بسم الله الرحمن الرحيم
لجمع القرآن في الروايات تأريخ متناقض عجيب ، ألقى بتبعته على القرآن الكريم ، والقرآن أسمى من أنْ يقدح فيه تعارضُ الروايات ، وتداخلُ الأهواء ، فهو محفوظ كما نزل ، وسالم كما أُوحي :
هذه الروايات بعد ضَمّ بعضها إلى البعض الآخر تُسْفِر عن هذه النتائج المتضاربة :
أ ـ مات النبي ( صلى الله عليه وآله ) والقرآن كلّه على العَسَب واللّخاف والرِقاع والأكتاف ، ولكنّه لم يُجمع في مصحف ، وقد راع أبو بكر (رض) كثرة القتل في القرّاء بعد وقعة اليمامة في السنة الثانية عشرة للهجرة ، فاستشار عمر في الأمر ، فأقرّا معاً جَمْع القرآن من الصحف إلى المصحف ، أو مِن العَسَب واللّخاف والأقتاب إلى الصحف ، وكلَّفَا بالمهمّة زيدَ بن ثابت .
ب ـ إنّ عمر بن الخطّاب كان أوّل مَن جمع القرآن بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعد أنْ سأل عن آية فلم يُجَبْ إليها ، ونهض بالمهمّة زيدُ بن ثابت .
ج ـ إنّ أبا بكر مات ، وعمر قد قُتل ، ولم يُجمَع القرآن بعد ، أي أنّ المسلمين في حالة فوضى من شرائع دينهم ، وكتاب ربّهم .
د ـ إنّ عثمان كان أوّل مَن جمع المصحف تارة ، وأوّل مَن وحّد المصحف تارةً أخرى .
هـ ـ إنّ القرآن كان مجموعاً في عهد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأنّ جامعيه كانوا من الكثرة بحيث يعدُّون تارة ، ويخصَّصون تارة أخرى ، ولا يُحاط بهم سواهما .
ولقد وقفتُ من هذه الروايات موقف المندهش تارةً ، وموقف المتحيّر تارةً أخرى ، وقرّرتُ في النهاية دراستها في موضوعية خالصة ، أَخلُصُ منها إلى نتائج سليمة ، قد تقارب الواقع وتتّجه نحو الصواب بإذن الله .
وهذه الدراسة تعنى بالاستنباط القائم على أساس الاجتهاد الفكري ، والاجتهاد معرّض للخطأ والصواب ، وهي لا تمسّ القرآن ولا الحديث ، وإنّما تسير بينهما هامشيّاً ، فالقرآن هو القرآن أنّى كانت طرقه ، وليس في جميع روايات الجَمْع ما هو مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله .
من خلال ما تقدّم نظفر بحصيلتَين متعارضتَين :
الأولى : إنّ النبي صلى الله عليه وآله مات والقرآن بعد لم يُجمَع في مصحف .
الثانية : إنّ القرآن كان مجموعاً في عهد النبي صلى الله عليه وآله في مصحف .
يدلّ على الحصيلة الأولى طائفة الروايات المتناثرة لإثبات الفقرات : ( أ ، ب ، ج ، د ) ، ويدلّ على الحصيلة الثانية طائفة الروايات والدلائل والبراهين لإثبات الفقرة هـ ، ولسنا نحاول تفنيد روايات الحصيلة الأولى بقدر ما يهمّنا إثبات حقيقة الحصيلة الثانية .
لقد تتبّع السيّد الخوئي ـ فكفانا مؤنة الخوض في ذلك ـ روايات الجمع بناء على الحصيلة الأولى في كلٍّ من صحيح البخاري ، ومسند أحمد ، وكنز العمّال ، ومنتخب كنز العمال ، والإتقان للسيوطي ، وكان أهمّ هذه الروايات من خلال تعقيبه عليها ـ غَثِّها وسمينها ـ اثنتان وعشرون رواية (1) .
وقد خَلُص إلى تناقضها في تعيين العهد الذي جُمع فيه القرآن ، متردِّداً بين عهود : أبي بكر ، عمر ، عثمان .
ومَن هو المتصدّي لذلك ؟ هل هو أبو بكر ، أو عمر ، أو زيد بن ثابت ؟
وهل بقي من الآيات ما لم يُدوّن إلى زمن عثمان ؟
ومَن الذي طلب من أبي بكر جمع القرآن ؟
ومتى أُلْحِقَتْ بعض الآيات في القرآن ، وبماذا ثبت ذلك ، وهل يكفي ذلك لتواتر القرآن (2) .
وقد عارض الخوئي هذه الروايات بروايات أُخر تدلّ على جمْع القرآن في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ، مستنِداً فيها إلى منتخب كنز العمّال ، وصحيح البخاري ، وإتقان السيوطي ، وقد اعتبر التمحّل بأنّ المراد من الجمع في هذه الروايات هو الجمع في الصدور لا التدوين ، دعوى لا شاهد عليها ؛ لأنّ الحفّاظ أكثر من أنْ يعدّوا (3) .
وقد ثبت لديه جمْع القرآن بعهد رسول الله صلى الله عليه وآله ، واعتبر ما سوى هذا معارِضاً لكتاب الله ، ومخالِفاً لحكْم العقل ، ومناهضة صريحة للإجماع الذي عليه المسلمون كافّة بأنّ القرآن لا طريق لإثباته إلاّ التواتر ، فلا بدّ من طرح هذه الروايات ؛ لأنّها تدل على ثبوت القرآن بغير التواتر ، وقد ثبت بطلان ذلك بإجماع المسلمين (4) .
