثم تابع قائلاً (عليه السلام):
يا هشام: من صدق لسانه زكى عمله، ومن حسنت نيّته زيد في رزقه ومن حسن برّه بإخوانه وأهله مدّ في عمره.
يا هشام: لا تمنحوا الجهال الحكمة فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها لتظلموهم.
فما أحرانا نحن اليوم لنأخذ بكل أقواله (عليه السلام) وبخاصة بهذه الحكمة بالذات حيث نرى الحكمة مظلومة وأهلها مظلومين؟!
يا هشام: لا دين لمن لا مروءة (31) له، ولا مروءة لمن لا عقل له، وإن أعظم الناس قدراً الذين لا يرى الدنيا لنفسه خطراً، أما أن أبدانكم ليس لها ثمن إلا الجنة، فلا تبيعوها بغيرها.
والمعنى: يجب أن تصرف الطاقات البشرية في طاعة الله تعالى ليحصل الإنسان على الثمن هو الجنّة.
وقال (عليه السلام): أما إن أبدانكم ليس لها ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها بغيرها ونقل صاحب الوافي عن أستاذه إيضاحاً لمقالة الإمام ما نصه:
إن الأبدان في التناقص يوماً فيوماً وذلك لتوجه النفس منها إلى عالم آخر فإن كانت النفس سعيدة كانت غاية سعيه في هذه الدنيا وانقطاع حياته البدنية إلى الله سبحانه وإلى نعيم الجنان، لكونه على منهج الهداية والاستقامة، فكأنه باع بدنه بثمن الجنة معاملة مع الله تعالى، ولهذا خلقه الله عزّ وجلّ.
وإن كانت شقيّة كانت غاية سعيه وانقطاع أجله وعمره إلى مقارنة الشيطان وعذاب النيران، لكونه على طريق الضلالة، فكأنّه باع بدنه بثمن الشهوات الفانية، واللذات الحيوانية التي ستصير نيراناً محرقة، وهي اليوم كامنة مستورة عن حواس أهل الدنيا، وستبرز يوم القيامة «وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى» معاملة مع الشيطان «وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ».
وننتقل الآن إلى فصل آخر يتحدث فيه عن حزم العاقل واحتياطه في أقواله.
قال (عليه السلام): يا هشام إن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يقول: إن من علامة العاقل أن يكون فيه ثلاثة خصال: يجيب إذا سئل، وينطق إذا عجز القوم عن الكلام، ويشير بالرأي الذي يكون فيه صلاح أهله، فمن لم يكن فيه من هذه الخصال الثلاث شيءٌ فهو أحمق.
وقال الحسن بن علي (عليهما السلام): إذا طلبتم الحوائج فاطلبوها من أهلها.
فقيل له: يا بن رسول الله ومن أهلها؟
الذين خصهم الله في كتابه وذكـرهم، فقال: «أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مـِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولو الألْبابِ» (32) قال: أولوا العقول.
وقال علي زين العابدين (عليه السلام): مجالسة الصالحين داعية إلى الصلاح، وآداب العلماء زيادة في العقل، وطاعة ولاة العدل تمام العز، واستثمار المال تمام المروءة، وإرشاد المستشير قضاء النعمة، وكف الأذى من كمال العقل، وفيه راحة البدن عاجلاً وآجلاً. ثم زاد (عليه السلام):
يا هشام: إن العاقل لا يحدّث من يخاف تكذيبه، ولا يسأل من يخاف منعه، ولا يَعِدُ ما لا يقدر عليه، ولا يرجو ما يعنف برجائه، ولا يقدم على ما يخاف فوته بالعجز عنه.
أراد بهذه الفقرات إلى حزم العاقل في تحفظه على أقواله وشرفه ومنزلته وتوقفه من الإقدام على ما لا يثق بحصوله.
وقال (عليه السلام):
يا هشام: الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار.
ثم انتقل (عليه السلام) إلى فصل آخر يركز فيه على اقتران القول بالعمل.
قال (عليه السلام): طوبى للعلماء بالفعل، وويل للعلماء بالقول. يا عبيد السوء اتخذوا مساجد ربكم سجوناً لأجسادكم وجباهكم. واجعلوا قلوبكم بيوتاً للتقوى. ولا تجعلوا قلوبكم مأوى للشهوات، وإن أجزعكم عند البلاء لأشدكم حباً للدنيا، وإن أصبركم على البلاء لأزهدكم في الدنيا.
