رد الإمام الرضا على علي بن محمد بن الجهم في تفسيره للآيات الكريمة (مناظرة) (*)
قال أبو الصلت الهروي : لما جمع المأمون لعلي بن موسى الرضا عليه السلام ، أهل المقالات ، من أهل الاِسلام والديانات من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين ، وسائر أهل المقالات ، فلم يقم أحد إلاّ وقد ألزمه حجته كأنه ألقم حجراً، قام إليه علي بن محمد بن الجهم ، فقال له : يا بن رسول الله أتقول بعصمة الاَنبياء ؟
قال : (نعم)
قال : فما تعمل في قول الله عز وجل : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) (1) وفي قوله عز وجل : (وَذَا النُّون إذ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نقدِر عَلَيه) (2) وفي قوله عز وجل في يوسف عليه السلام : (وَلَقَد هَمَّت بِه وَهَمَّ بِها) (3) وفي قوله عزوجل في داود عليه السلام : (وَظَنَّ دَاود أنَّما فَتَنَّاه) (4) وقوله تعالى في نبيه محمد صلى الله عليه وآله : (وَتُخفي في نَفسِكَ ما اللهُ مُبديهِ) (5) .
فقال الإمام الرضا عليه السلام :( ويحك يا علي اتق الله ولا تنسب إلى أنبياء الله الفواحش، ولا تتأول كتاب الله برأيك ، فإنّ الله عزّ وجلّ قد قال : (وَمَا يَعلمُ تَأوِيلَهُ إلاّ اللهُ والراسِخُونَ)(6) .
وأما قوله عز وجل في آدم : (وعصى آدم ربه فغوى) فإن الله عزوجل خلق آدم حجة في أرضه ، وخليفة في بلاده ، لم يخلقه للجنة ، وكانت المعصية من آدم في الجنة لا في الاَرض ، وعصمته تجب أن تكون في الاَرض ، ليتم مقادير أمر الله ، فلما أهبط إلى الاَرض ، وجعل حجة وخليفة عُصم بقوله عزّ وجلّ : (إنَّ اللهَ اصطَفى آدَمَ ونُوحاً وآل إِبراهيمَ وآلَ عمرانَ على العالَمِين)(7) .
وأما قوله عز وجل : (وَذَا النُّون إذ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نقدِر عَلَيه) إنّما ظن بمعنى استيقن أن الله لن يضيق عليه رزقه ، ألا تسمع قول الله عز وجل : (وأَمَّا إذا مَا ابتلاَه رَبه فَقَدَرَ عليهِ رِزقَه)(8) أي ضيق عليه رزقه، ولو ظن أن الله لا يقدر عليه لكان قد كفر .
وأما قوله عز وجل في يوسف : (وَلَقَد هَمَّت بِه وَهَمَّ بِها) فإنّها همَّت بالمعصية وهمَّ يوسف بقتلها إن أجبرته لعظم ما تداخله فصرف الله عنه قتلها والفاحشة ، وهو قوله عز وجل :(كَذَلِكَ لِنصرِفَ عَنهُ السُّوءَ والفَحشَاءَ)(9) يعني القتل والزنا .
وأما داود عليه السلام فما يقول من قبلكم فيه ؟
فقال علي بن محمد بن الجهم يقولون : إن داود عليه السلام كان في محرابه يصلي ، فتصور له إبليس على صورة طير أحسن ما يكون من طيور ، فقطع داود صلاته ، وقام ليأخذ الطير ، فخرج الطير إلى الدار ، فخرج الطير إلى السطح ، فصعد في طلبه فسقط الطير في دار أوريا بن حنان ، فاطلع داود في أثر الطير ، فإذا بامرأة أوريا تغتسل ، فلما نظر إليها هواها ، وكان قد أخرج أوريا في بعض غزواته ، فكتب إلى صاحبه : أن قدم أوريا أمام التابوت ، فقدم فظفر أوريا بالمشركين ، فصعب ذلك على داود ، فكتب إليه ثانية ، أن قدمه أمام التابوت ، فقدم فقتل أوريا ، فتزوج داود بامرأته.
قال :( فضرب الرضا عليه السلام بيده على جبهته وقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، لقد نسبتم نبياً من أنبياء الله إلى التهاون بصلاته حين خرج في أثر الطير ثم بالفاحشة ثم بالقتل ) .