واعتبر القول بروايات الجمْع على أساس الحصيلة الأولى يستلزم فتح القول بالتحريف ، باعتبار الجمْع على تلك الطرق يكون قابلاً للزيادة والنقصان (5) .
وقد أَيّدَ جمْع عثمان للقرآن ، لا بمعنى أنّه جمع الآيات والسور في مصحف ، بل بمعنى أنّه جمع المسلمين على قراءة إمام واحد : ( وهذا العمل من عثمان لم ينتقدْه عليه أحدٌ من المسلمين ؛ وذلك لأنّ الاختلاف في القراءة كان يؤدّي إلى الاختلاف بين المسلمين ، وتمزيق صفوفهم ، وتفريق وحدتهم ، بل كان يؤدّي إلى تكفير بعضهم بعضاً ، وقد مرّ أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم منع عن الاختلاف في القرآن ) (6) .
والحق أنّ الخوئي قد تتبّع هذه القضية بكلّ جزئياتها وتفصيلاتها ، وانقضّ عليها يفنّدها ويجرحها ، مثبّتاً أنّ القرآن قد دُوِّنَ في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ، وهذا ما نذهب إليه من خلال اضطلاعنا بأدلّة جمّة تستقطب جملة من الروايات ، وطائفة من الأدلّة الخارجية والداخلية حول الكتاب وضمن الكتاب وعلى هامش الكتاب ، تُثبت دون ريب تكامل الجمع التدويني للقرآن في عهد النبي صلى الله عليه وآله . ولا نريد أنْ ندخل في متاهة من هذا الموضوع بقدر ما نريد إثبات الحقيقة والوصول إليها بكلّ الطرق المختصرة .
ففي جملة من الروايات المعتبرة نجد جزءاً لا يُستهان به من هذه الحقيقة :
1 ـ في البخاري : إنّ مَن جمعوا القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وآله أربعة ، فعن قتادة : قال سألتُ أنس بن مالك : مَن جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ؟ قال : أربعة ، كلّهم من الأنصار : أبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد (7) .
2 ـ مات النبي صلى الله عليه وآله ولم يَجمع القرآن غير أربعة : أبو الدرداء ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد (8) .
3 ـ أورد البيهقي : عن ابن سيرين ، جَمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أربعة لا يُختلف فيهم : معاذ بن جبل ، وأبيّ بن كعب ، وزيد ، وأبو زيد . واختلفوا في رجلين من ثلاثة : أبو الدرداء ، وعثمان ، وقيل : عثمان وتميم الداري (9) .
4 ـ عن الشعبي : جَمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ستة : أبي ، وزيد ، وأبو الدرداء ، وسعد بن عبيد ، وأبو زيد ، ومجمع بن جارية وقد أخذه إلاّ سورتَين أو ثلاثة . قال : ولم يجمعه أحد من الخلفاء من أصحاب محمد غير عثمان (10) .
5 ـ جُمع على عهد النبي صلى الله عليه وآله : جَمع بعضٌ من الصحابة القرآنَ كلّه ، وبعض منهم جَمَع القرآن ثمّ كمّله بعد النبي صلى الله عليه وآله ، وذكر محمد بن إسحاق في الفهرست :
( إنّ الجمّاع للقرآن على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم هم : علي بن أبي طالب عليه السلام ، وسعد بن عبيد بن النعمان ، وأبو الدرداء ، وعويمر بن زيد ، ومعاذ بن جبل بن أوس ، وأبو زيد ثابت بن زيد ، وأبي بن كعب ، وعبيد بن معاوية ، وزيد بن ثابت )(11) .
6 ـ وذكر الحافظ شمس الدين الذهبي : أنّ الأعداد المتقدّمة هم الذين عرضوه على النبي صلى الله عليه وآله واتّصلت بنا أسانيدُهم ، وأمّا مَن جمعه منهم ولم يتّصل بنا فكثير ، وأمّا الذين عرضوا القرآن على النبي صلى الله عليه وآله فسبعة : عثمان بن عفّان ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، وأبي بن كعب ، وزيد بن ثابت ، وأبو موسى الأشعري ، وأبو الدرداء .
وقد أكّد الحافظ الذهبي نفسُه الجمْع في عهد النبي صلى الله عليه وآله ، فقال : وقد جَمع القرآن غيرهم من الصحابة ، كمعاذ بن جبل ، وأبي زيد ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وعبد الله بن عمر ، وعقبة بن عامر (12) .
7 ـ روى الخوارزمي في مناقبه عن علي بن رياح ، قال : جَمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب عليه السلام ، وأبي بن كعب (13) .
8 ـ أخرج بن أبي داود عن محمد بن كعب القرظي ، قال : جَمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمسةٌ من الأنصار : معاذ بن جبل ، وعبادة بن الصامت ، وأبي بن كعب ، وأبو الدرداء ، وأبو أيّوب الأنصاري (14) .
9 ـ قال الحارث المحاسبي ، فيما أكده الزركشي : ( وأمّا أبي بن كعب ، وعبد الله بن مسعود ، ومعاذ بن جبل : فبغير شَكٍّ جمعوا القرآن ، والدلائل عليه متظاهرة ) (15) .
10 ـ أخرج البيهقي ، وأبو داود ، عن الشعبي ، قال : جَمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ستة : أبي ، وزيد ، ومعاذ ، وأبو الدرداء ، وسعد بن عبيد ، وأبو زيد . ومجمع بن جارية قد أخذه إلاّ سورتين أو ثلاثة (16) .
11 ـ ذكر بن أبي داود فيمن جمع القرآن : قيس بن أبي صعصعة ، وهو خزرجي يكنّى : أبا زيد (17) .