يا عبيد السوء لا تكونوا شبيهاً بالحداء الخاطفة، ولا بالثعالب الخادعة ولا الذئاب الغادرة ولا بالأسد العاتية كما تفعل بالفراس. كذلك تفعلون بالناس، فريقاً تخطفون، وفريقاً تغدرون بهم.
وبحق أقول لكم: لا يغني عن الجسد أن يكون ظاهره صحيحاً وباطنه فاسداً كذلك لا تغني أجسادكم التي قد أعجبتكم وقد فسدت قلوبكم وما يغني عنكم أن تنقوا جلودكم وقلوبكم دنسة.
لا تكونوا كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيب ويمسك النخالة. كذلك أنتم تخرجون الحكمة من أفواهكم ويبقى الغل في صدوركم.
يا عبيد الدنيا إنما مثلكم مثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه.
يا بني إسرائيل زاحموا العلماء في مجالسهم ولو جُثواً على الركب، فإن الله يحي القلوب الميتة بنور الحكمة كما يحي الأرض الميتة بوابل المطر (33).
وهذه بعض الوصايا التي زادها الحسن بن علي الحراني فقال: يا هشام أصلح يومك الذي هو أمامك، فانظر أي يوم هو، وأعد له الجواب، فإنك موقوف ومسؤول. وخذ موعظتك من الدهر وأهله، وانظر في تصرف الدهر وأحواله، فإن ما هو آتٍ من الدنيا كما ولّى منها، فاعتبر بها، وقال علي بن الحسين (عليه السلام): (إن جميع ما طلعت عليه الشمس في مشارق الأرض ومغاربها بحرها وبرها، وسهلها وجبلها عند ولي من أولياء الله وأهل المعرفة بحق الله كفئ الظلال).
ثم قال (عليه السلام): (حر يدع هذه اللماظة (الدنيا) لأهلها فليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها بغيرها، فإنه من رضي من الله بالدنيا فقد رضي بالخسيس).
يا هشام: إن كل الناس يبصرون النجوم ولكن لا يهتدي بها إلا من يعرف مجاريها ومنازلها، وكذلك (انتم تدرسون) الحكمة، لا يهتدي بها منكم إلا من عمل بها.
وهنا كأنه (عليه السلام) يذكّر أهل العقول النيّرة أن يقولوا ويدرسوا ويفهموا ثم عليهم أن يقرنوا العلم بالعمل.
أما الذين يرون ببصرهم ويقفلون بصيرتهم فهم ضالون في حياتهم وضالون في آخرتهم، يخرصون ولا يعرفون، ويغدرون ولا يعرفون...
قال أحد الحكماء مركزاً على المعرفة المقرونة بالعمل: عندما تقترن المعرفة بالعمل يرزقان صبياً يسميانه الصدق.
وعندما تقترن المعرفة بالعمل ينجبان بنتاً يسميانها الوفاء. ويلعب الجميع لعبة أظنها الحرية. وقال (عليه السلام):
يا هشام: مكتوب في الإنجيل: طوبى للمتراحمين، أولئك هم المرحومون يوم القيامة. طوبى للمطهّرة قلوبهم، أولئك هم المتقون يوم القيامة. طوبى للمتواضعين في الدنيا، أولئك يرتقون منابر الملك يوم القيامة.
السلام عليك يا سيدي عيسى، السلام عليك يا رسول الله لو جئت في هذه الأيام لرأيت العجب العجابا!! فالكثير الكثير من أمتك قد نسوا أو تناسوا هذه التعاليم العظيمة التي تبنى عليها المجتمعات العظيمة،والقليل القليل من أمتك من تمسكوا برسالتك واهتدوا بهديك وساهموا في بناء مجتمع سليم، لكنهم كمن ينفخ في رماد!!
ثم قال (عليه السلام) منوهاً بقيمة الكلام وأنواع المتكلمين.
يا هشام: المتكمون ثلاثة: فرابح، وسالم، وشاجب (34).