فقال : يا بن رسول الله ، فما كان خطيئته ؟
فقال : ( ويحك إن داود إنما ظن أن ما خلق الله عز وجل خلقاً ، هو أعلم منه، فبعث الله عز وجل إليه الملكين فتسورا في المحراب ، فقالا : (خَصمَانِ بَغَى بَعضُنَا عَلَى بعضٍ فاحكُم بَينَنَا بالحقِّ ولا تُشطِط واهدِنَا إلى سَوَاء الصِّراط ، إنَّ هَذا أَخي لَهُ تِسع وتِسعُونَ نَعجَةً ولي نَعجَةٌ واحِدَةٌ فَقَالَ أَكفِلْنيها وَعزَّنِي في الخِطَابِ)(10) فعجل داود عليه السلام على المدعى عليه ، فقال : (لَقَدَ ظَلَمَكَ بِسؤالِ نَعجَتِكَ إِلى نِعَاجِهِ)(11) فلم يسأل المدعي البينة على ذلك ، ولم يقبل على المدعى عليه ، فيقول له : ما تقول ؟ فكان هذا خطيئة رسم الحكم ، لا ما ذهبتم إليه ، ألا تسمع الله عز وجل يقول : (يا دَاوُدُ إنَّا جَعَلنَاكَ خَليفَةً في الاََرضِ فاحكُم بينَ النَّاسِ بالحقِّ وَلا تَتَّبِع الهَوَى)(12) إلى آخر الآية ) .
فقال : يا بن رسول الله فما قصته مع أوريا ؟
فقال الرضا ـ عليه السلام ـ : إنَّ المرأة في أيّام داود عليه السلام ، كانت إذا مات بعلها أو قتل ، لا تتزوج بعده أبداً ، وأوّل من أباح الله له ، أن يتزوج بامرأة قتل بعلها ، كان داود عليه السلام ، فتزوج بامرأة أوريا لما قتل ، وانقضت عدتها منه ، فذلك الذي شق على الناس من قبل أوريا.
وأما محمد صلى الله عليه وآله ، وقول الله عز وجل : (وَتُخفي في نَفسِكَ ما اللهُ مُبديهِ وَتخشَى النَّاس واللهُ أحقُّ أن تَخشاه)(13) فإنَّ الله عز وجل ، عرف نبيه صلى الله عليه وآله أسماء أزواجه في دار الدنيا ، وأسماء أزواجه في دار الآخرة ، وأنهن أُمّهات المؤمنين ، وإحداهن من سمى له ، زينب بنت جحش ، وهي يومئذ تحت زيد بن حارثة ، فأخفى أسمها في نفسه ، ولم يبده ، لكيلا يقول أحد من المنافقين : إنَّه قال في امرأة في بيت رجل إنَّها إحدى أزواجه من أُمَّهات المؤمنين ، وخشي قول المنافقين ، فقال الله عزّ وجل : (وَتخشَى النَّاس واللهُ أحقُّ أن تَخشاه) يعني في نفسك ، وإن الله عزّ وجل ، ما تولى تزويج أحد من خلقه ، إلاّ تزويج حواء من آدم عليه السلام ، وزينب من رسول الله صلى الله عليه وآله ، بقوله : (فَلَمَّا قَضَى زَيدٌ مِنهَا وطراً زوَّجنَاكهَا)(14) الآية، وفاطمة من علي عليهما السلام .
قال : فبكى علي بن محمد بن الجهم فقال : يابن رسول الله ، أنا تائب إلى الله عز وجل من أن أنطق في أنبياء الله : بعد يومي هذا إلاّ بما ذكرته (15)
____________
(*) منقول من دار السيدة رقية للقرآن الكريم/ مراجعة وضبط النص شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي .
(1) سورة طه: الآية 121 .
(2) سورة الاَنبياء: الآية 87 .
(3) سورة يوسف: الآية 24 .
(4) سورة ص : الآية 24 .
(5) سورة الاَحزاب : الآية 37 .
(6) سورة آل عمران : الآية 7.
(7) سورة آل عمران : الآية 33 .
(8) سورة الفجر : الآية 16 .
(9) سورة يوسف: الآية 24 .
(10) سورة ص : الآية 22 و23 .
(11) سورة ص : الآية 24 .
(12) سورة ص : الآية 26 .
(13) سورة الاَحزاب : الآية 37 .
(14) سورة الاَحزاب : الآية 37 .
(15) عيون أخبار الرضا عليه السلام للصدوق : ج2 ص 170 ـ 173 ب 14 .