12 ـ قال أبو أحمد العسكري : لم يَجمع القرآن من الأوس غيرُ سعد بن عبيد . وقال ابن حبيب في ( المحبر ) : سعد بن عبيد أحد مَن جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم (18) .
13 ـ قال السيوطي : ظفرتُ بامرأةٍ من الصحابيّات جمعتْ القرآن ، ولم يعدّها أحد ممّن تكلّم في ذلك ، فأخرج ابن سعد في الطبقات : أَنْبَأَنَا الفضلُ بن دكين ، قال حدثنا : الوليد بن عبد الله بن جميع ، قال : حدثتني جدّتي أُمّ ورقة بنت عبد الله بن الحارث ـ وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يزورها ، ويسمّيها الشهيدة ـ وكانت قد جمعت القرآن ... ثمّ ساق الحديث (19) .
وهذه الجملة من الروايات بضمّ بعضها إلى البعض الآخر تبرز لنا طائفةٌ كبيرةٌ من أعلام المهاجرين والأنصار قد جَمعتْ القرآن في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ، وليس من المرجّح أنْ يكون هؤلاء الرواة جميعاً مع اختلاف عصورهم قد تواطئوا على الكذب ، فأَوردوا ذكْر هذه الجمهرة من الصحابة ممّن جمعوا القرآن ، ولا منازِع لهم في ذلك ، بل ولا مناقِش من الأعلام .
وأنت ترى أنّ هذه الروايات تدلّ دلالة قاطعة على الجمْع المتعارف ، وهو التدوين في مجموع ما ، وقد يحلو للبعض أنْ يفسّر الجمْع بالحفظ في الصدور ، ولا دلالة لغويّة عليه ؛ إذ إنّه انتقال باللفظ عن الأصل إلى سواه دون قرينة تُعرَف عن المعنى الأوّل ، ولأنّه معارَض بجمهور الحَفَظَة الذين لا يعدّون في عهد النبي صلى الله عليه وآله كثرةً وتواتراً وشيوعاً ، من النساء والرجال وفيهم الخلفاء الأربعة وأمّهات المؤمنين وذرّية رسول الله صلى الله عليه وآله ، عدا آلاف المسلمين في طول البلاد وعرضها .
لقد عقّب الماوردي على الرواية القائلة بأنّه لم يُجمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله إلاّ أربعة ، واستقلّ ذلك بل استنكره ، فقال : ( وكيف يمكن الإحاطة بأنّه لم يكمله سوى أربعة ، والصحابة متفرّقون في البلاد ؟ وإنْ لم يكمله سوى أربعة ، فقد حفظ جميع أجزائه مِئُون لا يحصون ) (20) .
فالماوردي هنا يفرّق بين الجمع والحفظ ، وهو من علماء القرن الخامس الهجري ، ممّن يعرف فحوى الخطاب ، ومنطوق العبارة ، ودلالة الألفاظ .
والفرق بين الجمع ، والقراءة ، والحفظ ، جليّ لا يحتاج معه إلى بيان ، فقد ذكر أبو عبيد في كتاب القراءات القرّاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فعدّ الخلفاء الأربعة ، وطلحة ، وسعداً ، وابن مسعود ، وحذيفة ، وسالماً ، وأبا هريرة ، وعبد الله بن السائب ، والعبادلة (21) ، وعائشة ، وحفصة ، وأُمّ سلمة .
ومن الأنصار : عبادة بن الصامت ، ومعاذ الذي يُكنّى أبا حليمة ، ومجمع بن جارية ، وفضالة بن عبيد ، ومسلم بن مخلد (22) .
وهذا العدد يقتضي أنْ يكون على سبيل النموذج والمثال ، لا على سبيل الحصر والاستقصاء ، أو أنّ هؤلاء ممّن اشتهر بالحفظ والقراءة أكثر من غيرهم .
وممّا يؤيّد صدق الروايات المتقدّمة في إرادة الجَمْع المتعارف هو تداول جمْع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما روي عن زيد بن ثابت ، فإنّه يقول ( كنّا حول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نؤلّف القرآن من الرقاع ) (23) . ودلالة التأليف ، تعني الجمْع والتدوين ، وضمّ شيء إلى شيء ، ليصحّ أنْ يُطلق عليه اسم التأليف .
ولا دليل على ادّعاء الزركشي : بأنّ بعض القرآن جُمع بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم (24) .
فلم لا يكون كل القرآن جُمع في حضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، علماً بأنّه قد سبقه مَن صرّح بجمع القرآن كلّه لا بعضه في عهد النبي صلى الله عليه وآله بما نصّه : ( أنّه لم يكن يَجمع القرآن كلّه إلاّ نفر يسير من أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ) (25) .
ولا ريب ـ بعد هذا كلّه ـ أنّ هناك بعض المصاحف المتداولة عند بعض الصحابة في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، والأخبار مُجمِعة على صِحّة وجودها ، وعلى تعدّد مصاحف الصحابة أيضاً ؛ إذْ لو لم يكن هناك جمع بالمعنى المتبادر إليه ، لَمَا كانت تلك المصاحف أصلاً ، إنّ وجودها نفسه هو دليل الجمْع ، إذْ لم يصدر منع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن جَمْعه ، بل هناك رواية عنه صلى الله عليه وآله وسلم تقول : ( لا تكتبوا عنّي شيئاً سوى القرآن ، فمَن كتب عنّي غير القرآن فلْيَمْحه ) (26) .
وجَمْع هؤلاء الصحابة للقرآن هو الجمْع الذي نقول به ، لا الحفظ ، وإلاّ فما معنى تسميتها بالمصاحف ؟ وما معنى اختلاف هذه المصاحف فيما تدّعي الروايات .