فأما الرابح فالذاكر لله، وأما السالم فالساكت، وأما الشاجب فالذي يخوض في الباطل، إن الله حرم الجنة على كل فاحش بذئ الكلام قليل الحياء لا يبالي ما قال ولا ما قيل فيه، وكان أبو ذر رضوان الله عليه يقول: (يا مبتغي العلم إن هذا اللسان مفتاح خير ومفتاح شر، فاختم على فيك كما تختم على ذهبك وورقك).
وكما حرمت الجنة على الشاجب وفتحت أبوابها للرابح الكثير الحياء لذلك قال (عليه السلام): (الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار).
ثم قال (عليه السلام) واصفاً الدنيا على لسان السيد المسيح:
يا هشام: تمثّلت الدنيا للمسيح (عليه السلام) في صورة امرأة زرقاء فقال لها: كم تزوّجت؟
فقالت: كثيراً.
قال: فكلاًّ طلقك؟
فقالت: بل كلاّ قتلت.
قال المسيح فويح لأزواجك الباقين كيف لا يعتبرون بالماضين!!
لا ريب إن أصحاب البصائر والعقول النيّرة يدرسون الماضي ويتأملون في مجرى أحداثه، ويقدرون نتائجه فيقيسون الحاضر على ضوء الماضي فيتعظون ويعتبرون.
ثم أردف في نصائحه لهشام في أنواع البشر، وأيّهم أنفع وأصلح.
قال (عليه السلام): (يا هشام: لا خير في العيش إلا لرجلين: لمستمع واع، وعالم ناطق) .
العالم عليه أن يبوح بما يختزن في صدره من علوم ومعارف ليفيد به سائر الناس، فيكون بذلك كالنهر المتدفق يسقي عن جانبيه الحقولا.
والمستمع عليه أن يعقل ما يلقى إليه، فيخزن في ذاكرته كل ما سمعه من العالم، ليكون له زاد خير يفيده عند الحاجة، لأن غذاء العقل أهم بكثير من غذاء الجسد. وفن الاستماع لا يقلّ أهمية عن فنّ القول.
ثم وصف (عليه السلام) نوع العلماء الذين يؤخذ منهم ويستمع إليهم. فقال (عليه السلام):
يا هشام: أوحى الله تعالى إلى داوود (عليه السلام) قل لعبادي: لا يجعلوا بيني وبينهم عالماً مفتوناً بالدنيا فيصدّهم عن ذكري، وعن طريق محبّتي ومناجاتي. أولئك قطّاع الطريق من عبادي، إن أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة محبّتي ومناجاتي من قلوبهم.
ثم حذّر (عليه السلام) من التكبّر فقال:
يا هشام: إيّاك والكبر على أوليائي، والاستطالة بعلمك فيمقتك الله فلا تنفعك بعد مقته دنياك ولا آخرتك، وكن في الدنيا كساكن دار ليست له إنما ينتظر الرحيل.
ثم مدح (عليه السلام) المتواضع وذمّ المتكبّر فقال:
يا هشام: إن الزرع ينبت في السهل ولا ينبت في الصفا (35) فكذلك الحكمة تعمر في قلب المتواضع ولا تعمر في قلب المتكبّر الجبّار، لأنّ الله تعالى جعل التواضع آلة العقل، وجعل التكبّر آلة الجهل، ألم تعلم أن من شمخ إلى السقف برأسه شجبه، ومن خفض رأسه استظل تحته وأكنّه، وكذلك من لم يتواضع لله خفضه الله، ومن تواضع لله رفعه.
ثم استرسل (عليه السلام) في حديثه فقال: (وأحذر ردّ المتكبرين، فإن العلم يُذل على أن يملي على من لا يفيق).
فقال هشام: فإن لم أجد من يعقل السؤال عنها؟
فقال (عليه السلام): فاغتنم جهله عن السؤال حتى تسلم من فتنة القول وعظيم فتنة الرد، واعلم أن الله لم يرفع المتواضعين بقدر تواضعهم ولكن رفعهم بقدر عظمته ومجده. ولم يؤمن الخائفين بقدر خوفهم ولكن آمنهم بقدر كرمه وجوده؛ ولم يفرح المحزونين بقدر حزنهم ولكن بقدر رأفته ورحمته، فما ظنّك بالرؤوف الرحيم الذي يتودد إلى من يؤذيه بأوليائه، فكيف بمن يؤذي فيه؟ وما ظنّك بالتوّاب الرحيم الذي يتوب على من يعاديه، فكيف بمن يترضّاه، ويختار عداوة الخلق فيه.