لقد أورد ابن أبي داود قائمة طويلة بأسماء مصاحف الصحابة ، وعقّب عليها بما فيها من الاختلاف ، هذا الاختلاف الذي قد يعود في نظرنا إلى التأويل لا إلى التنزيل ، أو إلى عدم الضبط في أسوأ الاحتمالات ، وقد عقد لذلك باباً سمّاه ( باب اختلاف مصاحف الصحابة ) (27) .
وقد عدّد ابن أبي داود منها : مصحف عمر بن الخطاب ، مصحف علي بن أبي طالب ، مصحف أبيّ بن أبي كعب ، مصحف عبد الله بن مسعود ، مصحف عبد الله بن عباس ، مصحف عبد الله بن الزبير ، مصحف عبد الله بن عمرو بن العاص ، مصحف عائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، مصحف حفصة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، مصحف أُمّ سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم (28) .
قال الآمدي ( ت : 617 هـ ) في كتابه ( الأفكار الأبكار ) : ( إنّ المصاحف المشهورة في زمن الصحابة كانت مقروءة عليه ومعروضة ) (29) .
فالآمدي يجيبنا على سؤال دقيق هو : متى كُتبت هذه المصاحف ؟ ومتى جُمعت ؟ وكيف أُقرّت ؟ والجواب أنّها كُتبت في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقُرئتْ عليه ، بل هي معروضة عليه للضبط والدقّة والإتقان .
وهناك دليل جوهري ، آخر وهو : أنّ الروايات في قراءة القرآن كلّه ، وختمه في عهد رسول الله تنطق بوجود جمعي له ، إذ كيف يقرأ فيه مَن لم يحصل عليه .
1 ـ ( عن عبد الله بن عمرو ، قال : قلتُ : يا رسول الله ، في كم أقرأ القرآن ؟ قال : ( اختمه في شهر ، قلتُ : إنّي أُطيق أفضل من ذلك ، قال : اختمه في عشرين ، قلتُ : إنّي أطيق أفضل من ذلك ، قال : اختمه في خمس عشرة ، قلتُ : إنّي أطيق أفضل من ذلك ، قال : اختمه في عشر . قلتُ : إنّي أطيق أفضل من ذلك ، قال : اختمه في خمس ) ، قلتُ : إنّي أطيق أفضل من ذلك فما رخص لي ) (30) .
وقد روي في غير هذا الحديث ، أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له أوّل مرّة ، ( اقرأ القرآن في أربعين ) (31) .
2 ـ وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم قوله : ( لم يفقه مَن قرأ القرآن في أقل من ثلاث ) (32) . فأيّ قرآن يشير إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنْ لم يكن مجموعاً ، ومتداولاً بما تتيسّر قراءته عند المسلمين .
3 ـ ومن المشهور الذي لا يُجهل أنّ عمر بن الخطاب (رض) أقام من صلى التراويح بالناس في ليالي رمضان ، وأَمَرَه أنْ يقرأ في الركعة الواحدة نحواً من عشرين آية ، فكان يُحْيَى القرآن في الشهر مرّتين .
ومعلوم أنّ ذلك لم يكن من المصحف الذي كتبه زيد ؛ لأنّ المصاحف لم تُنسخ منه (33) .
وهذا تصريح بوجود المصاحف المغايرة لِمَا استنسخه زيد ، وأنّ سيرة المسلمين عليها إذ لم يعمَّم مصحف زيد .
وصاحب الرأي السابق يذهب صراحة أنّ القرآن كان منظوماً ومجموعاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (34) .
وقد يقال بأنّ الكتابة كانت محدودة في عصر الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وقد يحول هذا دون تدوين القرآن ، فيُقال إنّ عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وعصر أبي بكر واحد ، فما يُقال هناك يُقال هنا ، على أنّ موضوع الكتابة لا يخلو من مبالغة ، فهي وإنْ كانت محدودة النطاق ، ومقتصرة على طبقة من الناس ، فإنّنا نشكّك كثيراً في تحديد الأرقام التي أوردها المؤرّخون ، ولنا عليها مؤاخذات ليس هذا موطن بحثها ، ويزداد شكّنا حينما نلمح البلاذري يقول : ( دخل الإسلام وفي قريش سبعة عشر رجلا يكتب )(35) .
أو ما أورده ابن عبد ربّه الأندلسي : ( لم يكن أحد يكتب بالعربية حين جاء الإسلام ، إلاّ بضعة عشر رجلاً ) (36) .
لا ريب أنّ العرب كانت أُمّة أُمِّيَّة ، إلاّ أنّ هذه الأرقام لا تتناسب مع ذِكْر القرآن للكتابة وأدواتها ومشتقّاتها بهذه الكثرة ، على أنّ للأُمِّيَّة دلالات أخرى ، لعلّ مِن أفضلها ـ تعليلاً ـ ما رواه ابن أبي عمير ، عن معاوية بن عمّار ، عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام في تفسير قوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً ... ) (37) .
قال الصادق : ( كانوا يكتبون ، ولكن لم يكنْ معهم كتاب مِن عند الله ، ولا بُعث إليهم رسولٌ فَنَسَبَهُم اللهُ إلى الأُمِّيِّين ) (38) .
ومهما يكن مِن أمرٍ فَأُمِّيَّة مَن أسلم ، وقلّة الكَتَبَة ، وتَضاؤل وسائل الكتابة ، لم تكن موانع تحول دون تدوين القرآن .
فلقد اتّخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلّم عدداً من الكُتّاب للقرآن الكريم في كلٍّ مِن مكّة والمدينة ، في طليعتهم الخلفاء الأربعة ، وزيد ، وأبي (39) .
يتبع
لجمع القرآن في الروايات تأريخ متناقض عجيب ، ألقى بتبعته على القرآن الكريم ، والقرآن أسمى من أنْ يقدح فيه تعارضُ الروايات ، وتداخلُ الأهواء ، فهو محفوظ كما نزل ، وسالم كما أُوحي :
هذه الروايات بعد ضَمّ بعضها إلى البعض الآخر تُسْفِر عن هذه النتائج المتضاربة :
أ ـ مات النبي ( صلى الله عليه وآله ) والقرآن كلّه على العَسَب واللّخاف والرِقاع والأكتاف ، ولكنّه لم يُجمع في مصحف ، وقد راع أبو بكر (رض) كثرة القتل في القرّاء بعد وقعة اليمامة في السنة الثانية عشرة للهجرة ، فاستشار عمر في الأمر ، فأقرّا معاً جَمْع القرآن من الصحف إلى المصحف ، أو مِن العَسَب واللّخاف والأقتاب إلى الصحف ، وكلَّفَا بالمهمّة زيدَ بن ثابت .
ب ـ إنّ عمر بن الخطّاب كان أوّل مَن جمع القرآن بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعد أنْ سأل عن آية فلم يُجَبْ إليها ، ونهض بالمهمّة زيدُ بن ثابت .
ج ـ إنّ أبا بكر مات ، وعمر قد قُتل ، ولم يُجمَع القرآن بعد ، أي أنّ المسلمين في حالة فوضى من شرائع دينهم ، وكتاب ربّهم .
د ـ إنّ عثمان كان أوّل مَن جمع المصحف تارة ، وأوّل مَن وحّد المصحف تارةً أخرى .
هـ ـ إنّ القرآن كان مجموعاً في عهد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأنّ جامعيه كانوا من الكثرة بحيث يعدُّون تارة ، ويخصَّصون تارة أخرى ، ولا يُحاط بهم سواهما .
ولقد وقفتُ من هذه الروايات موقف المندهش تارةً ، وموقف المتحيّر تارةً أخرى ، وقرّرتُ في النهاية دراستها في موضوعية خالصة ، أَخلُصُ منها إلى نتائج سليمة ، قد تقارب الواقع وتتّجه نحو الصواب بإذن الله .
وهذه الدراسة تعنى بالاستنباط القائم على أساس الاجتهاد الفكري ، والاجتهاد معرّض للخطأ والصواب ، وهي لا تمسّ القرآن ولا الحديث ، وإنّما تسير بينهما هامشيّاً ، فالقرآن هو القرآن أنّى كانت طرقه ، وليس في جميع روايات الجَمْع ما هو مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله .
من خلال ما تقدّم نظفر بحصيلتَين متعارضتَين :
الأولى : إنّ النبي صلى الله عليه وآله مات والقرآن بعد لم يُجمَع في مصحف .
الثانية : إنّ القرآن كان مجموعاً في عهد النبي صلى الله عليه وآله في مصحف .
يدلّ على الحصيلة الأولى طائفة الروايات المتناثرة لإثبات الفقرات : ( أ ، ب ، ج ، د ) ، ويدلّ على الحصيلة الثانية طائفة الروايات والدلائل والبراهين لإثبات الفقرة هـ ، ولسنا نحاول تفنيد روايات الحصيلة الأولى بقدر ما يهمّنا إثبات حقيقة الحصيلة الثانية .
لقد تتبّع السيّد الخوئي ـ فكفانا مؤنة الخوض في ذلك ـ روايات الجمع بناء على الحصيلة الأولى في كلٍّ من صحيح البخاري ، ومسند أحمد ، وكنز العمّال ، ومنتخب كنز العمال ، والإتقان للسيوطي ، وكان أهمّ هذه الروايات من خلال تعقيبه عليها ـ غَثِّها وسمينها ـ اثنتان وعشرون رواية (1) .
وقد خَلُص إلى تناقضها في تعيين العهد الذي جُمع فيه القرآن ، متردِّداً بين عهود : أبي بكر ، عمر ، عثمان .
ومَن هو المتصدّي لذلك ؟ هل هو أبو بكر ، أو عمر ، أو زيد بن ثابت ؟
وهل بقي من الآيات ما لم يُدوّن إلى زمن عثمان ؟
ومَن الذي طلب من أبي بكر جمع القرآن ؟
ومتى أُلْحِقَتْ بعض الآيات في القرآن ، وبماذا ثبت ذلك ، وهل يكفي ذلك لتواتر القرآن (2) .
وقد عارض الخوئي هذه الروايات بروايات أُخر تدلّ على جمْع القرآن في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ، مستنِداً فيها إلى منتخب كنز العمّال ، وصحيح البخاري ، وإتقان السيوطي ، وقد اعتبر التمحّل بأنّ المراد من الجمع في هذه الروايات هو الجمع في الصدور لا التدوين ، دعوى لا شاهد عليها ؛ لأنّ الحفّاظ أكثر من أنْ يعدّوا (3) .
وقد ثبت لديه جمْع القرآن بعهد رسول الله صلى الله عليه وآله ، واعتبر ما سوى هذا معارِضاً لكتاب الله ، ومخالِفاً لحكْم العقل ، ومناهضة صريحة للإجماع الذي عليه المسلمون كافّة بأنّ القرآن لا طريق لإثباته إلاّ التواتر ، فلا بدّ من طرح هذه الروايات ؛ لأنّها تدل على ثبوت القرآن بغير التواتر ، وقد ثبت بطلان ذلك بإجماع المسلمين (4) .