يا هشام: من أكرمه الله بثلاث فقد لطف له؛ عقل يكفيه مؤونة هواه، وعلم يكفيه مؤونة جهله، وغنى يكفيه مخافة الفقر.
ثم زاد تحذيراً جديداً عاماً للدنيا وأهلها.
فقال (عليه السلام): (يا هشام أحذر هذه الدنيا وأحذر أهلها، فإن الناس فيها على أربعة اصناف:
- رجل متردي معانق هواه، ومتعلم مقري كلما ازداد علماً ازداد كبراً، يستعلي بقراءته وعلمه على من هو دونه.
ـ وعابد جاهل يستصغر من هو دونه في عبادته، يحب أن يعظَّم ويوقَّر.
ـ وذي بصيرة عالم عارف بطريق الحق، يحب القيام به ولكنه عاجز أو مغلوب فلا يقدر على القيام بما يعرفه، فهو محزون مغموم بذلك وهو أمثل أهل زمانه وأوجههم عقلاً (36).
الحقيقة إننا استرسلنا في هذه الوصية القيمة والخالدة لأنها بحر زاخر، كلّما غصنا فيه كلما ازددنا متعة وفائدة. فهي من إمام معصوم ورث علم الأوصياء عن الأنبياء، علماً شاملاً كاملاً للدين والدنيا وللناس كافة. لقد حوت هذه الوصية الذهبية جميع أصول الفضائل: في الآداب والأخلاق وقواعد السلوك والمناهج العامة لما يصلح للحياة الفردية والاجتماعية السليمة من كل غرض أو هوى، ذلك أن الشريعة الإسلامية هي أحكام إلهية وما على الحاكم إلا تطبيق هذه الأحكام معتمداً على عقله المستنير وضميره الحيّ المستقيم.
*******
(1) المؤمنون(23): الآية 71.
(2) ص(38): الآية 51.
(3) النساء(4): الآية 135.
(4) النازعات(79): الآيتان 40-41.
(5) الزمر (39): الآيتان 17-18.
(6) سورة الزمر: الآية 18.
(7) سورة الأنعام: الآية 32.
(8) سورة الصافات: الآيات 136-138.
(9) سورة العنكبوت: الآية 43.
(10) سورة البقرة: الآية 170.
(11) سورة البقرة: الآية 171.
(12) راجع سورة يونس: الآية 42 والفرقان، الآية 44 والحشر، الآية 13 والبقرة، الآية 44.
(13) التباين في تفسير القرآن، ج1، ص188.
(14) سورة الأنعام: الآية 116.
(15) سورة لقمان: الآية 25.
(16) راجع روح المعاني، ج6، ص423.
(17) سورة سبأ: الآية 13.
(18) سورة هود: الآية 40.
(19) سورة الأنعام: الآية 37.
(20) سورة المائدة: الآية 103.
(21) سورة البقرة: الآية 269.
(22) سورة آل عمران: الآية 7.
(23) سورة الزمر: الآية 9.
(24) يعني المحكم والمتشابه من الآيات.
(25) سورة ق: الآية 37.
(26) سورة لقمان: الآية 12.
(27) المجازات النبوية للشريف الرضي، ص440، وبذلك تكون العظمة والكبرياء هما الكرامة التي يلقيها الله سبحانه على رسله القائمين بالقسط فيعظمون بها في العيون ويجلَّون في القلوب.
(28) يعتقد أي يشتد ويستحكم.
(29) سورة آل عمران: الآية 8.
(30) سورة التوبة: الآية 93.
(31) كلمة مروءة غير موجودة إلا في اللغة العربية وتعني: آداب نفسانية تحمل مراعاتها الإنسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق، وجميل العادات أو هي: كمال الرجولية. المعجم الوسيط، ج2.
(32) سورة الرعد: الآية 19.
(33) راجع أصول الكافي، ج1، ص13-20. انتهت هذه الرسالة على رواية الشيخ الكليني وقد ذكر زيادة عليها الحسن بن علي الحراني في كتابه تحف العقول وسوف نقتطف منها بعض دررها التي أهملها الكليني.
(34) الشاجب: كثير الكلام والهذيان.
(35) الصفا: الحجر الصلد.
(36) تحف العقول، ص390-400.
تعليق