واعتبر القول بروايات الجمْع على أساس الحصيلة الأولى يستلزم فتح القول بالتحريف ، باعتبار الجمْع على تلك الطرق يكون قابلاً للزيادة والنقصان (5) .
وقد أَيّدَ جمْع عثمان للقرآن ، لا بمعنى أنّه جمع الآيات والسور في مصحف ، بل بمعنى أنّه جمع المسلمين على قراءة إمام واحد : ( وهذا العمل من عثمان لم ينتقدْه عليه أحدٌ من المسلمين ؛ وذلك لأنّ الاختلاف في القراءة كان يؤدّي إلى الاختلاف بين المسلمين ، وتمزيق صفوفهم ، وتفريق وحدتهم ، بل كان يؤدّي إلى تكفير بعضهم بعضاً ، وقد مرّ أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم منع عن الاختلاف في القرآن ) (6) .
والحق أنّ الخوئي قد تتبّع هذه القضية بكلّ جزئياتها وتفصيلاتها ، وانقضّ عليها يفنّدها ويجرحها ، مثبّتاً أنّ القرآن قد دُوِّنَ في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ، وهذا ما نذهب إليه من خلال اضطلاعنا بأدلّة جمّة تستقطب جملة من الروايات ، وطائفة من الأدلّة الخارجية والداخلية حول الكتاب وضمن الكتاب وعلى هامش الكتاب ، تُثبت دون ريب تكامل الجمع التدويني للقرآن في عهد النبي صلى الله عليه وآله . ولا نريد أنْ ندخل في متاهة من هذا الموضوع بقدر ما نريد إثبات الحقيقة والوصول إليها بكلّ الطرق المختصرة .
ففي جملة من الروايات المعتبرة نجد جزءاً لا يُستهان به من هذه الحقيقة :
1 ـ في البخاري : إنّ مَن جمعوا القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وآله أربعة ، فعن قتادة : قال سألتُ أنس بن مالك : مَن جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ؟ قال : أربعة ، كلّهم من الأنصار : أبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد (7) .
2 ـ مات النبي صلى الله عليه وآله ولم يَجمع القرآن غير أربعة : أبو الدرداء ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد (8) .
3 ـ أورد البيهقي : عن ابن سيرين ، جَمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أربعة لا يُختلف فيهم : معاذ بن جبل ، وأبيّ بن كعب ، وزيد ، وأبو زيد . واختلفوا في رجلين من ثلاثة : أبو الدرداء ، وعثمان ، وقيل : عثمان وتميم الداري (9) .
4 ـ عن الشعبي : جَمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ستة : أبي ، وزيد ، وأبو الدرداء ، وسعد بن عبيد ، وأبو زيد ، ومجمع بن جارية وقد أخذه إلاّ سورتَين أو ثلاثة . قال : ولم يجمعه أحد من الخلفاء من أصحاب محمد غير عثمان (10) .
5 ـ جُمع على عهد النبي صلى الله عليه وآله : جَمع بعضٌ من الصحابة القرآنَ كلّه ، وبعض منهم جَمَع القرآن ثمّ كمّله بعد النبي صلى الله عليه وآله ، وذكر محمد بن إسحاق في الفهرست :
( إنّ الجمّاع للقرآن على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم هم : علي بن أبي طالب عليه السلام ، وسعد بن عبيد بن النعمان ، وأبو الدرداء ، وعويمر بن زيد ، ومعاذ بن جبل بن أوس ، وأبو زيد ثابت بن زيد ، وأبي بن كعب ، وعبيد بن معاوية ، وزيد بن ثابت )(11) .
6 ـ وذكر الحافظ شمس الدين الذهبي : أنّ الأعداد المتقدّمة هم الذين عرضوه على النبي صلى الله عليه وآله واتّصلت بنا أسانيدُهم ، وأمّا مَن جمعه منهم ولم يتّصل بنا فكثير ، وأمّا الذين عرضوا القرآن على النبي صلى الله عليه وآله فسبعة : عثمان بن عفّان ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، وأبي بن كعب ، وزيد بن ثابت ، وأبو موسى الأشعري ، وأبو الدرداء .
وقد أكّد الحافظ الذهبي نفسُه الجمْع في عهد النبي صلى الله عليه وآله ، فقال : وقد جَمع القرآن غيرهم من الصحابة ، كمعاذ بن جبل ، وأبي زيد ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وعبد الله بن عمر ، وعقبة بن عامر (12) .
7 ـ روى الخوارزمي في مناقبه عن علي بن رياح ، قال : جَمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب عليه السلام ، وأبي بن كعب (13) .
8 ـ أخرج بن أبي داود عن محمد بن كعب القرظي ، قال : جَمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمسةٌ من الأنصار : معاذ بن جبل ، وعبادة بن الصامت ، وأبي بن كعب ، وأبو الدرداء ، وأبو أيّوب الأنصاري (14) .
9 ـ قال الحارث المحاسبي ، فيما أكده الزركشي : ( وأمّا أبي بن كعب ، وعبد الله بن مسعود ، ومعاذ بن جبل : فبغير شَكٍّ جمعوا القرآن ، والدلائل عليه متظاهرة ) (15) .
10 ـ أخرج البيهقي ، وأبو داود ، عن الشعبي ، قال : جَمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ستة : أبي ، وزيد ، ومعاذ ، وأبو الدرداء ، وسعد بن عبيد ، وأبو زيد . ومجمع بن جارية قد أخذه إلاّ سورتين أو ثلاثة (16) .
11 ـ ذكر بن أبي داود فيمن جمع القرآن : قيس بن أبي صعصعة ، وهو خزرجي يكنّى : أبا زيد (17) .
12 ـ قال أبو أحمد العسكري : لم يَجمع القرآن من الأوس غيرُ سعد بن عبيد . وقال ابن حبيب في ( المحبر ) : سعد بن عبيد أحد مَن جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم (18) .
13 ـ قال السيوطي : ظفرتُ بامرأةٍ من الصحابيّات جمعتْ القرآن ، ولم يعدّها أحد ممّن تكلّم في ذلك ، فأخرج ابن سعد في الطبقات : أَنْبَأَنَا الفضلُ بن دكين ، قال حدثنا : الوليد بن عبد الله بن جميع ، قال : حدثتني جدّتي أُمّ ورقة بنت عبد الله بن الحارث ـ وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يزورها ، ويسمّيها الشهيدة ـ وكانت قد جمعت القرآن ... ثمّ ساق الحديث (19) .
وهذه الجملة من الروايات بضمّ بعضها إلى البعض الآخر تبرز لنا طائفةٌ كبيرةٌ من أعلام المهاجرين والأنصار قد جَمعتْ القرآن في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ، وليس من المرجّح أنْ يكون هؤلاء الرواة جميعاً مع اختلاف عصورهم قد تواطئوا على الكذب ، فأَوردوا ذكْر هذه الجمهرة من الصحابة ممّن جمعوا القرآن ، ولا منازِع لهم في ذلك ، بل ولا مناقِش من الأعلام .
وأنت ترى أنّ هذه الروايات تدلّ دلالة قاطعة على الجمْع المتعارف ، وهو التدوين في مجموع ما ، وقد يحلو للبعض أنْ يفسّر الجمْع بالحفظ في الصدور ، ولا دلالة لغويّة عليه ؛ إذ إنّه انتقال باللفظ عن الأصل إلى سواه دون قرينة تُعرَف عن المعنى الأوّل ، ولأنّه معارَض بجمهور الحَفَظَة الذين لا يعدّون في عهد النبي صلى الله عليه وآله كثرةً وتواتراً وشيوعاً ، من النساء والرجال وفيهم الخلفاء الأربعة وأمّهات المؤمنين وذرّية رسول الله صلى الله عليه وآله ، عدا آلاف المسلمين في طول البلاد وعرضها .
لقد عقّب الماوردي على الرواية القائلة بأنّه لم يُجمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله إلاّ أربعة ، واستقلّ ذلك بل استنكره ، فقال : ( وكيف يمكن الإحاطة بأنّه لم يكمله سوى أربعة ، والصحابة متفرّقون في البلاد ؟ وإنْ لم يكمله سوى أربعة ، فقد حفظ جميع أجزائه مِئُون لا يحصون ) (20) .
فالماوردي هنا يفرّق بين الجمع والحفظ ، وهو من علماء القرن الخامس الهجري ، ممّن يعرف فحوى الخطاب ، ومنطوق العبارة ، ودلالة الألفاظ .
والفرق بين الجمع ، والقراءة ، والحفظ ، جليّ لا يحتاج معه إلى بيان ، فقد ذكر أبو عبيد في كتاب القراءات القرّاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فعدّ الخلفاء الأربعة ، وطلحة ، وسعداً ، وابن مسعود ، وحذيفة ، وسالماً ، وأبا هريرة ، وعبد الله بن السائب ، والعبادلة (21) ، وعائشة ، وحفصة ، وأُمّ سلمة .
ومن الأنصار : عبادة بن الصامت ، ومعاذ الذي يُكنّى أبا حليمة ، ومجمع بن جارية ، وفضالة بن عبيد ، ومسلم بن مخلد (22) .
وهذا العدد يقتضي أنْ يكون على سبيل النموذج والمثال ، لا على سبيل الحصر والاستقصاء ، أو أنّ هؤلاء ممّن اشتهر بالحفظ والقراءة أكثر من غيرهم .
وممّا يؤيّد صدق الروايات المتقدّمة في إرادة الجَمْع المتعارف هو تداول جمْع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما روي عن زيد بن ثابت ، فإنّه يقول ( كنّا حول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نؤلّف القرآن من الرقاع ) (23) . ودلالة التأليف ، تعني الجمْع والتدوين ، وضمّ شيء إلى شيء ، ليصحّ أنْ يُطلق عليه اسم التأليف .
ولا دليل على ادّعاء الزركشي : بأنّ بعض القرآن جُمع بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم (24) .
فلم لا يكون كل القرآن جُمع في حضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، علماً بأنّه قد سبقه مَن صرّح بجمع القرآن كلّه لا بعضه في عهد النبي صلى الله عليه وآله بما نصّه : ( أنّه لم يكن يَجمع القرآن كلّه إلاّ نفر يسير من أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ) (25) .
ولا ريب ـ بعد هذا كلّه ـ أنّ هناك بعض المصاحف المتداولة عند بعض الصحابة في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، والأخبار مُجمِعة على صِحّة وجودها ، وعلى تعدّد مصاحف الصحابة أيضاً ؛ إذْ لو لم يكن هناك جمع بالمعنى المتبادر إليه ، لَمَا كانت تلك المصاحف أصلاً ، إنّ وجودها نفسه هو دليل الجمْع ، إذْ لم يصدر منع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن جَمْعه ، بل هناك رواية عنه صلى الله عليه وآله وسلم تقول : ( لا تكتبوا عنّي شيئاً سوى القرآن ، فمَن كتب عنّي غير القرآن فلْيَمْحه ) (26) .
وجَمْع هؤلاء الصحابة للقرآن هو الجمْع الذي نقول به ، لا الحفظ ، وإلاّ فما معنى تسميتها بالمصاحف ؟ وما معنى اختلاف هذه المصاحف فيما تدّعي الروايات .
لقد أورد ابن أبي داود قائمة طويلة بأسماء مصاحف الصحابة ، وعقّب عليها بما فيها من الاختلاف ، هذا الاختلاف الذي قد يعود في نظرنا إلى التأويل لا إلى التنزيل ، أو إلى عدم الضبط في أسوأ الاحتمالات ، وقد عقد لذلك باباً سمّاه ( باب اختلاف مصاحف الصحابة ) (27) .
وقد عدّد ابن أبي داود منها : مصحف عمر بن الخطاب ، مصحف علي بن أبي طالب ، مصحف أبيّ بن أبي كعب ، مصحف عبد الله بن مسعود ، مصحف عبد الله بن عباس ، مصحف عبد الله بن الزبير ، مصحف عبد الله بن عمرو بن العاص ، مصحف عائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، مصحف حفصة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، مصحف أُمّ سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم (28) .
قال الآمدي ( ت : 617 هـ ) في كتابه ( الأفكار الأبكار ) : ( إنّ المصاحف المشهورة في زمن الصحابة كانت مقروءة عليه ومعروضة ) (29) .
فالآمدي يجيبنا على سؤال دقيق هو : متى كُتبت هذه المصاحف ؟ ومتى جُمعت ؟ وكيف أُقرّت ؟ والجواب أنّها كُتبت في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقُرئتْ عليه ، بل هي معروضة عليه للضبط والدقّة والإتقان .
وهناك دليل جوهري ، آخر وهو : أنّ الروايات في قراءة القرآن كلّه ، وختمه في عهد رسول الله تنطق بوجود جمعي له ، إذ كيف يقرأ فيه مَن لم يحصل عليه .
1 ـ ( عن عبد الله بن عمرو ، قال : قلتُ : يا رسول الله ، في كم أقرأ القرآن ؟ قال : ( اختمه في شهر ، قلتُ : إنّي أُطيق أفضل من ذلك ، قال : اختمه في عشرين ، قلتُ : إنّي أطيق أفضل من ذلك ، قال : اختمه في خمس عشرة ، قلتُ : إنّي أطيق أفضل من ذلك ، قال : اختمه في عشر . قلتُ : إنّي أطيق أفضل من ذلك ، قال : اختمه في خمس ) ، قلتُ : إنّي أطيق أفضل من ذلك فما رخص لي ) (30) .
وقد روي في غير هذا الحديث ، أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له أوّل مرّة ، ( اقرأ القرآن في أربعين ) (31) .
2 ـ وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم قوله : ( لم يفقه مَن قرأ القرآن في أقل من ثلاث ) (32) . فأيّ قرآن يشير إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنْ لم يكن مجموعاً ، ومتداولاً بما تتيسّر قراءته عند المسلمين .
3 ـ ومن المشهور الذي لا يُجهل أنّ عمر بن الخطاب (رض) أقام من صلى التراويح بالناس في ليالي رمضان ، وأَمَرَه أنْ يقرأ في الركعة الواحدة نحواً من عشرين آية ، فكان يُحْيَى القرآن في الشهر مرّتين .
ومعلوم أنّ ذلك لم يكن من المصحف الذي كتبه زيد ؛ لأنّ المصاحف لم تُنسخ منه (33) .
وهذا تصريح بوجود المصاحف المغايرة لِمَا استنسخه زيد ، وأنّ سيرة المسلمين عليها إذ لم يعمَّم مصحف زيد .
وصاحب الرأي السابق يذهب صراحة أنّ القرآن كان منظوماً ومجموعاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (34) .
وقد يقال بأنّ الكتابة كانت محدودة في عصر الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وقد يحول هذا دون تدوين القرآن ، فيُقال إنّ عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وعصر أبي بكر واحد ، فما يُقال هناك يُقال هنا ، على أنّ موضوع الكتابة لا يخلو من مبالغة ، فهي وإنْ كانت محدودة النطاق ، ومقتصرة على طبقة من الناس ، فإنّنا نشكّك كثيراً في تحديد الأرقام التي أوردها المؤرّخون ، ولنا عليها مؤاخذات ليس هذا موطن بحثها ، ويزداد شكّنا حينما نلمح البلاذري يقول : ( دخل الإسلام وفي قريش سبعة عشر رجلا يكتب )(35) .
أو ما أورده ابن عبد ربّه الأندلسي : ( لم يكن أحد يكتب بالعربية حين جاء الإسلام ، إلاّ بضعة عشر رجلاً ) (36) .
لا ريب أنّ العرب كانت أُمّة أُمِّيَّة ، إلاّ أنّ هذه الأرقام لا تتناسب مع ذِكْر القرآن للكتابة وأدواتها ومشتقّاتها بهذه الكثرة ، على أنّ للأُمِّيَّة دلالات أخرى ، لعلّ مِن أفضلها ـ تعليلاً ـ ما رواه ابن أبي عمير ، عن معاوية بن عمّار ، عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام في تفسير قوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً ... ) (37) .
قال الصادق : ( كانوا يكتبون ، ولكن لم يكنْ معهم كتاب مِن عند الله ، ولا بُعث إليهم رسولٌ فَنَسَبَهُم اللهُ إلى الأُمِّيِّين ) (38) .
ومهما يكن مِن أمرٍ فَأُمِّيَّة مَن أسلم ، وقلّة الكَتَبَة ، وتَضاؤل وسائل الكتابة ، لم تكن موانع تحول دون تدوين القرآن .
فلقد اتّخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلّم عدداً من الكُتّاب للقرآن الكريم في كلٍّ مِن مكّة والمدينة ، في طليعتهم الخلفاء الأربعة ، وزيد ، وأبي (39) .
يتبع
تعليق